الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم السابع والثلاثون

الهزل الذي يراد به الجد

وهو في القرآن العظيم في قوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) روي أن أهل الجنة يفتح لهم باب من النار فيقولون لمن كان يضحك منهم في الدنيا من الكفار أتدخلون الجنة فيقولون نعم ، فيقولون لهم هلموا فيتبادرون إلى الجنة فيغلق الباب دونهم ، ويضحك منهم المؤمنون ، ويردون خائبين وليس مراد المؤمنين بذلك القول الضحك منهم وإنما مرادهم بذلك تبكيتهم وتشديد الحزن عليهم .. ومنه قوله تعالى : ( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ) يعني يوم القيامة .. ومنه في السنة قوله صلى الله عليه وسلم للعجوز التي سألته عن دخولها الجنة فقال : « لا يدخل الجنة عجوز » هزل بها وصدق وقال حقا فإن الله تعالى أخبر عن أهل الجنة فقال : ( عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ) وترب الانسان مساويه في العمر أو مقاربه .. ومنه في الشعر قوله :

اذا ما تميميّ أتاك مفاخرا

فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضبّ

ـ وأما قوله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن ، وهو الجد ليس بالهزل فالمراد به الهزل الذي لا يراد به الجد.

٢٤١

القسم الثامن والثلاثون

التلميح

وهو أن يشير في فحوى الخطاب إلى مثل سائر ، أو شعر نادر ، أو قصة مشهورة من غير أن يذكره كقول بشار بن عدي :

اليوم خمر ويبدو في غد خبر

والدّهر ما بين إنعام وإبآس

أشار به الى قول امرئ القيس ـ اليوم خمر وغدا أمر ـ حين بلغه قتل أخيه (١) وهو يشرب فصار مثلا .. وكقول أبي بكر الخوارزمي :

كأنك لا تروين بيتا لشاعر

سوى بيت من لا يظلم الناس يظلم

ـ وكقول أبي فراس :

ولا خير في دفع الأذى بمذلّة

كما ردّها يوما بسوءته عمرو

أشار بذلك إلى قصة عمرو بن العاص مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. وقد يسمى أخذ بعض ألفاظ المثل اقتباسا ،

__________________

(١) ليس هو من قول امرئ القيس ، وإنما هو من قول مهلهل حين بلغه قتل جساس أخاه كليبا. وامرؤ القيس لم يقتل له أخ فإن كان قاله حين بلغه قتل بني أسد أباه حجرا فربما اه ، كتبه محمد بدر الدين.

٢٤٢

وإيراد المثل كما هو تضمينا .. ومما جاء من التلميح في الكتاب العزيز قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ). وقوله تعالى : ( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ). وقوله تعالى : ( صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) الآية .. ومن ذلك قوله تعالى : ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ) إلى قوله : ( فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ ). ثم قال : ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ). ومن ذلك قوله تعالى : ( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) ثم قال : ( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) .. ومثله في القرآن كثير.

٢٤٣

القسم التاسع والثلاثون

النسخ والسلخ والمسخ

فأما النسخ ففي القرآن العظيم كثير. وهو على ثلاثة أقسام : منه ما نسخ لفظه وحكمه. ومنه ما نسخ لفظه وبقي حكمه. ومنه ما نسخ حكمه وبقي لفظه .. أما ما نسخ لفظه وحكمه ، فقد روي عن قتادة وغيره قالوا : كنّا نقرأ سورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الشيخ والشيخة إذا زنيا فرجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ـ وقالوا كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لو أعطي ابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ـ .. وأما ما نسخ حكمه وبقي لفظه ففي القرآن العظيم منه كثير .. وأما السلخ والمسخ ، فليس في القرآن العظيم منهما شيء لأنه لم يسبق قبله كلام فيسلخ منه ، ولم يتقدم معانيه فيقصر عنها فيمسخ لأنه الكلام القديم الذي لم يشبهه كلام ، ولم يتقدم عليه نثر ولا نظام ، وسنذكر في القسم الذي ليس في القرآن منه شيء ما قاله أهل هذه الصناعة في السلخ والمسخ ، إن شاء الله تعالى.

