جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



٦٣

مولد أميرالمؤمنين عليه‌السلام

في كشف الغمة عن يزيد بن قعنب ـ قال كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب (رض) وفريق من بني عبدالعزّى ـ بازاء بيت الله الحرام اذ اقلبت فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين عليه‌السلام حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق. فقالت : يارب اني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من كتب ورسل واني مصدّقة بكلام جدي ابراهيم الخليل عليه‌السلام وانه بنى البيت العتيق فبحقّ البيت ومن بناه وبحق المولود الذي في بطني الاّ ما يسّرت على ولادتي.

قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد الى حاله فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا ان ذلك من أمر الله تعالى.

ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها « علي بن أبى طالب » ثم قالت : اني فضّلت على من تقدّمني من النساء لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لايحب أن يعبد الله فيه الا اضطراراً وأنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنيّاً. واني دخلت البيت الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ،

٢٨١

فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف وقال : يا فاطمة سميّه علياً فهو عليٌّ ، والله العلي الأعلى يقول : شققت اسمه من اسمي وأدبته بآدابي وأوقفته على غامض علمي وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن على ظهر بيتي ويقدّسني ويمجّدني فطوبى لمن أحبّه وأطاعه وويل لمن ابغضه وعصاه.

قالت فاطمة سلام الله عليها : ولدت علياً ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثون سنة وأحبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حباً شديداً ، وقال : اجعلي مهده قرب فراشي وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يلي اكثر تربيته ، وكان يطهّر علياً في وقت غسله ويوجره اللبن عند شربه ويحرك مهده عند نومه ويناغيه في يقظته ويحمله على صدره ويقول هذا أخي ووصيي وناصري وصفيّي وذخري وصهري وزوج كريمتي وخليفتي على أمتي وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها فصلّى الله على الحامل والمحمول.

أقول : اتّفقت رواية الفريقين المؤالف والمخالف على انه سلام الله عليه ولد في الكعبة وأنّها من المزايا التي اختصّه الله بها فلم تكن لأحد بعده.

ولكن لم يبحث أحد من العلماء الراسخين عن سرّ هذا الرمز الالهي والايماء الربوبي ، ولعلّه اشارة الى ما بينه وبين الكعبة من المناسبة ، فكما ان الصلاة لاتقبل ولاتصحّ الا بالتوجه اليه ، فكذلك الاعمال كلها لاتقبلل الاّ بالتوجه اليه ، والاعتماد على الأخذ منه ومن ذريته والتقرب الى الله بولايتهم وولايته.

فهم كعبة الارواح وهو كعبة الاشباح ، وهم كعبة الاسرار والمعاني وهو كعبة الظواهر والمباني وهم كعبة المعارف واللطائف وهو كعبة العاكف والطائف ، والغاية أن تولده سلام الله عليه في الكعبة اشارة الى أنه هو سرّ شرف الكعبة وروح معناها وجوهر حقيقتها.

ولعل الحق جلّ شأنه انما شرفها في عالم الأزل لسابق علمه الأزلي بأنّها ستكون مهبط ذلك النور الأقدم ومحطّ ذلك التجلّي الأعظم وموضع بزوغ ذاك القبس

٢٨٢

الآلهي والعلم الغير المتناهي ، ويشير الى هذا ما هو المشهور من حديث : مفاخرة كربلاء والكعبة الذي صدع وسطع منه النداء الربوبي الكعبة قرى يا كعبة وتطامني فلولا كربلاء ومن حل فيها لما خلقتك ولا شرفتك ... الى آخر الحديث.

