الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم العشرون

في التورية

وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر وهو في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الآية ، الجلالة الأولى مضاف إليها ، والثانية مبتدأ بها. وقوله تعالى : ( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ). ومثله قوله تعالى : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ ).

٢٠١

القسم الحادي والعشرون

الاحتجاج النظري

وبعض أهل هذا الشأن يسميه المذهب الكلام .. وهو أن يذكر التكلم معنى يستدل عليه بضرب من المعقول. ومنه قوله تعالى : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ). وقوله عز وجل : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ). وقوله تعالى : ( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .. ومنه قول الشاعر :

جرى القضاء بما فيه فلا تلم

ولا ملام على ما خطّ بالقلم

ـ وقيل إنّ الاحتجاج أن يخرج الكلام على طريقة الجدل كقول النابغة :

ملوك واخوان إذا ما أتيتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم

فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا

يقول لا تلمني في مدح آل جفنة ، وقد أحسنوا لي ، كما أحسنت إلى قوم فشكروك فلم تر ذلك ذنبا.

٢٠٢

القسم الثاني والعشرون

حسن المطالع والمبادي. ويقال فيه حسن الافتتاح

قال علماء علم البيان .. ومن ضروب هذا العلم حسن المطالع والفواتح ، وذلك دليل على جودة البيان وبلوغ المعاني إلى الاذهان فإنه أول شيء يدخل الأذن ، وأول معنى يصل إلى القلب ، وأول ميدان يجول فيه تدبر العقل ، وهو في القرآن العظيم على قسمين : جلي وخفي. أما الجلي فكقوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ). وكقوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ). وقوله : ( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وأكثر مطالع سور القرآن على هذا النمط. وأما الخفي فمثل قوله تعالى : ( الم ذلِكَ الْكِتابُ ). وقوله : ( الم اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ). وقوله : ( المص ). وقوله : ( حم ). وقوله : ( ق وَالْقُرْآنِ ). وقوله : ( ن وَالْقَلَمِ ) وما يجري مجرى ذلك من السور التي افتتحت بالحروف المفردة والمركبة ، وسيأتي الكلام عليها في فصل مفرد.

٢٠٣

القسم الثالث والعشرون

حسن المقطع

وهو عند أرباب هذا الشأن أن يختم المتكلم كلامه بكلام حسن السبك بديع المعنى ، فانه آخر ما يبقى في الذهن ، ولأنه ربما حفظ من دون سائر الكلام فيتعين أن يجتهد في رشاقته وحلاوته وجزالته وجميع خواتم سور القرآن في غاية الحسن ونهاية الكمال لأنها بين : أدعية. ووصايا. وفرائض. وقضايا. وتحميد. وتهليل إلى غير ذلك من الخواتم التي لا يبقى للنفوس بعدها تطلع ، ولا إلى ما يعقبها تشوف ـ كالدعاء ـ التي ختمت به سورة البقرة ـ والوصايا ـ التي ختمت بها سورة آل عمران ـ والفرائض ـ التي ختمت بها سورة النساء ـ والتبجيل ، والتعظيم ـ اللذين ختمت بهما سورة المائدة ـ والوعد. والوعيد ـ اللذين ختمت بهما سورة الأنعام. والتحريض ـ على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الاعراف. والحض على الجهاد. وصلة الرحم ـ التي ختمت بهما سورة الأنفال. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه وتسليته ووصيته بالتهليل التي ختمت به سورة براءة. وتسليته التي ختمت بها سورة يونس ، ومثلها خاتمة سورة هود. ووصف القرآن ومدحه اللذين ختمت بهما سورة يوسف. والرد على من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختمت به سورة الرعد. ومدح القرآن وذكر فائدته والعلة في إنزاله التي ختمت به سورة إبراهيم. ووصية

٢٠٤

الرسول التي ختمت بها سورة الحجر. وتسليته صلى الله عليه وسلم وطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به سورة النحل. والتحميد الذي ختمت به سورة سبحان. وتحضيض الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبلاغ والإقرار بالبشرية والأمر بالتوحيد الذي ختمت به سورة الكهف. وما ذكر في نصف القرآن مثل لمن نظر في بقيته الى غير ذلك من فواصل القرآن.