٢٤٤

القسم الاربعون

التعديد. ويسمى أيضا سياق الاعداد

هو ايقاع أسماء مفردة على سياق واحد ، فإن روعي في ذلك ازدواج أو لزوم تجنيس أو مطابقة أو نحوها ، فذلك الغاية في الحسن كقولهم وضعنا في يده زمام الحل والعقد. والقبول والرد. والامر والنهي. والاثبات والنفي. والبسط والقبض. والابرام والنقض ، والهدم والبناء. والمنع والعطاء .. ومنه قول المتنبي :

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والحرب والطعن والقرطاس والقلم

ومنه في القرآن كثير .. من ذلك قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ). ومن ذلك قوله تعالى : ( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) .. ومنه قوله : ( وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ ).

٢٤٥

القسم الحادي والأربعون

الموجّه

وهو أن يمدح بشيء يقتضي المدح لشيء آخر كقول المتنبي :

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنئت الدّنيا بأنّك خالد

أول البيت مدح بفرط الشجاعة وآخره بعلوّ الدرجة. وفي القرآن العظيم منه كثير .. ومنه قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) مدحهم في أول الآية بالشدة على الكفار ، ثم بالرحمة بينهم ، ثم بالخشوع والخضوع ، ثم بالتذلل وحسن المسألة ، ثم حسن السيماء وصباحة الوجوه. ومثله قوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .. ومن هذا النوع قوله تبارك وتعالى : ( وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) يجوز ان تكون ـ تقول ـ راجعة إلى ـ الطائفة ـ ويجوز أن تكون عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم.

٢٤٦

القسم الثاني والأربعون

المحتمل الضدين

وهو أن يكون الكلام محتملا للشيء وضده. ومنه في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) يحتمل أن يكون أراد بورائهم ـ أمامهم ويحتمل أن يكون ـ وراءهم ـ وهو يطلبهم ومنه قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) ـ والقرء ـ يطلق على الحيض والطهر. ومثل ذلك قوله تعالى : ( قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ ) قال المفسرون أراد سوداء. ومثله في الشعر قول الشاعر :

يغادر الجونة أن تغيبا

ـ والجون ـ الأسود ـ والجون ـ الأبيض وهو من الأضداد .. ومنه قول بشار في رجل خاط له قباء وكان الخياط أعور :

خاط لي زيد قباء

ليت عينيه سواء

فأحاجي الناس طرّا

أمديحا أم هجاء

وكان سبب ذلك أن بشارا خاط له زيد قباء فقال هذا إن شئت لبسته على وجهه وإن شئت لبسته على بطانته فقال له بشار وأنا أقول فيك شعرا إن شئت جعلته مدحا وإن شئت جعلته ذمّا وأنشده البيتين .. وقد

٢٤٧

أخذ المتنبي هذا المعنى فقال :

أيا ابن كروّس يا نصف أعمى

وان تفخر فيا نصف البصير

وكان ابن كروّس أعور .. وينخرط في هذا السلك قوله تعالى : ( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) إذا جعل هذا من باب التهكم به والإزراء عليه كان ذما. ولهذا قال بعض المفسرين أرادوا ـ إنّك لأنت الأحمق السفيه ـ وإن أريد به المدح فالتقدير ـ انك أنت الكامل الحليم الرشيد فكيف يبدو منك مثل هذا لأنه ذكر الحليم والرشيد بالالف واللام التي هي لاستغراق الجنس أو للعهد .. ومثله في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ من جعل قاضيا ذبح بغير سكين ـ فإن أريد به الذم يكون التقدير من جعل قاضيا فقد قتل بغير سكين لأنه ليس في قدرته إقامة الحق على وجهه واجراء الأحكام على القانون المستقيم ، فيكون قد كلف ما لا طاقة به ، ومن كلف ما لا طاقة له به فهو في ألم شديد يشبه ألم من ذبح بغير سكين ، ومن أراد المدح قال إنه لشدة تحرزه في أحكامه واجتهاده في نقضه وابرامه وإنعامه النظر فيما يحدث من الوقائع ويتجدد من خفايا الاحكام والنظر في أمر الوصايا ومال الايتام إلى غير ذلك من الأمور المشقة يحصل له من الألم مقدار ألم من ذبح بغير سكين ، بل أشد لأن من ذبح بغير سكين يقاسي الألم في حال ذبحه ، ثم يستريح ، والحاكم بهذه الأمور مستمر التعب دائم النكد مشتغل القلب منقسم الفكر دائم النظر ، فنسأل الله اللطف بنا وبه إنه على ما يشاء قدير.

