جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

« هذا امام الرافضة فاعرفوه » فما أتى به مجلس الشرطة اقام اربعة نفر فنادوا عليه بنداء خبيث لايستطيع القلم نشره ولا اللسان ذكره.

وخرج سليمان بن أبي جعفر عمّ الرشيد من قصره الى الشطّ فسمع الصياح والضوضاء فقال لغلمانه : ما هذا ؟ قالوا : السندى ينادي على نعش موسى بن جعفر عليه‌السلام كذا وكذا ، فقال لولده وغلمانه : يوشك ان يفعل به هذا في الجانب الغربي ، فاذا عبر به فانزلوا وخذوه من أيديهم فان مانعوكم فاضربوهم فلمّا عبروا به نزلوا اليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم ووضعوه في مفرق أربعة طرق وأقام المنادين ينادون ألا من أراد ان يرى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر عليه‌السلام فليخرج وحضر الخلق وحنط بحنوط فأخّروا كفنه بكفن فيه حبرة استعمل عليه بالفين وخمس ماءة دينار عليها القرآن كلّه واحتفى ومشى في جنازته مشقوق الجيب الى مقابر قريش فدفنه هناك وكتب بخبره الى الرشيد ، فكتب اليه : وصلتك رحم يا عم وأحسن الله جزائك والله ما فعل السندى لعنه الله ما فعله عن أمرنا. (١)

وروى ان السندي سئل الامام عليه‌السلام أن يكفنه فأبى وقال : انا اهل البيت مهور نسائنا وحج صرورتنا واكفان موتانا من طهرة اموالنا وعندي كفني ، فلما مات ادخل عليه الفقهاء ووجوه اهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا اليه لا اثر به وشهد واعلى ذلك واخرج فوضع على الجسر ونودي عليه هذا موسى ابن جعفر الذي تزعم الرافضة انه لا يموت فانظروا اليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت وفى هذا من الهون الاستخفاف والجرأة على هتك حرمات الله العظيم وهياكل توحيده المقدسة انواره وخزائن علمه واسراره ما يتذوّب له فؤاد المؤمن

__________________

(١) الا لعنة الله على الكاذبين من أهل النكراء والشيطنة والسياسة الغاشمة منهم الرشيد العباسي وأمثاله من أولى الامر على اعتقاد المخالفين لنا في المذهب.

٣٠١

الغيور وينشق منه قلب المتجلّد الصبور ان يكون مثل الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام صفي الله وابن اصفيائه وامينه وابن امنائه مطروحاً في الشوارع مكشوف الوجه وهو ميّت يتفرج عليه الرايح والغار والعاكف والباد والمسلم والكافر والوارد والصادر بعد تلك المحن والسجون والشئون والشجون كما ورد في بعض زياراته الشريفة صلوات الله عليه حيث ورد فيها : اللهم صل على محمّد واهل بيته الطاهرين وصل على موسى بن جعفر وصي الابرار وامام الاخيار وعيبة الانوار ووارث السكينة والوقار والحكم والاثار الذي كان يحيى الليل بالسهر الى السحر بواصلة الاستغفار حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة والمناجات الكثيرة والضراعات المتصلة ومقر النهي والعدل والخير والفضل والندى والبذل ومألف البلوى والصبر المضطهد بالظلم المقهور (١) بالجور المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذى الساق المرضوض بحلق القيود والجنازة المنادى عليها بذل الاستخفاف والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمّه سيدة النساء بارث مغصوب وولاء مسلوب وأمر مغلوب ودم مطلوب وسمّ مشروب اللهم فكما صبر على غليظ المحن وتجرّع غصص الكرب واستسلم لرضاك واخلص الطاعة لك ومحض الخشوع واستشعر الخضوع وعادى البدعة واهلها ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم صل عليه صلاة نامية زاكية منيفة توجب له بها شفاعة امم من خلقك وقرون من براياك بلّغه عنّا تحية وسلاماً وآتنا من لدنك في موالاته فضلاً واحساناً ومغفرة ورضوانا انك ذوالفضل العميم والتجاوز العظيم برحمتك يا ارحم الراحمين.

__________________

(١) مقبور.

٣٠٢



٦٦

بعض أسرار الحج

وَأَذَّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ويَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ . (١)

بما انّ الانسان متكوّن من جوهرين جسم وروح ، فقد جعل شارع الشريعة الاسلامية لكل من الجوهرين فرائض ، وتكاليف ، ليس الغرض منها سوى سعادة الانسان ، وتعاليه في معارج الكرامة ومدارج العظمة ، وأهمّ فرائض الروح العقيدة والايمان ، واهمّ فرائض البدن ، اعمال خاصة يسمّيها الشرع بالعبادات والفروع أي فروع الدين ، كما يسمّى تلك باصول الدين ، وتلك العبادات خمسة : الصلاة والصوم ، وهي بدنية محضة ، والخمس ، والزكاة وهي مالية محضة ، والحج يتضّمنهما معاً ، فهو عبادة مالية ، وبدنية وقد جمعت كلّ واحدة من هذه العبادات أسراراً وحكماً اذا لم يكن الحج اكبرها مقاصد واكثرها أسراراً وفوائد فليس هو باقلّها وقد اشارت الآيات الى بعض تلك الاسرار والمزايا ، وهي مادية اقتصادية ،

__________________

(١) سورة الحج ، آية : ٢٧ ـ ٢٨.

