جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤



من حياة الامام المؤلّف

هو الشيخ محمّد الحسين بن العلامة الشيخ على بن الحجة الشيخ محمّد رضا بن الشيخ الأفقه موسى بن جعفر بن الشيخ خضر بن يحيى بن سيف الدين المالكي الجناجي النجفي.

أشهر مشاهير علماء الاسلام في الشرق وأبعدهم صيتاً واغزرهم علماً في العالم الاسلامي والعربي بل هو من عظماء المجتمع الانساني وكبراء العالم البشري ومن الشخصيات الافذاذ واكابر شيوخ الاسلام وأعاظم فقهاء الشيعة الاعلام وأحد اركان الدين المجددين وروّاد النهضة ودعاة الاصلاح ورث زعامة الدين عن آبائه الفطاحل واجتمعت فيه خصال الكمال والفضائل وقام بالاعمال الجلائل والاصلاحات الخطيرة.

ولد الامام كاشف الغطاء في سنة « ١٢٩٤ ه‍. » في النجف الأشرف وأسرته من قبيلة بني مالك من قبائل العراق المعروفة وتعرف الآن ب‍ « آل علي » يقيمه قسمه منهم الآن في نواحي الحلة وينتهى نسبهم الى مالك بن الحارث الأشتر النخعي رضوان الله عليه من خواص اصحاب امير المؤمنين عليه‌السلام.

كان فقيهاً قوي الحجة والبرهان مجتهداً في المباني لا مقلداً في المبنى واسع

٥

الاطلاع حرّاً في آرائه ونظرياته كان يتنزع كثيراً من الفروع من ذوق عربي سليم قد ارتكز على فهم نصوص الاخبار والروايات التي يتنبى عليها المذهب الجعفري ويمتاز بالجرأة في ابداء الرأي الذي يراه قد ارتكز على الحجة وسانده العقل وكتابه تحرير المجلة وهو من أهم آثاره دليل قوى على تضلعه في الفقه وجلالة مؤلفه وعظمته في مقام الاستنباط.

لمّا بلغ العاشرة من عمره الشريف شرع بدارسة العلوم العربية ثم قرأ علوم البلاغة كالمعاني والبيان والبديع مع العبقرية الفذّة والثقافة الأدبية في بنيته التي نشأ فيها فانّ في بيته تسلسل العلماء والأدباء منذ قرنين وهو يتعلم الآداب بين أظهرهم منذ ترعرعه وشبابه ثم درس الرياضيات من الهيئة والحساب واضرابهما وبرع في الآداب براعة لا يدانيها فيها أحد وصار أستاذاً ماهراً في النظم والنثر وكفاك شاهداً كتابه « العبقات العنبرية » وأخذ بدراسة سطوح الفقه وأصوله واتّمها وهو بعد شابٌ فأخذ بالحضور عند الاساتذة الكبار في حلقات العلم وحضر دروس الطبقات العليا كالمحقق الخراساني والسيد اليزدي والهمداني والسيد محمّد الاصفهاني وميرزا محمّد تقي الشيرازي ومحمّد باقر الاصطهباناتي والشيخ احمد الشيرازي والعلامة على محمّد النجف آبادي وحضر في الحديث والرجال عند العلامة المحدث النوري.

اما اخلاقه وعاداته وسلوكه كانت تنطبق على أخلاق العباقرة والعظماء والنوابغ من الناس شديد التمسك بالآداب السلامية والتعاليم الدينية خصوصاً أدب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتعاليمهم العالية فقد امتاز بحافظته القويّة ، وحضور البديهة ، وحدّة ذهنه وتوقدّه وصفاء نفسه فلم يكن يحل حقداً وضغينة على أحد ، ويعفو عمّن أساء اليه ، ويقابل الجاهلين والمخطئين بالحلم ورحابة الصدر.

سافر عام ١٣٢٩ ه‍. من النجف الى مكة المكرمة لاداء فريضة الحج ومن مكة

٦

توجه الى دمشق ومنها الى بيروت ومكث في ربوع سورية ومصر ثلاث سنوات وفي سفره للحج كتب رحلته التي أسماها « نهزة السفر ونزهة السمر » وفي مدة توقفه بمصر درّس الفقه مرة في الفصاحة والبلاغة أخرى في جامع الأزهر وكان يهجم على نوادي التبشير التي تنعقد كل ليلة في كنيسة من كنائس الامريكان ومدارسهم ورد على الخطيب المبشّر والّف كتاب « التوضيح ».

