المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٤

لعل من أهم ما بحثه المستشرقون في الدراسات القرآنية هو موضوع : تأريخ القرآن في عدة مؤشرات من ذلك ؛ اشتملت في الغالب على الحديث عن نزوله ، وأدواره ، وبنيته ، وتركيبه ، وقراءاته ، ولهجاته ، وتدوينه ، وكتابته.

إلا أن هذه الدراسات جاءت متأخرة بعض الشيء بالنسبة لما كتبه العلماء العرب والمسلمون في تأريخ القرآن سبقا منهم إلى هذا الميدان ، ولعل من أبرز من أشار لذلك « أبا عبد الله الزنجاني » في كتابه : ( تأريخ القرآن ) (١).

١ ـ لقد عني المستشرقون بتأريخ القرآن ، وكانت عنايتهم مطردة ابتداء من أوائل القرن التاسع عشر إلى المنتصف الثاني من القرن العشرين ، فقد خصص المستشرق الفرنسي بوتيه ( ١٨٠٠ م ـ ١٨٨٣ م ) وقتا كبيرا لدراسة تأريخ القرآن الكريم ، فعكف على ذلك وبحث تأثره بما تقدمه من ديانات وظروف أحاطت بنزوله وغايته ، والعقائد الموافقة والمضادة له في غيره من الأديان ، وتأثيره في الاجتماع والتمرين ، ثم الأشهر والجمع التي يقدسها ، والمذاهب التي نشأت عنه لدى المسلمين ، وقد نشرت دراسته هذه في باريس عام ( ١٨٤٠ م ) (٢).

وكما يبدو من الشئون التي أثارها هذا الكتاب أن بحثه لم يكن متكاملا بموضوعاته ، ولا دقيقا باختياره.

__________________

(١) طبع في القاهرة ، مطبعة لجنة التأليف ، ١٩٣٥ م ، وقدم له الدكتور أحمد أمين.

(٢) ظ : نجيب العقيقي ، المستشرقون : ١٩٤.

٢١

٢ ـ حتى إذا جاء المستشرق الألماني جوستاف فايل ( ١٨٠٨ م ـ ١٨٨٩ م ) وجدنا الحال مختلفة فيما كتبه في رسالته : « مدخل تأريخي نقدي إلى القرآن » ، إذ امتازت بحوثه بشمولية الموضوع ، ومعرفة المنهج التأريخي ، وإن كان لا يخلو من الثقافة التلمودية ، لأن الكاتب من أصل يهودي ، وقد قسّم فيه السور المكية لأول مرة إلى ثلاث مجموعات ، تقسيما أخذ عنه ( نولدكه ) فيما بعد (١). ولعل من أطرف ما جاء به ( فايل ) :

في هذه الدراسة : ذهابه إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف القراءة والكتابة ، وأن القرآن يشير إلى ذلك ، ولكنه أخفق في الاستدلال المقنع في الموضوع (٢).

٣ ـ وجاء المستشرق الألماني الأستاذ ( نولدكه ) ( ١٨٣٦ م ـ ١٩٣٠ م ) ففتح لنا عمقا جديدا في الدراسات التأريخية للقرآن ، وكتابه : ( تأريخ القرآن ) ، هو الذي فتح هذا العمق الجديد ، وكان رسالته للدكتوراه واسمه ( أصل وتركيب سور القرآن ) جوتنجن ( ١٨٥٦ م ).

أ ـ ولما نمي إليه أن مجمع الكتابات والآداب في باريس قد وضع جائزة للتصنيف في موضوعه قصد ( جوتنجن وبرلين ) وغيرهما في طلب المزيد من المصادر لرسالته ، وتوسع فيها ونال جائزة المجمع عليها سنة ( ١٨٥٨ م ) ، ثم أعاد النظر فيها وترجمها إلى الألمانية ونشرها بعنوان : ( تأريخ النص القرآني ) جوتنجن ( ١٨٦٠ م ).

ب ـ وقد جدد طبع هذا الكتاب « شوللي » بعد تحقيقه والتعليق عليه ، ونشر في مجلدين ، ليزيج ، ( ١٩٠٩ م / ١٩١٩ م ).

ج ـ ونشر « براجشتراسر وبرتسل » الجزء الثالث منه في ليبزيج ( ١٩٢٦ م / ١٩٣٥ م ) (٣).