٣٠٣

واخلاقية اجتماعية ، ورموز علوية ، ورياضات روحية ، نعم الناظر الى أعمال الحج نظرة سطحية قد ينسبق الى ذهنه أنّها الاعيب من العبث ، واضراب من اللهو والنصب ولكن لا تلبث تلك النظرة العابرة حتى تعود عبرة وفكرة ، تذهل عندها الالباب وتطيش في سبحات جلالها العقول ، امّا الذي فيه من الفوائد المادية ، والاجتماعية ، والاخلاقية ، فلعل سطحه الاول ظاهر مكشوف ، والتوسع فيه يحتاج الى مجال اوسع ونظر اعلى وارفع ، وهي التي اشير اليها بقوله عزّ شأنه لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ولكن اذا لم يتسع لنا المجال للاشارة الى تشريح هذه المنافع أفلا يمكن التلويح الى بعض تلك النفحات التي تهب نسائهما من الكنوز والرموز الروحية التي تتضمنها أعمال الحج أوّلها الاحرام ، أرايت المحرم حين يتجرد من ثيابه التي يتجمل بها بين الناس فيستبدل بها قطعتين من القطن الابيض اشارة الى قطعة جميع علائق هذه الحياة وزخارفها ، واكتفائه بثوبين ، كمن ينتقل من هذه الحياة الى الحياة الاخرى ، لابساً أكفانه ، منصرف النفس عن كلّ شهواتها ، وعازفاً عن كلّ لذاتها ، أتراه حين يرفع صوته كلما على جبلاً أو هبط وادياً او نام او استيقظ ( لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ) كانه يجيب داعياً ، ويخاطب مناديا ، نغم يجيب داعي الضمير ، وخطاب الوجدان خطاباً يجيب به نداء ربّه ، واذان أبيه ابراهيم ، ودعوة نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتراه كيف يتجرّد عن الدنيا ويتحلى عن الروح الحيوانية فيصير روحاً مجرداً ، وملاءكاً بشراص فيحرّم على نفسه التمتّع حتى من النساء والطيب والطيبات ، بل حتى العقد على النساء ويحرم عليه أن يؤذي حيواناً ، ولو من الهوام وأن يصيد صيداً ولو من الانعام ، وان يقطع شجراً ؛ أو يقطع نباتاً ، واذا عقد على امرأة في احرامه حرمت عليه ابداً ، أرأيته حين يطوف حلو الكعبة رمز الخلود ، ومركز الابدية وتمثال العرش الذي تطوف حوله الملائكة وَ تَرَى

٣٠٤

المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (١) طالباً أن تفتح أبوابها فيدخل في فردوسها الأبهى ؛ ويخلد في نعيمها الابدى ، مع الخالدين ، أتراك حيث يبتدء بطوافك من الحجر فتلمسه قاصداً انك تبايعه وتأخذ العهد منه وتقبله وكأنك تقبل يد الرحمن ، وانّه قد نزل من السماء أبيض من اللجين ولكن ذنوب العباد كسته حلة السواد كناية انه تحمل ذنوبهم وتعهد بغفرآنها من خالقهم ، أرأيت كيف ينقلب الطائف حول الكعبة بعد الفراغ من طوافه الى مقام ابراهيم فيصلّي فيه اشارة الى أنّه بعد طوافه على القلب قام مقام أبيه ابراهيم في دعائه الى الربّ واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم وتب علينا انك أنت التواب الرحيم ، أتراه حين ينفلت بعد الفراغ من الطواف الى السعي بين الصفا والمروة مهرولاً يدفعه الشوق الى السوق حذار أن تعرضه خطرات الوساوس فتكون حجر عثرة في طريقه مشاهدة الحق وتكدر عليه ذلك الصفا المتجلّى عليه من اشعة تلك اللمعات والصفا هو الصخرة التي وقف عليها نبي الرحمة في أول دعوته الناس الى التوحيد ، والدخول في دين الاسلام ، والتخلّى عن عبادة الاصنام ، ما بين الصفا والمروة هو الموقع الذي سعت فيه هاجر أم اسماعيل سبع أشواط في طلب الماء لولدها الذي تركته في المسجد الحرام حولا لكعبة ولما أيست رجعت لولدها ، رجعت اليه فوجدت ماء زمزم قد نبع من تحت قدميه ثم بعد اكمال السعي يقصر من شعره ، ولعله اشارة الى أن السالك الى الحق مهما جد في المسير ، فان مصيرة ومنتهاه الى القصور في شهوره ، أو التقصير ، فاذا عرف قصوره ، واعترف به ، حلّ من احرامه ، وأحل الله له الطيبات التي حرمها عليه ، ورجع من الحق الى الخلق ، وهو أحد الاسفار الاربع ، والى هنا تنتهي عمرته ، ثم يوم الثامن يوم التروية يعقد

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٧٥.

