الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( رب يسر )

قال الشيخ الامام العالم العلامة. الحبر البحر الفهامة. سيد الحفاظ. وفارس المعاني والألفاظ. مفسر القرآن. ذو الفنون البديعة الحسان. أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحم الله روحه ، ونوّر ضريحه *

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا. وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا. فهدى بنوره من الضلالة وبصر به من العمى. وأرشد به من الغيّ. وفتح به أعينا عميا. وآذانا صما. وقلوبا غلفا.

( وبعد ) فإن الله تفضل على هذه الأمة أن جعلهم عدولا خيارا ، وجعلهم شهداء في أرضه شهداء على الناس يوم ترى الناس سكارى ، وبعث اليهم أقربهم اليه محبة وإيثارا ، وأعظمهم لديه شرفا ومقدارا ، وأنزل عليه كتابه المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

٣

خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وحسبهم بذلك علوا وفخارا ، وجعله نورا وصراطا مستقيما ، وحث على تعلمه وعلمه ليعم بإحسانه ويؤتى من لدنه أجرا عظيما ، وأقامه حجة على من ضل ومحجة لمن اهتدى ، وأودعه حكمة وموعظة وهدى ، ونصبه دليلا على الحق لا يضعف ولا يهي ، وسبيلا يصدر عنه كل رشد وإليه ينتهي ، وطريقا تجلى بأسلاك نفائس الأعمال أهل سلوكها ، وبرهانا واضحا يزجرهم عن خلل انحلال عقائدهم وشكوكها ، وأودعه من الاعجاز ما لا يحصر بحصر حاصر ولا بعد عاد ، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والحكم والأمثال والمواعظ وقصص القرون السالفة كأصحاب الرسّ وقوم عاد ، فكم في لفظه من إيجاز يسفّه حلم من يقول بلفظه ، وكم في معناه مغن للجادّ في حفظه ، أبدعت في انواع البديع كلماته ، وأغربت في أجناس التجنيس سوره وآيته ، ورمت أرباب الفصاحة بالجمود والعي فصاحته وجزالته ، وأخرست ألسنتهم الذربة فأعيتهم معارضته وإزالته فأقروا له بعد تسفيه أحلامهم وتقريعهم وتعجيزهم بالحلاوة والطلاوة ، وعلموا أنه ليس من كلام البشر ولكن غلبت عليهم الشقاوة ، هذا مع أنهم لم يتدبروا أكثر معانيه ، بل قالوا ( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) طلبوا الغلب وظنوا أنهم غالبون وأوسعوا الطلب فولوا وهم خائبون ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) أنزله بلسان العرب ليكون حجة عليهم ونسخ به جميع الكتب فكان انزاله أشد نازلة لديهم ، وجعل أعظم معجزاته دوام آياته ، متلوا بالألسنة باقيا مع بقاء الأزمنة ، محفوظة في الصدور منتقلة في الصحائف والمصاحف من لدن الرسول محروسة من التبديل والتغيير والزيادة والنقصان والذهول ، قرآنا لا يسأم منه تاليه ، مع تكراره وتواليه ، ولا يملّه واعيه ، بل تتوفر على توقيره دواعيه ، في كل حين تظهر فيه من قضايا التنزيل ، وخفايا التأويل ، من نتائج أفكار الخلف ، غير ما جادت به فطن السلف ، كل حرف منه تتفجر به ينابيع من الحكمة ، وكل كلمة تمطر منها سحائب الرضوان

٤

والرحمة ، وكل آية تحتوي على بحار من الإعجاز زواخر ، وكل سورة تكاد تنطق بعلوم الأوائل والأواخر ، لم نجد له في الكتب السالفة نظيرا ، ولم تمدّ إليه كف معارض ، منازلا كان أو مغيرا ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ).