د ـ وقد عالج فيه بمنهجه العلمي الدقيق مشكلة تأريخ السور والآيات فجاء كتابه هذا أساسا مهما لكل بحث في هذا الموضوع ، وقد أعيد طبع

__________________

(١) ظ : رودي بارت ، المرجع السابق : ٢١.

(٢) ظ : د. عبد الصبور شاهين :

تأريخ القرآن : ٤٩ وما بعدها ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٦٦ م.

(٣) ظ : نجيب العقيقي ، المرجع السابق : ٧٣٨ وما بعدها.

٢٢

هذا الكتاب على يد « براجشتراسر » وغيره بعد تنقيحه واستكماله » (١).

هـ ـ وقد عدّه « دودي بارت » من أهمّ كتب ( نولدكه ) على الإطلاق حتى أصبح منذ زمن طويل كتابا أساسيا من كتب هذا الفرع من التخصص ، فقد حدد الكتاب سور القرآن بفتراتها المكية والمدنية ، وأوضح ميزات كل مجموعة من مجموعات السور من ناحية الأسلوب والمضمون تحديدا ممتازا.

و ـ ويعطي المجلّد الثاني من الكتاب كلّ ما يتطلبه الباحث من مؤلف علمي بهذا الحجم في موضوع جمع القرآن والمسائل المتصلة بذلك ، وينطبق هذا الكلام أيضا على المجلد الثالث الذي يعالج تأريخ النص القرآني ... ويكتمل هذا الكتاب بتكملة قيّمة من إنشاء ( نولدكه ) هي دراسته في لغة القرآن ، التي نشرت في مجموعة مقالات جديدة عن علم اللغات السامية ( ١٩١٠ م ) والتي تضم الأجزاء التالية :

القرآن والعربية ، وخصائص أسلوبية ، وخصائص تكوين الجمل في لغة القرآن ، وكلمات أجنبية مستعملة عن عمد وغير عمد في القرآن (٢).

ز ـ ويرى الأستاذ « بلا شير » أنه : بفضل « نولدكه » ومدرسته أصبح ممكنا من الآن فصاعدا أن نوضح للقارئ غير المطلع ما يجب أن يعرفه عن القرآن ، ليفهمه بتوعيته ، وليتخطى القلق الذي ينتابه في اطّلاعه على نص يغلب عليه الغموض (٣).

ح ـ ومع الجهد الكبير الذي بله « نولدكه » في تأريخ القرآن إلا أننا نجد موقفه أحيانا غريبا ومتناقضا ، ففي الوقت الذي يعقد فيه بكتابه فصلا بعنوان : ( الوحي الذي نزل على محمد ولم يحفظ في القرآن ) والذي يبدو فيه قائلا بالتحريف تلميحا ، نجده يصرح بذلك في مادة قرآن فيقول بدائرة

__________________

(١) ألبرت ديتريش ، الدراسات العربية في ألمانيا : ١٤.

(٢) ظ : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية : ٢٧.

(٣) ظ : البروفسور بلاشير :

القرآن ، نزوله ، تدوينه ، ترجمته ، تأثيره : ٢١.

ترجمة : رضا سعادة ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ١٩٧٤ م.

٢٣

المعارف الإسلامية : « أنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت » ويثني على هذا الموضوع الخطر في دائرة المعارف البريطانية ، مادة قرآن فيقول : « إن القرآن غير كامل الأجزاء » (١).

وهذا خلط عجيب لا يقوم على صحته دليل ، وهو غريب الصدور من هذا العالم الجليل ، وسنناقش هذا الموضوع فيما بعد عند عرض آراء الأستاذ بول فيه.

ط ـ وحينما ظهر كتاب المستشرق الألماني « فوللرز » عن لغة الكتابة واللغة الشعبية عند العرب القدماء ، أثار نقاشا حادا ، فقد زعم « فوللرز » في كتابه هذا أن القرآن الكريم قد ألف بلهجة قريش وأنه قد عدل وهذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية ، وقد انبرى ( نولدكه ) للرد عليه موضحا أن كلامه عار من الصحة والتحقيق العلميين (٢).

لقد فتح ( نولدكه ) الطريق أمام القول بتحريف القرآن ، ثم بدا مدافعا عنه مما بدا فيه متناقضا بين السّلب والإيجاب في الموضوع.