٣٠٥

الاحرام ثانياً ، وهو احرام الحج ، ويتوجّه الى منى وقبل الظهر يوم التاسع يكون في عرفات من الظهر الى غروب الشمس ، ثم يفيض الى المشعر ، وقبل طلوع الشمس يعود الى منى ، فيأتى بمناسكها الثلاثة الرمي ، والذبح ، والحلق يوم عيد الأضحى ، وبعد الحلق يحل من كل ما حرم عليه بالاحرام الا الطيب ، الصيد ، والنساء ، ثم يعود الى مكة ، لاحرام الحج ويحل له بعده الصيد ، والطيب ؛ ثم يعود الى منى ويبيت فيها ليالي النقر ؛ الحادية والثانية عشر ويرمي الجمرات في اليومين ، او الثلاث بعد الاضحى ثم يطوف طواف النساء فتحل له وهنا تنتهي أعمال الحج والمناسك بأجمعها وفي كل واحد من هذه الاعمال رموز واسرار وحكم ومصالح لو أردنا شرح بعضها فضلاً عن كلّها لاحتجنا الى مؤلف مستقل لا نستطيع القيام به ، وقد وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ، ولكن ليعلم أنّ الاسرار والمصالح التي في الحج ، بل وفي كلّ عبادة ، نوعان خاصة ، وعامّة ، أمّا الخاصة فهي الاسرار التي يتوصّل اليها السالكون والعلماء الراسخون ، والعرفاء الشامخون ولا تنكشف استارها ، وكنوزها لعامّة الناس ، بل ولا يتصورها بلمح الخيال احد منهم وأمّا العامّة فهي الواضحة المكشوفة التي يستطيع كل متفكر ومتدبر أن يعرفها ويتوسل اليها وأعظمها وأهمّها واجلى المصالح والاهداف التي يرمى اليها ويتطلبها على الظاهر المكشوف والتي يدركها كل ذي شعور هي الناحية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ الاسلام دين اجتماعي وقد أعطى للنواحي الاجتماعية أعظم الأهمية فشرّع صلاة الجماعة في مسجد المحلة كلّ يوم ثلاث مرّات أو خمس وصلاة الجمعة في المسجد كل اسبوع وصلاة العيدين لعموم أهل كل بلد وضواحيها كل سنة مرتين ولم يكتف بذلك كله حتى دعى الى مؤتمر عام بجميع أهل الحجى ، والثروة ، والطبقة الرّاقية ، مالاً وعقلاً من المسلمين المتفرقين في اقطار الشاسعة في صعيد واحد ، ليتعارفوا أولاً فاذا تعاروفا تآلفوا واذا تآلفوا تكاثفوا وصار كل واحد منهم

٣٠٦

قوة للآخر يتفقد شؤونه ، ويشاركه في سرّائه وضرّائه ، ونعيمه وشقائه ، فتكون من ذلك المسلمين قوّة هائلة ، لا تقاومها كلّ قوة في العالم ، أذكر انّي عام ( ١٣٣٠ ه‍ ) أعني قبل احدى واربعين سنة لما تشرفت للحج اجتمعت على ربوة (١) مساء حول مسجد الخيف بجماعة من الحجاج ، فكان فيهم الصيني ، والمراكشي ، واليماني ، والعراقي ، والهندي ، وكان فيهم من يحسن اكثر اللغات ، فانجرّ الحديث الى الحج ومنافعه ، وفوائده ، مع كثرة متاعبه ، وتكاليفه ، فقلت أيّ فائدة تريدون أعظم من اجتماعنا هذا وهل كان يدور في خلد أحد أن يجتمع الصيني في أقصى الشرق بالمراكشي وهو في أقصى الغرب والعراقي والفارسي وهو في طرف الشمال باليماني وهو من أقصى الجنوب ، ولكنّ المسلمون ويا للأسف لو كان يجدى الأسف انّهم لما فاتهم الحجى واللبّ أصبحت أعمالهم بل وعباداتهم قشراً بلا لبّ ، يجتمعون وهم متفرّقون ، ويتقاربون وهم متباعدون ، متقاربة أجسامهم متضاربة أحلامهم ، يحجّون ولا يتعرّف احدهم باخيه ولا يرى الاّ صورته ، ولا يعرف شيئاً من أحواله بل ولا اسمه ، وبهذا ومثله وصلنا الى الحال التي نحن فيها اليوم ، فلا حول ولا قوّة ، وبالله المستعان على هذا الزمان وأهل الزمان.

__________________

(١) الربوة المكان المرتفع بضم الراء قال الفيومى وهو الاكثر والفتح لغة بني تميم والكسر لغة سميت ربوة لانها ربت فعلت والجمع ربى مثل مدية ومدى.

٣٠٧
٣٠٨



٦٧

بعض أسرار الصوم وامتيازه عن سائر العبادات

تشترك العبادات عموماً بأنّها أفعال وجودية ، هي بمنزلة الجسد وروحها النيّة ، فالصلاة ، والطواف ، والسعي ، كغسل والوضوء ، وامثالها اعمال جسدية ، اذا لم يأت بها المكلف بداعي القربة فهي كجسد ميت لا حياة فيه ، وكاشباح بلا ارواح ، ولكن مهما كان فهو جسم عبادة ؛ وصورة طاعة ؛ وكل العبادات في ذلك سواء أعني أنّها أجساد ولها ارواح فان مانت تلك الروح فيه فهو حيّ ، والاّ فهو ميت الاّ الصوم فقد كادبل كان روحاً مجردة ، وحياة متمحضة لاجسم له ولا مادة ، وهذه ميزة امتاز بها الصوم عن سائر العبادات ، ولم يشاركه فيها سوى الاحرام ؛ فان الصيام والاحرام كل منهما تروك محضة ، وعدميات صرفة ، ليس فيها من الأعمال الجسمانية شيء ، ولكن الاحرام فضحته ثياب الاحرام ولبسها وبقى الصيام محتفظاً بروحيّته وتجرّده من كل عمل ظاهري ، ولم يتجاوز عن كونه نيّة خالصة ، وعبادة قلبية حفيّة ، لا يعلم بها الاصاحبها وربّه العالم بالسرائر ، ومن هنا اختص الصوم بميزة انفرد بها دون كلّ عبادة ، وهي عدم امكان دخول الرياء فيه بل يستحيل ذلك إلاّ بالقول ، فيكون الرياء حين ذاك بالعبارة لا بالعبارة ، وبالكلام لا بالصيام

