الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم الثاني والعشرون

من المجاز

الإيجاز والاختصار

وهو على قسمين : وجيز بلفظه ، ووجيز بحذف.

فأما الوجيز بلفظه : فهو عند أرباب هذه الصناعة أن يكون اللفظ بالتشبيه إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة ، وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة والملكة في البلاغة ، وحصول ملاذ كثيرة دفعة واحدة ، واللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر أو أقلّ منه وهو المقصور .. أما المقدر فكقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أمر الله في أول هذه الآية بالعدل والاحسان وإيتاء القربى ونهى في وسطها عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ووعظ في آخرها ، وذكر فجمع في هذه ضروبا من البيان وأنواعا من الإحسان ، فذكر العدل والاحسان والفحشاء والمنكر بالألف واللازم التي هي للاستغراق ، أي استغراق الجنس المحتوى على جميع أنواعه وضروبه ، وجمع فيها بين الطباق اللفظي والطباق المعنوي ، أما اللفظي ففي قوله ـ إن الله يأمر وينهى ـ وأما المعنوي ففي قوله ـ العدل والاحسان وإيتاء ذي القربى ـ وقوله ـ الفحشاء والمنكر والبغي ـ فإن الثلاثة الأواخر أضداد الثلاثة الأول لأن الثلاثة الأول من الفعل الحسن ، والثالثة الأواخر من القبيح ، فطابق بين الحسن والقبيح مطابقة معنوية ، ثم بين خصوصية ذوي القربى بإعادة الايصاء

١٠١

عليهم والإيتاء لهم مع أن الأمر بالاحسان قد تناولهم ، وبدأ بالعدل لأنه فرض ، وتلاوة بالإحسان لأنه مندوب اليه ، وقد يجب فاحتوت الآية على حسن النسق وعطف الجمل بعضها على بعض فقدم العدل وعطف عليه الإحسان الذي هو جنس عام ، وخص منه نوعا خاصا وهو إيتاء ذي القربى ، ثم أتى بالأمر مقدما وعطف عليه النهي بالواو ، ثم رتب جمل المنهيات كما رتب جمل المأمورات في العطف بحيث لم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه ولم يتقدم عليه ما يجب تأخيره ثم ختم ذلك كله بأمور مستحسنة ودعا الى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فاحتوت الآية على ضروب من المحاسن والقضايا وأشتات من الأوامر والنواهي والمواعظ والوصايا ما لو بث في أسفار عديدة لما اسفرت عن وجوه معانيها ، ولا احتوت على أصولها ومبانيها وسبحان من لا يشبه خلقه ذاتا ولا كلاما ولا إحكاما ولا أحكاما.

وفي القرآن العظيم من هذا النمط كثير وقد وقع آيات كثيرة قلت حروفها وكثرت معانيها ، وظهرت دلائل الإعجاز فيها مثل قوله تعالى : ( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ). وقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ* ). وقوله تعالى : ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ). ومن ذلك في السنة كثير كقوله صلّى الله عليه وسلّم : « الأعمال بالنيات والمجالس بالامانات ». وكقوله :« الضعيف أمير الرّكب » يعني أنه ينبغي متابعته في السير ، كما ينبغي متابعة أمير الركب ، وقد صرّح بذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم : « سير واسير أضعفكم ».

ومن ذلك في أشعار العرب وخطبهم كثير وكثرته وشهرته أغنت عن ذكره.

وأما المقصور : فإما أن يكون من نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه معان كثيرة ، أو لا يكون كذلك. الثاني كما في قوله تعالى : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ). وكذلك قوله تعالى : ( أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ

١٠٢

وَهُمْ مُهْتَدُونَ ). وكقوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) وهذا أحسن من قولهم القتل أنفى للقتل لوجوه سبعة.

الأول : أن قولهم القتل أنفى للقتل في ظاهره متناقض ، لأنه جعل حقيقة الشيء منافية لنفسه ، وإن قيل أن المراد منه ان كل واحد من أفراد هذا النوع ينفي غيره ، فهو أيضا ليس أنفى للقتل قصاصه ، بل أدعى له ، وإنما يصح إذا خصص فقيل القتل قصاصا أنفى للقتل ، فيصير كلاما طويلا مع أن التقييدات بأسرها حاصلة في الآية.