فما رام أحد معارضته إلا عرضت له عوارض الغي واللكن ، ولا قصد مباراته إلا رمي بهجر القول وإن كان من أرباب اللسن ، وعوض من كلامه الفصيح باللفظ الركيك والمعنى القبيح ، قام إعجازه بتعجيزهم ، وتحققوا أنه ليس من تسجيعهم ولا ترجيزهم ، وصرفهم الإباء عن ترك دين آبائهم إلى الدنية ، وصرفتهم الحمية حمية الجاهلية ، عجزوا عن الإتيان بسورة أو آية وانتهوا من عنادهم في التكذيب به إلى غاية فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ، وجعلهم لمن بعدهم آية ، فهو الصراط المستقيم ، والذكر العظيم ، والكتاب الحكيم ، والنور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والآية العظمى ، وكلمات الله والذكرى والدرجة العليا ، وهو شفاء الغليل ، ودواء العليل ، والبرهان والدليل ، والبشير والنذير والبصائر والمثاني والقصص والتذكرة ، والأنباء والآيات المبصرة ، والحكم والبلاغ والتبصرة ، والبيان والتبيان ، والرحمة والبشرى والأمان ، والروح والحديث والتنزيل والميزان ، وحق اليقين والنبأ العظيم والمحفوظ والكتاب الكريم ، والقول الفصل والهادي والناطق والحق والغيب والمكنون والقول الثقيل والحسرة والعجب والصحف المطهرة والكتب القيمة والخيرة والكتاب العزيز ، والكتاب لا ريب فيه ، والمحكم والمتشابه والعصمة والإمام ، والأنس عند الوحشة والفزع ، والأمن عند الخوف والجزع ، والضياء يوم القتر والظلمة ، والكشف يوم الكرب والغمة ، من حكم به عدل ، ومن عدل عنه هوت قدمه فزل ، ومن استعصم به عصم ومن استمطر منه الرحمة رحم.

٥

( ولما ) كان جامعا لهذه المعاني المتفرقة ، محتويا على بدائع المباني المشيدة والفنون المتأنقة ، وضروب من المقاصد الخفية والجلية ، وأنواع من خفايا أسرار العوالم العلوية والسفلية ، أنزله على خير رسول ، قلبه منبع الحكم ، وسمعه مقر صريف القلم ، وعقله قد استوى على سوقه واستتم ، ولسانه عن الذلل والخطأ في منعة وعصم ، وبصره وبصيرته عنهما ما اختفى هدى ولا اكتتم ، فبلّغه من التبليغ مرامه ، وبيّن حلاله وحرامه ، وعيّن فيه مراد الله من خلقه وأحكامه ، وعرّف فصه ونصه ، وأظهر عامّه وما خصه ، وأبدى ناسخه ومنسوخه ومحكمه ، وفهّم متشابهه ومبهمه ، وجلا غوامضه وخفاياه ، وأوضح قصصه وقضاياه ، وأظهر عن أمثاله التي ليست لها أمثال ، وأعلم بخفي إشاراته التي هي أدقّ من السحر الحلال ، وأرق من العذب الزلال ، وأنبأ بكنايته التي هي أجمل من التصريح ، وصرح بحقيقته التي تسبق إليها الأذهان من غير تعريض ولا تلويح ، وأوجز مجازه الذي يغير تدبر لا تجيزه العقول ، ولو شاء لجعله هو والحقيقية سيان ، إلى غير ذلك من العلوم الظاهرة والفنون الباهرة.

( خلا ) ما تضمنه من العلوم الباطنة ، والمعاني التي هي إلى الآن في كمائمها كامنة ، التي لم يطلع الله عليها من خلقه أحدا ، والخفايا التي لم يظهر عليها إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، فجزاه الله أحسن جزاء عنا ، وبلغه أفضل سلام منا وصلى الله عليه وعلى آله ما طلع نجم وبدا ، وما اخضلّ نجم برذاذ وندا ، ورضي الله عن أصحابه ليوث غابه ، وغيوث سحابه.

( فكتاب الله تعالى ) أشرف ما صرفت إليه الهمم ، وأعظم ما جال فيه فكر ، ومد به قلم ، لأنه منبع كل علم وحكمة ، ومربع كل هدى ورحمة ، وهو أجلّ ما تنسك به المتنسكون ، وأقوى ما تمسك به

٦

المتمسكون ، من استمسك به فقد علقت يده بحبل متين ، ومن سلك سبيله فقد سار على طريق قويم ، وهدي إلى صراط مستقيم.