٣٠٩

والاحرام أيضاً بجوهره وان كان نيّة وتروكاً كالصوم الا أن الاحرام فيه عمل واحد وجودي ؛ وهو لبس ثياب الاحرام ، ومنه قد يتأتى تدخّل الرياء فيه ، بخلاف الصوم المتمحّض في النيّة والتروك فقط فهو عبادة صامتة خرساء ، ومعاملة سرّية بين القلب والرّب ، ولعل هذا هو المراد من الحديث المشهور ( الصوم لي وأنا أجزى به ) مبنيّاً للفاعل ، فيكون القصد أنه تعالى تكريماً للصائم يتولى جزائه مباشرة من دون وسائط الفيض ، وعلى المفعول : فيكون المراد انه هو جزائي واللائق بمقام عظمتي وتجرّدي ، فانّ الصائم يتجرّد ويصير روحانياً ، والمتخلق باخلاق الرّوحانيين يلحق بهم ، ويكون لحوقه بهم جزاؤه لهم ، سواء عاد الضمير الى الصوم ، أو للصائم هذا مضافاً الى ما يتضمّنه الصوم من الفوائد الصحّية ، والرياضة البدنيّة ، وتربية قوّة الارادة ، ومضاء العزم ، وتهذيب النفس ، وقمعها عن الانقياد الى بواعث الشهوات ، وكبح جماع قوتي الشهوة والغضب اللتين هما أصل كل جريمة ، والسبب في هتك كلّ حرمة ، ومن آثاره تذكر حال الفقراء وأهل الفاقة ومن كضه الطوى وأمضه الجوع ، فانّ الصيام يوجب رقة القلب واندفاع الدمعة فيواسي اخوانه ، ويكون حليماً ورحيماً ومهبطاً للرحمة ، والراحمون يرحمهم الله تعالى.

٣١٠



٦٨

وحدة الوجود أو وحدة الموجود (١)

« عن سائر العبادات »

هذه القضيّة من أمّهات أو مهمّات قضايا الفلسفة الآلهية وهي تتصل اتصالاً وثيقاً بعلم الحكمة العالية والالهي بالمعنى الاعم الذي يبحث فيه عن الامور العامّة ، كالوجود والموجود وكالواجب والممكن ، والعلّة والمعلول والوحدة والكثرة ، وأمثالها ممّا لا يتعلق بموضوع خاص ، ولا حقيقة معيّنة من الانواع لاذهناً ولا خارجاً ، وللتمهيد والمقدمة نقول :

انّ من المسائل الخلاقية بين حكماء الاسلام وفلاسفة المسلمين مسألة أصالة الوجود أو الماهية بمعنى أنّ المتحقق في العين والخارج هل هو الوجود والماهية امر اعتباري ينتزع من الوجود المحدود المقيّد المتعيّن بالتعيّن الذي يميّزه عن غيره

__________________

(١) مسألة وحدة الوجود او الموجود من معضلات المسائل العلمية والمباحث الغامضة ومقصود شيخنا الامام دام ظله في هذا المقام هو بيان هذه المسألة وتشريح هذه النظرية وبحثها بحثاً علمياً تحليلياً على حسب معتقد القائلين بها واظهار حقيقة رأيهم حول هذا الاعتقاد كما يعتقدون انفسهم باجلى بيان واوضح عبارة.

٣١١

بالجنس والنوع وغيرهما من الاعتبارات او أنّ المتحقق في ظرف العين والخارج ونفس الأمر والواقع هو الماهية والوجود مفهوم والوجود مفهوم اعتباري خارج عنها منتزع منها محمول عليها من الخوارج المحمول لا المحمولات بالضميمة ، فماهيّه النار مثلا اذا تحققت في الخارج وترتبت عليها آثارها الخاصة من الاضائة والاحراق والحرارة صحّ انتزاع الوجود منها وحملة عليها فيقال النار موجودة وإلا فهي معدومة وهذا القول أعني اصالة الماهية ، وأنّ الوجود في جميع الموجودات حتى الواجب اعتبار محض على الظاهر كان هو المشهور عند الحكماء الى أوائل القرن الحادي عشر ، وعليه تبتني شبهة الحكيم ( ابن كمونه ) (١) التي اشكل بها على التوحيد زاعماً أنه ما المانع من أن يكون في ظرف التحقّق ونفس الأمر والواقع هو بتان مجهولتا الكنه والحقيقة ؛ بسيطتان متبائنتان بتمام ذاتيهما وينتزع وجوب الوجود من كلّ منهما ويحمل على كل واحدة منهما من قبيل خارج المحمول لا المحمول بالضميمة لأنّ ذات كلّ منهما بسيطة لا تركيب فيها إذا التركيب يلازم الامكان وقد فرضنا وجوب كلّ منهما وقد اعضلت هذه الشبهة في عصره على اساطين الحكمة واستمر