والا فليست الكعبة ولا المشاعر ولا البيت والا الحجر ولا المروة والا الصفا لولا طلوع تلك الأنوار منها وسطوع هاتيك الاقمار الربوبية عنها الاكسائر الأماكن والبقاع وحقّاً ما يقول القائل من أعمامنا : (١)

هم كعبة البيت ومن هم

هم عرفات والصفا وزمزم

ما الركن ما الكعبة ما المشاعر

هم باطن الامر وهذا الظاهر

وعلى هذا فيكون التعليل معكوساً ولاينبغي أن يقال : ما سرّ تولد أميرالمؤمنين عليه‌السلام في الكعبة ؟ وهو تولّده فيها ، فتدبّر وبالله التوفيق وله المنة والحمدلله رب العالمين.

__________________

(١) هو العلامة الفقيه الشيخ عباس بن المرحوم الفقيه المتضلع الشيخ حسن صاحب انوار الفقاهة بن الشيخ الاكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء ولد عليه الرحمة سنة : (١٢٥٣) ه‍ قبل وفات أبيه بعشر سنين ونقلناه عن خطه الشريف ونقل هذه الابيات ايضاً لجده رحمه‌الله تعالى :

وليس لي كهف اليه التجى

الا ولائي للهدات الحجج

محمّد وصهره وولده

بهم نجى آدم لا في ورده

وديعة الله المليك المنعم

عليهم بعد الصلاة سلم

ذخيرة المعاد حصن الملتجي

سفينة النجاة باب الفرج

تجاوزو سمك سماء الحجب

وقتربوا للرب بالتقرب

وكعبة البيت هم ومن هم

هم عرفات والصفا والحرم

والحجر الاسود والمقام

وزمزم والمشعر الحرام

هيهات ما المنسك ما المشاعر

هم باطن الامر وذاك الظاهر

ما البيت ما الاستار ما أركانه

هم قبلة البيت وهم أمانه

٢٨٣
٢٨٤



٦٤

احوال الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام

روى الأفاضل الثقات عن الشيخ المفيد رضوان الله عليه في الاختصاص قال قال ابوالحسن موسى بن جعفر عليهم‌السلام : لما امر هارون الرشيد بحملي دخلت عليه فسلّمت فلم يرد عليّ السلام ورأيته مغضبا فرمى اليّ بطومار فقال : اقرأه فاذا فيه كلام قد علم عزوجل برائتي منه وفيه ان موسى بن جعفر عليه‌السلام يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممّن يقول بامامته يدينون الله بذلك عليهم الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويزعمون أنه فرض يذهب اليه بالعشر ولم يصل بامامتهم ولم يحجّ باذنهم ويجاهد بامرهم ويحمل الغنيمة اليهم ويفضّل الائمة على جميع الخلق ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله ورسوله فهو كافر حلال دمه وماله وفيه كلام شناعة مثل المتعة بلاشهود واستحلال الفروج ولو بدرهم والبرائة من السلف ويلعنون عليهم في صلاتهم ويزعمون ان من لم يتبرء منهم فقد بانت منه امرأته والكتاب طويل انا قائم أقرء وهو ساكت فرفع رأسه وقال : يا موسى خليفتان يجبى اليهما الخراج ؟ فقلت : يا اميرالمؤمنين أعيذك الله ان تبوء باثمي واثمك وتقبل الباطل من اعدائنا علينا فانه كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي بعث