ي ـ وفي الوقت الذي يعجب فيه بسحر القرآن البلاغي ، وإعجازه البياني ، نراه في بحثه عن القرآن وأسلوبه في دائرة المعارف البريطانية تحت لفظ قرآن ـ والذي يعالج فيه عدة موضوعات من القرآن معالجة تتسم بالدقة حينا ، وبالتجني حينا أخر ـ يغمز أسلوب القرآن الكريم باعتباره أسلوبا قصصيا ينقصه التسلسل في طريقة الأخبار والسير ، ويرى في قصصه انقطاعا حتى ليصعب فهمها على من لم يطلع عليها في مصدر آخر. وانتقد في القرآن الكريم تكرير بعض الألفاظ أو العبارات تكريرا لا مسوغ له في رأيه!!!

وأشار إلى كثرة انتقال القرآن في خطاباته من صيغة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، فمن غيبة إلى خطاب ، ومن ظاهر إلى مضمر وبالعكس ، واعتبر ذلك مجالا للتجريح ، وأن رأي كل عالم أوروبي في القرآن بعد

__________________

(١) ظ : عبد الوهاب حمودة.

القراءات واللهجات : ٧٧ ، مطبعة السعادة ، القاهرة ١٩٤٨ م.

(٢) ظ : ألبرت ديتريش ، المرجع السابق : ١٣.

٢٤

الإمعان والتصفح بروح الإنصاف ، يأخذ عليه هذه الثغرات ، أما المتمسكون من أهل الإسلام فينكرون هذا الكلام ويرمون صاحبه بالالحاد (١).

ك ـ والحق أن ( نولدكه ) قد تطرق كثيرا في هذه الوجوه التي عرضها ، ومرده في هذا ـ مع حسن الظن ـ إلى عدم تمرسه في ضروب البلاغة العربية التي لا يدرك أبعادها إلا العرب الأقحاح ، ولعل في آرائه مزيجا بين الهراء والدس الذي لا يحمد عليه عالم مثله ، ومتى كان العالم جانبيا في التفكير ، أو هامشيا في التعليق ، أو سطحيا في الاستنتاج ، أخذت عليه هذه المآخذ الفجة.

ل ـ وقد تكفل الأستاذ أنيس المقدسي بالرد عليه فذهب أنه : « لا يجوز مقابلة هذا الأسلوب بأسلوب القصة في التوراة لاختلاف الغرض فيهما. ففي التوراة عدا أسفار الأنبياء والأمثال والأناشيد الروحية حوادث تأريخية منظمة تجري الأخبار مجراها الواضح العادي أما القرآن فإنه يشير إلى الحوادث التأريخية ، بوثبات أو بحملات روحية خطابية لا يقصد بها تسلسل الخبر ، بل يقصد بها إلى التذكير والتهويل. ولذلك ترد مرارا بحسب ما يقتضيه الكلام ، وكثيرا ما تروى عن سبيل الإشارة والتلميح ، والنسق الخطابي يقتضي التكرير كما هو معروف ... » (٢).

٤ ـ وقد تصدى بعض المستشرقين ـ بعد نولدكه ـ إلى دراسة جزء معين من تأريخ القرآن الكريم ، فهناك بحث للمستشرق الانكليزي ( أدوارس ) أسماه : ( التطور التاريخي للقرآن ) صدر في مدارس عام ( ١٨٩٨ م ) بحث به النزول المكي والمدني والتدوين والكتابة ولكنه جاء مختصرا لا يفي بالغرض.

٥ ـ وقد عرض لجزء من هذا التأريخ المستشرق المجري جولد تسهير ( ١٨٥٠ م ـ ١٩٢١ م ) في اقتضاب من مذاهب التفسير الإسلامي ولعل أبرز ما عنده إثارته لبعض المآخذ التي يمكن تلخيصها بما يلي :

__________________

(١) ظ : نولدكه ، مادة قرآن في :

. ١١, Ency. Brit. Edition

(٢) أنيس المقدسي :

تطوّر الأساليب النثرية في الأدب العربي : ٦١ ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ١٩٦٥ م.

٢٥

أ ـ إيراده الاختلاف في القراءات واعتقاده بأن ذلك كان عن هوى من القراء لا عن توقيف ورواية.

ب ـ تحميله القراءة ما لا تحتمل من المعاني والآراء من أجل إثبات أنها محض آراء لا نقل نصوص كما هو الحال في الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الفتح.

ج ـ تشكيكه في الزيادات الشارحة لنصوص القرآن هل هي من القرآن أو زيادة في تفسيره؟

د ـ ذهابه إلى أنه وجد بعض القراءات المتناقضة في المعنى ، والمختلفة في التأويل مما لا يمكن أن يجمع بينها ، واعتباره ذلك مخالفات جوهرية.

