الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

وهل ينبت الخطى الاّ وشيجه

وتغرس إلاّ في منابتها النخل

على مكثريهم حقّ من يعتريهم

وعند المقلّين السماحة والبذل

قال المصنف عفا الله عنه : هذا البيت قد ذكر أرباب هذه الصناعة أنه أمدح بيت قالته العرب ، وقد طعن عليه بعض الحذاق منهم ، وذكر فيه عيوبا منها أنهم لو كانوا كرماء ما كان فيهم مقل. ومنها أنه جعل حق المعتري على المكثرين واجبا عليهم ، ولم يوجبه على المقلين ، فكان المكثرون عليهم إكرام الضيف واجبا ، ولم يكن واجبا على المقلين ، فاقتضى ذلك أن يكون إعطاء المكثرين عن كظم ، وإعطاء المقلين عن كرم ، فصار المقلون أحسن حالا من المكثرين وأكرم أنفسا ، وعليه مآخذ غير هذه ، ولسنا بصدد استيفائها ، وهذا الباب واسع جدا ، وما ذكرناه فيه مقنع.

٢٦١

القسم الموفى خمسين

ما يوهم فسادا. وليس بفساد

وهو أن يقرن الناظم أو الناثر كلاما بما ليس يناسبه ، أو يقدم التشبيه على ذكر المشبه .. ومنه في القرآن كثير ، وكذلك في أشعار العرب .. أما القرآن. فمنه قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) قرنها بقوله : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ ) الآية واتبعها. بقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً ) الآية فليس قبلها وبعدها ما يناسبها. ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى ) الذي يقتضيه المعنى المناسب ظاهرا أن يقول أنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ، وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى.

ومنه قوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وغير العالم المطلع على خفايا معاني القرآن العظيم يظن في ذلك كله عدم المناسبة ، وليس الأمر كذلك بل ما ورد به القرآن العزيز هو الأحسن ، وسنذكر إن شاء الله المناسبة في ذلك .. فأما آية اليتامى فقد ذكر أئمة التفسير في المناسبة وجوها. أحدها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت هذا في اليتيمة تكون عند وصيها فيعجبه حسنها ومالها فيمنعها عن الأزواج ليتزوجها بمهر دون مهر مثلها ، ويحوز مالها فأعلم الله المؤمنين أن من خشي منهم أن يقع في مثل ذلك مع اليتامى ، فلينكح ما طاب له من النساء من غير اليتامى.

٢٦٢

وقيل المعنى فإن كنتم من التقوى على حد تخشون أن تلوا مال اليتيم خشية عدم الاقساط ، فانكحوا ما طاب لكم من النساء يعني اثنتين أو ثلاثا أو أربعا فإنّ من كان بهذه المثابة من خوف الله والتقوى لا يخشى عليه من الجور والميل ، وعدم العدل بين نسائه بدليل ما عقبه به من قوله : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) وقد ذكر أئمة التفسير في الجمع غير ذلك اقتصرنا على هذا خشية التطويل. وأما آدم عليه‌السلام فقد تقدم في المناسبة انها تارة يقصد فيها مناسبة اللفظ ، والمعنى ، وتارة يراعى فيها مناسبة اللفظ فقط وتارة يراعى فيها مناسبة المعنى ، وهذه الآية منه وهو الذي أريد لأن ـ الجوع ـ خلو الباطن عن الغذاء ـ والتعري ـ خلو الظاهر عن الثياب ـ والظمأ ـ احتراق الباطن بالحرارة ـ والضحى ـ احتراق الظاهر فظهرت المناسبة من حيث المعنى فيها .. وأما آية الصلوات والمحافظة عليها فقد سئل عنها بعض أجلة أهل العلم رضي الله عنهم فقال لما أمر الله تبارك وتعالى بالمحافظة على حقوق الخلق ذكر لهم حقوقه وهو الصلاة ليجمع لهم في التعليم بين مراعاة حقوق الخلق والحق ، ليحصل لهم الكمال ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما هو متعلق بالحياة ، وقد ذكر ذلك قبلها ناسب أن يذكر الحقوق المتعلقة بالممات بعدها.