__________________

(١) عز الدولة سعد بن منصور بن سعد بن الحسن بن هبة الله بن كمونة البغدادي الشهير ب‍ ( ابن كمونة ) له مؤلفات بخطه في الخزانة الغروية في النجف الاشرف ، انظر كتاب ( خزائن الكتب القديمة في العراق ، ص ١٣٥ ط بغداد ) لمؤلفه الجاثة العراقي كوركيس عواد عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ـ يظهر منها اسلامه وحسن عقيدته وجده الاعلى هبة الله بن كمونة الاسرائيلي كان من فلاسفة اليهود في عصر الشيخ الرئيس ابن سينا وصاحب الشبهات المعروفة ونسب الى عز الدولة كتاب ( تنقيح الابحاث في البحث عن الملل الثلاث ) انظر كشف الظنون ، ج ١ ، ص ٤٩٥ ط اسلامبول سنة ( ١٣٦٠ ه‍ ) ، والحوادث الجامعة ، ص ٤٤١ ط بغداد ، وفي الذريعة لشيخنا البحاثة الكبير مد ظله ، ج ٢ ، ص ٩٧ ـ ٢٨٦ ـ ٣٥٨ ط نجف وأيضاً ، ج ٤ ، ص ٤٦٠ ط طهران ان نسبة هذا الكتاب اليه من تهمة العوام له وله شرح الاشارات فرغ منه سنة ( ٦٧٩ ه‍ ) ، واهداه لشمس الدين الجويني صاحب ديوان الممالك وتوفى سنة ( ٦٩٠ ه‍ ) او ( ٦٨٣ ه‍ ) فلا وجه لما في كشف الظنون انه توفى سنة ( ٦٧٦ ه‍ ) ومن ملاحظة ما ذكرناه الاجمال وكذا المصادر التي او عزنا اليها يظهر مواضع الخلل فيما ذكره اللغوى المعاصر ( دهخدا ) في كتابه الكبير الفارسي ( لغت نامه ) ، ج ١ ، ص ٣٤٣ ط طهران فراجع.

٣١٢

اعضالها عدّة قرون حتى صار يعبّر عنها كما في أوّل الجزء الاوّل من الاسفار ( افتخار الشياطين ) وسمعنا من اساتذتنا في الحكمة انّ المحقق الخونساري (١) صاحب ( مشارق الشموس ) الذي كان يلقب بالعقل الحادي عشر ، قال : لو ظهر الحجة عجل الله فرجه لما طلبت معجزة منه الاّ الجواب عن شبهة ابن كمونة ولكن في القرن الحادي عشر الذي نبغت فيه أعاظم الحكماء كالسيد الداماد ، (٢) وتلميذه ملاصدرا ، (٣) وتلميذيه الفيض (٤) واللاهيجى صاحب الشوارق الملقب بالفيّاض (٥) انعكس الامر وأقيمت البراهين الساطعة على أصالة الوجود ، وأنّ الماهيات جميعاً اعتبارات صرفة ينتزعها الذهن من حدود الوجود ، امّا الوجود الغير المحدود كوجود الواجب جلّ شأنه فلا ماهيّة له بل ( ماهيته انيته ) وقد ذكر الحكيم السبزوارى رحمه‌الله (٦) في منظومته البراهين القاطعة على أصالة الوجود مع أنّه من أوجز كتب الحكمة فما ظنّك بالاسفار وهي اربع مجلدات بالقطع الكبير ، ويكفيك

__________________

(١) الحسين بن محمّد الخونساري المحقق علامة زمانه في العلوم له مؤلفات نافعة ولد سنة ( ١٠١٦ ه‍ ) ، وتوفى سنة ( ١٠٩٨ ه‍ ).

(٢) مولانا محمّد باقر الحسيني الشهير ب‍ ( الداماد ) سيد الحكماء ، ومن اعظم رؤساء الدين له مقام شامخ في العلوم ومرتبة سامية في الفقاهة والرياسة والسياسة له مؤلفات نفيسة توفى سنة ( ١٠٤١ ه‍ ) ، انظر سلافة العصر ، ص ٤٨٥ ـ ٤٨٧ ط مصر. الاعلام للزركلي ، ج ٣ ، ص ٨٦٨ ط مصر.

(٣) محمّد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي الشهير ب‍ ( ملاصدرا ) و ( صدر المتألّهين ) اكبر فيلسوف عارف متشرع أعلم حكماء الاسلام وافضلهم وهو امام من تأخر عنه واقتفى أثره كل من نشأ بعده من حكماء الامامية توفى سنة ( ١٠٥٠ ه‍ ) انظر روضات الجنات ، ص ٣٣١ ط ١ ـ طهران.

(٤) محمّد بن المرتضى الشهير ب‍ ( ملا محسن القاشاني ) الفقيه العارف المحقق الحكيم المتأله صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة توفى ( ١٠٩١ ه‍ ) انظر الكنى والالقاب للقمي ، ج ٣ ، ص ٣٢ ـ ٣٣ ط صيدا.

(٥) المولى عبدالرزاق اللاهيجي العالمي الحكيم المحقق المدقق صاحب التصانيف الجيدة توفى سنة ( ١٠٥١ ه‍ ) ، وقد كتبنا في ترجمته رسالة مستقلة لم يطبع.

(٦) المولى هادي بن مهدي السبزواري من اكبر حكماء الامامية الفيلسوف الفقيه المعارف صاحب التصانيف الجليلة ولد سنة ( ١٢١٢ ه‍ ) ، وتوفى سنة ( ١٢٨٩ ه‍ ) انظر المآثر والاثار ، ص ١٤٧ ط تهران.

٣١٣

منها برهان واحد وهو اختلاف نحوي الوجود حيث نرى بالضّرورة والوجدان أنّ النار مثلاً بوجودها الذهني لا يترتب عليها شيء من الآثار من احراق وغيره بخلاف وجودها الخراجىء ولو كانت هي المتأصلة في كلا الوجودين لترتبت آثارها ذهناً وخارجاً واليه أشار في المنظومة بقوله :

وانه منبع كل شرف

والفرق بين نحوي الكون يفي

وحيث اسفرت الابحاث الحكمية عن هذه الحقيقة الجلية من اصالة الوجود الخارجي الغير المحدود الذي نعبر عنه بواجب الوجود جلّت عظمته يستحيل أن يفرض له ثاني. فان كل حقيقة بسيطة لا تركيب فيها يستحيل أن تتثنى وتتكرر لا ذهناً ولا خارجاً ولا وهماً ولا فرضاً ، وقد أحسن المثنوي (١) في الاشارة الى هذه النظرية القطعية حيث يقول : عن أستاذه شمس التبريزي. (٢)