هـ ـ ذهابه إلى أن بعض الاختلاف في القراءات مرجعه إلى الخوف من أن تنسب إلى الله ورسوله صلى عليه وآله وسلّم عبارات قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجهة النظر الخاصة ، ما يمس الذات الإلهية العالية أو الرسول (١).

إن ما أثاره ( جولد تسهير ) عبارة عن فرضيات يصعب الاستدلال عليها ، ومحض اجتهادات بل تصورات ، تتنافى مع طبيعة البحث

الموضوعي ، وتحمل القضايا أكثر من وقائعها ، وقد تكفل الأستاذ ( عبد الوهاب حمودة ) بالرد على هذه الآراء المشتتة (٢).

٦ ـ وقد عرض المستشرق الألماني ( كارل بروكلمان ) ( ١٨٦٨ م ـ ١٩٥٦ م ) لتأريخ القرآن في الفصل الثاني من الباب الثاني من تأريخ الأدب العربي ، وقد خصص هذا الفصل الموجز له ، فعرض للوحي ، وجمل القرآن المؤثرة ، وأخطأ باعتباره القرآن يأخذ طابع سجع الكهان (٣).

__________________

(١) ظ : جولد تسيهر :

مذاهب التفسير : ٨ ـ ٢٠ ، ترجمة : د. علي حسن عبد القادر.

(٢) ظ : عبد الوهاب حمودة :

القراءات واللهجات ، الفصل العاشر : ١٨٢ ـ ٢١٣.

(٣) كارل بروكلمان :

تأريخ الأدب العربي : ١ / ١٣٧. ترجمة د. عبد الحليم النجار ، دار المعارف ، القاهرة ، ١٩٦٨ م.

٢٦

وكان مولر قد ذهب إلى أن القرآن من القوالب الشعرية ، وقد أيد ذلك ( جاير ) إلا أن ( نولدكه ) قد رفض ذلك وأيده ( بروكلمان ) في هذا الرفض (١).

وذهب ـ كما رجح تور أندريه ـ (٣٢) أن أسلوب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تأثر بموعظة التبشير المسيحي على لسان المبشرين العرب من جنوب الجزيرة. ولا يقوم على صحة هذه الدعوى أثر من القرآن ، أو لمح من التأريخ ، وكذلك ما ادعاه من وضوح التأثير النصراني في لغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطّراد (٢).

ولعل من المفيد عرضه لرفض لا جارد لاشتقاق كلمة : سورة ، من العبرية الحديثة ، بينما دافع عن ذلك ( نولدكه ) ، وتشكك فيه ( شفلي وبول ) الذي ذهب إلى أن اللفظ عربي أصيل (٣).

وتحدث ( بروكلمان ) بإيجاز عن التقسيم المكي والمدني وسيماء كل منهما ، وذهب إلى أن نجوما متفرقة من الوحي كانت قد كتبت في حياة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

ووثق المصحف العثماني ، وذهب إلى أن الكتابة فتحت مجالا لبعض الاختلاف في القراءة ... فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات (٥).

٧ ـ وتكاد أن تختتم الدراسة الرصينة لتأريخ القرآن بما كتبه المستشرق الفرنسي ( ريجيس بلاشير ) المولود ( ١٩٠٠ م ) في كتابه القرآن ، المكوّن من سبعة فصول ، اختصت أربعة منها في تأريخ القرآن على النحو التالي :

__________________

(١) بروكلمان ، المرجع نفسه : ١ / ١٣٧.

(٢) ظ : .FF ١٣٩ Tor Anderae, Der ursprung des Islams

(٣) بروكلمان ، المرجع السابق : ١ / ١٣٨.

(٤) المرجع نفسه : ٨ / ١٣٨+ دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : ٤ / ٦٠٦ ـ ٦٠٨.

(٥) بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ١ / ١٣٩.

٢٧

الفصل الأول : المصحف بنيته وتكوينه.

الفصل الثاني : الرسالة القرآنية في مكة.

الفصل الثالث : رسالة القرآن في المدينة.

الفصل الرابع : الواقعة القرآنية وعلوم القرآن (١).

وقد عالج بلاشير في الفصل الأول النقاط التالية :

أ ـ الأصل اللغوي لكلمة القرآن ، التي ربما تكون مأخوذة عن السريانية التي يرد فيها لفظ مشابه جدا لها في المعنى.