( وقد ) أودع الله سبحانه ألفاظ هذا الكتاب العزيز من ضروب الفصاحة وأجناس البلاغة وأنواع الجزالة وفنون البيان ، وغوامض اللسان ، وحسن الترتيب والتركيب ، وعجيب السرد وغريب الأسلوب ، وعذوبة المساغ ، وحسن البلاغ ، وبهجة الرونق ، وطلاوة المنطق ، ما أذهل عقول العقلاء ، وأخرى ألسنة الفضلاء وألغى بلاغة البلغاء من العذب وطاشت به حلومهم ، وتلاشت دونه علومهم ، وكلت ألسنتهم الذربة ، وأقصرت خطبهم المسهبة ، وقصائدهم المغربة ، وأراجيزهم المعربة ، وأسجاعهم المطربة ، فعلموا أن معارضته مما ليس في مقدورهم ولا وسعهم ، ولا داخلا في تقصيدهم ولا سجعهم ، وأن ذلك مسلوب ومصروف عن مفردهم وجمعهم ، وتركوا الطعن فيه عند تقصيد رماحهم ، وأذعنوا للاستماع له والعجز عند بعد تأبيهم وجماحهم ، مع قدحه في أربابهم ، وفدحه لألبابهم ، وتسفيهه لأحلامهم ، وتبطيله لأنصابهم وأزلامهم.

فأمسك ذوو الاحلام منهم عن اللغو فيه والاعتداء ، وأقبلوا على تدبره فهدى الله به من هدى ، ولم يقم على الطعن فيه ، وترك التدبر لمعانيه إلا من غلبت عليه الشقاوة ، وختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، فانتدبوا لمعارضته ومباراته ، ومماثلته ومجاراته ، فأوقعه غيّه في عيّه ولكنه ، وسقط في سقطات لسانه بعد بلاغته ولسنه ، وصار بعد أن كان فارس الفصاحة والبيان ، ومالك قصبات السبق في الرهان ، يضحك من لفظه من سمعه ، ويحط من قدره من رفعه ، وذهبت من لفظه تلك الجزالة ، وأعظم الله من ضروب الجزاء والخذية الجزاء له ، كل ذلك ليظهر لنا عظم قدر كلامه العظيم ، وأي رونق وبهجة للمحدث

٧

إذا قرن بالقديم ، فمن جحد منهم إنما فعل ذلك عنادا وحسدا لإبائه أن يقدم عليه أحدا.

( روي ) أن أبا جهل بن هشام هو والأخنس بن قيس ؛ والوليد بن المغيرة اجتمعوا ليلة يسمعون القرآن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهو يصلي به في بيته إلى أن أصبحوا ، فلما انصرفوا جمعتهم الطريق فتلاوموا على ذلك وقالوا : إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك فعلوه ، واستمعوا إلى ما يقوله ، واستمالهم وآمنوا به ، فلما كان في الليلة الثانية عادوا وأخذ كل منهم موضعه ، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فاشتد نكيرهم ، وتعاهدوا وتحالفوا أن لا يعودوا ، فلما تعالى النهار ، جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس فقال : ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال : ما ذا أقول؟ قال : بنو عبد المطلب فينا الحجابة ، قلنا : نعم ، قالوا : فينا السّدانة ، قلنا : نعم قالوا : فينا السّقاية قلنا : نعم ، يقولون فينا نبي ينزل عليه الوحي والله لا آمنت به أبدا.

( وروي ) : أن الوليد بن المغيرة سمع من النبي صلّى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) الآية. فقال : والله إن له حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر.

( وقال أيضا ) : لما اجتمعت قريش عند حضور الموسم ورأت أن وفود العرب ترد ، فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا ، فقالوا : نقول كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، ولا هو بزمزمته ، ولا سجعه ؛ قالوا : مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، ولا بخنقه ولا وسوسته ، قالوا :فنقول شاعر ، فقال : ما هو شاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه ، وهزجه وقريضه ، ومبسوطه ومقبوضه ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده ، قالوا : فما نقول؟ قال : ما أنتم بقائلين من هذا

٨

شيئا إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق وأن أقرب القول إنه ساحر ، وأنه سحر يفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه ، والمرء وزوجته ، والمرء وعشيرته فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) الآيات.