٢٠٥

القسم الرابع والعشرون

في براعة الاستهلال

وهو أن يذكر الانسان في أول خطبته أو قصيدته أو رسالته كلاما دالا على الغرض الذي يقصده ليكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه ، كما قيل لكاتب أكتب إلى الامير وعرفه بأن بقرة ولدت حيوانا على شكل الانسان فكتب. أما بعد حمد الله الذي خلق الأنام في بطون الانعام. ومنه قوله تعالى : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ). ومنه قوله تعالى : ( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ). ومنه في القرآن كثير .. وشرطه أن لا يبتدأ بشيء يتطير منه كقوله الاخطل :

اذا متّ مات الجود وانقطع النّدى

ولم يبق إلاّ من قليل مصرّد

ـ وان يجتنب التشبيب بالاسم المستكره كقول جرير :

وتقول بوزع قد دنيت لغيرنا

هلاّ هويت لغيرنا يا بوزع (١)

ـ بل يبتدئ بالمديح مثل قول أبزون العماني :

__________________

(١) هكذا في الاصل والمحفوظ :

وتقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع

٢٠٦

على منبر العلياء جدك يخطب

وللبلدة العذراء سيفك يخطب

وفي التهاني بمثل قول المتنبي :

المجد عوفي إذ عوفيت والكرم

وزال عنك إلى اعدائك الالم

ـ وقول الآخر :

أبشر فقد جاء ما تريد

وباد أعداءك المبيد

ـ وفي التشبيب كمثل قوله :

زمّوا الجمال فقل للعاذل الجاني

لا عاصم اليوم من مدرار أجفاني

ـ وفي المراثي بمثل قول أوس :

أيتها النفس اجملي جزعا

إنّ الّذي تحذرين قد وقعا

قال المصنف : عفا الله عنه هذا النوع ، قد قدمناه في فصل حسن المطلع ، لكن الزنجاني رحمه‌الله أفرد له بابا فأفردناه على حكم ما أفرده ، وكان في فصل حسن المطلع زيادات يحتاج إليها فذكرناها هاهنا ، وهذه الزيادة التي اقتضت افراده.

٢٠٧

القسم الخامس والعشرون

الانتقال من فن إلى فن. ويسمى التخلص. والكلام عليه من وجوه

الاول : في حقيقته. الثاني : في شرطه. الثالث : في الفرق بينه وبين الاقتضاب. الرابع : في المعنى الذي جيء به من أجله. الخامس : في ذكر من هو أحق باستعماله.

أما الاول : فقال علماء علم البيان التخلص هو أن يأخذ المؤلف في معنى من المعاني فبينما هو فيه اذ أخذ في معنى آخر غيره ، وجعل الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع المؤلف كلامه ويستأنف كلاما آخر ، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا.

وأما الثاني : فمن شرطه أن يكون انتقاله من فن إلى فن ببديع وحسن رصف ووجازة لفظ ورشاقة معنى ليكون الذي انتقل إليه أقرب إلى القلب وأعلق بالنفس من المعنى الذي انتقل عنه.

وأما الثالث : فالفرق بينه وبين الاقتضاب أن التخلص لا يكون إلا لعلاقة بينه وبين ما تخلص منه. وأما الاقتضاب فليس شرطه أن يكون بينه وبين ما قبله علاقة ، بل يكون كلاما مستأنفا منقطعا عن الاول.

وأما الرابع : فالمعنى الذي جيء به من أجله شيئان : أحدهما معرفة حذق المتكلم ، وقوة ملكته في التلعب بالكلام ، وتصرفه فيه

٢٠٨

وطول باعه واتساع قدرته في الفصاحة والبلاغة. والثاني التفنن بحصول ملاذ كثيرة وتكون لذته بأمور اقتضاها اعمال الفكرة فيما يتخلص به من بديع المعنى ووشيق اللفظ وحسن النسق.

وأما الخامس : فالأحق باستعماله الشاعر ، فإن الشاعر تحصره القوافي والأوزان ، فيضيق عليه النطاق إذا اقتصر على معنى واحد فتدعو حاجته إلى الخروج من فن إلى فن ومن معنى إلى معنى ليتسع نطاقه ويتحقق ارفاقه بخلاف الناثر فانه مطلق العنان ممدود الباع منبسط البنان يمضي حيث شاء ويتفنن في الانشاء ..