ب ـ فكرة التدوين القرآني ومرورها بثلاث مراحل : الأولى بعد إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، والثانية تبتدئ مع وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والثالثة بعد مقتل الإمام عليّ عليه‌السلام.

ولعل من المرجح بل المؤكد أن التدوين بدأ مع القرآن في مكة عند نزوله مباشرة.

ج ـ تلويحه أن في القرآن تحريفا لا بالمعنى الدقيق ، يعزى إلى الشيعة والخوارج ، وأن هذه الفرضية التي ساقها راجت عندهما ، ثم ينفي عن الامامية هذه التهمة لأنهم يعملون بالنص العثماني للقرآن.

وسنعالج هذه القضية فيما بعد عند موضعها من تأريخ القرآن.

د ـ يعرض تأريخيا إلى تقسيم القرآن إلى أجزاء والأجزاء إلى سور ، وتتابع السور بكون ذلك التنظيم توقيفيا ، وما تتميز به هذه الحلقات من تحذير وإنذار وقصص عذاب الغابرين.

هـ ـ ويصور حيرة القارئ غير العربي وموقفه السلبي من القرآن لأنه ييأس من فهم القرآن ، ثم يقترح لذلك بتجزئة القرآن في القراءة والتحليل ، لا أن يقرأ نصا متكاملا فيتعذر فهمه وتحليله (٢).

__________________

(١) المرجع نفسه : ١ / ١٤٠.

(٢) ظ : بلاشير : القرآن ، نزوله ، تدوينه ، ترجمته وتأثيره : ٢٣ ـ ١٠٦.

٢٨

ويبدو لي أن ( بلاشير ) في هذا الفصل قد اتكأ اتكاء ملحوظا على آراء ( نولدكه ) في الكتابة عن تأريخ النص القرآني لا سيما في ترجيحه في النهاية إلى مقترحاته بالتقيد بالمراحل الزمنية.

ويبحث ( بلاشير ) في الفصل الثاني :

أ ـ الرسالة القرآنية في مكة في تأكيدها على الانذار الإلهي وقيام الساعة وتصور الحساب الأخير ، والتذكير بالملذات الفردوسية ، بما يعتبر بحثا رائعا فيما وراء الغيب.

ب ـ التصريح بسمو المهمة التي كلّف بها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الحض على التوبة ، وإدانة الأغنياء ، والأمر بالصدقة ، بما يعتبر الجانب الإصلاحي للحياة الاجتماعية في القرآن.

ج ـ الخلوص إلى أن فترة هذه الدعوة في مكة تتمثل باثنتين وعشرين سورة تبتدئ بسورة الكهف وتنتهي بسورة النجم ، وهي نصوص موسعة ومختلفة العناصر (١).

ويتناول ( بلاشير ) في الفصل الثالث رسالة القرآن في المدينة على الشكل التالي :

أ ـ يعتبر الهجرة النبوية قد أحدثت تحوّلا أساسيا في حياة المسلمين بكون الإسلام قد تأطر اجتماعيا ودينيا بشريعة جديدة مرتبطة بوحي القرآن.

ب ـ تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن التوجيهات السديدة من السماء والتي تمكنه من مجابهة الصعوبات أيا كان نوعها.

ج ـ إبراز تحذير المؤمنين وتهديد المشركين في الآيات المدنية ، وإن كانت الأفضلية فيها لموضوعات أخرى تتعلق بالحياة السياسية والمسائل والنزاع المسلح ، بالإضافة إلى ما في المصحف من إيراد تهكم اليهود بالمؤمنين.

د ـ عرض موقف الإسلام الفني من الطوائف المسيحية في جنوب

__________________

(١) يبدأ الفصل الأول من : ١١ إلى ١٩.

٢٩

الجزيرة العربية التي بقيت على علاقات متواصلة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن القرآن يشجب طريقة التثليث مرارا ، بينما يستميلهم من جهة أخرى.

وقد عرض ( بلاشير ) هذا الموضوع عرضا جيّدا يقف به عند مقاومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعالم البيزنطي خاصة يوم سقوط مؤتة ، وهو الوقت الذي تساوى به النصارى واليهود في لعنة واحدة.

هـ ـ تحديد مسئوليات الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره زعيما دينيا ، مع ما هو موجود من المشاكل التي أثيرت مع الوثنيين وأهل البدو.

و ـ ويختتم هذا الفصل بما لمسه من السور المدنية من طرح لاستبدال النظام القبلي بنظام جديد ، كما طرحت التحديدات الجديدة بالعبادة والمحرّمات الجنسية والغذائية ، والأحلاف ، وبعض فروض الكفاية (١).

