الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فإنّ المقصود بتقديم ـ إياك ـ تعظيم الله سبحانه وتعالى والاهتمام بذكره مع إفادة اختصاص العبادة والاستعانة بالله تعالى ليصير الكلام حسنا متناسقا ، ولو قال نعبدك ونستعينك لم يكن الكلام متناسبا. وكذلك قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) فإن هذا مع افادته إن نظرها لا يكون إلا إلى الله تعالى يفيد في جودة انتظام الكلام. وكذلك قوله تعالى : ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ). وأما ما يراد بتقديمه زيادة المعنى فقط. فمنه تقديم المفعول في قوله تعالى : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) وكذلك : ( بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) فإن المراد هاهنا بتقديم المفعول لتخصيصه بالعبادة ، ولو أخره ما أفاد ذلك ، فإنه لو قيل :

ضربت زيدا لم يشعر ذلك باختصاص زيد بالضرب ، ولا كذلك لو قيل زيدا ضربت.

ومنه تقديم الخبر على المبتدأ كما في قوله تعالى : ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) ولو قال : وظنوا أن حصونهم من الله مانعتهم لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها اياهم. وكذلك : ( أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ ) ولو قال : أأنت راغب عنها ما أفاد زيادة الإنكار على إبراهيم بالرغبة عنها. وكذلك : ( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ولم يقل فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة وكان يستغني عن الضمير لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص ، ولا اختصاص الذين كفروا بالضمير.

وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ». وكذا تقديم الظرف في الهيئات كقوله تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) .. وتقديم الجار والمجرور كقوله تعالى : ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) فإن هذا يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى ..

١٢١

وأما اذا كان الظرف في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفي عنه كما في قوله تعالى : ( لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ) أي ليس في خمر الجنة ما في خمر غيرها من الغول. وأما تأخيره فإنما يفيد النفي فقط كما في قوله تعالى : ( الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) وكذلك إذا قلت لا عيب في الدار كان معناه نفي العيب عن الدار ، وإذا قلت لا في الدار عيب كان معناه انها تفضل على غيرها بعدم العيب .. وأما الثاني فهو ما لا يلزم تقديمه زيادة في المعنى ، ومع ذلك يكون تقديمه أحسن ، وهذا إنما يكون كذلك لأمر يتعلق بالمتقدم والمتأخر ، أو لأمر خارج عنهما. والذي لأمر يتعلق بهما إما أن يكون ذلك بالنسبة إلى شيء خارج عنهما ، أو لا يكون كذلك ، فالأول كما إذا كان التقدم أدل على قدرة الخالق من التأخر كقوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ).

والثاني : إما أن يكون للمتقدم تأثير في وجود المتأخر أو لا يكون كذلك (١). والثاني كما إذا كان المتقدم أكثر وجوبا كما في قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) والاول : إما أن يكون المتقدم في الوجود المتأخر بالذات ، أو بالعرض. أما الذي بالذات فكما في قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً ) فإنه قدم الإنعام لأن صلاح حالها سبب لصلاح حال الناس. وأما الذي بالعرض فكما في قوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فإنه قدم العبادة لأنها وسيلة إلى تحصيل الاستعانة. وأما الذي يكون كذلك لأمر خارج عن المتقدم والمتأخر ، فأما أن يكون ذلك لأجل كلام تقدم ، أو لا يكون

__________________

(١) بياض في الأصل.

١٢٢

كذلك. والذي لأجل الكلام المتقدم ، إما أن يكون لتعلق المذكور ، أوّلا به أو لتعلقه هو بالمذكور أوّلا ، والأول كما في قوله تعالى : ( وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) فإنه قدم ـ الارض ـ لأن هذا بعد قوله تعالى : ( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) وهذا الخطاب لأهل الأرض وعملهم يكون في الأرض. والثاني إما أن يكون ذلك لما يتعلق بمعنى الكلام الأول ، أو بلفظه. والمتعلق بمعناه كما في قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) فإنه قدّم الشقي لأن المراد بهذا وما قبله التخويف. والمتعلق بلفظه كما في قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ).