وكذلك اشترك في الحركة الوطنية مع بعض أحرار سوريا وطبع في هذه السفرة كتابيه الشهيدين « الدين والاسلام » وكتاب « المراجعات الريحانية ».

وفي عام ١٣٥٠ ه‍ سافر الى فلسطين وحضر المؤتمر الاسلامي في القدس الشريف بعد دعوات متكره من لجنة المؤتمر وأتَمَّ به في الصلاة جميع اعضاء المؤتمر وخلّفهم عدد كثير من اهالى فلسطين يناهز عددهم عشرين الف نسخة وكان ذلك ليلة المعراج ٢٧ رجب في مسجد الأقصى وخطب خطبة تاريخية ارتجالية طويلة طبعت مستقلّة.

وفي عام ١٣٥٢ ه‍ توجه الى ايران عن طريق كرمانشاه ورجع من طريق بصرة ومكث نحو ثمانية أشهر متجولاً في المدن داعياً الايرانيين الى التمسك بالمبادي الاسلامية وقد خطب باللغة الفارسية في مدن : كرمانشاه وهمدان وطهران وقم في الصحن الفاطمي بعد أن فوّض اليه الزعيم المرجع الحائرى اليزدى صلاة الجماعة فكان يخطب بعدها وهكذا في شاهرود والمشهد المقدس واصفهان وشيراز وكازرون وبوشهر ، واهواز وعبادان واجتمع مع ملك ايران ( البهلوي ) في طهران بعد أن طلب منه ملاقاته واجتمع مرّتين متواليتين معه و نصحه وتذاكر معه في شؤون اسلامية وأمور دينيه.

وكذلك سافر الى ايران عدة مرّات للاصطياف او زيارة مرقد الامام الرضا عليه‌السلام او المعالجة.

٧

وسافر في صيف عام ١٣٧٠ ه‍ الى لبنان وفي جمادى الاولى ١٣٧١ ه‍ سافر الى كراتشى للحضور في مؤتمر الاسلامي.

اما موافقه الاصلاحية فهي معروفة في تاريخ العراق والمسلمين :

١ ـ اخماد فتنة عبد الرزاق الحصان في كتابه « العروبة في الميزان » الذي طعن فيه العلويين وشيعتهم ومجّد الأمويين ودولتهم واحداث هياج في بغداد والعتبات المقدسة وبعض مدن العراق وخاصة في النجف الأشرف.

٢ ـ اخماد ثورة عشائر الفرات عام ١٣٥٣ ه‍.

٣ ـ ابطال العادات المؤذية من العراق في العشرة الاولى من شهر ربيع الاول من كل عام. عام ١٣٥٣ ه‍.

٤ ـ منع الشغب والمظاهرات التي حدثت في وزارة نور الدين محمود.

٥ ـ موقفه من مؤتمر بحمدون تحت رعاية الولايات المتحدة الامريكية وكتب في ردّهم « المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ».

اما مؤلفاته المطبوعة في الحكمة والكلام والاخلاق والفقه وغيرها فكثيرة :

١ ـ الدين والاسلام او الدعوة الاسلامية ، ٢ ـ المراجعات الريحانية ، ٣ ـ الآيات البينات في الردّ على الفرق الضّالة ، ٤ ـ التوضيح فيما هو الانجيل ومن هو المسيح ، ٥ ـ الفردوس الاعلى، ٦ ـ اصل الشيعة وأصولها ، ٧ ـ الارض والتربة الحسينية ، ٨ ـ نبذة من السياسة الحسينية ، ٩ ـ الميثاق العربي الوطني ، ١٠ ـ المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ، ١١ ـ المحاورة مع السفيرين ، ١٢ ـ عين الميزان ( في الجرح والتعديل ) ، ١٣ ـ نقد كتاب « ملوك العرب » للريحاني ، ١٤ ـ مختارات من شعر الأغاني ، ١٥ ـ الخطبة التاريخية في القدس ، ١٦ ـ خطبة الاتحاد والاقتصاد ، ١٧ ـ الخطب الأربع ، ١٨ ـ مبادئ الايمان ، ١٩ ـ مقتل الامام الحسين عليه‌السلام ، ٢٠ ـ المسائل القندهارية ، ٢١ ـ حاشية على التبصرة للعلامة الحلي ،