٢٤٨

القسم الثالث والأربعون

التجريد

وهو على قسمين .. الأول خطاب الغير ، والمراد به المتكلم ، وهو أولى باسم التجريد ، وفائدته مع التوسع في الكلام أن يثبت الإنسان لنفسه ما لا يليق التصريح بثبوته له ، وذلك قد يكون فضيلة كقول الحيص بيص :

إلام يراك المجد في زيّ شاعر

وقد نحلت شوقا فروع المنابر

وأنت نصبت الشعر علما وحكمة

ببعضهما ينقاد صعب المفاخر

أما وأبيك الخير انك فارس

المقال ومحيي الدّارسات الغوائر

وإنك أتعبت المسامع والنّهى

بقولك عما في بطون الدّفاتر

ـ وقد تكون لنقيصه ولكن يؤثر إبداؤه إما لتشكّ كقول النابغة :

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت

مزارك من ريّا وشعبا كما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا

وتجزع إن داعى الصبابة أسمعا

وأذكر أيام الحمى ثم انثنى

على كبدي من خشية أن تقطّعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرّبا

وما أحسن المصطاف والمتربعا

ـ أو يكون لغير التشكي وذلك كالاعتذار كما قال المتنبي :

٢٤٩

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

واجز الأمير الّذي نعماه بادية

بغير قول ونعمى القوم أقوال

ـ القسم الثاني خطاب المتكلم لنفسه مخيلا لها أنّ معه غيره كما قيل :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

وهذا النوع في القرآن العظيم منه كثير وسنذكره في فصل تلوين الخطاب إن شاء الله تعالى ، وقد ذكرنا منه طرفا في أنواع الالتفات ، فانظره هناك فهو كثير :

٢٥٠

القسم الرابع والأربعون

الرجوع والاستدراك

وهو من أنواع الاعتراض ، ولكن علماء هذا الشأن أفردوا له بابا. وهو على قسمين .. الأول أن تذكر شيئا وترجع عنه كقولهم : والله ما معه من العقل شيء ، الاّ مقدار ما يوجب الحجة عليه كقول زهير :

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والدّيم

ـ القسم الثاني من الاستدراك : هو أن يبتدئ كلامه بما يوهم السامع أنه هجو ، ثم يستدرك ويأخذ في المدح كقول أبي مقاتل الضرير :

لا تقل بشرى ولكن بشريان

غرّة الدّاعي ويوم المهرجان

وهذا النوع غير مستحسن عند الحذاق ، فإنّ السامع ربما يتطير من أول الكلام فيتأذى ولا يلتذ بما بعده ، والاستدراك في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى : ( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ). وقوله تعالى : ( بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ). وقوله تعالى : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ ) على قراءة من خفف فرفع ـ البرّ ـ وقوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) وقوله تعالى : ( قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ). وفي القرآن كثير.

٢٥١

القسم الخامس والأربعون

السؤال والجواب

وهو أن يحكى كلاما بقال ، ثم يجيبه بقال أيضا. وهو في القرآن العظيم كثير .. من ذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) إلى قوله : ( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ). ومنه قوله تعالى : ( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ). وفي الشعر منه كثير من ذلك قول امرئ القيس :

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

فقلت لها سيري وارخي زمامها

ولا تمنعينا من جناك المعلّل

ومن بديعه قول بعض المتأخرين :