ثم قال : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ ) فإن تقديم حال الاشقياء هاهنا لاجل تقديمه أوّلا الشقي. والذي يكون كذلك لا لأجل المتقدم إما أن يكون لأجل حال في الكلام نفسه أو لا يكون كذلك. والثاني كما في قوله تعالى : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) فإن تقديم الإناث هنا إنما كان لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئته سبحانه وتعالى لا على وفق العباد. والأول كما إذا كان يتم بذلك السجع ، وذلك كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) ولو قال : ثم صلوه الجحيم لأفاد المعنى ، ولكن كان يفوت السجع ، فلذلك كان الأحسن تقديم الجحيم. وقيل ان هذه الصورة تفيد أيضا الاختصاص كما في القسم الأوّل .. قال الامام فخر الدين وهو الذي يظهر لي وان منعه الآخرون ، فهذه أسباب عشرة ، وقد يجتمع في شيء واحد عدة منها فيكون تقديمه أولى ، وإذا تعارضت أسباب روعي أقواها ، وإن تساوت كان المتكلم بالخيار في تقديم أي الامرين معا.

١٢٣

وأما الثالث فهو الذي لا يلزم تقديمه زيادة في المعنى ويكون الأحسن تأخيره فإذا قدّم كان ذلك مفاضلة معنوية ، وذلك كتقديم الصفة على الموصوف ، والعلة على المعلول ، ونحو ذلك. وهذا لا يمكن وروده في القرآن لركته وسماجته مثاله قول الفرزدق :

وما مثله في الناس إلا مملّكا

أبو أمه حيّ أبوه يقاربه

معناه : وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه.

وقال أيضا :

الى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

معناه إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي ما أم أبيه منهم. وقال أيضا :

وليست خراسان الذي كان خالد

بها أسد إذ كان سيفا أميرها

معناه ليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها. والغرض مدح خالد وذم أسد المتولي بعده.

وأما الرابع : فهو ما يتكافأ تقديمه وتأخيره ، وهذا كالحال فإنه يقدّم كقولك ـ جاء راكبا زيد ـ ويؤخر كقولك ـ جاء زيد راكبا ـ وهما سواء. وكذلك المستثنى كقولنا ـ ما قام إلا زيدا أحد. وما قام أحد إلا زيدا ـ ، وقد وقع في الكتاب العزيز آيات فيها تقديم وتأخير جارية على نمط ما تقدّم. من ذلك قوله تعالى : ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ). وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) على قول من قال إن الذكر هاهنا القرآن .. وقال بعض العلماء في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) أن في

١٢٤

الكلام تقديما وتأخيرا تقديره ، ولقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربّه همّ بها وهذا حسن لكن في تأويله قلق ولا يضطر الى هذا التأويل إلا على قول من قال ان الانبياء معصومون من الكبائر والصغائر.

وأما على قول من قال : ان الصغائر يجوز وقوعها منهم. فلا يضطر الى هذا التقديم والتأخير .. ومنه أيضا قوله تعالى : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ). وقوله تعالى : ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى ) والتقدير فجعله أحوى غثاء. ومنه قول الشاعر :

طاف الخيال وأين منك لماما

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

تقديره طاف الخيال لماما وأين منك .. وقال الفرزدق :

نفلّق ها من لم تنله سيوفنا

بأسيافنا هام الملوك القماقم

تقديره نفلق بأسيافنا هام الملوك القماقم ، ومن لم تنله سيوفنا ـ وها ـ للتنبيه تقديره تنبهوا لهذا المعنى. وانما دعاه إلى التقديم والتأخير إيقاع اللّبس على السّامع وجعله من باب الألغاز.

١٢٥

القسم الرابع والعشرون

في الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة

والجمع بينهما عند من رآه مجازا لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، فإنه وضع للحقيقة وحدها ، ثم استعمل فيها وفي المجاز. وله أمثلة.