وانما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب فعرف علم اللغة وعلم العربية ، وعلم البيان ، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ، ورسائلها وأراجيزها وأسجاعها ، فعلم منها تلوين الخطاب ومعدوله ، وفنون البلاغة وضروب الفصاحة ، وأجناس التجنيس ، وبدائع البديع ، ومحاسن الحكم والأمثال ، فإذا علم ذلك ونظر في هذا الكتاب العزيز ، ورأى ما أودعه الله سبحانه فيه من البلاغة والفصاحة ، وفنون البيان فقد أوتي فيه العجب العجاب والقول الفصل اللباب والبلاغة الناصعة التي تحير الألباب وتغلق دونها الابواب ، فكان خطابه للعرب بلسانهم لتقوم به الحجة عليهم ومجاراته لهم في ميدان الفصاحة ، ليسبل رداء عجزهم عليهم ، ويثبت أنه ليس من خطابهم لديهم فعجزت عن مجاراته فصحاؤهم ، وكلّت عن النطق بمثله السنة بلغائهم ، وبرز في رونق الجمال والجلال في أعدل ميزان من المناسبة والاعتدال ، ولذلك يقع في النفوس عند تلاوته وسماعه من الرّوعة ، ما يملأ القلوب هيبة ، والنفوس خشية ، وتستلذ الأسماع وتميل إليه بالحنين الطباع ، سواء كانت فاهمة لمعانيه أو غير فاهمة ، عالمة بما يحتويه أو غير عالمة ، كافرة بما جاء به أو مؤمنة .. وسنورد في كتابنا هذا أصولا مؤصلة وفوائد مفصلة من علم البيان ، وما ورد نظيره في القرآن ما تقف عليه ويعجبك عند النظر اليه :

( قال المصنف رضي‌الله‌عنه ) :

وهذه الجملة التي تأصلت وتحصلت والفوائد التي بعد إجمالها

٩

فصلت ، نقلتها من كتب ذوي الإتقان ، علماء علم البيان التي وقفت عليها ، وترقت همة اطلاعي إليها من كتب المتقدمين والمتأخرين ، وهي : كتاب البديع لابن المعتز ، وكتاب الحالي والعاطل للحاتمي. وكتاب المحاضرة له. وكتاب الصناعتين للعسكري. وكتاب اللمع للعجمي. وكتاب المثل السائر لابن الأثير. وكتاب الجامع الكبير لابن الأثير أيضا. وكتاب البديع لأسامة بن منقذ. وكتاب العمدة للزنجاني. وكتاب نظم القرآن له أيضا. وكتاب نهاية التأميل في كشف أسرار التنزيل لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري. وكتاب التفريع في علم البديع لزكي الدين عبد العظيم بن أبي الأصبع. وكل كتاب من هذه الكتب أخذ من كتب شتى مع ما أضفت إليها من فوائد مستعذبة ، وفرائد حسنة المساق مستغربة نقلتها عن الأمة الأعلام « الأكابر » ، ونقلتها عنهم من ألسنتهم لا من بطون الدفاتر ، وما أضفت إلى ذلك مما تفضل الله به ، ومنح من مهمل أبنته ومجمل فصلته ، وشارد قيدته وحصلته ليكمل بهذا الكتاب النفع ، ويأتي على نهاية من حسن الوصف وبديع الجمع ، وإحياء لعلم البيان المطلع على نكتب نظم القرآن الذي قد عفت آثاره ، وقلت أنصاره ، وتقاعدت الهمم عن تحصيله وضعفت العزائم عن معرفة فروعه فضلا عن أصوله ، فما علم من علوم الاسلامية رمي بالهجر والنسيان ما رمي به علم البيان.

ولو أداموا النظر فيه ، والتلمح لمعانيه. لاطلعوا من الكتاب العزيز على خفايا تهش لها القلوب ، ودقائق تسفر لهم عن وجوه المطلوب ، ومن لم يعرف هذا العلم كان عن فهم معاني الكتاب العزيز بمعزل ، ولم يقم ببعض حقوق المنزل والمنزل ، ومن وقف على هذه الأصول التي أصلتها والفصول التي فصلتها ، ظهر له مصداق هذه الدعوى ، وأخذ من التوصل إلى معرفة هذا العلم بالسبب الأقوى ، وحسن عنده موقعه ، وعظم في نفسه محله وموضعه. وخالطت قلبه بشاشة رونقه ، وجليت

١٠

في عينه نضارة نظائره وحسن مونقه.