الثاني : أن القتل قصاصا لا ينفي القتل ظلما من حيث أنه قتل ، بل من حيث أنه قصاص وهذه الجملة غير معتبرة في كلامهم.

الثالث : أن حصول الحياة هو المقصود الأصلي ونفي القتل انما يراد لحصول الحياة والتنصيص على الغرض الاصلي أولى من التنصيص على غيره.

الرابع : إن التكرار عيب وهو موجود في كلامهم دون الآية.

الخامس : أن حروف ـ في القصاص حياة ـ اثنا عشر وحروف ـ القتل أنفى للقتل ـ أربعة عشر.

السادس : أنه ليس في كلامهم كلمة يجمع فيها حرفان متلاصقان متحركان إلا في موضع واحد ، بل ليس فيها الأسباب حقيقة متوالية ، وقد عرف أن ذلك مما ينقص من سلاسة الكلام بخلاف الآية.

السابع : أن الدافع لصدور القتل عن الانسان كراهته لذلك ، وصارفه القوى عنه حتى انه ربما يعلم أنه لو قتل قتل ثم لا يرتدع ، وإنما رادعه القوى هو إما الطمع في الثواب ، أو الذكر الجميل ، وإذا كان كذلك فليس أنفى الأسباب للقتل هو القتل بل الأنفى لذلك هو العارف القوي. وقوله تعالى ـ في القصاص حياة ـ لم يجعل القصاص مقتضيا الحياة على الاطلاق ، بل الحياة

١٠٣

منكرة ، والسبب فيه أن شرعية القصاص تكون رادعة عن الاقدام على القتل غالبا. ثم لتعلم أن في هذا التنكير فائدة أخرى لطيفة ، وهي أن الإنسان إذا علم أنه اذا قتل قتل ارتدع بذلك عن القتيل فسلم صاحبه ، فصارت حياة هذا الموهوم قتله في المستقبل مستفادة بالقصاص ، وصار كأنه قد حيى في بقي عمره ، ولذلك وجب التنكير وامتنع التعريف من جهة أن التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من أصلها ، وليس الأمر كذلك.

ومثل هذا التنكير قوله تعالى : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ) وفائدة التنكير أن الحريص لا بدّ وأن يكون حيا ، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة ، بل على الحياة المستقبلة ، ولمّا لم يكن الحرص متعلقا بالحياة على الإطلاق ، بل بالحياة في بعض الأحوال لا جرم جاءت بلفظ التنكير .. واعلم أن للتنكير في قوله تعالى ـ في القصاص حياة ـ فائدة أخرى : وهي أن الرجل قد يرتدع بالقصاص حتى لا يقدم على القتل ، لكن من الجائز أن لا يكون للانسان عدوّ فيقصد قتله حتى يمنعه خوف القصاص ، وحينئذ لا تكون حياة ذلك الإنسان لأجل الخوف من القصاص ض ، ولما دخل الخصوص في هذه القصة وجب ان يقال حياة ، ولا يقال الحياة ، وكذلك يقال شفاء ، ولا يقال الشفاء في قوله تعالى : ( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) حيث لم يكن شفاء للجميع .. ومن بديع هذا النوع أن أبا جعفر المنصور سأل معن بن زياد أيما أحبّ اليك دولتنا أو دولة بني أمية؟ فقال : ذلك إليك ، ومعناه أن زيادة هذه المحبة ونقصانها بيدك ، لأنها على قدر إحسانك. والفرق بين هذا القسم وبين المقدم وهو أن يكون نقصان اللفظ لأجل احتماله معان كثيرة ، وذلك كاللفظ المشترك أو الذي له مجازات ، أو حقيقة ومجاز إذا أريدت معانيه كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) والصلاة من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة استغفار. وكذلك قوله تعالى : ( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

١٠٤

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ ) والسجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، وهو حقيقة شرعية ، وأيضا الخشوع وهو حقيقة لغوية ، ومن غير الناس الانقياد لصنع الله تعالى وهو مجاز .. ومن ذلك قول المتنبي :

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلّب

وهذا يحتمل ثلاثة معان : الأول : من بات في نعماء المحسود. الثاني : من بات في نعماء الحاسد. والثالث : من بات في نعماء غير الحاسد والمحسود ، فيكون ذلك مدحا للذي يبيت في نعمائه وبيانه أن كل أحد يتمكن من تحصيل تلك النعمة بمدح هذا المنعم فيكون حينئذ ممن أنعم عليه.