٨

٢٢ ـ وجيزة الاحكام ، ٢٣ ـ زاد المقلدين ، ٢٤ ـ مناسك الحج ، ٢٥ ـ حاشية على العروة الوثقى ، ٢٦ ـ حواشي على سفينة النجاة ، ٢٧ ـ تحرير المجلة ( فقه مقارن ) ، ٢٨ ـ حواشي على عين الحياة ، ٢٩ ـ حاشية على مجمع الرسائل ، ٣٠ ـ تعليقات وتراجم على ديوان السيد جعفر الحلي ، ٣١ ـ تعليقات على ديوان السيد الأعظم السيد محمّد سعيد الحبوبي ، ٣٢ ـ تعليقات على الوساطة بين المتنبّي وخصومه ، ٣٣ ـ تعليقات على معالم الاصابة ، ٣٤ ـ تعليقات على « الكلم الجامعة والحكم النافعة » ، ٣٥ ـ حاشية على كتاب الاسفار لصدر المتألهين ، ٣٦ ـ حاشية على رسالة العرشية لدر المتألهين ، ٣٧ ـ حاشية على رسالة الوجود لصدر المتألهين ، ٣٨ ـ دائرة المعارف العليا ، ٣٩ ـ حاشية على رسائل الشيخ الانصارى ، ٤٠ ـ حاشية على مكاسب الشيخ الانصاري ، ٤١ ـ تنقيح المقال في مباحث الالفاظ ، ٤٢ ـ حاشية على الكفاية للخراساني ، ٤٣ ـ رسالة في الجمع بين الاحكام الاهرية والواقعية ، ٤٤ ـ حاشية على القوانين ، ٤٥ ـ رسالة في الاجتهاد والتقليد ، ٤٦ ـ مغنى الغواني عن الأغاني ، ٤٧ ـ ديوان الشعر ( الشعر الحسن من شعر الحسين ) ، ٤٨ ـ نزهة السمر ونهزة السفر ، ٤٩ ـ ترجمة حياته مفصلاً بقلمه : ( عقود حياتي ) ، ٥٠ ـ تعاليق على أمالي السيد المرتضى علم الهدى ، ٥١ ـ تعاليق على أدب الكاتب لابن قتيبة ، ٥٢ ـ تعاليق على الوجيز في تفسير القرآن العزيز ، ٥٣ ـ تعاليق على نهج البلاغة ونقود على شرح الشيخ محمّد عبده ومؤاخذات عليه ، ٥٤ ـ تعليقات على الفتنة الكبرى لطه حسين ، ٥٥ ـ منتخبات من الشعر القديم مجموعة كبيرة ، ٥٦ ـ منتخبات من الاحاديث والأخبار والتراجم وغيرها ، ٥٧ ـ تعريب كتاب « الهيئة » ، ٥٨ ـ تعريب كتاب « حجة السعادة في حجة الشهادة » ، ٥٩ ـ تعريب وتخليص رحلة : « ناصر خسرو » الحكيم المشهور ، ٦٠ ـ كتاب صحائف الابرار في وظائف الاسحار ، ٦١ ـ كتاب في استشهاد الحسين عليه‌السلام ، ٦٢ ـ رسالة عن الاجتهاد

٩

عند الشيعة ، ٦٣ ـ العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية في تراجم علماء النجف وتاريخها الحديث ، ٦٤ ـ جنّة المأوى ـ هذا الكتاب بين يدي القارىء العزيز. (١)

وأخيراً في صباح الجمعة ١٥ ذى القعدة ١٣٧٣ ه‍ سافر الى بغداد لمعالجة التهاب الذي عاد اليه وانتابه قبل سنة ، في مستشفى الكرخ وبقى شهراً واحداً ورغب في الخروج من المستشفى والسفر الى ايران للاستجمام في ربوع ايران الى أن وصل الى قرية كرند ، الواقعة بين خانقين وكرمانشاهان في الاراضي الايرانية ، وبعد وصوله اليها ولم تستقر به النوى ووقعت الوقعة العظمى والمصيبة الكبرى التي عمّت العالم الاسلامي ، اختطفه ريب المنون وانتقل من دار الفناء الى دار البقاء الى جوار ربه الكريم بعد ادائه لفريضة الفجر صباح يوم الاثنين ١٨ ذى القعدة سنة : ( ١٣٧٣ ه‍ ) وقد أشار الاستاذ طالب الحيدرى في قصيدته التي ابن بها شيخنا المغفور له الى أن موت شيخنا الفقيد كان مقصوداً قال :

مات الجرىء الفذ يدفعه

اخلاصه ليقول مندفعاً

ما مات حتف الانف أحسبهم

قد جرّعوه من الرّدى جرعا

قتلوه ثأراً منه أو حذراً

والله اعلم بالذي وقعا

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.