٢٨٥

محمّداً بالنبوة ما حمل اليّ أحد درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج كلّنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي احلها الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : لو اهدى اليّ كراع لقبلت ، ولو دعيت الى ذراع لأجبت ، وقد علم اميرالمؤمنين ضيق ما نحن فيه وكثرة عدوّنا وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب فضاق بنا الأمر ورحمت علينا الصدقة فاضطررنا الى قبول الهدية وكل ذلك ممّا علمه اميرالمؤمنين فان رأيت بقرابتك من رسول الله ان تأذن لي احدثك بحديث اخبرني به ابي عن آبائه عن جدي رسول الله فقال اذنت لك فقلت اخبرني عن آبائه عن جدي رسول الله انه قال : ان الرحم اذا مسّت الرحم تحركت واضطربت فناولني يدك جعلني الله فداك ، فقال : ادنو فدنوت منه فأخذ بيدى ثم جذبني الي نفسه وعانقني طويلا ثم تركني وقد دمعت عيناه فقال : اجلس يا موسى فليس عليك بأس صدقت وصدق جدّك لقد تحرّك دمي واضطربت عروقي وغلبت عليّ الرقة حتى فاضت عيناي واعلم انك لحمي ودمي ان الذي حدثتني به صحيح وانا اريد ان اسئلك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم اسئل عنها احداً فان اجبتني عنها خلّيت عنك ولم اقبل قول أحد فيك وقد بلغني انك لم تكذب قط فاصدقني عما اسئلك فقلت ما كان علمه عندي فاني مخبرك به ان آمنتني قال : لك الامان ان صدقتني وتركت التقيّة التي تعرفون بها بني فاطمة فقلت ليسأل اميرالمؤمنين عمّا شاء.

قال : اخبرني لم فضّلتم علينا ونحن وانتم من شجرة واحدة وبنو عبدالمطلب سواء أنتم بنو ابي طالب ونحن بني العباس وهما عما رسول الله وقرابتهما منه سواء ؟ فقلت : نحن اقرب ، قال وكيف ذلك ؟ قلت : لان ابا طالب وعبدالله لأم وأب وابوكم العباس ليس من ام عبدالله ، قال : ولم ادعيتم انكم ورثتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والعلم يحجب ابن علم وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد توفى ابوطالب قبله والعباس عمّه حي فقلت له : ان رأى اميرالمؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة ويسئلني عن كلّ باب

٢٨٦

سواه ، فقال : لا أو تجيب ؟ فقلت : فآمني قال : قد آمنتك قبل الكلام ، فقلت : ان في قول علي بن ابيطالب عليه‌السلام انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان او انثى لاحد سهم الا للأبوين والزوج والزوجة ولم يثبت مع ولد الصلب للعم ميراث ولم ينطق به الكتاب الاّ أنّ تيماً وعديا وبني امية قالوا : العم والد رأيا منهم بلاحقيقة ولا اثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قال بقول على عليه‌السلام من العلماء قضايا هم خلاف قضايا هؤلاء هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه‌السلام وقد حكم به وقد ولاه اميرالمؤمنين المصرين البصرة والكوفة وقد قضى به فانتهى الى اميرالمؤمنين فامر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري وابراهيم المدني والفضيل بن عباس فشهدوا انه قول عليّ في هذه المسألة فقال لهم : لم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج ؟ فقال : جسر نوح وجبنا وقد امضى اميرالمؤمنين قضية بقول قدماء العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : اقضاكم عليّ وكذلك قال عمر بن الخطاب : عليّ اقضانا وهو اسم جامع لان جميع ما مدح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اصحابه من الفرايض والقرائة والعلم داخل في القضاء فقال زدني ياموسى ، قلت : المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك ، فقال : لاباس عليك فقلت : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يورث من لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر فقال ما حجّتك ؟ قلت : قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتَهُمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وانّ عمي العباس قدر على الهجرة ولم يهاجر وكان في عدد الاسارى ببدر وجحد ان يكون له قدرة على الفداء ، فانزل الله تبارك وتعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره بدفين له من ذهب فبعث عليّا فاخرجه م عند ام الفضل واخبر العباس بما اخبره جبرئيل فاذن بعلي واعطاه علامة ما دفن فقال العباس عند ذلك : يابن اخى ما فاتنى والله منك اكثر واشهد انك رسول رب العالمين فلمّا احضر علي عليه‌السلام الذهب قال العباس افقرتني يابن اخي فانزل الله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ

٢٨٧

فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ . فقال لي : اسئلك يا موسى هل افتيت بذلك احداً من أعدائنا او الفقهاء ؟ فقلت : اللهم لا وما سئلني عنها الا اميرالمؤمنين ثم قال لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله ويقولون لكم يابن رسول الله وانتم بنو علي وانما ينسب المرء الى ابيه وفاطمة هي وعاء والنبي جدكم من قبل أمكم ؟ فقلت : يا اميرالمؤمنين لو انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟ فقال : سبحان الله ولم لا اجيبه بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك ، فقلت : ولكنه لايخطب اليّ ولا ازوجه ، فقال : ولم ؟ فقلت : لأنه ولدني ولم يلدك ، فقال : احسنت يا موسى فكيف قلتم انّا ذرية النبي والنبي ولم يعقّب وانما العقب للذكر لا الانثى وانتم ولد الابنة ؟ فقلت : اسئلك بحق القرابة والقبر ومن فيه الا اعفيتني من هذه المسألة ، فقال : لا او تخبرني بججتكم فيه يا ولد علي وانت يا موسى يعسوبهم وامام زمانهم ولست اعفيك عن كل ما اسئلك حتى تأتيني فيه بالحجة من كتاب الله فانتم تدعون معشر ولد عليّ انه لايسقط عنكم منه شيء الف ولا واو الا وتأويله عندكم واحتججتم بقوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقد استغنيتم عن راي العلماء وقياسهم ؟ فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ قال : هات فقلت :

بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وايوب الى قوله وعيسى ... من أب عيسى يا اميرالمؤمنين ؟ فقال : ليس لعيسى اب ، فقلت : انما الحقناه بذراري الانبياء من قبل مريم عليها‌السلام وكذلك انما الحقنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل فاطمة عليها‌السلام فقال : احسنت احسنت يا موسى فزدني من مثله فقلت : وقد اجمعت الأمة برّها وفاجرها ان حديث النجراني حين دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المباهلة لم يكن في الكساء الا رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فقال الله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا

٢٨٨

وَأَنْفُسَكُمْ فكان تأويل ابنائنا الحسن والحسين ، فقال : احسنت ارفع اليّ حوائجك ، فقلت : حاجتي ان تأذن لى في الانصراف الى أهلي فانيى تركتهم باكين آيسين من ان يروني ، فقال : مأذون لك اردد.

وهكذا كان دأب ذلك الطاغية مع الامام عليه‌السلام لايزال يناظره ويجادله والامام يصانعه ويجامله ، يكاتمه مرة ويكاشفه اخرى ويحاشيه طوراً ويعايشه طوراً وكان هارون كأنه يريد بتلك المطارحات والمنافحات ان يستطلع مكنون الحقيقة من الامام ويستجلى مخبئات الاسرار ويتعرّف ما عند ابي الحسن سلام الله عليه في أمر الامامة والخلافة وانه هل يرى في نفسه ردائه المستحلب وحقه المغتصب وهل في أنفس آل علي عليه‌السلام نزوع بعد اليها وعزيمة نهوض اليها ام طابت وتطامنت انفسهم عنها وتخلّت عزائهم منها ، فكان الامام عليه‌السلام يتجافى عن ذلك ما استطاع وعدد امر لايفسح له في ذلك ويابى الا ان يصارحه بالحقيقة ولا يقنع منه الا بمخ الصواب ، فاضطر الامام الى ان فلقى عليه من الحجج البالغة بل الصواعق الدامغة ما يضيق الدنيا في عينه ويصغر عظمة ملكه وسلطانه ويجعله في اضيق من الحبوس التي حبس الامام فيها اخيراً مستشيراً حيث يوضح له عيانا حجة وبرهانا انه غاصب ظالم ومخلد في العذاب الدائم وكل تلك المساجلات كان الغرض منها التوصل الى تلك الخفايا والوقوف على هاتيك الثنايا ولكن الغوى الرشيد والجبار العنيد عرف بعد ان سئل الامام تلك المسائل التي ادلى سلام الله عليه فيها بالحجج وأوضح المنهج واخذ بالفلج انه لوصارحه بامر الامامة وقال له فمن اين جائتكم الامامة وصرتم اوصياء رسول الله ورسول الله لم يوص الى احد وانما الامامة باجماع اهل الحل والعقد وما أشبه هذا من مزخرفاتهم عرف انه لو سئله عن ذلك لالقمه الامام حجراً ولواه من الفشل والخزي ما يودّ معه لو نبذ بالعرا فلهذا قطع الكلام ووقف دون الغاية وقال في نفسه يقينا حسبنا منك يا ابا الحسن ما لقينا ولكن الامام