وأما الوجيز بالحذف : فالكلام عليه من وجوه : الأول المعنى الذي حسن الحذف من أجله. الثاني في فائدته. الثالث في شرطه. الرابع في أقسامه. الخامس في توابعه. السادس فيما يقبح منه .. أما الأوّل فإن المعنى الذي حسن الحذف من أجله طلب الايجاز والاختصار وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.

وأما الثاني : ففائدته زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف ، وكلما كان الشعور بالمحذوف أعسر كان الالتذاذ به أشد وأكثر ، وكان ذلك أحسن .. وأما الثالث : فشرطه أن يكون في اللفظ دلالة على المحذوف ، وإلا لم يتمكن من معرفته فيكون اللفظ مخلا بالفهم ، وتلك الدلالة قد تحصل من إعراب اللفظ ، وذلك كما اذا كان منصوبا فيعلم أنه لا بد له من ناصب وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بد من أن يكون مقدّرا ، وذلك كقولنا ـ أهلا وسهلا ومرحبا ـ ومعناه وجدت أهلا وسلكت

١٠٥

سهلا وصادفت رحبا. ومنه في القرآن كثير كقوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على قراءة من قرأ بالنصب. وقوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ) والتقدير أحمد الحمد أو أقرأ الحمد واحفظوا الأرحام. وقوله تعالى : ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) وقوله تعالى : ( مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ) وفي القرآن منه كثير وفي الكلام الفصيح منه كثير وكثرته تغني عن ذكره. غير أن سيبويه ذكر منه أشياء جعلها حجة في الباب. من ذلك قول العرب ـ اللهم ضبعا وذئبا ـ أي اجعل فيها ضبعا وذئبا. وقول بعضهم حين قيل له لم أفسدتم مكانكم؟ فقال ـ الصبيان بأبي ـ أي لم الصبيان. ومنه ما قدمناه أولا وهو أهلا وسهلا ومرحبا.

وقد تحصل تلك الدلالة بالنظر في المعنى والعلم بأنه إنما يتم بمحذوف مقدّر ، وهذا يكون أحسن من الأول لزيادة غموضه كما في قولهم فلان يحلّ ويربط ومعناه : أنه يحل الأمور ويربطها أي ذو تصرف.

وقد عقد بعض علماء هذه الصناعة عقدا فقال : اللفظ المحذوف إما أن يكون مفردا أو مركبا فإن كان مفردا فسيأتي بيانه ، وإن كان مركبا فإما أن يكون كلاما مفيدا أو لا يكون كذلك ، فهذه ثلاثة أقسام : الأول أن يكون كلاما مفيدا ، وهذا أحسن والكلام المفيد المحذوف قد يكون قليلا وهو على وجهين : أحدهما أن يكون المحذوف استفهاما ويسمى ما يدلّ عليه استئنافا ، وهذا إما أن يكون بإعادة اسم أو صفة أو لا يكون ، كذلك إما الذي بإعادة اسم فكما إذا أعقب اسم من تقدم الحديث عنه كقولنا أحسنت إلى زيد زيد أحقّ باحسانك. وقولنا ـ زيد أحق بإحسانك ـ جواب عن سؤال كأنه قيل وما وجه الإحسان إلى زيد فقيل زيد أحق باحسانك ، فيكون هذا السؤال محذوفا .. وأما الذي بإعادة صفة فكقولنا أحسنت إلى زيد صديقك القديم هو أحق بذلك. تقديره وما وجه الإحسان إلى زيد فنقول ـ لأنه صديقك القديم ـ وهذا أحسن من

