جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



٩

فاطمة الزهراء عليها‌السلام

طفحت واستفاضت كتب الشيعة من صدر الاسلام والقرن الاول : مثل كتاب سليم بن قيس (١) ومن بعده الى القرن الحادي عشر وما بعده بل والى يومنا كل كتب

__________________

(١) كتاب جليل معتمد صنفه سليم بن قيس الهلالى المتوفى حدوج سنة : (٩٠) ه‍ من اولياء اميرالمؤمنين عليه‌السلام وصاحبه ومن خواصه.

وكتابه من الاصول الشهيرة المعتمدة عند الخاصة والعامة قال الامام الكبير النعمانى رحمه‌الله في كتاب الغيبة ما هذا لفظه : وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الائمة عليهم‌السلام خلاف في ان كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من اكبر كتب الاصول التي رواها اهل العلم وحملة حديث اهل البيت عليه‌السلام واقدمها لان جميع ما اشتمل عليه الاصل انما هو من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وامير المؤمنين عليه‌السلام والمقداد وسلمان الفارسي وابي ذر ومن جرى مجراهم ممن شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واميرالمؤمنين عليه‌السلام وسمع منهما وهو من الاصول التي ترجع الشيعة اليها وتعول عليها (اه‍).

وقال ابن النديم في الفهرست : هو اول كتاب ظهر للشيعة. ومراده انه اول كتاب ظهر فيه امر الشيعة كما اشير اليه في الحديث المروي عن الامام الصادق عليه‌السلام في توصيفه بانه ابجد الشيعة قال عليه‌السلام : من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من امرنا شيء ولا يعلم من اسبابنا شيئا وهو ابجد الشيعة وهو سر من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال القاضي بدرالدين السبكى المتوفى سنة : (٧٦٩) ه‍ في كتابه محاسن الوسائل في معرفة الاوائل : ان اول كتاب صنف للشيعة هو كتاب سليم بن قيس الهلالي (ا ه‍) ولكن القارىء العزيز خبير ان كتاب

٦١

الشيعة التي عنيت بأجوال الائمة ، وأبيهم الاية الكبرى وأمّهم الصدّيقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين ، وكل من ترجم لهم وألّف كتابا فيهم ، أطبقت كلمتهم تقريبا او تحقيقا في ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة : انها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها ولطموا خدّها ، حتى احمرّت عينها وتناثر قرطها ، و عصرت بالباب حتى كسر ضلعها ، واسقطت جنينها ، وماتت وفي عضدها كالدملج ، ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا والرزايا ، ونظّموها في أشعارهم ومراثيهم وأرسلوها ارسال المسلمات : من الكميت (١) والسيد الحميري (٢) ودعبل الخزاعي (٣) والنميري (٤) والسلامي (٥) وديك الجن (٦) ومن بعدهم ومن قبلهم الى هذا العصر ، وتوسّع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر والرابع عشر الذي نحن فيه ، كالخطي (٧) والكعبي (٨) والكوازين. (٩)

__________________

السنن تصنيف ابي رافع المتوفى في العشر الخامس الذي اشترى معاوية داره بعد موته هو مقدم عادة لي تصنيف سليم المتوفى سنة : (٩٠).

(١) الكميت الاسدى شاعر اهل البيت عليهم‌السلام وخطيب بني اسد وفقيه الشيعة توفى (١٢٦) ه‍

(٢) السيد الحميرى اسماعيل بن محمّد سيد الشعراء له شهرة طائلة وفضائل جمّة توفى ببغداد (١٧٩) ه‍

(٣) دعبل بن علي الخزاعي من مشاهير شعراء اهل البيت عليهم‌السلام صنف كتاب طبقات الشعراء توفى (٢٤٥) ه‍

(٤) النمري منصور بن سلمة الزبرقان الشاعر الجزري البغدادي شاعر اهل البيت عليهم‌السلام ومادحهم في ستار التقية توفى (٢١٠) ه‍

(٥) محمّد بن عبدالله السلامي البغدادي الشهير من أشعر شعراء العراق قال الشعر وهو ابن عشر سنين في المكتب توفى (٣٩٣) ه‍

(٦) عبدالسلام الملقب بديك الجن استاد ابي تمام ولقيه أبونواس في « حمص » لانه لم يخرج منها فلم يذهب للعراق ولا لغيرها من الاقطار توفى (٢٣٦) ه‍

(٧) راجع ترجمتهما في شعراء الغري للشيخ علي الخاقاني النجفي صاحب « مجلة البيان » الصادرة في النجف الاشرف.

(٨) راجع ترجمتهما في شعراء الغري للشيخ علي الخاقاني النجفي صاحب « مجلة البيان » الصادرة في النجف الاشرف.

(٩) الشيخ حمادى الكواز توفى (١٢٨٣) ه‍ ولم يتجاوز عمره (٣٨) سنة واخيه الشيخ صالح المواز

٦٢

وآل السيد مهدى الحلّيين (١) وغيرهم ممن يعسر تعدادهم ، ويبفوت الحصر جمعهم وآحادهم ، وكل تلك الفجائع والفضائع وان كانت في غاية الفظاعة والشناعة ومن موجبات الوحشة والدهشة ولكن يمكن للعقل ان يجوزها وللاذهان والوجدان ان يستسيغها ، وللافكار ان تقيلها وتهضمها ، ولاسيما وان القوم قد اقترفوا في قضية الخلافة وغصب المنصب الالهي من أهله ما يعد أعظم وأفظع.

ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدّها مما لايكاد يقبله وجداني ويتقبله عقلي ، يقتنع به مشاعري ، لالأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة ، بل لان السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركزتها الشريعة الاسلامية وزادتها تأييداً وتأكيداً تمنع بشدة أن تضرب المرأة أو تمد اليها يد سوء ، حتى أن في بعض كلمات أميرالمؤمنين عليه‌السلام ما معناه : أن الرجل كان في الجاهلية اذا ضرب المرأة يبقى ذلك عاراً في أعقابه ونسله.

ويدلّك على تركّز هذه الركيزة بل الغريزة في المسلمين وأنها لم تفلت من أيديهم وان فلت منهم الاسلام : أن ابن زياد وهو من تعرّف في الجرأة على الله وانتهاك حرماته لما فضحته الحوراء زينب عليها السلام ، وأفلجته وصيّرته أحقر من نملة ، وأقذر من قملة ، وقالت له ثكلتك أمك يا ابن مرجانة ، فاستشاط غضبا من ذكر أمه التي يعرف أنها من ذوات الاعلام ، وهمّ أن يضربها ، فقال له عمرو بن حريث وهو من رؤوس الخوارج وضروسها انها امرأة لاتؤاخذ بشيء من منطقها ، فاذا كان ابن مرجانة امتنع من ضرب العقيلة خوف العار والشنار وكلّه عار وشنار ، وبؤرة

__________________

توفى (١٢٩٠) ه‍ وعمره (٥٧) سنة ونجله الاصغر الشيخ عبدالحسين الكواز ابن الشيخ صالح المذكور توفى حوالى سنة : (١٢٩٥) ه‍ وهو ابن نيف وعشرين سنة تقريبا.

انظر البابليات ، ج ٢ ، ص ٥٨ ـ ٨٧ ـ ١٠٨ للشيخ محمّد علي اليعقوبي الخطيب.

(١) انظر الى تراجمهم في البايليات للخطيب الشيخ محمّد علي اليعقوبي رحمه‌الله.

٦٣

عهار مع بعد العهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف لا يمتنع اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قرب العهد به من ضرب عزيزته ، وكيف يقتحمون هذه العقبة الكؤود ولو كانوا أعتى وأعدى من عاد وثمود. ولو فعلوا او همّوا أن يفعلوا أما كان في المهاجرين والانصار مثل عمرو بن حريث فيمنعهم من مدّ اليد الاثيمة ، وارتكاب تلك الجريمة ، ولايقاس هذا بما ارتكبوه واقترفوه في حق بعلها سلام الله عليه ـ من العظائم حتى قادوه كالفحل المخشوش فان الرجال قد تنال من الرجال ما لاتناله من النساء.

كيف والزهراء سلام الله عليها شابّة بنت ثمانية عشر سنة ، لم تبلغ مبالغ النساء واذا كان في ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع ، ويزيدك يقينا بما أقول أنها ـ ولها المجد والشرف ـ ما ذكرت ولا أشارت الى ذلك في شيء من خطبها (١) ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي ألقتها في المسجد على المهاجرين والانصار ، وكلماتها مع أميرالمؤمنين عليه‌السلام بعد رجوعها من المسجد ؛ وكانت ثائرة متأثرة أشد التأثر حتى

__________________

(١) لعل عدم اشارة الصديقة الطاهرة سلام الله عليها الى اعمال القوم من الضرب اللطم وكذا عدم اشارة اميرالمؤمنين عليه‌السلام الى تلك الاعمال الصادرة منهم في حق الزهراء البتول عليه‌السلام انما هو من جهة عدم الاعتناء لما صدر منهم من تلك الاعمال الرذيلة فان الاكابر والاعاظم من الرجال فضلا عمن هو في مقام العصمة والولاية لا يعبأون بما يصدر من الاراذل والاخسة في حقهم من الوهن وعدم رعاية الاحترام بمثل الضرب واللطم فان تلك الاشخاص في انظارهم المقدسة كالانعام بل هم اضل ، فهل ترى ان حيوانا اذا ركض شخصاً جليلا ان يقابله بمثل عمله وسوء صنيعه ؟ أو يأتى هذا الشخص الى حشد من الناس واندية قوم شاكيا من عمل هذا الحيوان ؟ بل اذا خاطبهم الجاهلون بالاقوال الشائنة والافعال الشنيعة كالضرب واللطم والشتم وامثالها مروا كراما وقالوا سلاما وكان عدم اشارة اميرالمؤمنين عليه‌السلام وكذا الصديقة الطاهرة عليهم‌السلام الى اعمال القوم لهذه العلة ، واما شكواها من غصب الخلافة وغصب فدك فان لهذين الامرين من الاهمية والاعتناء ما ليست لغيرهما.