( وكلام العرب ) في خطبها وأشعارها ونثرها ونظامها منقسم إلى ثلاثة أقسام : ورد منها في الكتاب العزيز قسمان ، وقسم لم يرد منه فيه شيء وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى.

١١

القسم الأول

وهو ينقسم الى اربعة وثمانين قسما

القسم الأول : في الكلام على الفصاحة والبلاغة. والكلام عليهما من وجوه : الأول في حدهما. الثاني في اشتقاقهما. الثالث في التفرقة بينهما.

أما الأول في حدهما : فقد قال علماء هذا الشأن : إنّ حدّ البلاغة بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في نفسه ، مع الاحتراز من الايجاز المخل ، والتطويل الممل .. وقال قوم : البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ .. وقيل : البلاغة الايجاز مع الافهام والتصرف من غير اضجار ..

قال خالد بن صفوان : أبلغ الكلام ما قلّت ألفاظه ، وكثرت معانيه ، وخير الكلام ما شوّق أوله إلى سماع آخره .. وقال غيره : انما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه إلى قلبك.

وأما الفصاحة فهي خلوص الكلام من التعقيد.

الثاني في اشتقاقهما :قال علماء هذا الشأن : إن اشتقاق البلاغة من البلوغ إلى الشيء وهو الوصول إليه. ويجوز عندي أن يكون الكلام البليغ الذي بلغ من جودة الألفاظ وعذوبة المعاني إلى غاية لا يبلغ إلى

١٢

مثلها إلا مثله.

وأما الفصاحة فقالوا : اشتقاقها من الفصيح ، وهو اللبن الذي أخذت منه الرغوة ، وذهب لباؤه يقال فصح الرجل اذا صار كذلك وأفصحت الشاة اذا فصح لبنها.

الثالث في الفرق بينهما : قال قوم من أرباب علم البيان : الفصاحة والبلاغة متعاقبان على معنى واحد .. وقال قوم : البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ. يقال معنى بليغ ، ولفظ فصيح ( وليست ) الفصاحة والبلاغة مختصين بالالفاظ العربية وانما يطلقان على كل ما لفظه غريب وفهمه قريب.

وإذا تقرر هذا فقد احتوى الكتاب العزيز على جمل من ذلك أفرغت في قالب الجمال ، وأترعت لها كئوس الاحسان والإجمال ، وأتت على معظمها وأجلّها ، واستوفت نصاب ملكها ، لازمة علم البيان ، وأدلّها ، وأنا أذكرها نوعا نوعا ، وقسما قسما ، محلا ببراهينه وشواهده ، سافرا عن نضارة وجوه نظائره وفوائده بعد استيفاء الكلام على الحقيقة والمجاز ، إذ الكلام لا يخلو عنهما أو عن أحدهما.

فنبدأ بالكلام على الحقيقة ، والكلام فيها من ثلاثة أوجه : الأول :اشتقاقها. الثاني : حدها. الثالث : أقسامها.

أما الأول فالحقيقة فعيلة بمعنى مفعولة وفي اشتقاقها قولان. أحدهما : انها مشتقة من حقّق الشيء يحققه اذا أثبته ، والآخر : أنها من حققت الشيء أحقه إذا كنت منه على يقين.

وأما الثاني : فلها حدان. الأول في المفردات. والثاني في الجمل .. فأما حدها في المفردات : فهي كل كلمة أريد بها ما وقعت به في وضع واضع وقوعا لا يسند فيه إلى غيره ، كالأسد للحيوان

١٣

المخصوص المعروف .. الثاني حدها في الجمل : فهو كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل ، وواقع موقعه مثاله خلق الله العالم وأنشأ العالم ـ فأنشأ ـ واقعة موقع ـ خلق.

وأما الثالث فأقسامها ثلاثة : حقيقة لغوية. وحقيقة شرعية. وحقيقة عرفية .. وهي على قسمين عامة وخاصة. فالعامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار ، وخاصة نحو استعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا ينقسم.