١٠٦

إعادة الإسم لاشتماله على سبب الإحسان .. وأما الذي ليس كذلك فكقوله تعالى : ( الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) إلى قوله : ( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فقوله ـ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ـ استشرف وهو جواب لسؤال مقدّر كأنه قيل وما يحصل لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات فقيل أنهم على هدى من ربهم وانهم مفلحون وكذلك قوله تعالى : ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) فقوله ـ قيل ادخل الجنة ـ جواب عن سؤال كأنه قيل وما فعل بهذا فقيل قيل له ادخل الجنة ، وإنما لم يقل قيل له لأن ذلك معلوم. وكذلك قوله تعالى : ( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ) فإن قرئ ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) لم يكن فيه استئناف وإن قرئ سوف تعلمون كان ذلك كأنه قيل وما يكون اذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت على مكانتك فقيل : ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ).

وثانيها : أن لا يكون المحذوف استفهاما وذلك كما إذا كان مسببا ، وقد دلّ عليه سببه كقوله تعالى : ( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) كأنه قال وما كنت من الشاهدين لما جرى لموسى عليه ، ولكنا أوحينا اليك وسبب هذا الوحي أنّا أنشأنا قرونا إلى زمانك فتطاول عليهم العمر أي مدة الفترة فنسي ما كان جرى فأوحينا اليك فيكون المحذوف هو السبب والمذكور الدال عليه هو سببه.

وكذلك قوله تعالى : ( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ) ..

وأما الرابع في أقسامه : أما أقسامه فقد تظافرت وأقوال أرباب علم البيان على أن المحذوفات على قسمين حسنة وقبيحة. أما القبيحة فهو أن يخلّ المحذوف بالمعنى أو يحطه عن رتبته ، وسيأتي بيانه. وأما الحسنة فهي على قسمين : جمل. ومفردات. فأما الجمل فهي على

١٠٧

قسمين : موجزة. ومطولة .. فالموجزة مثل قوله تعالى : ( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ) تقديره واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك. وقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا من نظائره كثير والقرآن العظيم مشحون به .. وأما الجمل المطولة فكقوله تعالى : ( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) الآية. فأعقبه بقوله حكاية عنها : ( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) تقديره فأخذ الكتاب فألقاه إليهم فرأته المرأة بلقيس وقرأته ـ وقالت يا أيها الملأ ـ ومن ذلك قوله تعالى : ( يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) فيه محذوف مطوّل تقديره ، فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا له ـ يا يحيى خذ الكتاب بقوة ـ .. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : ( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) تقديره فلما جاءهم موسى ووجدهم على تلك الحالة ـ قال يا هارون ـ. ومن ذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ) إلى قوله : ( قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها ). ومن ذلك قوله تعالى : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) فيه محذوف تقديره أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه وتركه على ظلمة من كفر ، ودل على المحذوف قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ) وذلك في القرآن العظيم كثير جدا.

وأما المفردات فهي ثلاث أقسام : أسماء. وأفعال. وحروف أما الاسماء فهي أنواع. الأول حذف الفاعل ، وقد اختلف في حذفه ، فنص على منع حذفه ابن جني وكثير من النحويين ، والحق جوازه اذا وجد ما يدلّ عليه كقوله تعالى : ( كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) تقديره اذا بلغت الروح التراقي. ومنه قوله تعالى : ( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) تقديره حتى توارت الشمس ومن ذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ )

١٠٨

تقديره فلما جاء الرسول سليمان.

الثاني : حذف المفعول وهو على ثلاثة أقسام : الأول : حذفه من كل فعل ليس له مفعول معيّن ، بل يكون المقصود من الكلام بيان حال الفاعل فقط. ومنه قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أي هل يستوي ذو العلم ومن لا علم له. وفي مثل هذا يتعين أن لا يعدّى الفعل لفظا ولا تقديرا ، ويكون حاله كحال غير المتعدي ، فإن عدّيته تخصه بما تعدّيه اليه فينقص الغرض.