وقد ذكر أهل التفسير رضي الله عنهم فيها أجوبة كثيرة اقتصرنا على هذا منها. وقد وقع في اشعار العرب الأقدمين والمتقدمين من الإسلاميين والمتأخرين من هذا النوع كثير. من ذلك قول امرئ القيس :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم اتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الرّويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

ـ قال بعض النقاد إن هذا فاسد لأنه جعل التغزل مجاورا للشجاعة في البيتين والأجود أن يجاور الشجاعة بالشجاعة ، والغزل بالغزل فيقول :

كأني لم أركب جوادا ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد اجفال

٢٦٣

ولم أسبأ الزّق الروي للذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ـ ومن هذا النوع قول المتنبي :

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

تمرّ بك الابطال جرحى هزيمة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

ـ وهذا الذي ذكره النقاد قد رده جماعة من الحذاق بما حكى أن سيف الدولة قال للمتنبي ، هذا فاسد المجاورة ، لأنك أتيت بالتشبيه قبل ذكر المشبه والأجود أن تقول :

وقفت وما في الموت شك لواقف

ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمرّ بك الابطال كلمى هزيمة

كأنك في جفن الرّدى وهو نائم

ـ فقال المتنبي أيّد الله مولانا الأمير إن صح الذي استدرك صح الذي استدرك على امرئ القيس ، وهو أعلم بالشعر منّي ، فقد أخطأ امرؤ القيس وأسأت أنا ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز كمعرفة الناسج ، لأن البزّاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية .. وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة ركوب الخيل للصيد ، وقرن السماحة في سباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الاعداء ، وأنا ذكرت الموت في أول البيت فأتبعته بذكر الردى ، وهو الموت لتجانسهما ، ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو وجهه من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت ـ ووجهك وضّاح وثغرك باسم ـ لأجمع بين الأضداد في المعنى ، وان لم يتسع اللفظ لجمعهما فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا .. ومن ذلك قول بعضهم :

٢٦٤

فإنّك إن تهجو تميما وترتشي

سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كمهرق ماء في الفلاة وغرّه

سراب أذاعته رياح السمائم

ـ وقال آخر :

إني وتركي ندا الأكرمين

وقدحي بكفّي زنادا شحاحا

كتاركة بيضها بالعرا

ء وملبسة بيض أخرى جناحا

يجب ان يكون كل بيت من الأولين مع بيت من الآخرين ، لأنه أجود وأنسب .. ومن هذا النوع أيضا قول الشاعر :

فيا أيها الحيران في ظلمة الدّجى

ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا

تعال اليه تلق من نور وجهه

دليلا ومن كفّيه بحرا من النّدا

قال النقّاد هذا فاسد التفسير ، لأنه قابل البغي بالسماحة ، وكان يجب أن يقابل بغير ذلك فيقول تنظر أسدا حاميا وليثا مانعا. وقد قيل في هذا البيت انه دل على الشجاعة بلازمها لأن الشجاع لا يكون بخيلا ، ولذلك قال الشاعر :

لا تطلبنّ من البخيل شجاعة

إنّ البخيل يخاف أسباب الرّدى

من لا يجود بماله يوم الندا

أنّى يجود بنفسه يوم اللقا

وقد تعسف لهذه الابيات وجوه من المعاني ، وضروب من التصحيح تخرج بها من أن تكون فاسدة ، ليس هذا موضع استيفائها وفيما ذكرت كفاية ومقنع والله الهادي والموفق.