وأما المجاز فالكلام عليه أيضا من خمسة أوجه : الأول : في المعنى الذي استعملت العرب المجاز من أجله. الثاني : في حدّه. الثالث : في اشتقاقه. الرابع : في علة النقل. الخامس : في أقسامه.

أما الأول فإن المعنى الذي استعملت العرب المجاز من أجله ميلهم إلى الاتساع في الكلام ، وكثرة معاني الالفاظ ليكثر الالتذاذ بها فإن كل معنى للنفس به لذة ، ولها إلى فهمه ارتياح وصبوة ، وكلما دقّ المعنى رقّ مشروبه عندها وراق في الكلام انخراطه ، ولذ للقلب ارتشافه ، وعظم به اغتباطه ، ولهذا كان المجاز عندهم منهلا مورودا عذب الارتشاف ، وسبيلا مسلوكا لهم على سلوكه انعكاف ، ولذلك كثر في كلامهم حتى صار أكثر استعمالا من الحقائق ، وخالط بشاشة قلوبهم حتى أتوا منه بكل معنى رائق ولفظ فائق ، واشتدّ باعهم في إصابة أغراضه فأتوا فيه بالخوارق وزينوا به خطبهم وأشعارهم حتى صارت الحقائق دثارهم ، وصار شعارهم.

وأما الثاني : فحدّه على قسمين : حدّ في المفردات. وحدّ في الجمل ..

أما حده في المفردات فهو كل كلمة أريد بها غير ما وضعت له في وضع واضعها .. وقيل : حده استعمال اللفظ الحقيقي فيما وضع له دالا

١٤

عليه ، ثانيا لتسويته علاقة بين مدلول الحقيقة والمجاز ..

وأما حده في الجمل : فهو كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه بضرب من التأويل.

وأما الثالث : فاشتقاقه من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه وعدل عنه.فاللفظ إذا عدل به عما يوجبه أصل الوضع فهو مجاز على معنى أنهم جاوزوا به موضعه الأصلي أو جاوز هو مكانه الذي وضع فيه أوّلا.

وأما الرابع : فالمعنى الذي وقع به النقل شيئان. أحدهما أن يكون المنقول عن معنى وضع اللفظ بازائه أولا من غير مناسبة ولا علاقة ، كالأعلام المنقولة ، وبهذا يتميز عن المشترك. الثاني : أن يكون ذلك النقل لمناسبة بينهما أو علاقة ، ولأجل ذلك لا توصف به الأعلام المنقولة ، لأنها مجازات مثل تسمية الرجل بالحجر ، فإنه ليس هذا النقل لتعلق بين حقيقة الحجر وبين ذلك الشخص ، وأما إذا تحقق الشرطان فإنه يسمى مجازا ، وذلك مثل تسمية النعمة أو القوة باليد لما بينهما من التعلق فإن النعمة إنما تعطى باليد والقوة إنما تظهر بكمالها في اليد .. ومن ذلك أيضا تسمية المزادة بالراوية ، وهي اسم للبعير الذي يحمل عليه في الأصل ، ومثل ما بين النبت والغيث والسماء والمطر حيث قالوا : رعينا الغيث يريدون النبت الذي الغيث سبب نشوء عادة ، وقالوا أصابتنا السماء ، يريدون أصابنا المطر ..

وقال قوم : المجاز لا يصح إلا بنسبة مع علاقة بين مدلول الحقيقة والمجاز ، وتلك النسبة متنوعة فإذا قوي التعلق بين محلي الحقيقة والمجاز فهو الظاهر الواضح ، وإذا ضعف التعلق إلى حدّ لم تستعمل العرب مثله ولا نظير له في المجاز ، فهو مجاز التعقيد ولا يحمل عليه شيء في الكتاب والسنة ، ولا يوجد مثله في كلام فصيح. وقد تقع علاقة بين الضعيفة والقوية ، فمن العلماء من يتجوز بها لقربها بالنسبة

١٥

إلى العلاقة الضعيفة ، ومنهم من لا يتجوز بها لانحطاطها عن العلاقة القوية ، وهذا مذكور في الكتب المختصة بأصول الفقه.