شمس در خارج اگر چه هست فرد

مى‌توان هم مثل او تصوير كرد

شمس تبريزى كه نور مطلق است

آفتاب است و ز انوار حق است

شمس تبريزى كه خارج از أثير

نبودش در ذهن ودر خارج نظير

وبعد أن اتضح بطلان أصالة الماهية ، وأشرق نور الوجود باصالته اختلف القائلون باصالة الوجود بين قائل بأنّ الوجودات بأجمعها واجبها وممكنها الذهني منها ، والخارجي المتبائنة في تشخصها وتعيينها قطعاً هل اطلاق الوجود عليها من باب المشترك اللفظي ، وهو اطلاق اللفظ على المعاني المتكثرة والمفاهيم المتبائنة التى لا تندرج تحت حقيقة واحدة ، ولا يجمعها قدر مشترك كالعين التي تستعمل في

__________________

(١) المولى جلال الدين محمّد المولوي البلخي الرومي من أشهر مشايخ العرفاء وقادتهم الاكابر صاحب ديوان ( المثنوي ) الفارسي المشهور ولد سنة ( ٦٠٤ ه‍ ) ، وتوفى سنة ( ٦٧٢ ه‍ ).

(٢) شمس الدين محمّد بن ملك داد التبريزي من مشاهير العرفاء والصوفية ومشايخهم الاكابر توفى سنة ( ٦٤٥ ه‍ ) ، انظر ( ريحانة الادب ) ، ج ٢ ، ص ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ط طهران.

٣١٤

الباصرة وفي النابعة والذهب الى آخرها لها من المعاني الكثيرة المتبائنة على عكس المترادف الفاظ كثيرة لمعنى واحد والمشترك معاني كثيرة تحت لفظ واحد ، وقد نسب هذا القول الى المشائين أو لأكثرهم.

أو أنّه المشترك المعنوي موجود النار ووجود الماء في باب المفاهيم ووجود زيد ، ووجود عمر وفي باب المصاديق شيء واحد وحقيقة فارده وانّما التبائن والتعدّد في الماهيّات المنتزعة من حدود الوجود وتعيّنات القيود ، فحقيقة الوجود من حيث هو واحدة بكل معانى الوحدة ، وما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك فتدبّر هذه الجملة جيداً كى تصل الى معناها جيداً ، وحيث أنّ القول الاوّل يستلزم محاذير قطعية الفساد وما يستلزم الفاسد قطعاً ، ومن بعض محاذيره لزوم العزلة بين وجود الواجب ووجود الممكن وعدم السنخية بين العلة والمعلول المنتهى الى بطلان التوحيد من أصله واساسه ، والى هذا أشار سيد الموحدين وامام العرفاء الشامخين أميرالمؤمنين سلام الله عليه حيث يقول :

( توحيده تمييزه عن خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ) ولله هذه الحكمة الشامخة والكلمة الباذخة ما أجلّها وأجمعها لقواعد التوحيد والتجريد والتنزيه ودحض التشبيه ، والأصح الذي لا غبار عليه أنّ حقيقة الوجود من حيث هي واحدة لا تعدّد فيها ولا تكرار بل كلّ حقيقة من الحقائق وماهية من الماهيّات أيضاً بالنظر الى ذاتها مجردة عن كل ما سواها يستحيل تعددها وتكررها ومن قواعد الحكمة المتفق عليها أنّ ( حقيقة الشيء لا تتثنى ولا تتكرر والماهيّات انّما تتكثر وتتكرر بالوجود ) كما ان الوجود انما يتكثر بالماهيّات والحدود يعنى أنّ ماهية الانسان وحقيقته النوعية انّما تكثرت بالافراد العينية والمصاديق الخارجية والتعيّن انّما جاء من الوجود وبه تكررت الماهية وتكثرت ، ولو لا الوجود لما كانت الماهية من حيث هي الاّ هي لا تعدد ولا تكثر وكما أنّ الماهيّة بالوجود تكرّرت وتكثّرت

٣١٥

فكذلك الوجود انّما تكرر وتكثر بالحدود والتعيّنات التي انتزعت منها الماهيّات ، فالقضية مطردة منعكسه تكثر الوجود بالماهية ، وتكثرت الماهية بالوجود.

ثم انّ الوجود نوعان : ذهني وخارجي ، اما الذهني : فهو اعتبار صرف ومفهوم محض كسائر المفاهيم الذهنية المنتزعة من المصاديق يحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي من المحمولات بالضميمة لا خوارج المحمول فقولك زيد موجود كقولك : زيد كاتب وهو كلي واحد منطبق على افراده التي لا تحصى ومن المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم.