٢٦٥

القسم الحادي والخمسون

في النادر والبارد

فأما البارد فليس في القرآن العظيم منه شيء ، وسيأتي بيانه في الفن الثالث الذي ليس في القرآن العظيم منه شيء .. وأما النادر فالقرآن مشحون به فإن أكثر ألفاظه نادرة الوجود ومعانيه مستوفية للمقصود كل كلمة منه جامعة لمعان شتى ، وكل آية تحتوي على معان لغير المتكلم به لا تتأتى ، وكل سورة إحكام أحكامها لا ينحصر ، وإعجاز إيجازها قد أعجز البشر ، وفيه النادر الحسن والأحسن .. فمن الآيات التي لم ينسج على منوالها ولا سمحت قريحة بمثالها قوله تعالى : ( فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) إلى قوله : ( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ولهذا انّ ابن المقفع لما عارض القرآن ووصل إلى هذه الآية قال هذا مما لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، وترك المعارضة ومزق ما كان اختلقه. ومن ذلك أيضا قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) جمعت هذه الآية أمرين ونهيين وخبرين ووعدين .. ومن هذا النوع في القرآن كثير ، بل القرآن كله حسن وأحسن ، وليس هذا موضع استقصاء الاحسن ، وفي أشعار العرب من هذا كثير وقد تقدم بيانه.

٢٦٦

القسم الثاني والخمسون

المساواة والتقصير

وهو أن يكون اللفظ مساويا للمعنى بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص. والقرآن العظيم جله بل كله على هذا النمط. وأما التقصير فليس في القرآن منه شيء وسيأتي بيانه في الفن الثالث.

٢٦٧

القسم الثالث والخمسون

التصريح بعد الإبهام. ويسمى التفسير

قال أئمة هذا الشأن المراد بالتفسير بعد الابهام تفخيم المبهم واعظامه ، لأنه هو الذي يطرق السمع أولا فيذهب السامع فيه كل مذهب كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) فسر ذلك الأمر بقوله ـ أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ـ وفي ابهامه أولا وتفسيره بعد ذلك تفخيم للمبهم وتعظيم لشأنه فانه لو قال تعالى ـ وقضينا اليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ـ لما كان بهذه المثابة من الفخامة فإنّ الابهام أولا يوقع السامع في حيرة وتفكر واستعظام لما قرع سمعه فيتشوف إلى معرفة كنهه والاطلاع عليه وعلى حقيقته .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) لما جاء في الاول من التنبيه والاشعار بأن ـ الصراط المستقيم ـ هو صراط المؤمنين فدل عليه بأبلغ وجه كما تقول ـ هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم ـ ثم تقول ـ فلان ـ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك هل أدلك على فلان الأكرم والأفضل لأنك بدأت بذكره مجملا ثم بينته مفصلا فجعلته علما في الكرم والفضل كأنك قلت من أراد رجلا جامعا للخصلتين جميعا فعليه بفلان. وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى : ( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) إلى قوله : ( يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) ألا ترى كيف قال ـ أهدكم سبيل الرشاد ـ فأبهم سبيل الرشاد فلم يبين أي سبيل هو ، ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنيا

٢٦٨

وتصغير شأنها لأن الإخلاد اليها أصل الشر كله ، ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها وأنها هي الوطن المستقر ، ثم ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منها ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف ، فكأنه قال : سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنيا والرغبة في الآخرة ، والامتناع عن الأعمال السيئة خوف المقابلة عليها ، والمسارعة إلى الاعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها .. وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) ولم يقل قواعد البيت لما في ابهام القواعد ، ولما في تبيينها بعد ذلك من الإيضاح وتفخيم حال المبهم بما ليس في الاضافة .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) إلى قوله : ( فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) الآية لما أراد تفخيم ما التمس من بلوغه اسباب السموات أبهمها أولا ، ثم فسرها ثانيا ، ولأنه لما كان بلوغهما أمرا عجيبا أراد أن يورده على صورة مشوقة إليه ليعطيه السامع حقه من التعجب ، فأبهمه لتتشوف اليه نفس هامان ، ثم أوضحه بعد ذلك ..

ومما يدخل في هذا الباب الابتداء بذكر الضمير ، ثم الافصاح بذكر صاحبه وحده كقوله تعالى : ( وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) فإنه لما أتى بالضمير الذي هو منه قبل صاحبه الذي هو في القرآن كان ذلك تفخيما له وتعظيما من أمره ولو قال ـ وما تكون في شأن وما تتلو من قرآن ـ ولم يذكر الضمير لما كان للكلام تلك الفخامة التي كانت له مع ذكر الضمير .. ومثل هذا قولهم الكريم العالم الفاضل ـ ثم يقال ـ فلان ـ وقد سبق الكلام عليه ..