__________________

(١) الذي رتبناه واضفناه اليه ما يشبهه من اسئله غير فقهيه من كتابه الثاني « الفردوس الأعلى » مع تلخيص من تعاليق العلامة القاضي الطباطبائي رحمه‌الله القيمة والعميقة والعلمية على الكتابين.

١٠



١

مولد النّبوي الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله

صدق الله العليُّ العظيم حيث يقول : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . (١)

في هذا الشهر المبارك شهر ربيع الاول الذي قد يطلق عليه شهر النور وشهر المولود المبارك لاتفاق المسلمين على أنّ أيامه نزلت الرحمة من السماء الى الارض. وأنبثق النور الالهي من الملاء الاعلى ، أشرقت الدنيا كلها بنور ربها ، وجاء عن رب العالمين سيد الانبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً ، وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيراً ، وعلى سطح هذه الكرة حففة تزعم أنها من البشر وليست هي من البشر ، وتسمّى أنفسها بالمسلمين وما هي من المسلمين ، تقيم الاحتفالات وتضع المهرجانات تكريما وتعظيما لهذا المولود المبارك الذي تقول : انه نبي الرحمة ، وان الله أخرجنا به من الظلمات الى النور ، فيجب اظهار الفرح والسرور واعادة تلك الذكريات العليّة الطيّبة.

__________________

(١) سورة ١٥ آية ٤.

١١

نعم يحتفل المسلمون بعيد مولد نبيّهم الاعظم في هذا الشهر ، ولم يكن شيء من هذه الاحتفالات في القرون الاولى يوم كان الاسلام في أوج عزه وبرج رفعته وعظمته ، يوم كان المسلمون يعرفون حق المعرفة معنى الاحتفال الصحيح لمولد نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الاحتفال الصحيح الذي يبتهج به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسرّه هو الاخذ بتعاليمه واتّباع سنّته والعمل بقرآنه ، الاحتفال الصحيح أن يكون المسلم مسلماً حقيقة ومعنى لاصورة ولفظا ، وقد جعل سلام الله عليه للمسلم علامات كثيرة أقلها وأولها وأن يهتم المسلم بأمور المسلمين حيث قال : من لم يهتم بأمور المسلمين فليس من الاسلام بشيء وعلى ضوء هذه القاعدة يجب أن نمتحن أنفسنا ونضع في الميزان اسلامنا ، ها هم اليهود في كل شهر أو كل يوم ، تشنّ الغارة على قرية من قرى المسلمين في فلسطين تقذفهم بالقنابل الجهنّمية ، وتنسفها نسفا وتذرها قاعا صفصفاً ، وتهلك تحت انقاضها ومبانيها جميع من فيها ، يضعون بالمسلمين ما لم يضعه حتى فرعون مع آبائهم بني اسرائيل ، فانه كان يذبّح أبنائهم ويستحيى نسائهم ، أما بنوا اسرائيل اليوم فيذبحون بالنار والحديد الرجال والنساء والاطفال ، وتتكرر هذه العملية منهم في كل سنة عدّة مرّات وهم بين سمع المسلمين وبصرهم وبين سبع دول كل واحدة تزعم أنها مسلمة ، وهي مشغولة بنفسها لا يهمّها من امر اولئك المساكين مقدار بعوضة ، وهكذا الحال مع المسلمين في المغرب العربي وما تعانى تونس ، ومراكش ، والجزائر ، من فرنسا من الشنق والحرق والاعدام لأولئك الاحرار الكرام ، واعطف بنظرك ثانيا او ثالثا الى الحميات التسع وعدن واسمع ان كنت ذاسمع وبصر ما يصنعه الاستعمار الجبّار في مسلمي تلك الديار من الاستيصال والدمار ، يقولون : ان عدد المسلمين أجمع على أقل تقدير [ مليار و ] أربعمأة مليون ، فلو أن الربع من هؤلاء كانوا مسلمين حقّا.