ومن ذلك المحذوف من الافعال التي لها مفعول معيّن وحذفه لأمور. الأول : أن يكون المراد بيان حال الفاعل ، وأن ذلك دأبه لا بيان حال المفعول. مثاله قوله تعالى : ( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) إلى قوله : ( فَسَقى لَهُما ) فحذف المفعول به من أربعة مواضع إذ لو أضافه الى الغنم مثلا لتوهم أن الانكار إنما جاء من ذود الغنم لا من مطلق الذود ، كما تقول ما لك تمنع أخاك ، وكلّ مخلّ بالمقصود ومثله قول الشاعر :

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا

الى حجرات أدفأت وأظلّت

أراد ألجئونا وأظلتنا وأدفأتنا فحذف فكأنه قد أبهم أمره ، ولم يقصد شيئا يقع عليه فلو قال أدفأتنا ، لكان الأمر مختصا بهم وبطل الغرض.

الثاني أن يكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إيهاما بأنك لا تقصد ذكره كقول البحتري :

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع

المعنى أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره .. الثالث : ان يحذف لكونه مبينا كقولك ـ أصغيت إليك ـ أي أذني. و ـ أغضيت عنك ـ أي جفني .. وقال ابن الاثير حذف المفاعيل على قسمين. الأول : حذف مفاعيل غلب حذفها على اثباتها كمفعول المشيئة والإرادة في باب الشرط ، وباب لو أو كمفعول الأقسام. فأما حذف مفعول

١٠٩

المشيئة والارادة في باب لو وباب الشرط ففي القرآن العظيم منه كثير.منها قوله تعالى : ( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا ) تقديره لو شاء الله أن لا يقتتلوا ما اقتتلوا بحذف مفعول المشيئة لدلالة ما بعده عليه ، ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ ) تقديره ولو شاء الله هدايتكم كلكم لهداكم أجمعين. ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ ) ومثله في القرآن كثير. وقد (١) ومنه قوله تعالى : ( لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ). ومنه قوله تعالى : ( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) .. وقد ظهر مفعول المشيئة في قول الشاعر :

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليك ولكن ساحة الصبر أوسع

ـ وأما حذف مفعول الافساد فمنه قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ). وقوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ). وقوله تعالى : ( يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ). وقوله تعالى : ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) وهو كثير .. الثاني ما يحذف لدلالة السياق عليه. فمنه قوله تعالى : ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) تقديره ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله القابض الباسط. وقوله تعالى : ( وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) تقديره وما يشعرون أنهم لأنفسهم يخادعون ونحوه.

ونذكر : هاهنا قاعدة ينبني عليها حكم الفاعل والمفعول ، وهو أن العرب ينظرون إلى مقصود الإفادة في هذا الباب ونحوه ، فإن كان المقصود نسبة الفعل الى الفاعل اقتصروا عليه فقالوا ـ فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع. والله يحيي ويميت ـ لأنه ليس الغرض ذكر المعطى

__________________

(١) كذا في الأصل .. والظاهر أنه أراد وأما حذف مفعول الارادة في باب الشرط وباب لو ففي القرآن منه كثير ومنه الخ.

١١٠

والممنوع والموصول والمقطوع والمحيا والممات ، ولكن الغرض وصف الفاعل بهذه الأفعال.

فإن كان الغرض ذكر المفعول لا غير لم يتعرّضوا للفاعل كقوله تعالى : ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ). وقوله تعالى : ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ). وقوله تعالى : ( كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ليس الغرض من هذا ذكر الكابت ولا القاتل ولا اللاعن ولا المبسل وانما الغرض من نسبة القتل واللعن ، والكبت والابسال الى المذكورين. وان تعلق الغرض بالفاعل والمفعول أتوا بهما كقوله تعالى : ( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ). وقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ). وقوله : ( بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ).

وقوله : ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ) .. ومن ذلك حذف ضمائر الموصولات. ومنه قوله تعالى : ( أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ) تقديره أهذا الذي بعثه الله رسولا. وقوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) تقديره إنكم وما تعبدون او تعبدونهم ، وقوله تعالى : ( وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) تقديره وما ذرأه. وقوله تعالى : ( وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ) تقديره خلقه الله. ومنه في القرآن العظيم كثير ..