الخامس : أقسامه وهي كثيرة. الأول : مجاز التعبير بلفظ المتعلق به عن المتعلق وأقسامه كثيرة .. وقد انتهت عدة ما احتوى عليه الكتاب العزيز الى أربعة وعشرين قسما :

الاول : التجوز بلفظ العلم عن المعلوم كقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) أراد بشيء من معلومه. وكقوله تعالى : ( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) أي من المعلوم. وكذلك قوله تعالى : ( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي المعلوم.

الثاني : التجوز بلفظ المعلوم عن العلم وسيأتي بيانه وأمثلته.

الثالث : التجوز بلفظ المقدور عن القدرة مثل قولهم : رأينا قدرة الله أي مقدور الله : ومنه قوله تعالى : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) أي مصنوعه.

الرابع : التجوز بلفظ الإرادة عن المراد كقوله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ ) والمعنى ويفرقون بين الله ورسله بدليل أنه قوبل بقولهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يقل ويريدون أن يفرقوا بين أحد منهم.

الخامس : التجوز بلفظ المراد عن الارادة كقوله تعالى : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) معناه وان أردت الحكم فاحكم بينهم بالعدل وفيه مجاز من وجهين. أحدهما التعبير بالحكم عن إرادته. والآخر التعبير بالماضي عن المستقبل.

السادس : اطلاق اسم الفعل على الجزء الأول منه ، وعلى الجزء الاخير منه ومثاله قوله تعالى : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى )

١٦

أراد بالرمي المنفي آخر أجزاء الرمي التي وصل التراب به الى أعينهم وبالرمي المثبت شروعه في الرمي وأخذه فيه ، فيكون المعنى : وما أوصلت التراب إلى أعينهم إذ شرعت في الرمي وأخذت فيه. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : « صلى بي جبريل عليه‌السلام الظهر حين زالت الشمس » أي شرع في الصلاة وأخذ فيها. « وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثله » وأراد بذلك آخر أجزاء الصلاة وهو السلام .. وهذا من مجاز التعبير بلفظ الكل عن البعض ، وكذلك نظائره ، ويصحح هذا ما بين الإرادة والمراد من النسبة والتعلق ، ويجوز أن يكون المصحح كون المراد مسببا عن الارادة ، فيكون تجوزا باسم المسبب عن السبب بخلاف التعبير بالمعلوم عن العلم فإنه ليس مسببا عنه ولا مؤثرا فيه.

السابع : التجوز بلفظ الأمل عن المأمول ، وذلك في قوله تعالى : ( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) أي وخير مأمولا.

الثامن : التجوز بلفظ الوعد والوعيد عن الموعود من ثواب وعقاب وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ) ومثله : ( إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) أي موعوده.

التاسع : إطلاق العهد والعقد على الملتزم منهما ، وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) وقوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) عبّر بهذه العهود كلها عن موجبها ومقتضاها وهو الذي التزم بها.

العاشر : اطلاق اسم البشرى على المبشر به وهو في القرآن كثير.من ذلك قوله تعالى : ( بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ) وقال أبو علي : التقدير بشراكم اليوم دخول جنات أو خلود جنات ، لأن البشرى مصدر ،

١٧

والجنات جرم ، فلا يخبر بالجرم عن المعنى.

وقال الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام : لا حاجة إلى هذا التعسف لأن البشرى ليست عين الدخول ، ولا عين الخلود ، كما أنها ليست عين الجنات ، ولا بد من تأويله على كلا القولين بما ذكرناه ، وإلا كان خلفا لأن البشرى قول ، ولا يجوز أن يخبر عن القول بأنه جرم ، ولا بأنه دخول ولا خلود.

الحادي عشر : اطلاق اسم القول على المقول فيه وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ) ومنه قوله : ( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) معناه وجب عليهم العذاب المقول فيه. ومنه قوله تعالى : ( فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ) أي من مقولهم وهو الأدرة.

الثاني عشر : اطلاق اسم النبأ عن المنبأ عنه وهو في القرآن كثير.من ذلك قوله تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ).

الثالث عشر : اطلاق الاسم على المسمى ، وهو في القرآن كثير.من ذلك قوله تعالى : ( ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها ) معناه ما تعبدون من دونه إلا مسميات. ومنه قوله تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أي سبح ربك الأعلى ، ولذلك نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا اذا قرءوها قالوا : سبحان ربي الأعلى. وقال عليه الصلاة والسلام : « اجعلوها في سجودكم » ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : « بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ».