١٢

وكان فيهم أقل علامات المسلم وهى الاهتمام بأمر اخوانهم المسلمين لانقذوهم من تلك المهالك ، ولو أن ما ينفقه المسلمون في هذه الاحتفالات من الاموال ، وما يبذلونه في المواليد من مصر وغيرها ليس في مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب بل في مواليد مشايخ الطرق : كالبدري ، والاحمدي ، والدسوقي ، وأمثالهم وما يتفاخرون به من البذخ في السرادق والاضوية الكهربائية والمشروبات الكحولية وغيرها لو تجمع هذه الاموال وترسل الى المشرّدين من عرب فلسطين فتحفظ ما بقى من رمق حياتهم التي اصبحت رهن وطأة الزمهرير والمطر الغزير ، وتمدّهم بالسلاح والعتاد وتحفزهم الى الجهاد ، أما كان خيراً للمسلمين من تلك الاعمال التي ما كان المسلمون يعرفون شيئاً في العصور الاولى ؟ وما تأخّر المسلمون واندحروا وذلّوا الا من العصر الذي شاعت وانتشرت فيه هذه المحدثات التي أماتت العزائم وسلبت من المسلمين كل الحميّة والغيرة ، ولو ان ما يبذله العرب بل عموم المسلمين كل ليلة على الملاهي وفي المقاهي والخمور والفجور والمقامرات يجمعونه لانقاذ فلسطين عوض أن تتسرب تلك الاموال الى جيوب الاجانب والمستعمرين فتعود وبالا علينا وسلاحا للفتك بنا ولو أن الحكومات العربية بل الدول الاسلامية منعت رعاياها من صرف الاموال في تلك الموبقات ، وأنفقتها في تلك المهمّات لحازت الوزن الثقيل بين الامم وسعدت هي ورعاياها.

وأشهد بالله شهادة حق لو كان عند المسلمين ذرّة من الغيرة والاسلام بمعناه الصحيح لما صبروا وتطامنوا لهذا الذل والصغار وتحمل الخزي والعار ، ولما أبقوا على وجه الارض مهيونيا بذكر ، نعم وما أصدق قوله عليها‌السلام : « ما كره قوم طعم الموت الا ذلّوا » ، وزبدة المختصر والحق المحض أن البلية ما أشعل نارها على فلسطين الا الحكومات العربية ، فهي أصل الداء ، ويجب أن يكون منها الدواء ، ولكني أخشى

١٣

أن تأتي هنا كلمة اميرالمؤمنين عليه‌السلام لاهل العراق عموما او لاهل الكوفة خصوصا حيث يقول لهم : « أريد أن أتداوى بكم أنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وضلعها معها » واذا لم تبادر الحكومات العربية التي يعبر عنها الصياهنة بالدعائم السبعة المنهارة تارة وبالفيران السبع أخرى ؛ وامامها ( هرّ ) يريد أن يبتلعها ، فاذا لم يحفزها كل هذا التحدّي الى الوثبة وتعجيل الضربة ، وتمادت على المماطلة والتسويف كرامة لسواد عيون أسيادهم ذوي العيون الزرقاء ، نعم اذا تمادوا في حبال هذا الوبال كان لزاما على الشعوب العربية أن تنهض وتشق الطريق بنفسها لتأخذ ثارها وتغسل عارها ، فاما موتة حرّ شريفة او حياة نظيفة :

فاما حياة تبعث الشرق ناهضاً

واما ممات وهو ما يرقب الغرب (١)

وبعد ذلك يحسن منها أن تقيم الاحتفال بالمواليد النبوية والاعياد الاسلامية ، أما في هذه الحال فحق عليهم اقامة المآتم ، ولبس الحداد والمآتم ، ولاشك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطل عليكم أيها الناس من سماء عليائه ساخطا عليكم في هذه الاحتفالات والزائقة التي ما هي الا لهو ولعب ، وتيقنوا أنكم اذا تتداركوا هذا السيل الجارف من البلاء فلاشك ان مصيركم جميعا الى الفناء ،ولايبقى للعرب ذكر الا في التاريخ الاسود لاغير ، وتصح فيكم الاية التي افتتحنا بها كلمتنا هذه : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، هذا هو الاحتفال الصحيح لعيد المولود النبوى صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) رأيت هذا البيت في ضمن ثلاثة ابيات بخطه قدس سره وهي من اشعاره واولها :

ولى كل يوم موقف ومقالة * أنادي ليوث العرب ويحكم هبوا * ثم ذكر البيت المذكور ثم قال : وقفت على احياء قومي براعتي * وقلبي وهل الا البراعة والقلب *.