امّا الوجود العيني الخارجي الذي يحكى عنه ذلك المفهوم وينتزع منه : فهو بانواه الأربعة الذاتي وهو بشرط لا والمطلق وهو لا بشرط والمقيد وهو بشرط شيء ويندرج فيه الوجود الرابط وهو مفاد كان الناقصة والرابطي وهو ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره كالاعراض والربطي وهو ما يكون وجوده لنفسه في نفسه ولكن بغيره كالجواهر فانها موجودة لنفسها وفي نفسها لكن بغيرها أي بعلتها اما واجب الوجود فوجوده لنفسه في نفسه بنفسه ، وهو أي الوجود أيضاً بذاته وبجميع هذه الأنواع وحداني ذو مراتب متفاوتة بالقوّة والضعف والأوّليّة والأولوية أعلى مراتبة واولها واولاها الوجود الواجب الجامع لكمالات جميع مادونه من مراتب الوجود بنحو البساطة والوحدة الجامعة لجميع الكثرات وكل الكثرات نشأت منها ورجعت اليها إِنّا للهِ وإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ واليه الاشارة بقولهم ( بسيط الحقيقة كل الاشياء وليس بشيء من الاشياء ) والتوحيد الكامل ( رد الكثرة الى الوحدة والوحدة الى الكثرة ) وهذا الوجود الخارجي من أعلى مراتبه الوجوبيّة الى أخسّ مراتبه الامكانية وهي الهيولى التي لها أضعف حظّ من الوجود وهى القوة القابلة لكلّ صورة ولعلها هي المشار اليها في دعاء السمات انزجر لها العمق الاكبر كله واجبه وممكنه وماديه ومجرده حقيقة واحدة وان

٣١٦

اختلف في القوة والضعف والوجوب والامكان والعلّية والمعلولية ولكن كل هذا الاختلاف العظيم لا يخرجه عن كونه حقيقة واحدة لا يصيره حقائق متبائنة وان كان بالنّظر الى حدوده ومراتبه متعدداً ومتكثراً ولكن حقيقته من حيث هي واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ألا ترى أنّ الماء من حيث انواعه واصنافه ما اكثره واوسعه فماء السماء وماء البحر وماء النهر وماء البئر وهكذا ولكن مهما تكثّرت الانواع وتعدّدت المصاديق فحقيقة الماء وطبيعته في الجميع واحدة وهكذا سائر الماهيات الطبائع اذاً فوحدة الوجود بهذا المعنى تكاد أن تكون من الضروريات التي لا تستقيم حقيقة التوحيد الاّ بها ولا تنتظم مراتب العلّة والمعلول والحق والخلق الا بها فالوجود واحد مرتبط بعضه ببعض من أعلى مراتبه من واجب الوجود نازلاً على أدناها وأضعفها وهو الهيولى التي لاحظ لها من الوجود سوى القوة والاستعداد ثم منها ساعداً الى المبدء الاعلى والعلة الاولى منه المبدء واليه المعاد ، ثم انّ اول صادر منه واقرب موجود اليه هو العقل الكلي والصادر الاول ( اول ما خلق الله العقل ) الحديث وهو العقل الكلي الخارجي العيني لا الكلي الذهني المفهومي وهو ظل الله وفيضه الاقدس ـ وظلّ الله الممدود من سماء الجبروت عالم السكون المطلق ومركز الثبات ، الى عالم الملك والملكوت والناسوت موطن التغيّر والحركات ، ألم تر الى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ، وهذا هو وجه الله الكريم الذي لا يفنى أبداً وهو اسم الله العظيم الأعظم ونوره المشرق على هياكل الممكنات الذي يطلق عليه عند الحكماء بالنفس الرحماني وعند العرفاء بالحق المخلوق به ، وفي الشرع رحمته التي وسعت كل شيء والحقيقة المحمدية ، والصادر الاول ( أوّل ما خلق الله نوري ) وهو الجامع لكل العوالم عالم الجبروت والملكوت والملك والناسوت ، وجميع العقول المفارقة والمجردة والمادية الكلية والجزئية عرضية وطولية ، والنفوس كذلك كلية وجزئية والارواح والاجسام

٣١٧

والمثل العليا ، وارباب الانواع التي يعبّر عنها في الشرع بالملائكة والروح الاعظم الذي هو سيد الملائكة ورب نوعها. كل هذه العوالم صدرت من ذلك الوجود المطلق والمبدأ الاعلى الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى قوّة وشدّة وعدّة ومدّة ، أو جد عزّ شأنه ذلك الصادر الاوّل الجمع لجميع الكائنات والوجودات الممكنات ، أو جده بمحض المشيئة ، وصرف الارادة في أزل الآزال الى أبد الآباد وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (١) والتشبيه من ضيق نطاق الالفاظ ، والاّ فالحقيقة أدقّ وأرقّ من ذلك وهو المثل الاعلى الحاكي بنوع من الحكاية عن تلك الذات المقدّسة المتحجّبة بسرادق العظمة والجبروت وغيب الغيوب ( يا من لايعلم ما هو الاّ هو ) وذلك العقل الكلي أو الصادر الاول ( ما شئت فعبرّ ) أو الحقيقة المحمّديّة متصلة بمبدأها غير منفصلة عنه ، لا فرق بينك وبينها الاّ أنّهم عبادك وخلقك ؛ بدؤها منك وعودها اليك ، ( أنا أصغر من ربي بسنتين ) والكل وجود واحد ممتد بلا مدة ولا مادّة ، من صبح الازل الى عشية الابد بلاحدّ ولاعدّ ، ولا بداية ولا نهاية ، ومن المجاز البعيد ، وضيق خناق الالفاظ قولنا : هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، وجوده قبل القبل في أزل الآزال ، وبقاؤه بعد البعد من غير انتقال ولا زوال.

همه عالم صداى نغمه اوست

كه شنيد اين چنين صداى دراز

ما خَلَقَكُمْ ولا بَعَثَكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ (٢) وذلك النفس الرحماني والعقل الكلّي ، والصادر الاول ـ هو كتاب الله التكويني ـ الذي لا نفاد لكلماته قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (٣)

__________________

(١) سورة القمر ، آية ٥٠.

(٢) سورة لقمان ، آية ٢٨.

(٣) سورة الكهف ، آية ١٠٩.

٣١٨

ولو أردنا التوسع في هذه الغوامض والاسرارا وكشف الرموز عن هذه الكنوز ملأنا القماطير بالاساطير ولم نأت الا بقليل من كثير.