وقضية مالك الاشتر وسخرية رجل ووهنه عيه وعدم اعتنائه له معروفة فماظنك بسيده وسيد الموحدين اميرالمؤمنين عليه‌السلام وسيدة نساء العالمين عليها‌السلام ولكن شيخنا الاستاذ رحمه‌الله هو اعرف وابصر بما جادت به يراعته الشريفة ، عليه من الله تعالى شآبيب الرحمة.

٦٤

خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها ، فقالت له : يا ابن ابيطالب افترست الذئاب وافترشت التراب ـ الى ان قالت : هذا ابن ابي فلانة يبتزني نحلة أبي وبلغة ابني ، لقد أجهد في كلامي ، والفيته الالد في خصامي ، ولم تقل أنه او صاحبه ضربني ، او مدّت يد اليّ وكذلك في كلماتها مع نساء المهاجرين والانصار بعد سؤالهن كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ فقالت : اصبحت والله عائفة الدنياكن ، قالية لرجالكن ، ولا اشارة فيها الى شيء من ضربة او لطمة ، وانما تشكو أعظم صدمة وهي غصب فدك واعظم منها غصب الخلافة وتقديم من أخّر الله وتأخير من قدّم الله ، وكلّ شكواها كانت تنحصر في هذين الامرين وكذلك كلمات اميرالمؤمنين عليه‌السلام بعد دفنها ، وتهيّج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم ، حيث توجه الى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك الى آخر كلماته (١) التي ينصدع لها الصخر الاصم لو وعاها ، وليس فيه اشارة الى الضرب واللطم ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع ، ولو كان شيء من ذلك لأشار اليه سلام الله عليه ، لان الأمر يقتضى ذكره ولايقبل ستره ، ودعوى أنها أخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لايمكن اخفاؤها.

وأما قضية قنفذ وأن الرجل لم يصادر أمواله كما صنع مع سائر ولاته وأمرائه وقول الامام عليه‌السلام : انه شكر له ضربته فلا أمنع من أنه ضربها بسوطه من وراء الرداء وانما الذي استبعده او أمنعه هو لطمة الوجه وقنفذ ليس ممن يخشى العار لو ضربها من وراء الثياب او على عضدها (٢) وبالجملة فانّ وجه فاطمة الزهراء هو

__________________

(١) نقلها سيدنا الرضى رحمه‌الله في نهج البلاغة فراجع.

(٢) يظهر من هذا الكلام ان مراد شيخنا الامام رحمه‌الله من اول هذا المقال الى آخره هو استبعاد ان تصل يد

٦٥

وجه الله المصون الذي لايهان ولايهون ويغشى نوره العيون ، فسلام الله عليك يا أم الائمة الاطهار ما اظلم الليل وأضاء النهار ، وجعلنا الله من شيعتك الابرار ، و حشرنا معك ومع ابيك وبنيك في دار القرار.

__________________

أثيمة من أجنبي الى بدن الصديقة الطاهرة ووجهها سلام الله عليها بالضرب واللطم وهذا الاستبعاد في محله فانه لايمكن ان يصل يد اجنبي الى بدنها قطعاً واما الضرب من وراء الثياب والرداء فلا استبعاد في ذلك في نظره رحمه‌الله كيف وقد طفحت واستفاضت كتب الشيعة من صدر السلام الى اليوم واطبقت كلمتهم أنها ضربت بعد ابيها حتى كسر ضلعها واسقطت جنينها وماتت وفي عضدها كالدملج. ووافقهم على هذا الرأي كبير علماء المعتزلة ورئيسهم ابراهيم بن سيار البصري المعروف بالنظام المتوفى (٢٢١) ه‍ استاذ الجاحظ ، قال : ( كما في الجزء الاول من كتاب الملل والنحل للشهرستانى ، ص ٧٧ ، ط مصر ١٣٨٦ ه‍ ) ما هذا لفظه : ان عمر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتى القت المحسن من بطنها وكان يصيح احرقوا الدار بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. (ا ه‍)

وهكذا نقله عنه صلاح الدين الصفدي في الوافي بالوفيات كما في العبقات للعلامة السيد حامد حسين الهندى رحمه‌الله.

وقال المورخ الكبير على بن الحسين المسعودي رحمه‌الله في كتابه « اثبات الوصية » ما هذا لفظه : اقام اميرالمؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجهوا الى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى اسقطت محسنا وأخذوه بالبيعة فامتنع وقال لاافعل فقالوا نقتلك فقال ان تقتلوني فاني عبدالله واخو رسول الله وبسطوا يده فقبضها ، وعسر عليهم فتحها فمسحوا عليها وهي مضمومة (ا ه‍) انظر ص ١٢١ = ١٢٢ ط النجف. وصريح قول المسعودى رحمه‌الله : وبسطوا يده فقبضها ...