وكاملة الأوصاف وافرة الحيا

إذا افتخرت بالحسن اعجزها المثل

شكوت إليها ما أجنّ من الجوى

فقالت إذا اشتدّ الجفا عذب الوصل

فقلت أصمّ العاذلون مسامعي

فقالت إذا صحّ الهوى بطل العذل

٢٥٢

فقلت فما ذا عندكم لمدلّة

فقالت له إما الحياة أو القتل

اذا شئت أن تحظى لدينا فكن لنا

فريدا فلا مال لديك ولا أهل

فكم هلكت في حبّنا من معاشر

وما نهلوا صفو الحياة ولا علّوا

ولا ظفروا منا بأيسر طائل

أتطمع بالتفريط في وصلنا جهل

ـ ومن ذلك قول الباخرزي :

قد قلت لها هجرتني ما العلّه

صدّت وتمايلت وقالت قل له

قال علماء البيان : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة.

٢٥٣

القسم السادس والأربعون

التوهم. ويسمى الإيهام أيضا

وهو أن يجاء بكلمة توهم أخرى. ومنه قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ ) يوهم من لا يفهم أو يعلم العربية أن دينهم حقّ لأن دينهم اذا قرأها بالرفع من لا يفهم ولا يعلم العربية ، اقتضى ذلك أن دينهم حق ، وليس كذلك. ومنه قوله تعالى : ( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ) من لا يفهم العربية ولا يفهم المعنى يعتقد أن ما نافية وأنه ليس عند الله خير من اللهو ومن التجارة. ومنه قوله تعالى : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) ومن لا يعرف العربية إذا سمع هذه الآية اعتقد أن الله تعالى يخشى العلماء والعارف بالعربية والقراءة ينصب الجلالة ، ويرفع العلماء فيظهر له أن العلماء هم الذين يخشون الله. ومنه قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ) من لا يعلم المعنى اعتقد أن الويل لاحق بالمصلين ، ولهذا قال بعض الجهال :

ما قال ربك ويل للذين سهوا

بل قال ربّك ويل للمصلّينا

ـ وقد يقع من ذلك في الشعر كثير. ومنه قول سحيم :

فجال على وحشيّه وتخاله

على ظهره سبّا جديدا يمانيا

فقوله ـ يمانيا ـ يوهم أنه شباّ بالشين. وكذلك قول المتنبي :

٢٥٤

فإنّ الفئام الذي حوله

لتحسد أرجلها الأرؤسا

فقوله ـ أرجلها ـ يوهم أنه القيام بالقاف ، وإنما هو بالفاء والفئام الجماعات.

٢٥٥

القسم السابع والأربعون

التشعيب

وهو أن يكون في صدر الكلام كلمة من عجزه مثل قوله تعالى : ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ). وقوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ).

ومثل قول الشيخ أبي العلاء :

قد أورقت عمد الخيام وأعشبت

شعب الرحال ولون رأسي أغبر

ولقد سلوت عن الشباب كما سلا

غيري ولكنّ للحزين تذكّر

ـ وقال آخر :

وما هجرتك النفس يا عزّ أنّها

قتلتك ولكن قلّ منك نصيبها

ولكنّهم يا أحسن النّاس أولعوا

بقول إذا ما جئت هذا حبيبها

أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليّ ولكن ملء عين حبيبها

٢٥٦

القسم الثامن والأربعون

الاستثناء

وهو أن يذكر شيئا ثم يرجع عنه ، أو يدخل شيئا ثم يخرج منه بعضه. أما الاستثناء ففي القرآن منه كثير. فمنه قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) إلى قوله تعالى : ( إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ). ومنه قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ). ومثله في القرآن كثير. وأما الرجوع فلا ينبغي أن يكون في القرآن منه شيء لأن المتكلم به لا يليق بجلاله أن يوصف بالرجوع عن شيء. وأما ما سوى القرآن ففيه منه كثير من ذلك في الاستعمال قولهم ـ ليس له عقل الا ما تقوم عليه به الحجة ـ وأما في الشعر فقد ورد في أشعار كثيرة ..منها :

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك ولكن ليس منك قليل

ـ ومنه قول الآخر :

وما بي انتصار إن عدا الدّهر ظالما

عليّ بلى إن كان من عندك النّصر

ـ ومنه قول النابغة :