وأما الابهام من غير تفسير فكثير شائع في القرآن العزيز كقوله تعالى : ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أي الطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقومها وأشدها ، وأيّ ذلك قدرت لم تجد له مع الافصاح ذوق البلاغة الذي تجده مع الإبهام ، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب وايقاعه على محتملات كثيرة ، وهذا لا يخفى على العالم برموز صناعة التأليف فاعرفه .. ومما يدخل في هذا الباب الاستثناء العددي ، وهو ضرب من التأليف لطيف المأخذ عجيب

٢٦٩

المغزى ، وإنما يفعل ذلك طلبا للمبالغة لأن له تأثيرا شديدا في القلب ، وموقعا عظيما في النفس وفائدته أنه أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد في العدد فيكبر موقع ذلك عنده ، وهو شبيه بما ذكرنا من الإبهام ، ثم التفسير بعدهما يسوّي بينهما .. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) فانه انما قال ـ ألف سنة إلا خمسين عاما ـ ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما لفائدة حسنة وهي ذكر ما ابتلى به نوح عليه الصلاة والسلام من أمّته ، وما كابده من طول المقام ليكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبيها له ، فإن ذكر رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع قوّة صبره ، وما لاقاه من قومه .. ومن بديع التفسير بعد الابهام قوله تعالى : ( إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ) ولو حذف ـ واحدة ـ كان الأمر كما ذكرنا وذهبت تلك الفخامة التي في الابهام وزال ما فيه من الغموض وانقطع شوق النفس إلى التفسير وفسر ـ الواحدة ـ بقوله أن تقوموا لله مثنى وفرادى .. ومنه قوله تعالى : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى ). ومنه قوله تعالى : ( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ). ومنه ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ). ومنه في الاستعمال قولهم فؤاد فيه ما فيه .. ومنه قول الشاعر في وصف الخمر :

فقد مضى ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

ـ ومنه قول الآخر :

مضى ما مضى حتى علا الشيب رأسه

فلمّا علاه قال للباطل ابعد

ـ وقال آخر :

سأغسل عني العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا

فاعرف ذلك وقس عليه.

٢٧٠

القسم الرابع والخمسون

التعقيب المصدري

وانما يعمد إلى ذلك لضرب من التأكيد لما تقدّمه والاشعار بتعظيم شأنه أو بالضد من ذلك .. مثال الأول قوله تعالى : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فقوله ـ صنع الله ـ من المصادر المؤكدة لما قبلها وهو كقوله : ( وَعَدَ اللهُ. ) و( صِبْغَةَ اللهِ ) ألا ترى أنه لما جاء ذكر هذا الأمر العظيم الدال على القدرة الباهرة من النفخ في الصور وإحياء الموتى والفزع واحضار الناس للحساب ، وتسيير الجبال كالسحاب في سرعتها ، وهي عند الرؤية لها والمشاهدة كأنها جامدة عقّب ذلك بأن قال ـ صنع الله ـ أي هذا الأمر العجيب البديع صنع الله ، والمعنى : ويوم ينفخ في الصور ، وكان كيت وكيت من الأشياء الباهرة واثابة الله المحسنين ، ومعاقبة المجرمين ، فجعل هذا الصنع من جملة الأمور التي هي أنفسها ، وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال ـ صنع الله الذي أتقن كل شيء ـ يعني أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من إحكام الاشياء واتقانه لها واجرائه اياها على الحكمة ، أي انه عالم بما يفعل العباد ، وبما سيرجعون إليه فيكافئهم على حسب أفعالهم ، ثم لخص ذلك بقوله : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ) إلى آخر الآيتين. فانظر أيها المتأمل إلى بداعة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة ايجازه وفصاحة تفسيره ، وأخذ بعضه برقاب بعض ، كأنه أفرغ افراغا واحدا ، ولأمر ما أعجز القوي وأخرس

٢٧١

الشقاشق.