٢٨٩

سلام الله عليه اتماماً للحجة وقطعا للمعاذير كان يصارحه بجواب ذلك السؤال المقدر ويرميه بأم الصدر ويجره العلاقم ، فقد روى اثبات الفريقين من العامة والخاصة حتى رواه الزمخشري في ربيع الابرار قال : ان الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر عليه‌السلام حدّ لي فدك حتى أردها اليك فيأبى حتى الحّ عليه.

أقول وكأنه سلام الله عليه أراد أن يدله على ان فدك ليست هي تلك النخيلات التي بيثرب وانما هي الملك والسلطان الذي انت فيه وغاصب لنا به ، فقال : لا أحدها الا بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : ان حددتها لم تردها وكان الطاغية أحس فاخذ يلح على الامام ليستطلع طلع الحقيقة ويستجلى محبأة السريرة ، فقال للامام : بحق جدّك الا فعلت قال : اما الحد الاول فعدن فتغير وجه الرشيد وقال : الحدّ الثاني سمرقند فاربد وجهه وقال : الحد الثالث افريقيه فاسود وجهه وقال : هبه قال : والرابع سيف البحر مما يلي حرزا ارمنية فقال الرشيد : فلم يبق لنا شيء فتحول الى مجلسي ؟ قال موسى عليه‌السلام قد اعلمتك انني ان حددتها لم تردها. وانت تعلم ان مثل هارون في طاغوته وجبروته وحرصه على الملك الى اين يبلغ الغيظ والحنق به على من يبدى صفحته له قائلا اني انا احق منك بالملك واولى بالامامة والولاية وانت غاصب ظالم وهو الذي اباد البرامكة واستأصلهم وهم اعزّ الخلق عليه على الظنّة وتوهم انه ربما يغلبونه او يتغلبون على ولده من بعده ولذلك لما سمع ذلك الكلام من الامام صمّم الغريمة على اتلافه كما صنع اسلافه باسلافه وقال رواة ذلك الحديث فعندها عزم على قتله ومن تلك المحاورات وامثالها يعرف معنى ما شاع عنهم سلام الله عليهم من انّ الحق يعلو ولايعلى عليه يعني ان الحق يعلو بالحجة والبرهان ان كان الباطل طالما يعلو على الحق بالغلبة والسلطان فان الائمة على ذكرهم السلام مازالو يقهرون اعدائهم بالحجج الباهرة والايات القاهرة ولكن اعدائهم يقهرونهم على ناموس رد الفعل بالمثل فيرمونهم بامهات المهالك

٢٩٠

يحطّمونهم حطما طحنوهم طحن الرحا وداسوهم دوس السنبل خطما خضما قتلا وسما وشنقا ومحقا ارهاقا وازهاقا واعتقالا واحراقا.

لما راى هارون ان لسان الامام على ذكره السلام اشد عليه من مأة الف سيف اراد ان يقتله بان يسجنه ويعتقله ليشفى ألم غيظه منه اولاً ويقطع سبيل وصول الناس اليه ثانياً كي لاتثور ثائرتهم وتعظم عليه بليتهم فزج الامام بسجن لايرى فيه أديم السماء ولا يبرد اليه بريد الهواء ولكن كل ذلك ما برّ لوعة غيظه ولا اطفى نار حقده ولم يجد ما يبرد أواره ويبلغه من الامام او تاره الاّ جرعة السم في الرطب فنال فرعون ببغيه وسلطانه ما اراد من موسى زمانه وكذلك ما تركت تلك الامة التعيسة وفراعنتهم نوعاً من انواع العسف والجور والعذاب الاليم الا وقلبت اهل البيت على جمرة ساجور ومكنت زعماء الطاغوت حتى شفى من روح الايمان غليل كفره.