ومن جعل الاسم هو المسمى في قوله : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) كان التقدير فيه أقرأ بالله أي بمعونته وبتوفيقه ، ومن جعله

١٨

التسمية كان التقدير أتبرك بذكر اسم الله ، وبهذا يرد على من قدّر ابتدائي ، أو بدأت باسم الله ، إذ لا وجه للتبريك على بعض الفعل دون سائره ، ولا لنسبة ابتداء الفعل إلى التوفيق دون سائره ، لأن الحاجة داعية الى التبرّك والتوفيق في جميع الفعل دون انتهائه وابتدائه.

الرابع عشر : اطلاق اسم الكلمة على المتكلم به ، ومنه في القرآن كثير من ذلك قوله تعالى : ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ) أي لا مبدل لعذاب الله ، أو لا مبدل لمقتضى عذاب الله ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تجوز بالكلمة عن المسيح لكونه تكوّن بها من غير أب بدليل قوله تعالى : ( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ولا تنصف الكلمة بذلك ، وأما قوله اسمه المسيح فإنّ الضمير فيه عائد إلى مدلول الكلمة ، والمراد بالاسم المسمى فالمعنى المسمى المبشر به المسيح ابن مريم.

الخامس عشر : اطلاق اسم اليمين على المحلوف وهو في القرآن في موضعين أحدهما قوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) أي ولا تجعلوا قسم الله أو يمين الله مانعا لما تحلفون عليه من البر والتقوى بالصلاح بين الناس (١).

السادس عشر : اطلاق اسم الحكم على المحكوم به وذلك قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ) أي بما يحكم به لكل واحد منهم من ثواب وعقاب فتجوز بالحكم عن متعلقه وهو المحكوم به ، وكذلك التعبير بلفظ القضاء عن المقضي به في قوله صلّى الله عليه وسلّم : « أعوذ بك من سوء القضاء » أي من سوء ما قضيت به ، إذ لا

__________________

(١) سقط من الاصل ذكر الموضع الثاني.

١٩

تصح الاستعاذة من قضاء الله ، لأنه صفة قديمة له لا يمكن تبديلها ولا تغييرها ، ومثله : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) أي فاصبر لما حكم به عليك ، وكذلك قول الداعي : اللهم رضني بقضائك ، أي بما قضيته لي أو عليّ من غير معصية ، فإن المعاصي مقضية أيضا ، وقد أمرنا الله تعالى بكراهتها فنمتثل أمر الله تعالى في كراهتها وإن وقعت.

السابع عشر : التجوز بلفظ العزم على المعزوم عليه وهو كثير في القرآن ، ومنه قوله تعالى : ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) أي ان ذلك الصبر والغفر مما يعزم عليه من الأمور ، ومنه قوله تعالى : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ ) تجوز بالعزم عن المعزوم عليه لتعلقه به ومعناه ، ولا تعقدوا عقدة النكاح ، أو يكون التقدير ولا تعزموا على تنجيز عقدة النكاح.

الثامن عشر : التجوز بلفظ الهوى عن المهوي ، وهو في القرآن العظيم في موضعين أحدهما قوله تعالى : ( وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ) معناه ونهى النفس عما تهواه من المعاصي ، ولا يصح نهيها عن هواها ، وهو ميلها لأنه تكليف ما لا يطاق إلا أن تقدر حذف مضاف معناه ونهى النفس عن اتباع الهوى ، فيكون من مجاز الحذف ، ومنه قوله تعالى : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) يحتمل أن يريد به بهواه لانهم كانوا يعبدون الصنم ، فإن استحسنوا غيره عبدوه وتركوا الأول ، ويحتمل أن يكون المراد به مجاز التشبيه ، فإن الانسان إذا طاوع هواه فيما يأتيه ويتركه فقد نزل الهوى منزلة المعبود المطاع.

التاسع عشر : اطلاق اسم الخشية على المخشيّ وهو في القرآن العزيز في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) معناه هم من عقوبة ربهم خائفون.

العشرون : اطلاق اسم الحب على المحبوب وذلك قوله تعالى :

٢٠