ونحو هذا المصدر اذا جاء عقيب الكلام كان كالشاهد بصحته والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا ما قد كان ألا ترى إلى قوله ـ صبغة الله. وصنع الله. ووعد الله. وفطرة الله ـ بعد ما وسمها باضافتها إليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله ـ الذي أتقن كل شيء ـ .. وأما الثاني وهو ضد الأول وذلك ما يراد به تصغير الشأن كقولهم إذا ذكر انسانا يريدون ذمه ـ قد ركب هواه. واستمر على غيه. وتمادى على جهله. وسحب ذيل عجبه ـ وما أشبه ذلك ثم يقول ـ صنع الشيطان الذي غلب النفوس ، وميل الألباب ـ ومثل هذا كثير فاعرفه.

٢٧٢

القسم الخامس والخمسون

النفي والإثبات

وهو أعلى ضرب من البلاغة كثير الفوائد عذب الموارد. وقد تكلم فيه أرباب علم الكلام ، وأرباب علم البيان ، وقالوا إن نفي الخاص يدل على ثبوت العام ، ولا يدل نفيه على نفيه. وقد بينا أن زيادة المفهوم في اللفظ توجب زيادة الالتذاذ به لحصول جملة من الملاذ دفعة واحدة ، ولذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من اثبات العام. أما الأول فكقوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) ولم يقل بضوئهم لأن النور أعمّ من الضوء إذ يطلق على الكثير والقليل ، وإنما يقال الضوء على القدر الكثير.

ولذلك قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) وهاهنا دقيقة وهو أنه قال ـ ذهب بنورهم ـ ولم يقل أذهب نورهم لأن الإذهاب بالشيء لا يمنع من عود ذلك الشيء بخلاف الذهاب إذ يفهم من ذلك استصحابه في الذهاب ، ومقتضى ذلك منعه من الرجوع. وكذلك قوله تعالى : ( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ) معناه لا ضلالة واحدة بي ويلزم من ذلك أن لا يثبت له فرد من الضلال البتة ولا كذلك لو قال ليس بي ضلال ، لأن اسم الجنس يقال على الكثير والقليل فيجوز أن يكون المنفي هو الكثير. ومما يشبه ذلك قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) فإن هذا يدل على النهي عن الضرب أيضا ، لا على أن

٢٧٣

التأفيف اعم ، بل لأن المقصود من منع التأفيف هو الإكرام ، وعدم الإهانة ، والإهانة بالضرب أكثر من الإهانة بالتأفيف.

الثاني كقوله تعالى : ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) ولم يقل طولها لأن العرض أنقص إذ كلما له عرض فله طول ولا ينعكس. ومما يتعلق بهذا انه إذا كان الشيء يشبه أشياء بعضها أتم في التشبيه ، أو أوفق من بعض فالأولى والأهم الاقتصار على ما هو أتم وأوفق ، فإن ذكر الكل فالأولى الابتداء بالأدنى ، والأضعف ليكون انتقال الذهن إلى الأعلى بتدريج ، ولأن التشبيه بالأعلى ألذّ ، والانتقال من لذّة إلى ما هو دونها غير ملذّ ولا مستحسن فلذلك قال الأشتر النخعي :

حمى الحديد عليهم فكأنه

لمعان برق أو شعاع شموس

وإذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى ، أو يدل عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرهما ، لأن ذكرهما كالتكرار وهو ممل ، وإذا ذكر فالأولى تقديم المدلول عليها وتأخير الدالة حتى لا تكون الآخرة قد تقدمت الدلالة عليها ، وقد يخل بذلك لمقصود آخر كما في قوله تعالى : ( وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) فإنه أخر نبيا لأجل السجع. وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه ، كان الأولى الاقتصار على الدال على الآخر ، فإن ذكرا فالأولى تأخير الدال ، وقد يخل بذلك لمقصود كما في قوله تعالى : ( ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها ) وعلى قياس ما قلنا ينبغي أن يقتصر على صغيرة ، وإن ذكرت الكبيرة فلتذكر أولا. ومثله قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) وعلى ذلك القياس يكتفي بقوله ـ ولا تقل لهما أف ـ وان ذكرا فيقول ـ ولا تنهرهما ولا تقل لهما أفّ ـ .. وإذا تكررت الصفات فإن كان للمدح فالأولى الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ليكون المديح مزيدا لتزايد الكلام ، وإن كان للذم فقد قالوا ينبغي الابتداء بالأشد ذما ، وهو مشكل.