ففي بعض زياراتهم الجامعة المفجعة : ياموالي فلو عاينكم المصطفى وسهام الأمّة مغرقة في اكبادكم ورماحهم مشرعة في نحوركم وسيوفهم مولغة في دمائكم يشفى ابناء العواهر والزواني غليل الفسق من ورعكم وغيظ الكفر من ايمانكم وانتم بين صريح في المحراب قد فلق السيف هامته وشهيد فوق الجنازة قد شكّت بالسهام اكفانه وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ومكبّل في السجن قد رضت بالحديد اعضائه ومسموم قد قطعت بجرع السم امعاؤه وشملكم عباديد تفنيهم العنيد وابناء العبيد والمكبل في السجن المرضوضة بالحديد اعضائه المقطع بجرع السم امعائه ، هم الامام موسى بن جعفر صلوات الله عليه وانّ جنازته اخرجت مع سلاسل السجن وللحديد حشخة في رجله فهل المحن يا سادتي الا التي لزمتكم والمصائب الا التي عمّتكم والفجائع الا التي خصّتكم والقوارع الا التي طرقتكم ، فصلوات الله عليكم وعلى ارواحكم واجسادكم ورحمة الله وبركاته.

٢٩١
٢٩٢



٦٥

وفات الامام موسى الكاظم عليه‌السلام

قال الخطيب البغدادي هو من أعاظم علماء العامّة وثقات المؤرخين وقدمائهم في تاريخ بغداد ونقله عنه ابن خلّكان في كتابه (١) قال كان موسى يدعى العبد الصالح من شدّة عبادته واجتهاده روى انه دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسجد سجدة في اوّل الليل فسمع وهو يقول : عظم الذنب من عندي فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة. فجعل يردّدها حتى أصبح وكان سخيّا كريماً وصفوها حليماً ، فكان يبلغه عن الرجل انه يأذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار ، ثم يزداد في اكرامه وكان يصرّ الصرر ثلثمأة دينار واربعمأة دينار ومأتي دينار ثم يقسمها بالمدينة النتهى.

اقول : وقد عاصر سلام الله عليه أربعة من خلفاء الجور أواخر المنصور ثم المهدى ثم الهادي ثم هارون الرشيد وكلّهم تصدى لقتله وايذائه وأبدى صفحته لهتكه وظلمه قال الخطيب : كان موسى عليه‌السلام يسكن المدينة فاقدمه المهدي بغداد ،

__________________

(١) انظر ، ج ٤ ص ٣٩٣ ط مصر.

٢٩٣

فحبسه فرأى في النوم علي ابن ابيطالب عليه‌السلام وهو يقول : يا محمّد هل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم. قال الربيع : فارسل اليَّ ليلاً فراعني ذلك فجئته فاذا هو يقرء هذه الاية وكان أحسن الناس صوتاً وقال : عليَّ بموسى بن جعفر فجئته به يعني من الحبس فقام له وعانقه واجلسه الى جانبه وقال : يا ابا الحسن عليه‌السلام اني رأيت أميرالمومنين عليه‌السلام في النوم يقرء عليَّ كذا فتؤمنني ان تخرج عليّ او على أحد من أولادي فقال : والله لافعلت ذلك ولا هو من شأني قال : صدقت أعطه ثلاثة الاف دينار وردّه الى أهله بالمدينة قال الربيع : فاحكمت أمره ليلاً فما أصبح الاّ وهو في الطريق خوف العوائق.