إن معالجة ( بلاشير ) لتأريخ المرحلة الإسلامية في المدينة من خلال القرآن تكاد تكون جيّدة جدا بغرضها الموجز ، وكثافتها التأريخية ، وتحديدها لأبرز النقاط الرئيسيّة التي مر بها النبي والقرآن معا.

وفي الفصل الرابع عرض ( بلاشير ) للواقعة القرآنية وأثرها في تكوين علوم القرآن بالشكل التالي :

أ ـ إنّ جميع التبليغات التي تلقاها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادرة من الله ذاته ، وأن الله كان قد ثبتها في لوح محفوظ.

ب ـ إن كتابة القرآن بلغة أهل مكة ـ باعتبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكيا ـ وإن مشكلة النموذج اللغوي المفهوم في شبه الجزيرة العربية قد طرحت لاهوتيا ، وقد عاد هذا النموذج موضوعا للدراسة فأنشئت في ضوئه قواعد النحو.

ج ـ بحث موضوع الرسم القرآني في الكتابة ، وتكوين مفردات هذه الكتابة من حروف أربعة أو خمسة ، بعضها صامت غير معلم ، إلا أن استظهار النص القرآني قد ستر هذه النواقص كما يدعي.

__________________

(١) يبدأ الفصل الثاني من : ٢٠ إلى : ٣٥.

٣٠

د ـ عرض لمدرسة القراءة ودور الواقعة القرآنية في تفتح النظريات النحوية ، وتأليف الدراسات في اللغة وتأريخها ، وطرح مسألة تعدد القراءات ، وأشار إلى مدرستي الكوفة والبصرة ، وقد اعتبر ذلك باعثا قويا على ازدهار الدراسات النحوية والمعجمية.

هـ ـ اعتبر علم البيان العربي منطلقا من القرآن ، وركز في الموضوع على الاعجاز القرآني ، وقناعة علماء البيان بأن القرآن يحتوي على جميع المواد الضرورية لهذا العلم ، مما شكل حالة حضارية زيادة على الجانب الأساسي وهو تكوين الشريعة (١).

إن الآراء التي أثارها بلاشير في الفصل الرابع قد عمدت إلى كشف الآثار الحضارية ، والقيمة التراثية ، والمناخ الأدبي للقرآن ، في تأسيس المدارس اللغوية ، وشحذ الفكر البلاغي ، وخلق القوة التعبيرية في البيان العربي.

ومما تقدم يبدو لنا أثر المستشرقين في دراسة تأريخ القرآن ، فالصيغة العلمية هي الطابع العام لها ، والهوى قد يصاحب بعض الأقلام. وقد عرضنا الجزء المهم من ذلك ، وناقشنا الجزء الآخر في حدود مقاييسنا في النقد والأدب.

٨ ـ وهناك مسألة مهمة تتعلق بتأريخ القرآن ، بل بقدسيته وتوثيقه ، وهي مسألة التحريف التي أثارها المستشرقون ، بكثير من عدم التورع ، وقد ألقت بثقلها عند الأستاذ بول ( Fr. Bull ) ، فكتب في موضوع التحريف بحثا في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية (٢).

اعتبر ( بول ) التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة وإن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود بتغيير ما أنزل إليهم من كتب وبخاصة التوراة. ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطئ

__________________

(١) يبدأ الفصل الرابع من : ٩٠ إلى : ١٠٥.

(٢) ظ : بول ، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : ٤ / ٦٠٤ ـ ٦٠٨.

٣١

أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود ، فكان في نظرهم مبطلا.

وهنا أثار الكاتب دعاوى لم يستطع أن يدلل على صحة واحدة منها على الإطلاق ، وكيف استنتج أن ما عرضه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شرائع اليهود انطوى على إدارك خاطئ ، وما هو مصدر هذا الزعم ومن صرح به ، وكيف أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبطلا في نظر اليهود؟ ولما ذا لم يذهب إلى تعصب اليهود في ذلك؟ وليته اكتفى بهذا بل أضاف من عنديّاته العجيبة بأن دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوى جريئة بأنه هو الذي يأتي بالنص الصحيح نظرا لأن كتب اليهود كانت مجهولة عند أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين بصدق كلماته ، وإذا كانت هذه الكتب مجهولة عند قومه ، فهل جهلت عند اليهود ، ولما ذا لم يعارض ذلك بدليل تأريخي عندهم.

وقد خلط الأستاذ ( بول ) في هذا البحث خلطا غير متناسق ، واكبته فيه النزعات المنحرفة ، وصاحبه إسراف وإفراط لا يمتان إلى استكناه الحقائق بصلة ، وقد تكفل بالرد على أغلب هفواته الأستاذ أمين الخولي (١).

والذي يهمنا من بحثه أن نشير إلى ما يلي :

أ ـ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه ، وإنما هو تعبير عن وحدة الديانات والشرائع والأنبياء في جميع الأطوار ، وأنّ أصول هذه الديانات واحدة ، وإن تغيير هذه الحقيقة الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ) النساء / ٤٦

وفي قوله تعالى : ( مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) ) النساء / ٤٦.

ب ـ إن الألفاظ التجريحية التي وردت في المقال بالنسبة للرسول

__________________

(١) ظ : المرجع نفسه والصفحات نفسها في الهامش.

٣٢

الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تتفق مع المنهج الموضوعي ، فقد أشار بل صرح بأن القرآن من تلقاء نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه تحدث في القرآن بطريقة مبهمة ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستعمل لفظ حرف بدل القرآن.

وهذه مواد لا يفترض بعالم أن يتولى التحدث بها بأسلوب الغمز واللمز وهو ما لا يقبل في بحث علمي ، ولسنا نرى ذلك غفلة أو هفوة بل هو تغافل وجفوة.

ج ـ ادعى الباحث أن خصوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذوا عليه نسخ بعض أحكام القرآن بأحكام أخرى مما حدا بعلماء المسلمين أن يذهبوا مذاهب شتى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتهام.

وبإيجاز نقول إن نسخ الأحكام شيء والتحريف شيء آخر ، فالنسخ لا يكون تحريفا ، وإنما هو إحلال لحكم مكان حكم ، أو دفع لحكم من الأحكام من قبل الله تعالى ، تخفيفا عن العباد ، أو رعاية لمصلحة المسلمين ، أو استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم ، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالشريعة أو بمعتنقيها ، ولا مجال إلى اللمز في هذه الناحية على ادعاء التحريف في القرآن.

د ـ يقول الباحث : « وقد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة. فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا وأثبتوا آيات في القرآن بغية محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد معززا لمذهبهم وقد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة » (١).

وهذا الكلام عجيب الصدور من هذا الرجل ، إذ أثار مسألة مهمة في أقدس أثر من تراث المسلمين ، ولم يعط دليلا واحدا على صحتها ، ولم يثبت مرجعا واحدا يتتبع هذا الاتهام.

والمسلمون جميعا قد اتفقوا على سلامة القرآن من التحريف ، فنصوصه هي النصوص نفسها التي نزلت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظت

__________________

(١) المرجع نفسه : ٤ / ٦٠٨.

٣٣

وستبقى محفوظة كما تعهد الله تعالى بذلك في الآية التاسعة من سورة الحجر ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) ) الحجر / ٩.

لقد كان الأجدر بالباحث أن يتناول الموضوع بشكل آخر ـ لو كان موضوعيا ـ فيعرض إلى آراء المسلمين بخلو القرآن من التحريف بدلا من تجريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبة ما لم يكن إلى المسلمين ، بما لا علاقة له بأصول البحث.

٣٤

الفصل الثاني

ظاهرة الوحي والمستشرقون

٣٥
٣٦

ما برحت حياة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة وبقدر ما عبئ للموضوع من أهمية واستعداد ، ومنهجية في أغلب الأحيان فما تزال هناك بقية للبحث. فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة ، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة.

هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتاريخ والآثار ، تتعلق بحياة الروحية قبل البعثة ، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة.

هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتاريخ والآثار ، تتعلق بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هامشيا ، تتخذ مجال الثناء والاطراء حينا ، وتتسم بطابع الحب والتقديس حينا آخر ، وهي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي الذاتية ولا تكشف عن مكنونات مثله العليا ، ذلك باستثناء الاجماع على عزلته في عبادته وتحنثه ، والاقتناع بصدقه وأمانته ، وهي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، وتقويمه الخلقي الرصين.

وتطالعنا ـ أحيانا ـ أحداث في تاريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، لها مداليل من وثاقة ، ورجاحة من عقل ، كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول ؛ وتميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة ، وكاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود ، ووضعه بموضعه من الكعبة اليوم. بما أطفأ به نائرة وأخمد فتنة.