٢٧٤

وقد يجوز أن يستعمل نفي الخاص لنفي العام ، ويسمى هذا عكس الظاهر ، وهو من المجاز البديع. ومثاله قول علي رضي‌الله‌عنه في وصفه لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه لا تنثى فلتاته ـ أي تذاع والمراد أنه لا فلتات له البتة ، وإنما يعرف ذلك لأنه نكرة في معرض المدح وانما يكون كذلك إذا كان المراد ما ذكرناه. ومنه ـ ليس بها ضب فينجحر ـ والمراد أنه لا ضب بها .. وكذلك قول بعضهم :

تردين جلباب الحياء فلم يرى

لذيولهنّ على الطريق غبار

والمراد انهن لا يخرجن ولا يمشين

وهذا ينبغي أن يكون من باب

تنسيق الصفات لكن فيه زيادة واقتضت إفراده.

٢٧٥

القسم السادس والخمسون

في الضمائر وما يتعلق بها

اعلم وفقنا الله واياك ان الضمير لا يخلو إما أن يكون معلوما أو لا يكون كذلك. فالأول تأكيده بضمير آخر ، وعدم تأكيده بذلك سواء في البلاغة كما في قوله تعالى : ( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) مع قوله تعالى : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) وذلك لأن قدرة الله تعالى ، وعلمه معلومان فاستوى حذف الضمير المؤكد وثباته معهما.

والثاني الأولى فيه ، والأفصح تأكيد الضمير بضمير آخر ، وذلك إذا أريد تقوية المتعلق به ، وحينئذ إما أن يكون الضميران متصلين أو منفصلين أو أحدهما متصل والآخر منفصل. أما المتصلان فكقوله تعالى : ( قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) وإنما أكد هنا دون قصة السفينة لارادته في قصة الغلام زيادة النكر .. وأما المنفصلان فكقول المتنبي :

فإنّك أنت أنت وأنت منهم

وجدّك بشر الملك الهمام

والغرض المبالغة في زيادة المدح .. وأما إذا كان أحد الضميرين منفصلا والآخر متصلا فكقوله تعالى : ( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) وهاهنا دقائق. أحدهما الإتيان بلفظة ـ إنّ ـ المشددة لتفيد تأكيد ثبوت ما بعدها. وثانيها تكرير الضمير يدل على تأكيد ما يتعلق به. وثالثها ذكر ـ الأعلى ـ معرّفا

٢٧٦

يدل على أن غيره لا يكون كذلك بخلاف عالي وأعلى. ورابعها أن ـ الأعلى ـ بصفة أفعل يشعر بزيادة العلو. وخامسها حذف لام العلة يفيد زيادة علة لعدم الخوف لأن قوله ـ لا تخف ـ علة لعدم الخوف لأنه نهى عنه واشتقاقه بعد ذلك بقوله : ( إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) ـ منع أيضا من الخوف لأن الأعلى لا يخاف الأدنى.

٢٧٧

القسم السابع والخمسون

الفصل والوصل

وهو العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية ايقاع حروف العطف في مواقعها ، وهو من أعظم أركان البلاغة حتى قال بعضهم : حد البلاغة معرفة الفصل والوصل .. واعلم أن فائدة العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه ، ثم من الحروف العاطفة ما لا يفيد إلاّ هذا القدر ، وهو الواو ، وهو المراد بالذكر هاهنا والعطف والمعطوف عليه على ثلاثة أقسام : الأول : عطف مفرد على مفرد وهو يقتضي التشريك فيما يوجب الإعراب. الثاني : عطف الجمل التي في قوة الإفراد ويقتضي التشريك أيضا. الثالث : الجمل التي ليست في قوة المفرد. وهي على قسمين : قسم يكون فيه معنى أحد الجملتين لذاته متعلقا بمعنى الأخرى ، كما إذا كانت كالتوكيد لها فلا يجوز إدخال العاطف ، لأن التوكيد والصفة متعلقان بالمؤكد والموصوف لذاتيهما والتعلق الذاتي يغني عن لفظ يدل عليه ، فالتأكيد كقوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ). وكقوله تعالى : ( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ) ولم يقل وكأن لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر التشبيه بمن لا يسمع إلا أن الثاني أبلغ .. وكذلك قوله تعالى : ( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ). وقوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) الاثبات في الآيتين جميعا تأكيد لنفي ما نفي ..