اقول : ولم يزل صلوات الله عليه مدة خلافة المهدي والهادي والرشيد يحبس تارة ويطلق أخرى ويعرض على القتل مرّة ويعفى عنه مرة اخرى وحتى ان الخبيث الهادي مازال يهدّده قتله يحلف بالايمان المغلّظة على قتله ولما قتل سادات « فخ » ورئيسهم الحسين بن علي من اولاد الحسن عليه‌السلام وحمل رأسه اليه مع الأسرى من أصحابه جعل يأبخهم وينال من الطالبين الى ان ذكر موسى بن جعفر عليه‌السلام فقال والله ما خرج حسين الاّ عن أمره ولا اتبع الا رأيه لانه صاحب الوصية في اهل هذا البيت قتلني الله ان ابقيت عليه ، ثم حبسه وعزم على قتله فحال الله سبحانه بينه وبين ما أراد وهلك بعد سنتين من خلافته ، ثم انتقل الامر الى الغوى العنيد هارون الرشيد وكان هو من اعراف الناس بمنزلة الامام موسى عليه‌السلام ومعجزاته وباهر كراماته حتى ان ولده المأمون كان يقول : انما تعلّمت التشيع من والدي الرشيد في حديث طويل وكان نيعتقد بامامته ويعتمد على حديثه وانه واقع لامحالة.

وقد ذكر جماعة من المؤرخين منهم الدميري في حياة الحيوان من الأصمعي انه دخل علي هارون فاحضر له ولديه الامين والمأمون قال فاقبلا كانه قمرا أفق ثم أمرني بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقى عليهما شيئاً من فنون الأدب الا أجابا فيه

٢٩٤

وأصابا قال : فكيف ترى ادبهما ؟ قلت : يا اميرالمؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة فهمهما فضمهما الى صدره وسبقته عبرته فبكى حتى تحادرت دموعه على لحيته ثم امرهما بالانصراف فانصرفا ، فلما خرجا قال لي يا اصمعي كيف بهما اذا ظهر تعاديهما وبدأ تباغضهما ووقع بأسهما بينهما حتى نسفك الدماء ويودّ كثير من الأحباء انهم كانوا موتى ؟ قلت يا اميرالمؤمنين : هذا شيء قضى به المنجّمون عند ولادتهما ؟ أو شيء اشرته العلمأ في امرهما ؟ قال : لابل شيء اشرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في امرهما.

وكان المأمون في ايام خلافته بعد قتل أخيه وسلبه ملكه يقول : كان الرشيد سمع جميع ماجرى بيننا عن موسى بن جعفر عليه‌السلام ومع هذا فقد كان كثيراً ما يقول له اذا اجتمع بالامام : يا موسى اني قاتلك لامحالة فيقول له الامام عليه‌السلام : لاتفعل يا أميرالمؤمنين فاني سمعت عن ابى عن جدي ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : ان الرجل يهمّ أن يصل رحمه وقد بقى من عمره ثلاث سنين فيمدها الله الى ثلاثين وقد يهمّ بقطع رحمه ويكون بقى من عمره ثلاثون سنة فينقصها الله ثلاث سنين.

ولم يزل ينقله من سجن الى سجن وذلك ان الرشيد حجّ في أوائل خلافته ودخل المدينة فبدء بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يارسول الله اني أعتذر اليك من شيء اني أريد ان أحبس موسى بن جعفر عليه‌السلام فانه يريد التشتّت بين أمّتك وسفك دمائها ثم أمر بالامام عليه‌السلام فأخذ من المسجد وهو قائم يصلّي ، فقطعوا عليه صلاته وحمل وهو يبكي ويقول : اليك اشكو يا رسول الله ما القى واقبل الناس من كل جانب يبكون ويصحيون ، فلما أوقف بين يديّ الرشيد شتمه وجفاه ، ثم أمر به فقيّد واخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان الامام في احديهما ووجّه مع كل واحدة خيلان فاخذ بواحدة على طريق البصرة والأخرى على طريق الكوفة ليعمى على الناس أمره وكان في القبّة التي توجّهت الى البصرة وامر الرسول ان يسلّمه الى عيسى

٢٩٥

ابن جعفر بن المنصور وكان والياً على البصرة حينئذ ، فقدم به حسان السروي ودفعه الى عيسى بن ابي جعفر نهاراً علانية حتى عرف ذلك وشاع خبره ، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس الذي كان يحبس الناس فيه واقفل عليه وشغله عنه العيد ، فكان لايفتح عنه الباب الاّ في حالتين حال يخرج فيها الى الطهور وحال يدخل اليه فيها الطعام.