وهناك انفراد عن شباب عصره بالحشمة والاتزان ، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر ، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها ، وفي غار حراء بخاصة ، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية ، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا.

٣٧

في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد ، ويفقد أبويه تباعا ، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن ، وبوفاته يوصي به لأبي طالب ، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد ، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة ، تكد وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران ، وفجأه الوحي الحق ، والتجأ إلى خديجة ، تزمله آنا ، وتدثره آنا آخر.

وينهض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته ، فتجد الدعوة مكذبين ومصدقين وتقف قريش بكبريائها وجبروتها في صدر الدعوة ، ويلقى الأذى والعنت من قومه وعشيرته الأقربين ، وفي حمأة الأحداث يموت كافله وزوجته في عام واحد ، فيكون عليه عام الأحزان ، فلا اليد التي قدمت المال للرسالة ، ولا الساعد التي آوى وحامى ، ويوحى إليه بالهجرة ، فتمثل حدثا عالميا فيما بعد.

هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطيل بها البعض ويوجز البعض الآخر ، وليست هي كل شيء في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تكون غيضا من فيض.

ولست في صدد تأريخية هذه الأحداث ، ولا بسبيل برمجتها لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث ، ولكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب.

ومهما يكن من أمر ، فقد تبقى طريقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنهجية في التوفيق بين واجباته ومهماته القيادية من جهة ، وبين حياته العامة ومساره الدنيوي من جهة ثانية لا تجد تأريخا يمثل بدقة ووضوح تامّين : المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم وهو في مكة المكرمة.

في المدينة المنورة حيث العدد والعدة ، والنصرة والفداء ، نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين :

الأولى : مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء ، وتذبذبهم أزاء الرسالة بين الشك المتمادي والتصديق الكاذب ، يصافحون أهل الكتاب تارة ، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى ، حتى ضاق بهم ذرعا ، ونهاهم القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا ، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان ، ولم ينقطع كيدهم ، فمثلوا ثورة

٣٨

مضادة داخلية تفتك بالصفوف وتفرق الجموع ، لو لا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف ، وهزائمهم المتلاحقة ، أثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية ، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت الرماد ، وعاصفة بين الضلوع ، تخمد تارة وتهب أخرى.

الثانية : مجابهته للفضوليين ، الذين كانوا يأخذون عليه راحته ويزاحمونه وهو في رحاب بيته ، بين أفراد أسرته وزوجاته ، فينادونه باسمه المجرد ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ، بما عبر عنه القرآن بصراحة :

( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) ) (١).

واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد ، فكانت الثرثرة والهذر وكان التساؤل والتنطع ، دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية فحد القرآن من هذه الظاهرة واعتبرها ضربا من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب ، فكانت آية النجوى :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) ) (٢).

وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكف الفضول ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسئولية القيادية ، ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله منها أمره ، نسخ حكمها ورفع ، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة مؤدبة وفريضة رادعة وتأنيب في آية النسخ :

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) ) (٣).

__________________

(١) الحجرات : ٤.

(٢) المجادلة : ١٢.

(٣) المجادلة : ١٣.

٣٩

كان هذا وذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوفيق بين واجباته القيادية ، وحياته الاعتيادية ، فأمام المنافقين نجد الحذر واليقظة يتبعهما الإنذار النهائي بإغراء النبي بهم ، وعند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة ، فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لا يعقلون. ويعظهم في الثانية بجعل مقامه متميزا فلا يخاطب إلا بصدقة ، ولا يسأل إلا بزكاة.

وما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحى إليه ، من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه ، والتفرغ لمسئولياته ، وهذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاصة مرتبطة بهذه الظاهرة وهي ظاهرة الوحي الإلهي ، ومدى الاتصال والانفصال بينها وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاجته الملحة إلى هذا الشعاع الهادي ، منذ البدء وحتى النهاية.

لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعا من الرسل ، ولم يختص بالوحي دونهم بل العكس هو الصحيح ، فقد شاركهم هذه الظاهرة ، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل.

قال تعالى :

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) ) (١).

فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء كافة ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص ، وإيثار موسى عليه‌السلام بالمكالمة وحده.

ويبقى التساؤل قائما ؛ بما ذا تفسر هذه الظاهرة ، وكيف تعلل نفسيا

__________________

(١) النساء : ١٦٣ ـ ١٦٤.

٤٠