أن الامام اميرالمؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبابكر فما يلهج به بعض الجهال من النواصب أن الامام عليه‌السلام بايع الثلاثة فهو من الاغلاط فانه ان اراد الرضا والتسليم والبيعة حقيقة فلم يبايع اميرالمؤمنين عليه‌السلام ألبتة بهذا المعنى على وجه من الوجوه فعلى من ادعى ذلك اثباته ولا دليل له ، وان اراد بالبيعة اظهار السلم مراعاة لمصلحة الاسلام والمسلمين وخوفاً على نفسه وأهله مع عدم الاعوان ولكن مع مطل شديد وتقاعد طويل علمهما الخاص والعام ممن روى السير فذلك مما وقع منه عليه‌السلام ولاضير في ذلك كما وقد حقق المطلب علمائنا الاكابر في كتب الكلام فراجع الى الشافي للسيد رحمه‌الله والى تلخيصه للشيخ رحمه‌الله حتى تجد المطلب واضحاَ مكشوفاً ولايعبأ بأقوال الجهال من أعداء اهل البيت الطاهر عليهم‌السلام حيث / يذكرون أمثال هذه المطالب التي أجاب علمائنا عنها قديماً وحديثاً ، فأي فائدة في تكرارها.

٦٦



١٠

عليٌّ عليه‌السلام فوق العبقريات

شاع في هذه العصور الاخيرة بين حملة الاقلام والمؤلفين في أرض الكنانة النتاج مؤلفات تنشر بعنوان ( العبقريات ) أي عبقرية كبير من رجالات الصدر الاول في الاسلام ، فهذا عبقرية الخليفة الاول ، وذاك عبقرية الثاني وهكذا ، وفي غضون هذه المحاولات او الحالات وردتني برقية مفصلة من جماعة من شخصيات ممن لهم مكانة في العاصمة يندبوني فيها أحرّ ندبة الى تأليف كتاب في عبقرية الامام ( علي بن ابيطالب ) سلام الله عليه ؛ ويتعهدون بنشره من فوره ، فكتبت اليهم معتذراً بأني لم أجد في نفسي كفاية لايفاء هذا الموضوع حقه ، وما كانت القضية قضية اعتذار ومدافعة بل هي حقيقة راهنة ، وقضية مبرهنة فان الكتابة عن عبقرية شخصية بارزة كالخليفة الاول او الثاني أمر ممكن ، وموضوع قريب التناول ، ليس بينك و بينه الا أن تراجع كتب التاريخ ، وهي على طرف التمام منك فتذكر فتوحهم وخدماتهم للاسلام ، كحرب أهل الردّة ، وتنفيذ جيش أسامة ، وتجهيز الجيوش الى حروب القادسية والشام وما الى ذلك : أما الكتابة عن شخصية كعلي بن أبى طالب عليه‌السلام الذي لا تعد مناقبه ، ولا تحصى فضائله بل لو أراد الكاتب مهما كان

٦٧

ان يكتب في كل واحدة من مزاياه وخصائصه مؤلفا ضخما لما استطاع أن يوفيها حقها ، ويستوفى جميع خصوصياتها ، انظر مثلا الى شجاعته ومواقفه في سبيل الدعوة الى الاسلام وتضحياته العظمى وهو ابن عشرين أو دونها.

أنظر كيف اشتبك مع مشاهير الفرسان ، وبارز جمهرة الابطال الذين يعد واحدهم بألف ، فغلبهم وسقاهم الحتف ، وهو يومئذ غلام لم يمارس الحروب. ولم يتمرّن على التقحم في لهوات المنايا ؛ وقد سارت بل صارت وقائمة ؛ وفوزه الباهر فى بدر وأحد وحنين والاحزاب وما اليها ، نعم سارت مسير الامثال ولاحاجة الى ذكره ، ولكن لو أراد الكاتب مهما كان مطلعا ومضطلعا بالكتابة ، ومالكا أعنة البيان أن يستوفى خصوصيات هذه الشجاعة من صبى نشأ وتربى في بيت أبيه شيخ البطحاء أبى طالب ، وفي حجر ابن عمه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ربيب نعمة ، وفي ظل راحة ودعة ، لم ينشأ في الصحاري والقفار والبيداء ولم يتعلّم الفروسية وتقحم الهيجاء ، فمن اين أخذ هذه الدروس ؟ وكيف استطاع التغلب على تلك النفوس ؟ نعم لو اراد الكاتب تحليل هذه القضية المعمّاة ، واستكناه أسرارها وبواعثها وتطبيقها على مجاري العادة نكص حائراً ووقف مبهوتا ، دع عنك صفين والجمل والنهروان وهو شيخ كبير قد لهزة القتير (١) فلم يختلف حاله في الشجاعة والبسالة بين ابان صباه وهو ابن العشرين وبينها وقد جاز عتبة الستّين ، وهكذا لو أراد ان يكتب عن بلاغته ، ومعجز يراعته في كلماته القصار ، والجمل الصغار فضلا عن خطبه الطوال كالقاصعة والاشباح والملاحم ، وخطبه في وصف الطاووس والخفاش وأمثالها.