الثالث : حذف المضاف تارة والمضاف إليه أخرى وإقامة أحدهما مقام الآخر .. أما حذف المضاف فكقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) وكذلك ( إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ) أي فتحت سددهم. وربما نكرت المحذوف كما في قوله : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يريد من أثر حافر فرس الرسول .. ومنه قول الشاعر :

إذا قامتا تضوّع المسك منهما

نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل

١١١

وأما حذف المضاف إليه فهو أقلّ استعمالا. ومنه قوله تعالى : ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) أي من قبل ذلك ومن بعده .. الرابع : حذف الصفة تارة وحذف الموصوف أخرى. أما حذف الصفة فكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ». أي لا صلاة تامة أو كاملة. وأما حذف الموصوف فأكثره في النداء والمصدر .. أما النداء ففي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) تقديره يا أيها الرجل الساحر. وكذلك : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) تقديره يا أيها القوم الذين آمنوا. وقوله تعالى : ( أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) تقديره يا أيها القوم المؤمنون .. وأما المصدر فكقوله تعالى : ( وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً ) وقد يجيء في غير النداء كما في قول البحتري :

في أخضر ماس على أصفر

يخال في صبغته ورس

يريد على فرس أصفر .. الخامس : حذف الشرط تارة ، وحذف الجزاء أخرى ، وإقامة أحدهما مقام الآخر .. أما حذف الشرط فكقوله تعالى : ( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ) أي فإذا كنتم في أرض لا تتمكنوا فيها من عبادتي فإياي فاعبدون في غيرها. وقوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ) أي فإن لم يحلق فعليه فدية .. وأما حذف جزاء الشرط فكقوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ) معناه ان كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها ) تقديره وإن منكم والله إلا واردها. ولهذا أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله لن يرد النار الاّ تحلّة القسم. ومنه قوله تعالى : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ). وقوله تعالى : ( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) وهو في القرآن العظيم كثير .. أما حذف جواب القسم فكقوله تعالى : ( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ )

١١٢

معناه وحق هذه لأعبدن هؤلاء. يدلّ على المحذوف قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ). وقوله تعالى : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) معنى ـ ق والقرآن المجيد ـ لتبعثنّ ويدل على ذلك قوله : ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .. السابع : حذف جواب ـ لو ـ وهو في القرآن كثير ..من ذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) تقديره لرأيت أمرا هائلا ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) تقديره لمنعتكم ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ) تقديره لكان هذا القرآن .. الثامن : حذف جواب ـ لو لا ـ كقوله تعالى : ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) تقديره لما أنزل عليكم ستر هذه الفاحشة. وكذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) تقديره لعجل لكم العذاب. ويدل على المحذوف في هاتين الآيتين ما تقدمهما .. التاسع : حذف جواب ـ لمّا ـ وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) تقديره كان ما كان من اغتباطهما بما أنعم الله عليهما من دفع ذلك البلاء ..

العاشر : حذف جواب ـ أمّا ـ كقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) تقديره فيقال لهم ـ أكفرتم بعد ايمانكم ـ .. الحادي عشر : حذف جواب ـ إذا ـ كقوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) تقديره ـ واذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون ـ أعرضوا ـ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا أيضا عنها معرضين ـ.

١١٣

قال المصنف عفا الله عنه : هذه الأجوبة المحذوفة بعضها يصلح أن يكون في باب حذف الجمل ، وبعضها يصلح أن يكون في باب الأفعال ، لكن الأئمة أوردوها هكذا فأوردناها كما أوردوها ، والمتأمل اللوذعي لا يخفى عليه ذلك .. الثاني عشر : حذف المبتدأ تارة والخبر أخرى .. أما حذف المبتدأ فكقول المستهل ـ الهلال والله ـ معناه هذا الهلال ـ عبد الله ورب الكعبة ـ أي هذا عبد الله. وحذف المبتدأ في القرآن العظيم كثير. منه قوله تعالى : ( فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) تقديره فقالوا ـ هذا ساحر كذاب ـ ومنه : ( إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .. وأما حذف الخبر فكقول بعضهم : خرجت فاذا السبع ـ تقديره قائم أو رابض. وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ) تقديره والمحصنات من المؤمنات كذلك وقول الله تعالى : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) شاهد للوجهين يجوز أن يكون من باب حذف الخبر ، ومن باب حذف المبتدأ فإن جعلته من حذف المبتدأ كان التقدير فالأمر ، أو فأمري صبر جميل ، وإن جعلته من باب حذف الخبر ، يكون التقدير فصبر جميل أجمل .. وقد يحذفان جملة وهو قليل. ومنه قوله تعالى : ( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ) تقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.