ولا عيب فيهم أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

٢٥٧

القسم التاسع والاربعون

الغرابة .. والظرافة .. والسهولة

أما الغرابة فقال ابن قدامة .. هي أن يكون المعنى مما لم يسبق إليه على جهة الاستحسان فيقال ظريف وغريب ، وإذا كان عديم المثال ، أو قليله ، والقرآن العظيم كله سهل ممتنع ألفاظه سهلة ومعانيه نادرة وأسلوبه غريب قد مازجت القلوب عذوبته وحلت في العيون طلاوته ، وراق في الأسماع سماعه ، واستقر في الطباع انطباعه ، فلهذا لم يسأم على ترداده ولم تمله النفوس على دوام ايراده ، فكل آية منه حسنة المساق ، وكل كلمة منه عذبة المذاق ، وكل معنى منه دقّ ورقّ .. ومن هذا النوع في أشعار العرب المخضرمين والمتأخرين كثير لا يحصى .. فمن ذلك قول بعض العرب :

هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت

وأشفى لقلبي أن تهبّ جنوب

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب

ـ وقال آخر :

ولا تحسبنا هندا لها الغدر وحدها

سجية نفس كلّ غانية هند

فما خلف أجفاني شئون بخيلة

ولا بين أضلاعي لها حجر صلد

٢٥٨

ـ وقال آخر :

تقول نساء الحيّ تأمل أن ترى

محاسن ليلى مت بداء المطامع

وكيف ترى ليلى بعين ترى بها

سواها وما طهّرتها بالمدامع

وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى

حديث سواها في خروق المسامع

ـ وقال آخر :

لا خير في الحبّ وقفا لا تحركه

عوارض اليأس أو يرتاحه الطمع

لو كان لي صبرها أو عندها جزعي

لكنت أملك ما آتى وما أدع

إذا دعى باسمها داع ليحزنني

كادت له شعبة من مهجتي تقع

لا أحمل اللوم فيها والغرام بها

ما كلّف الله نفسا فوق ما تسع

ـ وقال مسلم بن الوليد :

عيني لعينك حين تنظر (١)

لكنّ عينك سهم حتف مرسل

ومن العجائب أنّ معنى واحدا

هو منك سهم وهو مني مقتل

ـ وقال آخر :

وما ذا عسى الواشون أن يتحدّثوا

سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

نعم صدق الواشون أنت عزيزة

عليّ وإن لم تصف منك الخلائق

ـ وقال أبو تمام :

أقول وقد قالوا استرحت بموتها

من الكرب روح الموت شرّ من الكرب

__________________

(١) كذا في الأصل ولم نقف عليه في المطبوع من شعره.

٢٥٩

ـ وقوله أيضا :

وقالوا عزاء الموت للنّفس مدفع

فقلت ولا للحزن مذ مات مدفع

ومن الغريب السهل الظريف قول أبي تمام في قصيدته التي أولها :

ما في وقوفك ساعة من بأس

تحيى بقايا الأربع الأدراس

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلا شرودا في الندى والبأس

فالله قد ضرب الأقلّ لنوره

مثلا من المشكاة والنّبراس

وهذه الأبيات على غاية من الغرابة ، وعلى نهاية من الظرافة والإطابة ، أغرب ما فيها أن أبا تمام لما أنشد قوله :

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

قال بعض من حضر في مجلس الخلافة ، شبه أمير المؤمنين بكل بوال على عقبيه ، فأنشد في الحال بديها :

لا تنكروا ضربي له من دونه

البيتين

فقال له الخليفة تمنّ فقال تمنيت الموصل ، فكأن الخليفة توقف عن ذلك فقال له حكيم عنده اعطها له فانه لا يصل إليها فإنني من قوة فكرته شممت رائحة كبده ، فتوجه إليها فمات في الطريق. وهذا النوع القرآن كله منه فإنه من غرابة الأسلوب وبداعة السياق وجودة الاتساق على غاية لا تدرك وطريقة لبعد مثالها لا تسلك .. ومن هذا النوع قول زهير :

وما كان من خير كبير فإنّما

توارثه آباء آبائهم قبل

٢٦٠