نعم لو أردت ان تدفع الكاتب الى ان يكتب عن بلاغة « نهج البلاغة » فقد

__________________

(١) القتير اول الشيب ، ولهزه خالطه والمعنى خالطه الشيب. ( الفقيد الامام )

٦٨

يهون عليه قلع كل واحد من أضراسه دون ان يتسلّق هذه العقبة الكؤود وهكذا كل واحدة من مزاياه وخصائصه التي اختصّ بها ، ولم يشاركه أحد فيها من الكبراء في صدر الاسلام : مثل سبقه الى الاسلام ، وعدم سجوده لصنم ، وما عبد غير الله جل شأنه ، ولاشرب خمراً في جاهلية ولا اسلام ، أما لو ضربت بفكرك الى زهده وعزوفه عن الدنيا جراب سويق الشعير الذي يحدثنا عنه الاحنف بن قيس (١) حين وصفه لمعاوية سويق الشعير الجاف بنخالته الذي عاش عليه طيلة حياته وهو خليفة المسلمين ، واميرالمؤمنين ، والاموال تجبى اليه من خراسان الى الكوفة ؛ وهو يقول : ألاوان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ؛ فوالله ماكنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالى ثوبي طمراً. (٢) فهل يستطيع المتبحّر والمتحرى أن يأتينا بشخص منذ عرفت الدنيا نفسهما ، وعرفها أهلها ، يحوي واحدة من هذه الصفات بتلك الخصوصيات وهذا الذي ذكرناه قطرة من بحر ولحظة من دهر ، (٣) وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه :

__________________

(١) أحنف بن قيس أبو بحر التميمي السعدي البصري تابعي كبير من العلماء الخكماء ولد في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصحبه قال ابن الاثير : انه كان أحد الحكماء الدهات العقلاء (ا ه‍).

وكان لجلالته اذا دخل المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة لاتبقى حبوة الا حلت اعظاما له شهد صفين مع أميرالمؤمنين عليه‌السلام وبقى بعده الى زمان تولى مصعب بن الزبير على العراق وتوفى بالكوفة سنة : (٦٧) ه‍

أنظر الى تنقيح المقال ، والكنى والالقاب للمحدث القمي (ره) وأسد الغابة وغيرها.

(٢) ذكر اميرالمؤمنين عليه‌السلام هذه الكلمات النيرة في كتاب له عليه‌السلام الى عثمان بن حنيف الانصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه انه دعى الى وليمة قوم من اهلها فمضى اليها. انظر الى نهج البلاغة ، الطمر ـ بالكسر ـ الثوب الخلق.

(٣) وقد وصف ضرار بن ضمرة الكنانى أميرالمؤمنين عليه‌السلام في مجلس معاوية حين ما دخل ضرار عليه فقال له : صف لي عليا فقال له : أو تعفيني ؟ فقال : لا أعفيك. قال اما اذ لابد فانه كان بعيدا لمدى شديد القوى يقول فصلا ،

٦٩

يا على ماعرف الله الاّ أنا وأنت ؛ وماعَرَفَنا الاّ الله.

وعلى افتنان الواصفين بوصفه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وان كان أعلى منه درجة او درجات ، ولكن عليٌّ عليه‌السلام الذات المترفعة عن أفق البشرية المتصلة بالعوالم الملكوتية فليست هي من ذوات العبقريان بل تجدها مشابهة للانبياء ، فوق المخلوق دون الخالق ، فلا يستطيع بشر أن يدركها او يأتي على خصوصيات مزاياها الا بمقدار ما يرى الناظر المتطلع الى أسمى كوكب في وسط السماء لا يبصر منه سوى ضوئه ، ولايعرف شيئا من حقيقته وكنهه باقي مزاياه ، فعبقرية على بن ابى طالب عليه‌السلام عبقرية روحانية ربوبية لا عبقرية بشرية ، فلا يستطيع البشر أن يتطرقها ويحيط الا بالحواشي والوتوش (١) منها. فانها خارجة عن مقايس العقول ومدارك أفهام الانام ، فيا اليها الناس لا تظلموا عليا عليه‌السلام وهو في الدار الأخرى كما ظلمه أسلافكم يوم كان في هذه الدار الدنيا ، ولو لم يكن له الاّ قوله : ما هلك امرء عرف قدره وقيمة كل امرء ما يحسنه ، وقوله : الظلم مودع في النفوس : القوة تبديه والعجز يخفيه ؛ لكفى. وهذه شعاعة من انواره الساطعة وأثماره اليانعة وكلمة الختام أن علياً ـ وعلى ذكره آلاف التحية والسلام ـ فوق العبقريات ولا يقاس بمقاييس العقول.

__________________

ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة نواحيه ( عن لسانه ) يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة. يقلب كفيه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ( جشب ) كان والله كاحدنا يدنينا اذا أتيناه ، ويجيبنا اذا سألناه ، وكان مع تقربه الينا وقربه منا لانكلمه هيبة له فان تبسم فعن مثل لؤلؤ منظوم ، يعظم اهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوى في باطله ، ولايبأس الضعيف من عدله ... الخ.

انظر نهاية الارب لشهاب الدين احمد بن عبدالوهاب النويرى ، ج ٣ ، ص ١٧٦ ط مصر ، وروى هذه القصة بتمامها العلامة الكراجكي رحمه‌الله باسناده في كتابه القيم « كنز الفوائد » ص ٣٧٠ ط تبريز فراجع.

(١) الوتش القليل من كل شيء.

٧٠

اما الهدى هل أبدع الله آية

لمعناه أسمى منك شأنا وأشمخا

كم استصرخ الاسلام يدعو فلم يجد

لصرخته الا حسامك مصرخا

وكم شاد للتوحيد عرشا من الهدى

وهد عروش المشركين ودوخا

وهل فاح للاصحاب نشر ولم يكن

بديع مزاياك العبير المضمخا

ولو وجد المختار مثلك فيهم

لما اختار أن تغدو له دونهم أخا

فمن ذا الذي قد ذب عنه بسيفه

ومن ذا الذي بالنفس من دونه سخا

لذا اختصه يوم الغدير برتبة

ذووا الغدر فيها كيدهم قد تفسخا

بها عقد البارى على الخلق بيعة

الى الحشر لا تزداد الا ترسخا

فأصبح مولى المؤمنين وعندها

أتى نحوه الثاني ( فحيا وبخبخا )

وسرعان ماخفوا لنقص عهدوهم

فيالك من عهد مع الغدر أرخا

وقد تنسخ الايام فضلا لذى حجى

وفضلك يأبى أن يزول وينسخا

فان حاولوا ان ينقصوك قلامة

على رغمهم تزداد بالفخر فرسخا

نبوة حق عاضدتها امامة

ولكن بوحدانية الحق أرخا

فيا ( جنة الفردوس ) حسبك جنة

من الناران حط العذاب ونوخا

فأنت امام الحق ان ضلت الورى

وأنت الرخا للخلق ان اعوز الرخا

٧١
٧٢



١١

يوم التاسع من ربيع الأوّل

أخبرونا عن أيام الربيع العشرة المنسوبة الى فرحة الزهراء سلام الله عليها ومتى فرحت والرجل طعن في اليوم السادس والعشرين من ذى الحجة ، ومات يوم التاسع والعشرين منه وذلك بعد وفاتها فكيف فرحت ؟

الجواب

ان المعروف عند كثير من الشيعة من قديم الزمان ان هذه الايام أيام فرح وسرور ، كما ذكر ذلك سيد ابن طاووس في الاقبال حيث قال : وجدنا جماعة من العجم والاخوان يعظمون السرور في هذا اليوم اي اليوم التاسع من ربيع ويذكرون انه يوم هلاك كذا ، وأشار الى الرواية الضعيفة المنسوبة الى الصدوق وقال السيّد رضوان الله عليه : لم أجد رواية يعتمد عليها تؤيد تلك الرواية ، ولكن لعل فرح الشيعة بذلك اليوم من جهة ان الامام الحسن العسكرى سلام الله عليه توفّي على أصح الروايات يوم الثامن من ربيع الاول ويكون يوم التاسع أول يوم من امامة الحجة عجل الله فرجه ، فينبغى أن يتخذه المؤمنون عيداً كما يتخذ الناس أيام

٧٣

جلوس ملوكهم عيداً ، ثم ذكر بعض التوجيهات لاحتمال كون قتل الرجل في ربيع وكلّها في غاية البعد ، انتهى ما أفاده قدس سره مع شرح وتوضيح منا.

وأقول ايضا ويحتمل أن يكون سبب فرحة الزهراء سلام الله عليها هو أن اليوم التاسع والعاشر من ربيع الاول هو يوم اقتران ابيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيد الكائنات بوالدتها البرّة الطاهرة خديجة الكبرى ولاشك ان الزهراء كانت تظهر الفرح والسرور بذلك اليوم من كل سنة افتخاراً بذلك الشرف العظيم والخير العميم ، ويكون قد بقيت عادة اظهار هذا الفرح متوارثا عند مواليها من الشيعة في ذلك اليوم كل سنة ، ولكن على مرور السنين جهلوا السبب ثم حورة بعض الدساسين الى غير وجهه الصحيح ؛ وبقى الاسم عندهم وهو فرحة الزهراء عليه‌السلام والسبب مجهولاً.

وانما الفرح والسرور ان يجلس المؤمنون في نواديهم الخاصة ويتلون القصائد والاشعار البديعة في مدائح اهل البيت عليهم‌السلام وذكر مناقبهم ولو بالأصوات الحسنة التي لم تبلغ حدالغناء المحرّم وفقنا الله جميعاً للاعمال الصالحة والتجارة الرابحة في الدارين ان شاء الله.

٧٤



١٢

هل النار محرّمة على ذرية الزهراء عليها‌السلام ؟

الأوّل

حدثتنا طائفة من الأخبار أن ذريّة الزهراء عليها السلام قد حرمت عليهم النار حتى لو كانوا من المخالفين ، نعم يستثنى منهم من ادّعى الإمامة لنفسه في تفسير قوله تعالى ؛ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الاية ؟.

الجواب

يخطر على بالى كلام (١) للامام الرضا عليه‌السلام مع أخيه زيد المعروف بزيد النار الذي خرج على المأمون ولما ظفر به عفى عنه ووهبه للامام عليه‌السلام فقال الامام لزيد ما مضمونه او لفظه : أغرّك يا زيد ما بلغك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ان الله حرّم فاطمة

__________________

(١) غير خفى على الباحث المتأمل ان كلام الامام الرضا عليه‌السلام غير خال عن شائبة التقية ومصلحة الوقت في قبال سلطة المأمون مضافاً الى أن ما صدر عن زيد كان من حقوق الناس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل حسب ونسب ينقطع يوم القيامة إلاّ حسبي ونسبي. والاولى أن يبقى جواب هذا السؤال مبهماً والعلم عند الله تعالى. فان المطلب يحتاج الى تحقيق عميق وبسط في الكلام.

٧٥

وذرّيتها على النار ، فانّ ذلك مختص بذرّيتها من صلبها كالحسن والحسين وزينب سلام الله عليهم ، والادلة القطعية عقلية تؤيد ذلك وتدل عليه كالحديث المشهور : خلق الله الجنة لمن أطاعه الخ ، نعم باب العفو والشفاعة والغفران باب آخر ولايختص بأبناء فاطمة سلام الله عليها بل يعمّ جميع شيعتها ومواليها ، والجميع ابنائها بالبنوّة الروحانية ـ رزقنا الله شفاعتها والموافات على ولايتها.

الثاني

لقد سجّل لنا التاريخ المتواتر في تصرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته في هذا العالم ( أي عالم المادّة ) بل وفي العوالم الاخر كعالم المثال ، وعالم الصورة ، حتى انتهت الحقيقة المحمدية الى عالم السرمد كما في حديث الاسراء ، وكسَير أميرالمؤمنين عليه‌السلام من المدينة الى المدائن ، وكصلاة ألف ركعة ، وكجواب الجواد عليه‌السلام عن ثلاثين الف مسألة في مجلس واحد وكما أخبرتنا صوادر قدسية من الله عزوجل كقضية عزرة و عزير وأمثالها لأمثالهم ، فهل صدور هذه الكرامات منهم الاّ تصرف في الأكوان في الأكوان كقصر الدهر ومدّة وهي ليست محالات عقلية لايجوز وقوعها ؟ فأرجو الجواب المقنع لأهل العصر الرّاقي مهد الحضارة المدنية ؟

الجواب

القضية تحتاج الى مزيد بسط وسعة ببيان لايسع المقام منه الا الاجمال والاشارة وهو أن العوالم أربعة : اللاهوت ؛ والجبروت؛ والملكوت ؛ والملك والثلاثة الاولى كلّها مجردة عن المادّة والمدّة ، أما عالم الملك وهو العالم المادّى وماتحت العرش فهو قسمان : قسم يحتاج الى مادة فقط وهو عالم الافلاك والكرات النيّرة المعلّقة في الفضاء التي ينشىء الزمان من حركاتها فتكون المدة ؛ وقسم يحتاج الى مادة ومدّة

٧٦

معاً وهو عالم الصنع وما تحت فلك القمر ، وكل عالم له الهيمنة على مادونه والتصرف فيه ، فعالم الملكوت المجرد عن المادة والمدة له التصرف في عالم الملك للابداع والايجاد من دون اعداد ولا استعداد ، ولا مادة ولا امتداد ، وبهذا المفتاح تنحل جميع المشكلات في باب المعجزات والعروج ( الجسماني ) وأضرابها ، فان العبد اذا تحقق بحقيقة الحق وتخلق بأخلاق الروحانيين غلبت عليه صفات الأرواح المجردة وصار له السلطنة على العوالم المادّية يتصرف فيها كيف شاء بمشية الله ؛ (١) فكما انه جلّ شأنه يوجد المادة من غير مدة ولا مواد ولاقوّة ولا اعداد ولا استعداد فكذلك وليّه أو نبيّه ، وبالجملة فالوجودات المجردة أو العقول الفعالة ( والمدبّرات أمراً ) كما في لسان الشرع تمرّ على الزمان ولايمرّ الزمان عليها و تحكم على المادة ولاتحكم المادة عليها ، والمادة التي تعلقت بها كأجسامها العنصرية الشريفة مقهورة لروحها المجردة ويجرى عليها حكم التجرد فلا يعوّقها عن الاتصال بالملاء الأعلى فضلا عن الأدنى عائق ، وهذا رمز واشارة ولامجال للبسط ولكنه من طريقة الفلسفة الالهية والحكمة الروحية ، وأما من حيث الحكمة

__________________

(١) وممّا هو جدير بالذكر هنا ان لبعض المحققين في تحقيق تعدد الامكنة كلمة قيمة لامجال في المقام لذكرها تفصيلا واما اجمالها انه قسم المكان على ستة أقسام ثلاثة منها للاجسام : من الاجسام الكثيفة والمتوسطة واللطيفة ، وثلاثة منها للارواح الادنى والوسطى والعليا ويختلف تزاحم الاجسام في تلك الامكنة بعضها مع بعض وعدمه وسرعة الحركة واليسر ايضا فيها مختلفة وللانبياء والاولياء المعصومين عليهم‌السلام مراتب ودرجات ولهم بحسب نفوسهم القدسية القدرة والاستعداد بالتصرف في جميع تلك الامكنة والاحاطة بجميع عالم الملك والملكوت باذن الله تعالى واقداره ، و بعد امعان النظر والتأمل فيما ذكره ينحل بعض الشبهات والاشكالات التي يتخيلها الانسان كحضور الائمة عليهم‌السلام في آن واحد في امكنة متعددة وسيرهم في مدة قليلة الى مسافة كثيرة بعيدة وامثال ذلك واظن ان وجود تلك الامكنة وسرعة الحركة فيها وتفاوتها وامكان وجود حركات سريعة ووجودها في هذا العصر من البديهيات واكثرها من المشاهدات والحسيات اليوم ، راجع الى كتاب « وسيلة المعاد » للعلامة الجليل المولى حبيب الله الكاشاني رحمه‌الله تجد تفصيل ما ذكرناه.