أحدها في قوله تعالى : ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ـ ولعنة الله ـ ابعاد ـ ولعنة الملائكة والناس ـ دعاؤهم بالابعاد ، وقد جمعهما في لفظة واحدة ، ومن لا يرى ذلك يقدر أولئك عليهم لعنة الله ، ولعنة الملائكة فيكون من مجاز الحذف. والثاني منه قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) ـ الصلاة ـ حقيقة في الدعاء مجاز في اجابة الدعاء ، لأن الاجابة مسببة عن الدعاء فصلاة الملائكة حقيقة لأنها دعاء ، وصلاة الله من مجاز التعبير بلفظ السبب الذي هو الدعاء عن المسبب الذي هو الإجابة ، وقد جمع بينهما في قوله ـ إن الله وملائكته يصلون على النبي ـ فيكون الضمير في ـ يصلون ـ لله والملائكة وجمعه معهم في الضمير مستكره فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنكر على بعض خطباء العرب قوله ـ ومن يعصهما فقد غوى ـ وقال بئس خطيب القوم أنت. وقد جمع بينهما عليه الصلاة والسلام في قوله ـ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ـ وفي قوله عليه الصلاة والسلام ـ فإن الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم ـ وإنما أنكر على

١٢٦

الأعرابي الجمع لاعتقاده التسوية بينهما والرسول عليه الصلاة والسلام آمن من ذلك.

ومن لا يرى الجمع بين الحقيقة والمجاز يقدر ان الله يصلي على النبي وملائكته يصلون على النبي فيكون يصلون على النبي حقيقة في حق الملائكة ، ويكون يصلي المقدرة مجازا في حق الله.

وكذلك القول في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) في الجمع بين الحقيقة والمجاز وافرادهما. ومثل هذا قوله تعالى : ( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) لو قال أحق أن يرضوهما لكان جامعا بين الله ورسوله في الضمير ، وبين الحقيقة والمجاز ، فإن رضى الرسول عليه الصلاة والسلام حقيقي ورضى الله تعالى مجازي. ومن لا يرى ذلك يقول : والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

وهذه الأربعة وعشرون قسما التي ذكرناها من أقسام المجاز تحت كل قسم منها أقسام كثيرة يعرف ذلك من تأملها ونظر فيها. وحيث انتهى الكلام في الفصاحة والبلاغة والحقيقة والمجاز فلنأخذ في ذكر ما تضمنه الكتاب العزيز من فنون البلاغة وعيون الفصاحة وضروب علم البيان وبدائع البديع وأجناس التجنيس .. ولنبدأ من ذلك فيما يتعلق بالمعاني ، ثم نتلوه بما يتعلق بالألفاظ والاعتماد في ذلك معونة الله تعالى وتوفيقه وتيسيره وهدايته إلى الصواب والارشاد إلى ما يؤدي إلى جزيل الثواب وحسن المآب .. أما ما يختص بالمعاني فينقسم الى أقسام :

١٢٧

القسم الأول

التناسب. ويسمى التشابه أيضا

وهو ترتيب المعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافر. والقرآن العظيم كله متناسب لا تنافر فيه ولا تباين .. ومنه قول النابغة :

الرّفق يمن والأناة سعادة

فاستأن في رفق تنال نجاحا

واليأس عما فات يعقب راحة

ولربّ مطعمة تعود ذباحا

ويسمى التشابه أيضا .. وقيل التشابه أن تكون الألفاظ غير متباينة ، ولكن متقاربة في الجزالة والمتانة والدقة والسلاسة ، وتكون المعاني مناسبة لألفاظها من غير أن يكسى اللفظ الشريف المعنى السخيف ، أو على الضد ، بل يصاغان معا صياغة تتناسب وتتلاءم حتى لا يكون الكلام كما قيل :