وقد ورد في القرآن العظيم من هذا النوع آيات كثيرة. منها قوله تعالى : ( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم الى ذكر صفات الله عز وجل قال ـ إن أولئك أعداء لي الاّ الله ـ فانتقل بطريق الاستثناء المنفصل ، وهو خير من غيره من الكلام ، ومثله في القرآن كثير.

٢٠٩

القسم السادس والعشرون

في الاقتضاب. والكلام عليه من وجوه

الاول : في حقيقته. الثاني : في المعنى الذي أتى به من أجله. الثالث : في أقسامه. الرابع : في أدواته. الخامس : في الفرق بينه وبين التخلص. السادس : في ذكر اختلاف الأئمة في الأبلغ منهما.

أما الأول : فقال علماء علم البيان ان الاقتضاب ضد التخلص ، وذلك أن يقطع الناظم كلامه الذي هو فيه ، ويستأنف كلاما آخر غيره من مدح أو هجاء أو غير ذلك ، ولا يكون للثاني علاقة بالأول ، ولا تلفيق بينه وبينه ، وهو مذهب القدماء ، ولذلك قال أبو العلاء محمد بن غانم الغانمي : إن كتاب الله العزيز خال من الاقتضاب والتخلص.

وهذا القول فاسد لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تناسب بين الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج اليه ، وفي القرآن العظيم مواضع كثيرة من ذلك كالخروج من الوعظ والتذكير والانذار والبشارة بالجنة إلى امر ونهي ووعد ، ووعيد ، ومن محكم إلى متشابه ، ومن صفة لنبي ونبإ منزل إلى ذم شيطان مريد وجبار عنيد بلطائف دقيقة ومعان آخذة بالقلب أنيقة .. فمما جاء من التخلص في القرآن الكريم قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ

٢١٠

يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ) إلى قوله : ( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآيات. هذا كلام يذهل العقول ويحيّر الالباب ، وفيه كفاية لطالب البلاغة والمنتصب لهذه الصناعة فإنه متى أنعم فيه النظر وتدبر أنباءه ومطاوي حكمته علم أن في ذلك غنى لمن تصفح الكتب المؤلفة في هذا الفن. ألا ترى أيها المتأمل ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم ، ثم أنحى إلى آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ، ولا تسمع ، وإلى تقليد آبائهم الأقدمين فكشفه وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكر الإله الذي لا تجب العبادة إلاّ له ، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه ، فصور المسألة في نفسه دونهم لقوله ـ فإنهم عدوّ لي إلاّ ربّ العالمين ـ على معنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة العدوّ وهو الشيطان ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، فيكون ذلك ادعى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه ، ولو قال ـ فانهم عدوّ لكم ـ لم تكن بتلك المثابة فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى ، وأجرى تلك الصفات العظام من تفخيم شأنه وتعديد نعمه من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجو في الآخرة من رحمته ليعلم بذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة وواجب على الخلق الخضوع له والاستكانة من عظمته ، ثم خرج من ذلك إلى أدعية مناسبة فدعا الله بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين ، لأن الطالب من مولاه والراغب اليه اذا قدّم قبل سؤاله وضراعته الاعتراف بالنعمة والاقرار بالاحسان كان ذلك أسرع بالاجابة وأنجح لحصول القصد والطلبة ، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث يوم القيامة ومجازات الله تعالى لمن آمن به باثابة الجنة ، ولمن ضل عن

٢١١

عبادته بالنار فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته ، ثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون من الأصنام سؤال موبخ لهم مستهزئ بهم وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى العودة ليؤمنوا .. فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض مع احتوائه على لطيفة دقيقة حتى كأنه معنى واحد وخرج من ذكر الأصنام وتقريره لأبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي عليه من التعري عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع الى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الالوهية وعظّم شأنه وعدد نعمه ليعلم بذلك أن العبادة لا تصح الاّ له ثم خرج من هذا الى دعائه إياه وخضوعه له ، ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله عز وجل وعقابه ، فتدبر هذه التخليصات اللطيفة وضم هذا إلى غيره من تضمين هذا الكلام بأنواع من صناعة التأليف وهي الايجاز والكناية ، والتقديم والتأخير ، ثم إنابة الفعل الماضي عن الفعل المضارع.

فأما الإيجاز فلا خفاء به على العارف بما أشرنا اليه في بابه الذي سبق ذكره أولا ، وإن من جملة قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) فإنه جمع الترغيب في طاعته ، والترهيب من معصيته مع عظمهما وفخامة شأنهما في هذه الكلمات اليسيرة.

وأما الكناية فقوله ـ وبرّزت الجحيم للغاوين ـ والغاوون هنا كناية عن أبيه وقومه ، ويدل على ذلك قوله : وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله ـ لأن كلامه في الأول كان معهم في عبادتهم للأصنام. وأما التقديم والتأخير فإنه ذكر إبراهيم النعمة تعديد الاحسان قبل الدعاء وطلب الحاجة. وأما انابة الفعل الماضي عن المضارع فقوله ـ وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين ، وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله ـ بعد قوله ـ ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من

٢١٢

أتى الله بقلب سليم ـ وفي ذلك من الفائدة ما أشرنا إليه في بابه ، وقد سبق ذكره.

وأما الثاني : فالمعنى الذي أتى به من أجله تشوف النفس بعد قطع الكلام الأول إلى الكلام الثاني الذي بعده ، ولا سيما اذا لم يكن بفاصلة فإنه يدل على تمكن المتكلم في البلاغة وقوة ملكته في التلعب بالكلام ، وجودة فكرة المؤلف ، وحسن فطرة السامع وصحة ذهنه.

وأما الثالث : فقال علماء البيان هو على قسمين : منه ما يكون بفاصلة. ومنه ما لا يكون بفاصلة ، وهو بالفاصلة أحسن لأن بها تتشوف النفس إلى المعنى الثاني ، فتكون له لذاذة أشد مما إذا ورد بغتة.

وأما الرابع : فأدواته فواصله وهي ـ أما بعد ـ وقيل إنّ أول من تكلم بها رسول الله ثم تداولها الناس بعده ـ وهذا. وهذه ـ وقد يذكر لهما خبر كقوله تعالى : ( هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) وقد لا يذكر لهما خبر كقوله تعالى : ( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) وكما قال الشاعر :

هذا وكم لي بالجنينة سكرة

أنا من بقايا شربها مخمور

وقد قال ابن الأثير في جامعه في قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ) إلى قوله : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) ألا ترى ما ذكر قبل هذا ذكر من ذكر من ذكر من الأنبياء ، وأراد أن يذكر بعده بابا آخر غيره ، وهو ذكر الجنة وأهلها فقال ـ هذا ذكر ـ ثم قال ـ وإنّ للمتقين لحسن مآب ـ ويدلّ عليه أنه لما أتم ذكر أهل الجنة ، وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال ـ هذا وإنّ للطاغين لشرّ مآب ـ وذلك من فصل الخطاب الذي هو ألطف موقعا من التخلص فاعرفه .. ومن بديع الاقتضاب قوله تعالى : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) إلى

٢١٣

قوله : ( لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) ثم اقتضب فقال : ( كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) .. وهو في القرآن كثير جدا وأكثر ما يرد في ذكر القصص وهذا من النوع الاول من الاقتضاب لأنه بلا فاصلة .. وقال ابن الاثير ومما استطرف من هذا النوع قول ابن الزملكاني (١) :

وليل كموج البرقعيديّ ظلمة

وبرد أعانيه وطول قرونه

سريت ونومي فيه نوم مشرّد

كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أولق فيه التفات كأنّه

أبو جابر في خبطه وجنونه

على أولق فيه التفات كأنّه

أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدا ضوء النهار كأنه

سنا وجه قرواش وضوء جبينه

وقال : إن هذه الابيات لها حكاية ، وذلك أن هذا الممدوح كان جالسا في ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء ، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر ، كان البرقعيديّ مغنيا ، وسليمان بن فهد وزيرا ، وأبو جابر حاجبا فالتمس الممدوح من الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه.

قال المصنف عفا الله عنه : هذا الذي ذكره ابن الاثير قد أورده علماء علم البيان في باب الاستطراد هو به أمسّ وأليق.

__________________

(١) ابن الزملكاني هذا تصحيح منا اعتمادا على حفظنا ، وفي الاصل ابن الزمكلفة .. وقد أورد الابيات التنوخي في كتابه الاقصى القريب في باب التخلص والاقتضاب ولم يسم القائل.

٢١٤

القسم السابع والعشرون

في التطبيق

ويسمى المطابقة والطباق والتكافؤ والتضاد.

والكلام عليه من وجوه :

الاول : في حقيقته. الثاني : في اشتقاقه. الثالث : في أقسامه.

أما الاول : فقال علماء علم البيان هو أن يجمع في الكلام بين متضادين مع مراعاة التقابل بحيث لا يضم الاسم إلى الفعل ، ولا الفعل إلى الاسم ، وهو كقوله تعالى : ( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ) وقوله تعالى : ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ). وقوله تعالى : ( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ). وقوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) إلى قوله : ( وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ). وقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) ومثله في القرآن كثير. ومن ذلك في أشعار العرب ومخاطباتهم كثير .. فمن بديع أشعار العرب قول الحارث بن حلزة :

بأنّا نورد الرّايات بيضا

ونصدرهنّ حمرا قد روينا

جمع في هذا البيت بين الطباق والمقابلة .. وأبدع منه قول بعض المتأخرين :

٢١٥

فأوردها بيضا ظماء صدورها

وأصدرها بالرّيّ ألوانها حمر

قال ابن الأثير : أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده ، كالبياض والسواد والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب فقال : المطابقة إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ، وهذا الذي ذكره قدامة هو التجنيس بعينه غير أن الأسماء لا مشاحة فيها إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك. والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق وسنبينه.

وأما الثاني : فاشتقاق الطباق وأصله في اللغة من طابق البعير في سيره ، اذا وضع رجله موضع يده وهذا يقوي قول قدامة ، لأن اليد غير الرجل لا ضدها ، والموضع الذي يقعان فيه واحد ، فكذلك المعنيان يكونان مختلفين واللفظ الذي يجمعهما واحدا .. وأما الجماعة فيحتمل أن يكونوا رأوا أن الرّجل مخالفة لليد فراعوا المخالفة والضد مخالف للضد لا اجتماع لهما ، وهذا عين التضاد.

ويجوز أن يكون الجماعة سموا هذا الضرب من الكلام مطابقة تسمية مرتجلة لا اشتقاق لها ولا مناسبة ، وهذا هو الظاهر من هذا الأمر إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم يطلع عليها غيرهم والصحيح هو الأول ، لأن بعضهم سماه التضاد وهذا دليل على مراعاة الاشتقاق واما الثالث : فقد قسم أرباب علم البيان الطباق إلى قسمين :لفظيّ ومعنويّ. أما اللفظي فهو على قسمين : الأول ما قدمناه. والثاني أن يجمع بين شيئين موافقين وبين ضديهما ، ثم إذا اشترطهما بشرط وجب أن يشترط ضديهما بضد ذلك الشرط كقوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى

٢١٦

وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) الآية. فكما جعل التيسير لليسرى مشترطا بالاعطاء والتقى والتصديق جعل ضده وهو العسر مشترطا بأضداد تلك الامور ، وهي المنع وعدم الاتقاء والاستغناء والتكذيب .. وأما المعنوي فعلى قسمين. الاول : أن يزاوج بين معينين في الشرط والجزاء كقول البحتري (١).

والثاني : في النفي كقول البحتري أيضا :

يقيّض لي من حيث لا أعلم النوى

ويسري إليّ الشوق من حيث أعلم

ـ والطباق في القرآن كثير .. ومنه في السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم ـ علم الانساب علم لا ينفع ، وجهل لا يضر ـ وقوله صلى الله عليه وسلم في مدح الأنصار ـ « إنّكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الجزع » .. ومن الطباق البديع قول الشاعر :

إنّ هذا الرّبيع شيء عجيب

تضحك الارض من بكاء السماء

__________________

(١) بياض بالأصل.

٢١٧

القسم الثامن والعشرون

المقابلة. والكلام عليها من وجوه

الأول : في حقيقتها. الثاني : في اشتقاقها. الثالث : في أقسامها. الرابع : في الفرق بينها وبين الطباق.

أما الأول : فقال جماعة من العلماء بهذا الشأن المقابلة ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخلفه في بعضها .. وقال بعضهم المقابلة أن تضع معاني تريد الموافقة بينها وبين غيرها أو مخالفة فتأتي في الموافق بما وافق وفي المخالف بما خالف وتشترط شروطا ، وتعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن تأتي في الثاني بما يوافقه بمثل ما شرطت وعدّدت ، وفيما يخالفه بأضداد ذلك كقوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) وكقول الشاعر :

فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح

وفيّ ومطويّ على الغلّ غادر

قال المصنف عفا الله عنه : قال الإمام فخر الدين رحمه‌الله هذا النوع في فصل الطباق وذكره الزنجاني في فصل المقابلة ، والذي اختاره العلماء المتقدمون في هذا الفن أن المقابلة ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخالفه في بعضها كما تقدم.

٢١٨

وأما الثاني : فالمقابلة مصدر من قابل الشيء الشيء يقابله مقابلة إذا واجهه ، وصار ماثلا أمامه ، وهو من باب المفاعلة كالمضاربة والمقاتلة ، وأصله في الإجرام يقال : قابل الشخص الشخص ، والجبل الجبل إذا واجهه ، وناوحه ، إذا صار موازيا له ماثلا أمامه ، ثم توسع فيه حتى استعمل في المعاني ، ولما وضع المؤلف الكلمة بإزاء الكلمة الأخرى ، والمعنى بإزاء المعنى الآخر حصلت المقابلة من جهة اللفظ تارة ، ومن جهة المعنى أخرى.

وأما الثالث : فأقسامها ثلاثة : مقابلة لفظية. وهي على قسمين ، وقد تقدم. ومقابلة معنوية. وهي على قسمين أيضا. الأول أن يقابل معنى بمعنى مثل : ( إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى ) وجه المقابلة في هذه الآية أن ـ الجوع ـ هو خلوّ الباطن ـ والعري ـ خلوّ الظاهر ـ والظمأ ـ احتراق الباطن ـ والضحى ـ احتراق الظاهر. فقابل الخلو بالخلو ، والاحتراق بالاحتراق. والثاني أن يجيء في السلب كقول الفرزدق :

والثالث المقابلة الفاسدة ، وهو أن يقابل الشيء بما لا يوافقه ، ولا يخالفه كقول الكميت :

لعمري لئن قلّ الحصى في رحالكم

بني نهشل ما لؤمكم بقليل

وقد رأين بها حورا منعّمة

بيضا تكامل فيها الدّلّ والشنب

ـ والشنب ـ لا يشاكل الدل. وهذان القسمان ذكرهما الزنجاني في تكملته. والمقابلة قريب من الطباق للمشابهة من بعض الوجوه ، والمخالفة من وجهين نذكرهما بعد هذا القسم.

وأما الرابع : فالفرق بين المقابلة والطباق من وجهين. الأول أن

٢١٩

الطباق لا يكون إلا ضدين غالبا مثل قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) وأشباه ذلك. والمقابلة تكون غالبا بالجمع من أربعة أضداد. ضدين في أصل الكلام. وضدين في عجزه. وتبلغ إلى الجمع من عشرة أضداد. خمسة في الصدر. وخمسة في العجز .. الثاني لا يكون الطباق إلا بالاضداد ، والمقابلة تكون بالاضداد وغيرها. وقد ورد في أشعار العرب والمتأخرين أبيات كثيرة يتضمن البيت منها مقابلتين وطباقين .. فمن ذلك قول الحارث بن حلزة.

بانّا نورد الرّايات بيضا

ونصدرهنّ حمرا قد روينا

ـ ومن ذلك قول بعض المتأخرين :

فأوردها بيضا ظماء صدورها

وأصدرها بالرّي ألوانها حمر

ـ قال ابن الاثير في جامعه ان الطباق أحد أنواع المقابلة لأنه لا يخلو الحال في ذلك من ثلاثة أقسام. اما أن يقابل الشيء بضده أو بغيره أو بمثله ، وليس لنا قسم رابع. فأما الاول وهو مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض ، وما أشبه ذلك كقوله تعالى : ( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ) ألا ترى إلى صحة هذه المقابلة البديعة حيث قابل الضحك بالبكاء ، والقليل بالكثير. وكذلك قوله تعالى : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) وهذا أحسن ما يجيء في هذا الباب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير المال عين ساهرة لعين نائمة ـ ومن هذا قول بعضهم في السحاب :

وله بلا حزن ولا فرح

ضحك يراوح بينه وبكا

فقابل الضحك بالبكاء والحزن بالسرور في بيت واحد الاّ أن في

٢٢٠