( مثنوى هفتاد من كاغذ شود )

ولكن ما ذكرناه مع غاية ايجازه لعلّه كاف للمتدبّر في أثبات المعنى الصحيح ( لوحدة الوجود ) وأنّه مترفّع الأفق عن الانكار والجحود ، بل هو من الضروريات الأوليّة ، وقد عرّفنا الضروري في بعض مؤلفاتنا بأنه ما يستلزم نفس تصوّره حصول التصديق به ولا يحتاج الى دليل وبرهان ، مثل أنّ الواحد نصف الاثنين فوحدة الوجود بالمعنى الذي ذكرناه لا ريب فيها ولا اشكال ، انّما الاشكال والأعضال في وحدة الموجود فانّ المعقول في بادىء النظر وحدة الوجود ، وتعدّد الموجود المتحصّل من الحدود والقيود والتعينات ، ولكنّ الذي طفح وطغى في كلمات العرفاء الشامخين ومشايخ الصوفية السالكين والواصلين هو وحدة الوجود ووحدة الموجود أيضاً ، وكانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها أكابر العرفاء والأساطين في القرون الاولى كالجنيد (١) والشبلى (٢) وبايزيد البسطامى ، (٣) ومعروف الكرخي ، (٤) وأمثالهم حتى وصلت الى الحلاّج وأقرانه الى أن نبغ في

__________________

(١) سعيد بن محمّد بن الجنيد القواريري الزاهد المشهور سلطان الطائفة الصوفية توفى سنة ( ٢٩٧ ه‍ ).

(٢) ابوبكر دلف بن جحدر الشبلي الخراساني البغدادي من كبار مشايخ الصوفية نقل : انه كان يبالغ في تعظيم الشرع المطهر توفى سنة ( ٣٣٤ ه‍ ).

(٣) ابويزيد البسطامى طيفور بن عيسى الصوفي الزاهد المشهور توفى سنة ( ٢٦١ ه‍ ).

(٤) معروف بن فيروز الكرخي ابومحفوظ احد اعلام الزهاد والعرفاء كان من موالي الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام توفى ببغداد سنة ( ٢٠٠ ه‍ ) ، انظر تنقيح المقال ، ج ٣ ، ص ٢٢٨ ؛ الاعلام ، ج ٢ ، ص ١٠٥٦ ط مصر.

٣١٩

القرون الوسطى محي الدين العربي وتلميذاه القونوي. (١)

والقيصري (٢) فجعلوها فناً من الفنون والمؤلّفات الضخام كالفتوحات المكية وغيرها ، والمتون الختصرة كالفصوص والنصوص التي شرحها ونقحها صدر الدين القونوي ، وانتشرت وعند عرفاء القرون الوسطى من العرب كابن الفارض وابن عفيف التلمساني (٣) وغيرهما ، ومن الفرس كثير لا يحصى عددهم كالعطّار (٤) والهاتف (٥) والجافي (٦) واضرابهم واحسن من أبدع فيها نظماً العارف التبريزي الشبستري في كتابه المعروف ( كلشن راز ) وخلاصة هذه النظرية أنّ تلك الطائفة لمّا ارادوا ان يبالغوا ويبلغوا أقصى مراتب التوحيد الذي ما عليه من مزيد ، وان لا يجعلوا للحق شريكا لا في الربوبية كما هو المعروف عند ارباب الاديان بل نفوا الشريك له حتى في الوجود فقالوا لا موجود سوى الحق ، وهذه الكائنات من المجرّدات والماديّات من أرضين وسماوات ، وما فيها من الأفلاك والانسان والحيوان والنبات بل العوالم باجمعها كلها تطوراته وظهوراته وليس في الدار غيره ديّار ، وكل ما نراه أو نحسّ به أو نتعقله لا وجود له ، وانّما الوجود والموجود

__________________

(١) ابوالمعالي صدر الدين محمّد بن اسحق الشافعي القونوي صاحب التصانيف توفى سنة ( ٦٧٣ ه‍ ).

(٢) داود بن محمود الرومي الساوي نزيل مصر صاحب شرح فصوص الحكم القبصري توفى سنة ( ٧٥١ ه‍ ).

(٣) شمس الدين محمّد بن سليمان بن علي المعروف ب‍ ( ابن العفيف التلمساني ) وب‍ ( الشاب الظريف ) ؛ شاعر مترقق مقبول الشعر ولد سنة ( ٦٦١ ه‍ ) وتوفى سنة ( ٦٦٨ ه‍ ) ، الاعلام ، ج ٣ ، ص ٩٠٢.

(٤) فريد الدين محمّد بن ابراهيم النيشابوري المعروف ب‍ ( الشيخ العطار ) صاحب الاشعار والمصنفات في التوحيد والمعارف توفى سنة ( ٦٢٧ ه‍ ).

(٥) الهاتف هو السيد احمد الاصفهاني الشاعر المشهور توفى سنة ( ١١٩٨ ه‍) والهاتفي هو المولى عبد الله ابن اخت الجامي توفى سنة ( ٩٢٧ ه‍ ).

(٦) المولى عبدالرحمن الجامى الدشتي الصوفي النحوي المنتهى نسبه الى محمّد بن الحسن الشيباني وهو صاحب شرع الكافية في النحو توفى سنة ( ٨٩٨ ه‍ ) ، وقد يطلق الجامي على ابي نصر احمد بن محمّد البجلي المعروف ( زنده پـيل ) احد مشايخ الصوفية توفى حدود سنة ( ٥٣٦ ه‍ ).

٣٢٠