وأما الافعال : فحذفها على قسمين. الأول : ما دل على حذفه بيان مفعوله ، كما في قوله تعالى : ( ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها ) وكقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجابر وقد تزوّج ـ « هلاّ بكرا تلاعبها وتلاعبك » أي هلا تزوجت جارية بكرا. وكذلك قولهم ـ أهلك والليل ـ أي أدرك أهلك وبادر الليل. ومنه في القرآن كثير. الثاني : ما لا يدل عليه مفعوله ، ولكن يعرف بالنظر كقوله تعالى : ( وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا ).

١١٤

وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ ) معناه فقيل فقد جئتمونا. وكذلك : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) وكذلك : ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) والمراد فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك قوله تعالى : ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) أي فاضربوا رقابهم ضربا. وكذلك قوله تعالى : ( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ ) تقديره فأتوه به ـ فلما كلمه ـ

وأما : حذف فعل الأمر : فله مثال واحد كقوله تعالى : ( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ). وقوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) تقديره قل ـ أفغير الله أبتغي حكما ـ وأما الحروف : أعني حذف الحروف التي لها معان ، وليست حروف الهجاء التي تكلم النحويون على اثباتها وحذفها وابدالها لأنهم أرادوا بذلك تصحيح الألفاظ وردّها إلى أصولها ، وليس هذا من غرضنا في هذا الكتاب ، إنما غرضنا الحروف التي يفيد حذفها واثباتها معنى لم يكن .. وهي عند علماء البيان على قسمين. مفردة ومركبة.

فالمفردة : مثل ـ الواو ـ التي حذفها مع ما فيه من الايجاز يجعل للكلام بلاغة ، ويكون في معناه أشد ، وذلك لأن إثباتها يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه ، فإذا حذفت أشعر ذلك بأن الكل كالشيء الواحد. ومن ذلك قول أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه ـ كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينامون ثم يصلون لا يتوضئون ـ اثبات الواو أدل على عدم الوضوء من قوله ـ لا يتوضئون ـ. ومن هذا النوع قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ) تقديره ولا يألونكم خبالا وقد بدت البغضاء .. وقد ثبت الواو فيما من شأنه أن لا يكون فيه واو

١١٥

فيكون ذلك أيضا أبلغ وأحسن كما في قوله تعالى : ( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ).

وأما المركب : فكثير وهو على أقسام. الاول حذف ـ لا ـ في قوله تعالى : ( تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) تقديره لا تفتأ تذكر يوسف أي لا تبرح. ومنه قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) تقديره وعلى الذين لا يطيقونه على قول بعض المفسرين. ومثله في القرآن العظيم كثير. ومنه قول امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

معناه لا أبرح قاعدا. الثاني : حذف ـ لو ـ وهو في قوله تعالى : ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) تقديره لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق. وقوله تعالى : ( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) معناه لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون. ومن هذا النوع قول الشاعر :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

تقديره اذا لو كنت منهم لقام بنصري.

الحذف القبيح : وسبب قبحه إخلاله بالمعنى. قال ابن الاثير : ومن الحذف أيضا المخل بالمعنى وهو يطلق على ما يحذف من أصل اللفظ وهو اسقاط بعض حروفه ، ولا يجوز استعماله في القرآن العظيم ، ولا في التأليف ، لكنه يجوز في الشعر ، لأن العرب قد أوردته في أشعارها واستعملته في كلامها ، فحذفت بعض الالفاظ استخفافا حذفا لا

١١٦

يخل بالباقي وتعرّض بالشبهة. فمنها قول علقمة :

كأنّ ابريقهم ظبي على شرف

مفدّما بسبا الكتّان ملثوم

فقوله ـ بسبا الكتان ـ يريد بسبائب الكتان. وكذلك قول لبيد :

درس المنا بمتالع فأبان

أراد المنازل. وعلى نحو من هذا جاء قول أبي دؤاد :

يذرين جندل جابر بجنوبها

فكأنما تذكي سنابكها الحبا

أراد الحباحب ـ والحباحب ـ طائر على مثال الجندب الصغير يرى منه نور ضعيف ليلا. وهذا وأمثاله قليل جدا وإياك أيها المؤلف أن تستعمله في كلامك وإن كان جائزا وقد ورد في أشعار العرب مثله.