١٤

مولد النبي الكريم وبعثته

وانت لما ولدت اشرقت الار

ض وضائت بنورك الافق (١)

في أخريات القرن السادس من ميلاد المسيح عليه‌السلام كانت الارض ثؤرة فساد وضلالة ؛ وحمأة طيش وجهالة ؛ من بغى عدوان وعبادة أوثان وحروب طاحنة ؛ وأحقاد ملتهبة وغارات متواصلة ، ليس في ظلمتها المتراكم بعضها على بعض بصيص من نور هدى ولابارقة أمل في سداد.

لاجرم أن الانسانية بروحها الطاهرة ونفسها المجردة عن سلطان الهوى والشهوات كانت تعج وتضج الى بارئها أن يبرّبها ويبرئها ويعطف عليها فيبعث لها من يبلسم (٢) جراحها ، ويصف بها صلاحها ويدلّها على سعادتها الدائمة وحياتها الخالدة ؛ ويحكم فيها سلطان العدل والعقل فيصلح الفاسد من كل نواحيها ، ولاريب أن الرّب ـ جل شأنه ـ ما خلق الانسانية ليرمى بها في تيّار من الشقاء تتقاذف بها أمواجه ، وتترامى بها أعاصيره طول الابد ، بل خلقها للنعيم والسعادة ، وللهناء والرحمة ونعمة الخلود في الابدية هنالك حيث الحرة (٣) السوداء والجبال الجرداء والحجارة الخشناء والعرصات القاحلة والرمال الملتهبة ، هناك حيث لازرع ولاضلوع ولاشجراء ولانضراء ، هناك بين أطواد تهامة وجبال فاران وربوات حوريث وساعير ، هناك من جوامع الجبروت وصوامع الملكوت

__________________

(١) هذا البيت للعباس عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد قوله :

فنحن في ذلك الضياء وفي النور وسبل الرشاد نخترق

انظر الانوار المحمدية للنبهاني ص ٢٥ ط بيروت.

(٢) البلسم مادة صمغية تضمد بها الجراحات.

(٣) الحرة الارض ذات حجارة نخرة سود كانها أحرقت بالنار.

١٥

وغيب الغيوب وسرّ الهوية الاحدية وأعماق الابدية وأمواج العناية الازلية ، هناك فى غسق الليالى المدلهمة وحنادس الجهل والجاهلية هناك في الوسط الذي أماته الجهل وأعياه الهوى وسخره سلطان الشهوات واستحكمت فيه غرائز الرذيلة.

هناك انبثق بركان (١) من النور الالهي والقبس الربوبي فبزغت أنوار شمس المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وآله وهبت في الاكوان نسمات البشرى بحامل مشعل السعادة الابدية.

ها ان محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ولذكره المجد والشرف ) قد وجد وولد ونمى ونشأ يمثل روح الاخلاق الفاضلة في ابّان صباه ، وريعان شبيبته وفي جميع أطواره وأدواره منيعا وديعا ، أمينا ورزينا ، عفيفا شريفا ، فكوراً وقوراً ، قوي الارادة عظيم الهمة ، فحل العزيمة ، دقيق الاحساس رقيق العواطف ، رحيم القلب حليم النفس ، جميل الصورة حسن السيرة ، مغناطيس النفوس محبوب القلوب ما كذب قط ولاخان و لامان ، ولامكر ولاغدر ، ولاسجد لصنم ولا انثنى لوثن كل ذلك وما اليها من السجايا الغالية والمزايا الباهرة والمعارف السامية كانت طباعا لاتطبعا ومواهب لامكاسب ، من غير معلم ولامرشد ، ولامربّ ولامدرّب ، ولامدرسة ولامدرّس ، ولامطالعة كتب ولامراجعة صحف وكانّه قبل أن يتجاوز شعوب مكة قد عرف كل الشعوب وخبر أحوال الامم وسبر طبقات البشر. ودرس نفسيات الخلائق وقلبها بحثا وعلما فعلم ما هي ادواء البشرية وما عللها وامراضها ، وما هو دوائها وعلاجها وما هو السبيل الى رحمة تلك الانسانية المعذّبة وتخليصها من قديم شقائها ومزمن دائها.