٧٧

الطبيعية والثقافة العصرية فبعد ان توصل علماء المادة وفلاسفة الطبيعة الى استخراج جملة من القوى والعناصر المودعة في الكون المحسوس التي ما كان يحلم بها أحد من السابقين فاستخرجوا الكهرباء والعناصر المشعّة كالراديوم و الاورانيوم وأمثالهم ممّا يدهش الالباب فيما ترتب عليها من الآثار والاسرار وعجائب المخترعات النافعة كالسيّارة والطيّارة ، والهاتف والحاكى ، وما اليها فضلا عن الاكتشافات الفلكية والطب والجراحة وأضرابها ، وبعد هذا كله أي مجال للاستنكار او الاستبعاد في ان يكون في الكون قوى كامنة وأسرار خفية أطلع الله عليها أنبيائه وأوليائه ، فيستطيع أحدهم ان ينقل بلحظة عرض بلقيس من سبأ ( اليمن ) الى أورشليم ( القدس ) او تكون لاميرالمؤمنين عليه‌السلام قوة طبيعية فضلا عن القوة الروحانية يستطيع بها أن ينتقل من المدينة الى المدائن في دقيقة واحدة ، او ان الجواد عليه‌السلام يجيب عن ثلاثين او ثلاثة آلاف مسألة في مجلس واحد (١) أي استبعاد أن يكون في الكون مثل هذه القوى الغربية بعد أن رأينا بأعيننا ( أشعة رنتجن ) التي يرى الانسان فيها بعين رأسه ماوراء الاجسام الكثيفة كصناديق الحديد بل من وراء الجدار ؛ ومع كثرة هذه الاختراعات الباهرة لايزال يقول كبار فلاسفة الطبيعة ورجال المادة ، ان العلم لايزال طفلا ، فاذا بلغ أشده وأصاب رشده سوف يستكشف ما هو أدق وأعمق وأرفع وانفع من هذه المآثر والآثار والفوائد والاسرار.

وحقّاً ان العلم لايزال طفلاً فانهم حتى الآن لم يصلوا الى معرفة حقيقة الكهرباء مع كثرة تصرفاتهم فيها ولا أصابوا كنه الحياة وجوهرها ، ولاكنه القوة ودقائق المادّة ، ولاحقيقة العناصر التي تتركب منها المواليد العنصرية فضلا عن جوهر

__________________

(١) الظاهر ان المراد من المجلس الواحد هو المجالس المتوالية التي هيأها الخليفة العباسي لاظهار عظمة الجواد عليه‌السلام صغر سنه واطلاق المجلس الواحد على المجالس المتوالية شائع عندالعرف كما تطلق الحرب على القتال في الايام المتعددة المتوالية كحرب صفين مع انها طالت عدة أشهر.

٧٨

الكواكب والشموس سوى تخمينات وتخرّصات لا يعول عليها ، وكلما ازداد الانسان علما ازداد علما بجهله واعترافا بقصوره.

والغرض من هذا كله كسر سورة الاستنكار والاستبعاد وأن أمثال ( الراديو ) او ( الراديوم ) و ( أشعة رنتجن ) وأمثالها من مكتشفات هذا القرن لم تبق مجالاً للاعتماد على القواعد القررة المقررة في الفلسفة الطبيعية القديمة مثل استحالة الخرق والالتئام (١) وتناهي الاجسام وأضرابها ، نعم طي الزمان والمكان وطي الارض وبسطها مد الوقت وقبضه ربما يشكل القول بها لاستلزامها اختلاف نظام العالم الشمسي وتناثر الكواكب المرتبط بعضها ببعض على نظام مخصوص ، وآخر القول أن المعجزات وخوارق العادات قد تكون لها أسباب طبيعية فضلا عن القوى الروحية ولكن لم يصل العلم بعد اليها ، وقد يصل فيها بعد وقد لا يصل ، والله أعلم بحقائق مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.

__________________

(١) وبسبب تلك القواعد وقعوا في الشبهات في بعض المسائل الاعتقادية.

كالمعراج الجسماني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفتحوا باب التأويل او قالوا بمقالات واهية تستلزم القول بالمعراج الروحاني كما صدر عن بعض المنحرفين عن الطريقة المستقيمة حيث ذكر المقدمات التي تستلزم ذلك واما في هذا العصر فقد ظهر انه لا مجال للاعتماد على تلك القواعد ولذا ارتفعت الشبهات بالمرة من المعراج الجسماني والحمدلله تعالى.

٧٩
٨٠