وبعض قريض القوم أولاد علة

يكلّ لسان الناطق المتحفّظ

قال المصنف عفا الله عنه : المناسبة عند أرباب هذا الشأن على قسمين : معنوية. ولفظية. فالمعنوية أن يبتدئ المتكلم بمعنى ، ثم يتمم كلامه بما يناسبه في المعنى دون اللفظ. ومنه قوله تعالى : ( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) أخبر سبحانه في فاصلة الآية بأنه قويّ عزيز ليدل على أن تلك الريح التي أصابت المشركين ليست اتفاقا ، وليست هي من أنواع

١٢٨

السحر ، بل هي من ارساله على أعدائه كعادته وسنته في أمثاله من نصره لعباده المؤمنين مرّة بالقتال كيوم بدر ، ومرّة بالربح كيوم الاحزاب ، ومرة بالرعب كبني النضير ، وأن النصر من عند الله لا من عند غيره ، ولهذا لم ينصرهم حين خالفوا نبيهم يوم أحد وحين أعجبتهم كثرتهم يوم حنين ، وبعد ذلك كانت العاقبة لهم. وقد صرّح سبحانه وتعالى في قوله : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) وقوله تعالى : ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) ولو اقتصر على الآية ولم يذكر فيها ـ والله قوي عزيز ـ لخفي هذا المعنى وغمض والتبس الأمر فيه وأشكل .. وأما المناسبة اللفظية فهي أيضا على قسمين : تامة وغير تامة. فالتامة أن تكون الكلمات مع الإبراز مقفّاة والأخرى ليست بمقفاة فالتقفية غير لازمة للمناسبة ..

فمن المناسبة التي ليست بمقفاة قوله تعالى : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) وما سوى هذه التامة كقوله سبحانه وتعالى : ( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) .. ومن التامة في السنّة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يرقى به الحسن والحسين عليهما‌السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامّة ، فقال صلّى الله عليه وسلّم ـ لامّة ـ ولم يقل ملمة. وقوله صلّى الله عليه وسلّم ـ « مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى بحسن المناسبة ». ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم ـ » ارجعن مأزورات غير مأجورات » والمستعمل ـ موزورات ـ لأنه من الوزر غير مهموز فلفظ به صلّى الله عليه وسلّم لمكان المناسبة اللفظية التامة. وأما ما جاء من السنة الغير مقفاة فكقوله صلّى الله عليه وسلّم : « إن أحبكم إليّ وأقربكم منّي مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا » فناسب صلّى الله عليه وسلّم بين ـ أخلاق وأكناف ـ مناسبة ابراز دون تفقية. ومما جمع بين المناسبتين

١٢٩

قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أدعيته : « اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي. وتجمع بها أمري. وتلم بها شعثي. وتصلح بها غائبي. وترفع بها شاهدي. وتزكي بها عملي. وتلهمني بها رشدي. وتردّ بها الفي. وتعصمني بها من كل سوء ، اللهم إني أسألك الفوز في القضاء. ومنزّل الشهداء. وعيش السعداء. والنّصر على الأعداء » فناسب صلّى الله عليه وسلّم بين ـ قلبي وأمري ـ مناسبة غير تامة بالزنة دون التقفية ، ثم ناسب بين ـ الشهداء والسعداء ـ مناسبة تامة بالزنة والتقفية.

١٣٠

القسم الثاني

التكميل

وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى من معاني المدح ، أو غيره من فنون النظم والنثر ، ثم يرى مدحه فيه اقتصاد وقصور عن الغرض وانه يحتاج إلى تكميل يزيده بيانا وايضاحا ، فيكمله بمعنى آخر. فمن ذلك قوله تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) فانظر إلى هذه البلاغة فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين ، وإن كانت صفة مدح إذ وصفهم بالرياضة لإخوانهم المؤمنين والانقياد لأمرهم ، كان المدح غير كامل فكمل مدحهم بأن وصفهم بالعزة على الكافرين ، فأتى بوصفهم بالامتناع منهم والغلبة لهم. وكذلك قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ). ومثاله من النظم قول كثير عزة :