ثم ان محمّداً ( خلد الله شريعته وأعلى كلمته ) عند ما بلغ أشده واستوى جدّه وشاع في أحياء العرب اريج ذكره ، واستبحر في الارض خليج فخره ، وبدا

__________________

(١) البركان جبل النار انظر المنجد ، ص ٣٣ ، ط ـ ٩.

١٦

للحاضر والبادى عظيم شأنه ورفيع شأوه ، ووقف قومه على منيع مقامه وبازخ أعلامه حتى اذا قرب من الاربعين طفق يطلب الخلوة لنفسه ويعتزل عن أبناء جنسه وصار يترهّب تلك الرهبانية الصحيحة التي لا تحجف بواجب شيء من النفس او البدن ، بل تعطى كلاً من تكميل قسطه وتوفى بحسبه شرطه ، وتستوفى حظوظها منه على مدرجة الصواب وأحسن الانتخاب والاستقامة على حد المركز والموسط والاعتدال بين الاطراف من غير ميل ولا انحراف ، وهذه اول ترشيحة الوحي وترشحة للنبوّة ، وتأهل للبعثة وتسديد من الغيب فجعل ينقطع ويتجرّد ويروح الى معلّمه الروح المجرد (١) ويقيم خارج البلد في شعب ( حراء ) يتحرّى مهب نفحات العناية من بين وارداته القلبية ، ويترقب خلع التشريف والكرامة من متحف الربوبية ويطامع اسرار الملك والملكوت مما رقمه قلم الازل على صحيفة نفسه القدسية ، ويتأهب للهبة بما تفرسه حدسه وحدسته نفسه ، وتقدمت له دلائله ، وهتفت فيه بشائره ، من تشريفه بتلك المنزلة الشريفة ، وتعينه لهاتيك الوظيفة ، بعثه بتلك المصلحة العامة ، والمسألة الهامة البالغة أقصى مبالغ الصعوبة والحاجة والكلفة والمشقة ودفعه الى تقحم ذلك المأزق المتلاحم والتهجم على

__________________

(١) قال اميرالمؤمنين سلام الله عليه في خطبته المباركة المعروفة بالقاصعة :

« ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولايراه غيرى. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي و الرسالة ، واشمّ ريح النبوة ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه الخ » ومما روى في حاله مع الملك وعصمته به ما روى عن الامام الباقر سلام الله عليه انه قال : وكل الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات ومكارم الاخلاق ويسده عن الشر ومساوى الاخلاق وهو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمّد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أن ذلك من الحجر والارض فيتأمل فلا يرى شيئاً. انظر الى شرح النهج لابن ميثم ره. ج ٤ ، ص ٣١٤.

١٧

غيوم ذلك البلاء المتراكم ، ولكن « على قدر اهل العزم تأتى العزائم » وعند العظم تصغر العظائم، فأول ما كان له من طلائع النبوة وقدامى الحي والبعثة وقوع الرؤيا الصادقة منه التي تجيء كفلق الصبح له ، (١) ثم تعقب ذلك سماع الصوت دون معاينة الشخص قائلا له غير مرة : يا محمّد انك رسول الله ، فكانت تأخذه عند ذلك من الوحشة والدهشة ، واللذة المشوبة بالعجب والانس المشتبك بالغرابة حال يقصر أبلغ يراع بليغ عن تصويرها ، ويكل لسان كل مثيل عن تمثيلها ، وكان لتلك الحال روعة تدفع لجسمه الشريف مثل الهزة والفزة (٢) ويصيبه الافكل والرعدةكدأب المبتهج المستبشر.

نعم ثم تدرّج الوحي اليه على مقتضيات الحكمة ، اذ التعاليم ثمة وان كانت اللآهية ولكن لها على قداستها وجهة بشرية ، فلاجرم ترد متدرجة حسب القوابل ومقتضيات الاساليب والعوامل ، فتجلّى له الملاك بالوحى المبين ، والكلام الصادر بألفاظه ومعانيه ، ومقاصده ومبانيه من مصدر الناحية الربوبية والمعمل الالهي والعلم غير المتناهى ، قائلا له ـ وهي أول سورة نزلت عليه من ذلك الكتاب المقدس والطراز الانفس ـ اقْرَأْ بِاسْمِ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (٣) فقرأها وانصرف عنه ،