فلما مضت عليه سنة كاملة على ذلك كتب عيسى الى الرشيد ان خذه مني وسلّمه الى من شئت والاّ خليت سبيله فقد اجتهدت ان اجد عليه حجة فما قدرت على ذلك حتى اني لأتسّمع عليه اذا دعا لعلّه يدعو عليّ او عليك فما اسمعه يدعو الاّ لنفسه بالمغفرة والرحمة ، فوجّه من تسلّمه منه واتى به الى بغداد وحبسه عند الفضل بن الربيع فبقى عنده مدة طويلة فاراده الرشيد على شئى من أمره يعنى على قتله فابى وكان يظهر له عليه‌السلام في الحبس من الدلايل والآيات والمعجزات ما شاع حتى بلغ الرشيد واقلقه ذلك وتحيّر في امره فدعا يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا اباعلي ما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب وما نلاقى من موسى بن جعفر ألا تدبّر في أمر هذا الرجل تدبيراً تريحنا من غمّه فقال له يحيى بن خالد : الذي اراه لك يا أميرالمؤمنين أن تمنن عليه وتصل رحمه فقد والله افسد علينا قلوب شيعتنا وكان يتولاّه وهارون لايعلم فقال هارون : انطلق اليه واطلق عنه الحديد وأبلغه عني السلام.

ثم امر بتسليمه الى الفضل بن يحيى بن خالد فتسلّمه منه وأراد منه الرشيد أن يسعى في قتله فلم يفعل وبلغه انه عنده في رفاهية وسعة وهو حينئذ بالرقة فانفذ سرور الخادم الى بغداد وأمره ان يدخل من فوره الى موسى بن جعفر عليه‌السلام فيعرف خبره فان كان الامر على ما بلغه أخذه منه وسلمه الى السندي بن شاهك فقدم سرور ودخل دارالفضل ولايعلم احد مايريد ثم دخل على الامام فوجده على ما بلغ الرشيد ، فامره بتسليمه الى السندي وهذا هو الحبس الرابع من حبوسه سلام الله عليه وهذه

٢٩٦

الحبوس الأربع التي أولها عند عيسى ابن ابي جعفر ، ثم عند الفضل بن الربيع ، ثم عند الفضل بن يحيى ، ثم عند السندي بن شاهك كلّها في خلافة هارون.

واما حبوسه من المهدي والهادي قبل خلافة هارون فهي كثيرة وأشدّ الحبوس عليه هو الحبس الأخير حبس السندي بن شاهك عليه اللعنة والعذاب الاليم ، فان هذا الخبيث قد ضيق وشدد عليه بل ربما كان يسبّه ويتجاسر عليه حتى صار الامام سلام الله عليه من تواتر هذه المصائب والمحن وطول زمن الضر والبلوى كالشبح والخيال او كعود الخلال ولم يكن لبدنه جرم ولا حجم ولم يبق في جسده الشريف لحم ولادم.

وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب التذكرة ان مدة حبس الرشيد له احدى عشر سنة وعن احمد بن عبدالله القزويني عن ابيه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لى : ادن مني فدنوت حتى حاذيته ، ثم قال لي : اشرف على البيت فاشرفت على صحن الدار فقال لي : ماترى فقلت : ثوبا مطروحا فقال : انظر حسنا ، فنظرت وتأملت فقلت : رجل ساجد فقال لي : تعرفه : قلت : لا قال : هذا مولاك ، قلت : ومن مولاي ