الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم الخامس عشر

المغالطة. والكلام عليه من وجوه

الاول : في حقيقتها. الثاني : في اشتقاقها. الثالث : في أقسامها.

أما الاول : فقال علماء علم البيان أن المغالطة ذكر الشيء ، وما يتوهم مقابلا له ، وليس كذلك.

وأما الثاني : فاشتقاقه من الغلط ، وهو من باب المفاعلة من واحد مثل : طارقت النعل ، وعاقبت اللص لأن فاعله يذكر شيئا يوقع به غيره في الغلط ، ويوهم ما ليس هو المراد ، وهو المشار اليه في الحديث المروي نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغلوطات وهي شرار المسائل.

وأما أقسامها ، فأربعة ، الأول أن يذكر الشيء وما يتوهم مقابلا له ، ويسمى مغالطة النقيض وهو مثل قول الشاعر :

وما أشياء نشريها بمال

وإن نفقت فأكسد ما تكون

أوهم بنفقت النفاق السوقي ، وهو رواج السلعة ومراده الموت يقال : نفقت الدابة ، إذا ماتت. وقد ورد منه عن العرب كثير. من ذلك ما روي أن حيّين من العرب اقتتلا فقتل من كل حي قتلى وأسر

١٨١

أسرى ، فقال أحد الحيين لأسير عندهم أرسل إلى قومك رسولا يقول لهم ليكرموا أسيرنا ، فإننا لك مكرمون ، فقال : ائتوني برسول منكم أرسله اليهم فجاءوا برجل فسأله عن أشياء فقال ما أراك إلاّ عاقلا أبلغ قومي السلام ، وقل لهم ليكرموا فلانا فإن قومه لي مكرمون ، وقال له : وقل لهم يخلوا عن ناقتي الحمراء ويركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معكم حيسا ، وسلوا الحارث عن خبري فلما بلغهم الرسالة حلوا وثاق ذلك الرجل ، وقالوا : والله ما له ناقة حمراء ولا جمل أصهب ، فلما انصرف الرسول استدعوا الحارث وقصوا عليه ما قال فقال : أشار بقوله حلوا عن ناقتي الحمراء واركبوا جملي الاصهب ارتحلوا عن هذه الارض الدهناء واصعدوا الجبل ، وأشار بقوله بآية ما أكلت معكم حيسا إلى أن أخلاطا من الناس اتفقوا على أن يغيروا على حيكم ليلا ، فإن الحيس يجمع السمن والتمر والأقط فارتحلوا عن تلك الأرض وصعدوا الجبل فأغار عليهم أعداؤهم فلم يجدوهم في المكان الذي كانوا فيه فسلموا من اغتيال عدوهم لهم. وقد نظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال :

حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم

والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا

إنّ الذئاب قد اخضرّت براثنها

والنّاس كلهم بكر اذا شبعوا

ومثل هذا عن العرب كثير .. الثاني أن يذكر مع الشيء مثله ، ويسمى مغالطة المثل كقول المتنبي :

يشلّهم بكلّ أقبّ نهد

لفارسه على الخيل الخيار

وكلّ أصمّ يعسل جانباه

على الكعبين منه دم ممار

يغادر كلّ ملتفت اليه

ولبّته لثعلبه وجار

ـ والثعلب ـ الحيوان وطرف السنان ـ والوجار ـ بيت ذلك الحيوان .. وكقول الشاعر :

١٨٢

برغم شبيب فارق السيف كفّه

وكانا على العلاّت يضطجعان

كأنّ رقاب الناس قالت لسيفه

رفيقك قيسيّ وأنت يماني

ـ فالسيف ـ يقال له يمان إذا كان صارما ـ وشبيب ـ من قيس وكان بين قيس ويمن محاربة .. ومنه أيضا :

وخلطتم بعض القرآن ببعضه

فجعلتم الشعراء في الأنعام

ـ فالشعراء ـ جمع شاعر واسم سورة ـ والأنعام ـ الابل والبقر والغنم واسم سورة أيضا ، وسبب حسن هذا الفن ما يحصل للنفس من الالتذاذ بفهم ما فيه غموض والأول أحسن لزيادة غموضه .. الثالث من المغالطات الألغاز. واللغز الطريق المنحرف وسمي به هذا لانحرافه عن نمط الكلام ، ويسمى أيضا أحجيّة لأن الحجى هو العقل وهذا النمط يقوي العقل عند التمرن والارتياض بالاكثار من حله ، وإعمال الفكر فيه ، ويسمى أيضا المعمّى لما فيه من الخفاء. ومن النوع في أشعار العرب والمخضرمين والاسلاميين وهو في أشعار المتأخرين منهم أكثر .. ومنه في القرآن العزيز ما جاء في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبة التي دقّ معناها وبعد غور مغزاها وحارت العقول في معانيها. ومنها قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه‌السلام حين سئل لما كسّر الأصنام وقيل له : ( أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) قابلهم بهذه المغالطة ليقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة .. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن النمرود لما جادل إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال إبراهيم : ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) حكي أنه أتى باثنين فقتل أحدهما وأرسل الآخر ، وكان ذلك من النمرود مغالطة لابراهيم عليه الصلاة والسلام لأن إبراهيم عليه‌السلام أراد إنّ الله

١٨٣

يحيي الميت ويميت الحي بغير آلة لا يحيي ويميت كذلك الاّ هو .. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه لما سئل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرجا من مكة أعزها الله تعالى فقال : إنه رجل يهديني الطريق .. ومنه قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما سأله الجبار عن زوجته سارة قال هي أختي أراد أخوة الدين ، ومثله كثير.

١٨٤

القسم السادس عشر

الاشارة. وتسمى الوحي أيضا. والكلام عليها من وجوه

الاول : في حدها. الثاني : في أقسامها. الثالث : في الفرق بينها وبين الكناية.

أما الاول : فقد قال علماء البيان الاشارة أن تطلق لفظا جليا تريد به معنى خفيا ، وذلك من ملح الكلام ، وجواهر النثر والنظام. ومنه قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) أشار بذلك إلى بر الوالدين وترك التعرض اليهما بيسير من الإيلام فضلا عن كثيره. ومنه قوله تعالى : ( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ) إشارة إلى عفافهن. ومنه قوله تعالى : ( وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ) اشار إلى نساء كرام. ومن هذا النوع فلان طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد إشارة بقوله ـ طويل النجاد ـ إلى تمام خلقته وبقوله ـ رفيع العماد ـ إلى أن بيته مرتفع يعرفه الاضياف والطرّاق وبقوله ـ كثير الرماد ـ إلى كثرة قراه الاضياف .. ويقولون أيضا فلان جبان الكلب مهزول الفصيل أشاروا بقولهم ـ جبان الكلب ـ الى أنه لكثرة طراقه أنست كلابه الطراق وصارت تلوي رقابها وتحرك أذنابها فرحا بهم وأشاروا بقولهم ـ مهزول الفصيل ـ إلى كثرة سقيه الألبان ومداومة حلب مواشيه ، فتقل بذلك ألبانها فيهزل الفصيل بسبب ذلك. الاشارات في القرآن كثيرة خصوصا على ما يراه أرباب الحقائق ، وبعض أرباب هذه الصناعة

١٨٥

يسمى هذا النوع الايماء.

ـ ومنه قول الشاعر :

بعيدة مهوى القرط إما لنهشل

أبوها وإما عبد شمس وهاشم

أشار بقوله ـ بعيدة مهوى القرط ـ إلى طول عنقها .. ومنه قول امرئ القيس :

كأنّ المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر العطر

يعلّ به برد أنيابها

إذا غرّد الطائر المستجر

أشار إلى طيب رائحة فيها وقت السحر ، وهو وقت تغير الأفواه.

وأما الثاني : فأقسامها أربعة. الأول ما قدمناه. والثاني أن يكون اللفظ القليل مشتملا على المعنى الكبير. ومنه قوله تعالى : ( فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) جمع ما تميل إليه النفوس من الشهوات وتلذه الأعين من المرئيات. ومنه قوله تعالى : ( فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ). والثالث من أنواع الاشارة عمل أرباب هذه الصناعة المعميات والالغاز وقد تقدم بيانهما. الرابع من أقسامها التورية ، وهي أن تكون الكلمة تحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر ، ومراده ما أهمله لا ما استعمله ، ولهذا مواضع نبينها وأملتها فيه إن شاء الله تعالى.

وأما الثالث : فالفرق بينها وبين الكناية أن الاشارة في الحسن والكناية في القبيح ، وسيأتي بيانه.

١٨٦

القسم السابع عشر

في الكناية. والكلام عليها من وجوه

الاول : في حدها. الثاني : في المعنى الذي أتى بها من أجله. الثالث : في أقسامها.

أما الاول : فقد قال علماء علم البيان إن الكناية هي اطلاق لفظ حسن يشير إلى معنى قبيح كقوله تعالى : ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) أراد بالارض الثانية نساءهم اللاتي كن محل وطئهم وجهة استمتاعهم .. ومنه قوله تعالى : ( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) يريدون أنه يتغوّط فكنوا عن التغوّط بأكل الطعام لأنه سببه .. ومنه قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) كني بالرفث عن الحديث في الجماع وباللباس عن الوطء نفسه .. ومنه قوله تعالى : ( وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ) أي هيأناها للولادة بعد الكبر. ومنه قوله تعالى : ( وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ) أي حاضت .. قال بعض المتأخرين من الحذاق في هذا الفن الكناية في اللغة الستر ، وفي الصناعة أن تقصد مجازا بعيدا مناسبا للحقيقة مع ضمنه أي ارادتها واذا استعمل اللفظ في ذلك كان ضربا من الاستعارة وتقع الكناية في المفرد والمؤلف وسيأتي بيانه.

١٨٧

وأما الثاني : فالمعنى الذي أتى بها من أجله هو الإجمال في الخطاب والدفع بالتي هي أحسن والتجنب للهجر من القول إذا هو أرسخ في الالفة وأمكن. قال الله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ).

وأما الثالث : فقد اختلفت عبارات أهل هذه الصناعة فيها وآثرها ما ذكره ابن الاثير في جامعه قال : إن الكناية على قسمين : قسم يحسن استعماله. وقسم لا يحسن استعماله. فأما الضرب الأول وهو الذي يحسن استعماله فينقسم إلى أربعة أقسام : الأول : التمثيل وهو التشبيه على سبيل الكناية ، وذلك أن تراد الاشارة إلى معنى فتوضع ألفاظ على معنى آخر ، وتكون تلك لألفاظ ، وذلك المعنى مثالا للمعنى الذي قصدت الاشارة إليه ، والعبارة عنه كقولنا ـ فلان نقي الثوب ـ أي منزّه عن العيوب ، وللكلام بهذا فائدة لا تكون لو قصد المعنى بلفظه الخاص به ، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصوير المدلول عليه ، لأنه إذا صور في نفسه مثال ما خوطب به كان ذلك أسرع إلى الرغبة فيه أو الرغبة عنه. فمن بديع التمثيل قوله تعالى : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) فانه مثل الاغتياب يأكل الانسان لحم انسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله لحم لأخ ، ولم يقتصر على لحم الاخ حتى جعله ميتا ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مناسبة مطابقة للمعنى الذي وردت لأجله.

فأما تمثيل الاغتياب بأكل لحم انسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جدا ، وذلك لأن الاغتياب إنما هو ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم ، وتمزيق العرض مماثل لأكل الانسان لحم من يغتابه لأن أكل اللحم فيه تمزيق لا محالة ، وأما قوله لحم أخيه ، فلما في الاغتياب من الكراهة ، لأن أرباب العقل والشرع قد أجمعوا على استكراهه وأمروا بتركه والبعد

١٨٨

عنه. ولما كان كذلك كان بمنزلة لحم الأخ في كراهته ، ومن المعلوم أن لحم الانسان مستكره عند انسان آخر مثله ، الاّ أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه ، وهذا القول مبالغة في الاستكراه لا أمد فوقها.

وأما قوله ـ ميتا ـ فلأجل ان المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها .. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة. موصولا بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بأنها من أذم الحلال ، ومكروه الافعال عند الله عز وجل والناس.

ومن هذا القسم قوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) فمثل البخل بأحسن تمثيل لأن البخيل لا يمد يده بالعطية كالمغلول الذي لا يستطيع أن يمد يده وإنما قال ـ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ـ ولم يقل ولا تجعل يدك مغلولة من غير ذكر العنق لأنه قد قال تعالى ـ ولا تبسطها كل البسط ـ فناب ذكر العنق عن قوله كل الغل ، لأن غل اليدين إلى العنق هي اقصى الغايات التي جرت العادة بغل اليد إليها .. ومن امثال العرب ـ اياك وعقيلة الملح ـ وذلك تمثيل للمرأة الحسناء في المنبت السوء لأن عقيلة الملح هي الذرة ..

ومن التمثيل قول ابن الدّمينة :

أبيني أفي يمني يديك تركتني

فأفرح أم صيرتني في شمالكي

أي ابيني أمنزلتي كريمة عندك أم هينة عليك فذكر اليمين وجعلها مثالا لإكرام المنزلة ، وذكر الشمال وجعلها مثالا لهوان المنزلة ، لأن اليمين اشرف مكانة من الشمال وأكرم محلا ، وفي القرآن العظيم ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى : ( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ) إلى قوله : ( وَماءٍ مَسْكُوبٍ ) فلما جاء إلى ذكر الشمال قال تعالى : ( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ

١٨٩

وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) فاعرف ذلك.

الثاني : الارداف وهو اسم سماه قدامة بن جعفر الكاتب قال : اعلم أن أكثر علماء هذه الصناعة قد أدخلوا الأرداف في التمثيل ، وفي الفرق بينهما اشكال ودقة فأما التمثيل فقد سبق الاعلام به ، وهو أن يراد الإشارة إلى معنى فتوضع الالفاظ على معنى آخر فتكون تلك الالفاظ ، وذلك المعنى مثالا للمعنى الذي قصدت الإشارة اليه ، والعبارة عنه كقولنا ـ فلان نقي الثوب ـ أي منزه عن العيوب. وأما الأرداف فهو أن يراد الاشارة إلى معنى فيترك اللفظ الدال عليه ، ويؤتى بما هو دليل عليه ورادف له كقولنا ـ فلان طويل النجاد ـ والمراد طويل القامة إلاّ أنه لم يتلفظه بطول القامة الذي هو الغرض ، ولكن ذكر ما هو دليل على طول القامة ، وليس نقاء الثوب بدليل على النزاهة عن العيوب وإنما هو تمثيل لها فاعرف ذلك.

واعلم أن الأرداف يتفرع إلى خمسة فروع .. الأول : فعل البداهة كقوله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ) أي انه سفيه الرأي بمعنى أنه لم يتوقف في كلامه وقت ما سمعه ، ولم يفعل كما تفعل المراجيح العقول المتثبتون في الاشياء ، فإن من سفاهتهم إذا ورد عليهم أمر أو سمعوا خبرا أن لا يستعملوا فيه الروية وتأنوا في تدبره إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه. ألا ترى أن معنى قوله ـ كذّب بالحق لما جاءه ـ أي انه ضعيف العقل عازب الرأي فعدل عن ذلك الى ما هو دليل عليه ورادف له وذلك آكد وأبلغ.

ومن ذلك قوله تعالى : ( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ) ومثله في القرآن كثير.

الثاني : من الأرداف باب المثل وهو ان العرب تأتي بمثل في هذا توكيدا للكلام وتشييدا من أمره يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبح ـ

١٩٠

مثلي لا يفعل هذا ـ أي أنا لا أفعله فنفي ذلك عن مثله وهو يريد نفيه عن نفسه قصدا للمبالغة فيسلك به طرق الكناية لأنه إذا نفاه عن مثله ومشابهه فقد نفاه عنه لا محالة. كذلك قولهم أيضا ـ مثلك إذا سئل أعطى ـ أي أنت كذلك. وهو كثير في الشعر القديم والمولد وفي الكلام المنثور .. وسبب توكيد هذه المواضع بمثل انه يراد أن يجعل نفسه من جماعة هذه أوصافهم تثبيتا للامر وتوكيدا له ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه ولم ترثب فيه قدمه. مثل ذلك قولهم لانسان ـ أنت من القوم الكرام ـ أي لك في هذا الفعل سابقة وأنت حقيق به ولست دخيلا فيه .. ومن هذا الباب في القرآن كثير كقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا كقولك ـ مثلي لا يفعل كذا ـ فينفون البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذلك قصدا للمبالغة لأنهم إذا نفوه عن من يسد مسدّه وهو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. ونظير ذلك قولك للعربي ـ العرب لا تخفر الذمم ـ وهذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمم ، وليس فرق بين قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وبين قوله ليس كالله شيء إلا من الجهة التي نبهنا عليها فاعرفها ..

الثالث : من الأرداف ما يأتي في جواب الشرط ، وذلك من ألطف الكنايات واحسنها. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) كناية عن بطلان قولهم وكذبهم فيما ادعوه وذلك رادف له. ونظيره قولك :كنت تنكر حضور زيد فها هو أي فأنت كاذب ، وهذا من دقائق الكناية ..

الرابع : من الأرداف الاستثناء من غير موجب وذلك من غرائب الكناية كقوله تعالى : ( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ ) الآية. ـوالضريع ـ نبت ذو شوك تسميه قريش الشبرق في حال خضرته وطراوته فإذا يبس سمته الضريع ، والإبل ترعاه طريا ولا تقربه يابسا. والمعنى ليس

١٩١

لهم طعام أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الانس ، وهذا مثل قولك ـ ليس لفلان ظل الاّ الشمس ـ تريد بذلك نفي الظل عنه على التوكيد ، وذلك رادف لانتفاء الظل عنه كما ذكر الضريع رادف لانتفاء الطعام .. وعلى نحو من هذا جاء قول بعضهم :

وتفرّدوا بالمكرمات فلم يكن

لسواهم منها سوى الحرمان

فالمراد نفي المكرمات عن سواهم لأنهم إذا كان لهم الحرمان من المكرمات ، فما لهم منها شيء ..

الخامس : من الارداف وليس مما تقدم بشيء ، وذلك نحو قوله تعالى : ( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) والمراد به اذا خوطب بمثل هذا غير النبي صلّى الله عليه وسلّم أنك أخطأت وبئس ما فعلت فقوله ـ لم أذنت لهم ـ بيان لما كنى عنه بالعفو أي مالك أذنت لهم وهلا استأنيت فذكر العفو دليل ، ورادف له وان لم يذكر. وكذلك قوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) قيل لهم ان استندتم إلى العجز فاتركوا العناد فوضع قوله ـ فاتقوا النار ـ موضعه لأن اتقاء النار لصيقة وضميمة من حيث أنه من نتائجه وروادفه ، لأن من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه ـ إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي ـ يريد فأطيعوني وأطيعوا أمري واحذروا ما هو نتيجة حذر السخط وروادفه .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) ألا ترى إلى لطافة هذه الكناية فإنها أفادت تكذيب دعواهم ودفع ما انتحلوه وفائدتها هاهنا أنه روعي في تكذيبهم أدب حسن لم يصرح بلفظه ، فلم يقل كذبتم لأن فيه نوع استقباح في الخطاب فوضع قوله ـ قل لم تؤمنوا ـ الذي هو نفي ما ادعوا اثباته موضعه لأن ذلك رادف له .. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى : ( قالَ الْمَلَأُ

١٩٢

الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) أثبت العلم بارساله وانه من الأمور الظاهرة المسلمة التي لا يدخلها ريب ، ولا يعتريها شك ، لكن عدل عن ذلك إلى ما هو دليل عليه ، ورادف له وهو الايمان به أعني صالحا إنما صح عنهم بعد ثبوته عندهم ، والعلم بإرساله إليهم فالإيمان به أدنى دليل على العلم بأنه نبي مرسل ، وهذا من دقائق الأرداف ولطائفه. وأمثال ذلك كثيرة كقول الاعرابية في حديث أم زرع تصف زوجها له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك ، إذا سمعن صوت المزاهر أيقنّ أنهنّ هوالك .. فإن الظاهر من هذا القول أن إبله يبركن عند بيته بفنائه ، ولا تبرح ليقرب عليه نحرها للأضياف فاذا هزت المزاهر للغناء نحرها لضيوفه ، فقد اعتادت هذه الحالة وأيقنتها وغرض الأعرابية من هذا الكلام أن تصف زوجها بالجود والكرم ، ولكنها لم تذكر ذلك بلفظه الدال عليه ، وإنما أتت بمعان دلت على ذلك من غير تصريح بمرادها .. وكذلك قال بعضهم :

وددت وما تغني الودادة أنني

بما في ضمير الحاجريّة عالم

فإن كان خيرا سرّني وعلمته

وإن كان شرّا لم تلمني اللوائم

أي أهجرها فأضرب عن ذلك جانبا ، ولم يذكر ذلك اللفظ المختص به ، لكنه ذكر ما هو دليل عليه ورادف له .. الثالث من الكناية وهو المجاورة ، وذلك أن يريد المؤلف ذكر شيء فيترك ذكره جانبا إلى ما جاوره فيقتصر عليه اكتفاء بدلالته على المعنى المقصود كقول عنترة :

فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم

أراد ـ بالثياب ـ هنا نفسه لأنه وصف المشكوك بالكرم ، ولا توصف

١٩٣

الثياب به فثبت حينئذ أنه أراد ما تشتمل عليه الثياب ، وفي ذلك من الحسن ما لا ينكره العارف بهذه الصناعة وقال أيضا :

بزجاجة صفراء ذات أشعة

قرنت بأزهر في الشمال مفدّم

ـ الصفراء ـ هاهنا هي الخمرة ، والذكر للزجاجة حيث هي مجاورة لها ومشتملة عليها. وذهب بعض المفسرين في قوله تعالى : ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) انه أراد بالثياب القلب أو الجسد أي وقلبك فطهر أو جسدك .. ومنه قول امرئ القيس :

فإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

الرابع : من الكناية ما ليس بتمثيل ولا ارداف ولا مجاورة كقوله تعالى : ( أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) فكنى بأنهم يتزينون في الحلية أي الزينة والنعمة وهو اذا احتاج إلى مجاراة الخصوم كان ـ غير مبين ـ أي ليس عنده بيان ولا برهان يحاج به من خاصمه ، وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال .. ومن هذا الباب قال أبي نواس :

تقول التي من بيتها خفّ محملي

عزيز علينا أن نراك تسير

ألا ترى ما أحسن هذه الكناية فإنه أضرب عن ذكر امرأته بقوله ـ من بيتها خف مركبي ـ فإنه من ألطف الكناية مذهبا .. وكذلك قول نصيب :

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

١٩٤

وقال الجاحظ نحن قوم نسحر بالبيان ونموه بالقول .. الثاني من التقسيم الأول من الكناية وهو الذي يقبح ذكره ، ولا يحسن استعماله كقول أبي الطيب المتنبي :

إني على شغفي بما في خمرها

لأعفّ عمّا في سراويلاتها

فإنّ هذه كناية عن النزاهة والعفة وعلم الله أن الفجور لا حسن منها .. وقد ذكر الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة فقال :

أحنّ إلى ما يضمن الخمر والحلى

وأصدف عما في ضمان المآزر

ألا ترى إلى هذه الكناية ما الطفها والمعنيان سواء. وبهذا يعرف فضل الشاعرين أحدهما على الآخر ، وذلك إذا أخذا معنى واحدا فصاغه أحدهما أحسن صياغة تميزه عن صياغة الآخر.

١٩٥

القسم الثامن عشر

التعريض

وقد اختلف فيه مذاهب بعض علماء هذا الشأن ، فذهب بعضهم إلى أن الكناية والتعريض بمعنى واحد وبعضهم فرق بينهما .. قال ابن الاثير في جامعه في الكناية والتعريض إن لهذا النوع من الكلام موقعا شريفا ومحلا كريما وهو مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا ، وذلك نوع من علم البيان لطيف ، وقد تكلم جماعة من المؤلفين في هذا الفن وخلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما ، بل أوردوا لهما من النظم والنثر وأدخلوا أحد القسمين بالآخر وذكروا للكناية أمثلة من التعريض ، وللتعريض أمثلة من الكناية فمنهم أبو محمد بن سنان الخفاجي وأبو هلال العسكري والغانمي ، فأما ابن سنان فإنه ذكر في كتابه قول امرئ القيس :

وصرنا الى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلت صعبة أيّ إذلال

وهذا مثال ضربه للكناية عن المباضعة ، وهو مثال للتعريض. وسنورد لك أيها الناظر في كتابنا هذا فرقا بين الكناية والتعريض ، ونميز أحدهما عن الآخر فنقول وبالله التوفيق : إن الكناية هي أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له كما كنى الله عز وجل عن الجماع بالمس فإن حقيقة المس هي الملامسة يقال مسست الشيء اذا لمسته ولما كان

١٩٦

الجماع ملامسة بالابدان وزيادة أمر آخر أطلق عليه اسم المس مجازا وضد الكناية التصريح. وأما التعريض فهو أن يذكر شيئا يدل به على شيء لم يذكره وأصله التلويح عن عرض الشيء وهو جانبه وبيت امرئ القيس ضربه مثالا للكناية ، وهو عين التعريض فان غرضه من ذلك أن يذكر الجماع غير أنه لما استقبح ذكره لم يذكره ، بل ذكر كلاما آخر ودل به عليه ، لأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام يفهم منها ما أراده امرؤ القيس من المعنى وذلك مما لا خفاء به ، وحيث تبين الفرق نشرع في أقسام كل واحد من الكناية والتعريض فنقول .. إن الكناية هي على قسمين. أحدهما ما يحسن استعماله وهو الذي نحن بصدد ذكره هاهنا والآخر ما لا يحسن استعماله وقد تقدم بيانهما. وأما التعريض فقد ميزه الله تعالى في خطبة النساء فقال جل من قائل : ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ ) قال المفسرون التعريض بالخطبة أن يقول لها وهي في عدّة الوفاة انك لجميلة وأنك لحسنة ، وإني إليك لشيق ، وإن قدر الله شيئا فهو يكون ، وما أشبه ذلك. ومما هو من التعريض قوله حكاية عن عبدة الأصنام حين كسرها إبراهيم عليه‌السلام : ( أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) يعني أن كبير الاصنام غضب ان تعبد هذه الاصنام الصغار معه فكسرها ، فغرض إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه من هذا الكلام إقامة الحجة عليهم ، لأنه قال ـ فسألوهم إن كانوا ينطقون ـ هذا على سبيل الاستهزاء بهم. وهذا من رموز الكلام والقصد فيه أن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن القصد الصادر عنه إلى الصنم إنما قصد تقريره لنفسه واثباته لها على أنه أسلوب من الفصاحة آخر يقتضي أن يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجة عليهم وتبكيتهم والاستهزاء بهم ، ومن بديع التعريض قوله تعالى : ( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) إلى قوله : ( بَلْ نَظُنُّكُمْ