ولو أنّ عزّة خاصمت شمس الضحى

في الحسن عند موفق لقضي لها

١٣١

القسم الثالث

التتميم

وهو أن تردف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس ، وتقربه إلى الفهم ، وتزيل عنه الوهم وتقرره في النفس. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) وقوله تعالى : ( ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) ومثاله في القرآن كثير. ومثله قول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

ـ وقال آخر :

كأنّ قلوب الطير حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب

تمم المعنى بقوله ـ الحشف البالي. والجزع الذي لم يثقب ـ

١٣٢

القسم الرابع

التقسيم

وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء. مثل قوله تعالى : ( وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ) إلى قوله : ( ما يَشاءُ ) ومنه قوله تعالى : ( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ). ومثله في القرآن كثير وخصوصا في سورة براءة. ومثله في كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى :

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي

وذكر ابن الأثير في جامعه أن أرباب علم البيان لم يريدوا بالتقسيم القسمة العقلية كما يذهب اليه المتكلمون ، فإن القسمة العقلية تقتضي أشياء مستحيلة كما قالوا : الجواهر لا يخلو إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة ، أو لا مجتمعة ولا مفترقة ، أو مجتمعة ومفترقة معا ، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق ألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقل لاستيفاء الأقسام جميعها ، وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده ، فإن الشيء لا يكون مجتمعا مفترقا في حالة واحدة.

وإنما أرادوا بالتقسيم ما يقتضيه المعنى ، مما يمكن وجوده وهو أن

١٣٣

يأتي المؤلف الى جميع أقسام الكلم المحتملة فيستوفيها غير تارك منها قسما واحدا. فمن ذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) فإنه لا يخلو العالم جميعه من هذا التقسيم ، إما عاص ظالم لنفسه وإما مطيع مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد بينهما ، وهذا من أصح التقسيمات وأكملها فاعرفه .. ومن هذا المعنى قوله تعالى : ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) الآية. اعلم أن هذه الآية مماثلة في المعنى لما سبق ذكره ـ وأصحاب المشئمة ـ هم الظالمون لأنفسهم ـ وأصحاب الميمنة ـ هم المقتصدون ـ والسابقون ـ هم السابقون بالخيرات. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) ألا ترى إلى براعة هذه القسمة ، فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع ، وليس لهم ثالث.

وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة المنتصبين في صدرها يعجبون بقول بعض العرب في هذا المعنى ويقولون : إن ذلك من أصح التقسيمات وهو قوله ـ النعم ثلاث : نعمة في حال كونها. ونعمة ترجى مستقبلة. ونعمة تأتي غير محتسبة. فأبقى الله عليك ما أنت فيه. وحقق ظنك فيما ترتجيه. وتفضل عليك بما لم تحتسبه ـ فقالوا : إنه ليس في أقسام النعم التي يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى ما ذكره الأعرابي ، وهذا القول فاسد ، وهو أن في أقسام النعم التي قسمها هاهنا نقصا لا بد منه وزيادة لا حاجة إليها أما النقص فاغفاله ذكر النعمة الماضية ، وأما الزيادة فقوله بعد النعمة المستقبلة التي تأتي غير محتسبة ، وهذا خطأ فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة هي داخلة في قسم المستقبلة ، وذلك أن النعمة المستقبلة تنقسم الى قسمين : أحدهما يرجى حصوله ويتوقع بلوغه. والآخر لا يحتسب ولا يشعر بوجوده. فقوله ـ ونعمة تأتي غير محتسبة ـ

١٣٤

يوهم أن هذا القسم غير المستقبل وهو داخل في جملته ولو قال ـ ونعمة مستقبلة ـ من غير أن يقول ـ ونعمة تأتي غير محتسبة ـ لكان قوله كافيا إذ النعمة التي ترتجى والنعمة التي لا تحتسب يدخلان تحت قسم المستقبل ، وكان ينبغي أن يقول ـ النعم ثلاث ـ نعمة ماضية. ونعمة حال كونها. ونعمة تأتي مستقبلة. فأحسن الله آثار النعمة الماضية وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها ووفر حظك من النعمة التي تستقبلها ـ ألا تراه لو قال ذلك لكان قد طبّق به مفصل الخطاب فافهم ما ذكرناه وقس عليه ..