__________________

(١) لأهل السنة في بدء الوحي اخبار عجيبة واحاديث موضوعة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما والطبري وابن الاثير في تاريخهما يجل مقام النبوة والرسالة من نسبة القضايا المذكورة فيها الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل تلك الاخبار الموضوعة بالخرافات اشبه منها بالاحاديث واحق ان تجعل مسخرة للناظرين لا رواية للراوين ولاوسع في المقام لذكرها وبيان ما فيها من الشطحات والاباطيل والاكاذيب وقد نقل شطراً منها شيخنا العلامة الكبير المحقق الشيخ محمّد حسن المظفر النجفي قدس سره في دلائل الصدق وبين ما اشتملت عليها هذه الاخبار من الخرافات بل الكفريات انظر دلائل الصدق ، ج ١ ، ص ٤١٢.

(٢) طير فوأده وافزعه وازعجه.

(٣) سورة ٩٦ آية : ٦ ـ ٢.

١٨

ثم جائه بعدها بسورة الفاتحة ، ثم انقطع الوحي زمانا ولكن ارفاقا بهو اشفاقا عليه ، فما أحسبك الا خبيراً بأن قوى البشرية والاخلاط العنصرية وكل ما عملته او عملت فيه الطبيعة والمادة يضعف ويكلّ ويتأثر وينفعل عند هجوم مافوق الطبيعة عليها من مشاهدة تلك الارواح المقدسة ، والانوار القاهرة التي هي من عالم الملكوت وصقع الجبروت ، وهذا أمر ضروري محسوس في كيان الطبيعة وبيئة المادة وخلية العناصر ، فانك لو حبست طفلاً في مختبأ من الارض حتى اكتملت فطرته وتم تمييزه وعقله. ثم اخرجته فجأة الى هذا العالم المحسوس فوقع بصره دفعة على شموسه المتألقة ، وأجوائه المتّسعه ؛ وأشجاره المتسقة ، وأنهاره المتدفقة الى غير ذلك من غرائب الصنع وعجائب الابداع لما شككت أنه ينشق قلبه وينذهل له ، ويأخذه مثل الادوار والدهشة والانبهار والهزة والرعدة ، وتأتى الصدمة على عقله ، والصككة (١) على جسمه والضغطة على فؤاده وقلبه ، ولاشك أن عالم الغيب من عالم الشهادة على تلك النسبة بل وبأضعافها المتضاعفة فما ظنّك بهذا الجسد البشري المؤلف من تلك المواد العنصرية السريع الانحلال والانفعال الضعيف التأليف ؛ وزد عليه الملاك من العوالم الملكوتية ، او تحل لمن له قبس من سذق (٢) الهياكل الجبروتية ، كيف لاتتلاشى عناصره وتتفرق أجزائه وتثور الى الاثير دقائقه الا بماسك من يد القدرة التي لاتغلب والقوة التي لاتعجز عن شيء ولاتنكب.

ألا فبعين عناية الله جسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله « ألا فسلام الله على جسمه المقدس وروحه المجرد » ألا لا جرم لو عرضته عند نزول الوحي عليه تلك الهزة والفزة ولاغر ولو اتقدت الحرارة الغريزة في تامور صدره حتى يتغير لها وجهه ويضطرب

__________________

(١) اي الاضطراب.

(٢) السذق ليلة الوقود وهي ليلة مشهورة عند الفرس فارسي معرب.

١٩

بدنه ، وتنتقل الرطوبات الداخلية وتترشح على سطح بشرته فيتجلله العرق ويأخذه شبه الحياء والفرق ؛ (١) ثم اذا سرّى عنه سكنت الحرارة ، وقبل الجسم الهواء اللطيف من خارج فيبرد المزاج وتأخذه مثل القشعريرة والنفضة الباردة ؛ لمباغتة البرودة للحرارة دفاعا ، فيأتى الى مرقده الشريف ويقول : زمّلوني او دثّروني ، فتردّ عليه ثيابه ، وتجمع فوقه غطائه ليتسخّن ويستريح ويأمن ، ففي احدى ضجعاته ما أهاب به الوحي قائلا : يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * ورَبَّكَ فَكَبِّرْ * وثِيابَكَ فَطَهِّرْ * والرُّجْزَ فَاهْجُرْ * ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٢)

__________________

(١) اي الفزع.

(٢) سورة ٧٤ آية : ٧ ـ ٢.

٢٠