١٩٧

كاذِبِينَ ) فقوله ـ ما نراك إلا بشرا مثلنا ـ تعريض أنهم أحق بالنبوة منه وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملائكة وموازن لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنهم ـ وما نرى لكم علينا من فضل ـ. ومن مشكلات التعريض حديث عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه قال : حكت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو محتضن أحدا بني ابنته وهو يقول : « والله إنّكم ، لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنّكم لمن ريحان الله وإنّ آخر وطئة وطئها الله بوج ».

اعلم أن ـ وج ـ واد بالطائف ، والمراد غزاة حنين ، واد قبل وج ، لأنها آخر غزاة وقع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين ، وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين ، فلم يكن فيهما وطأة اي قتال ، وإنما كانتا مجرد مخروج إلى الغزاة حسب من غير ملاقاة العدو أعني ، ولا قتال لهم ، ووجه عطف هذا الكلام وهو قوله ـ وان آخر وطأة وطئها الله بوج ـ على ما قبله من الحديث وهو التأسف على مفارقة أولاده لقرب وفاته لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان ، ووفاته كانت في ربيع الاول من سنة احدى عشرة وبينهما سنتان ونصف ، وكأنه قال ـ وإنكم من ريحان الله ـ أي من رزق الله ، وأنا مفارقكم عن قريب إلا انه صانع عن قوله وأنا مفارقكم عن قريب بقوله ـ وان آخر وطأة وطئها الله بوج ـ فكان ذلك تعريضا لما أراده وقصده من قرب وفاته ومفارقته إياهم يعني أولاده ، وهذا من أغرب التعريضات وأعجبها. ومن هذا الباب قول الشميدر الحارثي :

بني عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما

دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

فإن ليس قصده الشعر ، بل قصده ما جرى بينهم بهذا الموضع من

١٩٨

الغلبة لهم والقوة عليهم إلا انه لم يذكر ذلك ، بل ذكر الشعر ودفنه تعريضا أي لا تفخرون بعد ذلك الواقعة التي جرت لنا ولكم بذلك المكان. ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن سعد إلى المأمون في حق بعض أصحابه : أما بعد فقد استشفع فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقه بنظرائه من الخاصة ، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين وفي ابتدائه بذلك بعد عن طاعته ، فوقع المأمون في كتابه قد عرفنا نصيحتك له وتعريضك لنفسك وأجبناك اليهما.

١٩٩

القسم التاسع عشر

الاستطراد

وهو التعريض بعيب انسان بذكر عيب غيره لمتعلق أو نفي عيب عن نفسه بذكر عيب غيره ، مثل قوله تعالى : ( وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ). ومثل قوله تعالى : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ). ومثل قوله تعالى : ( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) ومثل هذا في القرآن كثير .. ومنه في الشعر قول السموأل بن عاديا :

إنا لقوم لا نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول

يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا

وتكرهه آجالهم فتطول

ـ وقال آخر :

ولا عيب فينا غير عرق لمعشر

كرام وأنّا لا نخطّ على الرّمل

يريد أنا لسنا مجوس فإن المجوس كانت تزعم ان الرجل منهم إذا تزوج أخته ، أو ابنته فجاءت منه بولد إن ذلك الولد إذا خط بيده على داء النملة ابرأه.

٢٠٠