٢٧٨

وأما قوله تعالى : ( إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) فيحتمل أن يكون تأكيدا لقوله : ( ما هذا بَشَراً ) إذ المرتفع عن البشرية من المخلوقات إنما هو الملك ، ولأن الناس إذا شاهدوا في الانسان من الخلق الحسن والخلق الجميل ما يعجبوا منه ، قالوا : ما هذا بشر لأن غرضهم أن يقولوا أنه ملك ، فلما كان ذلك مفهوما قبل التصريح به كان التصريح به تأكيدا ، ويحتمل أن يكون صفة له فإن اخراجه عن جنس البشرية يتضمن دخوله تحت جنس آخر لا تحت الملك على الخصوص ، فإن القسمة غير محصورة في النوعين ، فجعله ملكا تعيين لذلك النوع وتمييز له عن غيره. الثاني أن لا يكون بين الجملتين تعلق ذاتيّ ، فإن لم يكن بينهما مناسبة فيجب ترك العطف ، ولذلك عابوا أبا تمام في قوله :

لا والذي هو عالم أنّ الهوى

صبر وأنّ أبا الحسين كريم

إذ لا مناسبة بين مرارة الهوى ، وبين كرم أبي الحسين. ثم إن كان المحدث عنه في الجملتين شيئين لغير المناسبة في الذي أخبر بهما ، والذي أخبر عنهما والمراد بالمناسبة أن يكونا متشابهين كقولك : زيد كاتب وعمرو شاعر أو متضادين تضادا على الخصوص ، كقولك : زيد طويل ، وعمرو قصير ، وكقولك العلم حسن ، والجهل قبيح. فلو قلت زيد طويل والخليفة قصير أخلّ المعنى عند السامع إذ لم يكن لزيد تعلق بحديث الخليفة ، ولو قلت زيد طويل ، وعمرو شاعر اختل اللفظ ، إذ لا مناسبة بين طول القامة والشعر .. ، وإن كان المحدث عنه في الجملتين شيئا واحدا كقولك : فلان يقول : ويفعل فيجب الاتيان بالعاطف فإن الغرض جعله فاعلا للأمرين ، وترك العاطف يوهم أن الثاني رجوع عن الأول والاجتماع لزيادة الاشتراك كقولك العجب من إنك تنهي عن شيء وتأتي مثله. وكقول الشاعر :

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

٢٧٩

أي لا تطمعوا أن تروا اكرامنا اياكم يوجد مع اهانتكم ايانا ويجامعها في الحصول .. والعاطف تارة يجب اسقاطه ، وتارة يجب كإثباته ، وتارة يخير بين اسقاطه واثباته .. أما الذي يجب اسقاطه ، فهو اذا كان اثباته يخل بالمعنى كقوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ) فقوله ـ ألا انهم هم المفسدون ـ كلام مستأنف وهو إخبار من الله تعالى ، فلو أتي بالواو العاطفة لكان اخبارا عن اليهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم مفسدون فيختل المعنى ويتناقض الكلام .. وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) فهذا إخبار من الله تعالى ، وفي الحقيقة جواب سؤال مقدر لأنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم قالوا : كيت وكيت تشوّف السامعون إلى العلم بمصير أمرهم ، فكأنه قيل : فما ذا فعل الله بهم؟ فقال : ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .. وأما ما يجب اثبات العاطف فيه فقوله تعالى : ( يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) فان كل واحدة من الجملتين خبر من الله تعالى.

ومثله في القرآن واثباته لا يفيد معنى زائدا. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

٢٨٠