وقف اعرابي على مجلس الحسن فقال : رحم الله من أعطى من سعة. أو آسى من كفاف. أو آثر من قلة فقال الحسن ما ترك لأحد عذرا فانصرف الأعرابي بخير كثير .. ومن هذا الضرب ما ذكره أبو هلال العسكري في كتابه وذلك أنه أخذ على جميل قوله :

لو أنّ في قلبي كقدر قلامة

حبا وصلتك أو أتتك رسائلي

فقال أبو هلال إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل. وليس الأمر كما وقع له فان جميلا انما أراد بقوله ـ وصلتك ـ أي أتيتك زائرا أو قاصدا أو كنت راسلتك مراسلة والوصل لا يخرج عن هذين القسمين إما رسالة أو زيارة .. وقال ابن الاثير ومن أعجب ما شاهدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي وهو قول العباس بن الأحنف :

وصالكم هجر وهجركم قلا

وعطفكم صدّ وسلمكم حرب

ثم روى المشار اليه عن أبي القاسم الآمدي أنه قال : إن بعض نقدة الكلام من البلغاء لما سمع هذا البيت قال : والله هذا أحسن من تقسيمات اقليدس. ومن العجب كيف ذكر الغانمي ذلك في كتابه وفاته النظر فيه مع تقدمه في هذه الصناعة. وأعجب منهما جميعا استحسان

١٣٥

ناقد الكلام لهذا التقسيم ألا ترى أن هذا البيت يبني عليه شيء آخر من جنسه فإنه لو أضيف إليه بيت غيره فقيل :

ولينكم عنف وقربكم نوى

وإعطاؤكم منع وصدقكم كذب

لجاز ذلك ويحتمل أن يزاد على هذا البيت بيت آخر ثالث ورابع ، ولو كان التقسيم في البيت الأول صحيحا لما احتمل أن يضاف إليه شيء آخر البتة ، لأن من صحة التقسيم أن لا يحتمل الزيادة .. ومن نحو هذا قول بعضهم في حق مكسورين في الحرب فمن بين جريح مضرّج بدمائه ، وهارب لا يلتفت إلى ورائه ، فإن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحا ولو قال ـ فمن بين قتيل ومأسور وناج ـ لصح له التقسيم لأن المكسورين في الحرب الذين دارت عليهم الدائرة لا يخرجون عن هذه الاقسام الثلاثة ، فإما قتيل أو مأسور أو ناج ، وأما الجريح فإنه يدخل في جملة الناجي والمأسور ، لأن كلا منهما يجوز أن يكون جريحا وأن لا يكون فاعرف ذلك وقس عليه.

١٣٦

القسم الخامس

المؤاخاة

وهي على قسمين : الأول المؤاخاة في المعاني. الثاني المؤاخاة في الألفاظ ويكون للكلام بها رونق ، لأنّ النفس يعرض لها عند الشعور شيء يطلع إلى مناسبة فلا يرد إلا بعد تشوف ، ولا كذلك المباين ، فلذلك يقبح ذكر الشيء مع مباينه في المعنى المذكور فيه. ولذلك قبح قول الكميت :

أم هل ظعائن بالعلياء رافعة

وقد تكامل منها الدّلّ والشّنب

فإن ـ الدل والشنب ـ لا مناسبة بينهما. وكذلك يقبح الشيء مع مباينه في البناء. ولذلك قبح قول أبي تمام :

مثقّفات سلبن العرب سمرتها

والرّوم رقتها والعاشق القصفا

وكان ينبغي أن يقول ـ والعشاق قصفها ـ لكن منعه الوزن والقافية فلذلك لا يعاب هذا على الشاعر كما يعاب على الناثر إذ المجال للناثر متسع .. ومما استقبح قول أبي نواس :

ألا يا ابن الذين فنوا فماتوا

أما والله ما ماتوا لتبقى

وما لك فاعلمن فيها مقام

اذا استكملت آجالا ورزقا

وكان ينبغي أن يقول ـ وأرزاقا ـ واعلم أن استقباح تباين المباني دون استقباح تباين المعاني.