قال المصنف عفا الله عنه : هذا الذي ذكره ابن الاثير فيه نظر لأنه قد صح عن ابن عباس وجماعة من أكابر الصحابة والسلف الصالح أن هذه الحروف التي في أوائل السور كل حرف منها دال على كلمة حذف أكثرها ، ودل هذا المنطوق به على المحذوف.

وقالوا : إن معنى « الم » أنا الله الملك. وقالوا في « كهيعص » أن الكاف من كاف والهاء من هاد. واستدلوا على ذلك بأن العرب استغنت بذكر حرف من الكلمة عن ذكرها في كثير من كلامها وأشعارها ففهمت المراد من ذلك الحرف. ومنه قول الشاعر :

جارية قد وعدتني أن تا

تدهن رأسي أو تفلي أو تا

أراد أن تأتي وتدهن رأسه وتفلي أو تمسح. وقال آخر :

١١٧

نادوهم أن تلجموا الاّ تا

قالوا جميعا كلهم الاّ فا

ـ وقال آخر :

قلت لها ألا قفي قالت قاف

لا تحسبن أنا نسينا الإلحاف

أي قف أنت. ومثل هذا في أشعار العرب وكلامهم كثير وإذا كثر استعماله كان من الكلام الفصيح معدودا وحسن في التركيب ، وكلما بعد غور الكلمة واستعجم معناها كان فهمه بأول وهلة دليلا على صحة الأفهام وجودة الغرائز ، وسلامة الطباع وحسن موقع اللفظ به.

١١٨

فصل

ومن أنواع المحذوف : أن يكون اللفظ مركبا ، ولكن ليس بكلام ، وذلك كقوله تعالى : ( قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) تقديره وجعلناه لنجعله آية للناس ، فيكون المحذوف هاهنا هو السبب والدال عليه هو سببه .. وقد يكون بعكس هذا كما في قوله تعالى : ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) تقديره واذا أردت قراءة القرآن ، فالمحذوف هنا الارادة وهي سبب القراءة ، ويجوز أن يكون التقدير ، وإذا قرأت القرآن وحضرك الشيطان ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.

١١٩

القسم الثالث والعشرون

في التقديم والتأخير. والكلام عليه من وجوه ثلاثة :

الاول : في ذكر المعنى الذي أتى به من أجله. الثاني : في هل هو من المجاز أم لا. الثالث : في أقسامه.

أما الاول : فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم للكلام وتلعبهم به وتصرفهم فيه على حكم ما يختارونه وانقياده لهم لقوة ملكتهم فيه ، وفي معانيه ثقة بصفاء اذهانهم وغرضهم فيه أن يكون اللفظ وجيزا بليغا ، وله في النفوس حسن موقع وعذوبة مذاق.

وأما الثاني : فقد اختلف أرباب علم البيان فيه .. فقال قوم : هو من المجاز لأن فيه تقديم ما رتبته التأخير كالمنقول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل والمفعول به في نقل كل واحد منهما على رتبته وحقه .. وقال قوم : ليس هو من المجاز لأن المجاز نقل مما وضع له إلى ما لم يوضع له.

وأما الثالث : فقال علماء هذا الشأن اقسامه أربعة .. وقالوا التقديم والتأخير لا يخلو إما أن يكون موجبا لزيادة في المعنى أو لا يكون كذلك ، وإما أن يكون ما قدم الأولى به التقديم ، أو الأولى به التأخير ، أو يتكافأ الأمران فيه .. أما الاول فهو ما يلزم فيه زيادة معنى فلا يخلو إما أن يكون المقصود بتقديمه زيادة المعنى خاصة كقوله تعالى : ( إِيَّاكَ

١٢٠