١٣٧

قال المصنف عفا الله عنه : التباين في المباني ليس بمستقبح وقد ورد في القرآن العظيم منه كثير. ومن ذلك قوله تعالى : ( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ ). وكذلك قوله تعالى : ( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) الآية ..

١٣٨

القسم السادس

الاعتراض والحشو

وهو أن يدخل في خلال الكلام كلمة تزيد اللفظ تمكنا وتفيد معنى آخر مع أن اللفظ يستقل بدونها ويلتئم بغيرها مثل قوله عز وجل : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ). وقوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) أو لم يردن ولكن أفاد قوله ـ إن أردن تحصنا ـ الاعلام بترغيب الشرع في التحصين وأنه مطلوبه. ومنه قوله تعالى : ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ). وقوله تعالى : ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ).

قال المصنف عفا الله عنه : قال ابن الاثير في كتابه الموسوم بالجامع الكبير : الاعتراض الصناعي عند ارباب علم البيان على قسمين : الأول : لا يأتي في الكلام إلا لفائدة : وهو جار مجرى التوكيد في كلام العرب.

والقسم الآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدة فإما أن يكون دخوله في التأليف كخروجه منه ، وإما أن يؤثر في التأليف نقصا وفي المعنى فسادا فالأول وهو الذي يأتي في الكلام لفائدة. فمنه قوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) هذا كلام فيه اعتراضان أحدهما قوله ـ وانه لقسم لو تعلمون عظيم ـ لانه اعترض بين القسم الذي هو ـ فلا أقسم بمواقع

١٣٩

النجوم ـ وبين جوابه الذي هو ـ إنه لقرآن كريم ـ وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو ـ قسم ـ وبين صفته التي هي ـ عظيم ـ وهو قوله تعالى ـ لو تعلمون ـ فذانّك اعتراضان ، ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب ان يكون فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ، وفائدة هذا الاعتراض بين القسم وجوابه إنما هو تعظيم لشأن المقسم به في نفس السامع. ألا ترى إلى قوله تعالى ـ لو تعلمون عظيم ـ كيف هذا الاعتراض بين الصفة والموصوف وذلك أوقع في النفس لتعظيم المقسم به أي انه من عظيم الشأن وفخامة الأمر بحيث لو علم ذلك لوفي حقه من التعظيم .. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ) إلى : ( وَلِوالِدَيْكَ ) الآية. ألا ترى إلى هذا الاعتراض الذي طبق مفصل البلاغة فإنه لم يؤت به الاّ لفائدة كبيرة ، وذلك أنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المشاق والمتاعب في حمل الولد مما لا يتكلفه الوالد. ومن ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للذي سأله فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟قال : « أمك قال ثم من؟ قال : أمّك قال : ثم من؟ قال أمّك قال :ثمّ من؟ قال : أبوك ». وفي رواية أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك .. ومما جاء على هذا الاسلوب قوله تعالى : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) إلى قوله : ( تَعْقِلُونَ ) فقوله تعالى : ـ والله مخرج ما كنتم تكتمون ـ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وفائدته أن يقرر في انفس المخاطبين وقلوب السامعين أن تدارؤ بني اسرائيل في قتل تلك النفس لم يكن نافعا لهم في اخفائه وكتمانه ، لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان ـ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها ـ ولا يخفى على العارف بهذه الصناعة الفرق بين ذلك ، وبين كونه معترضا فيه .. ومن هذا الجنس قول النابغة :

١٤٠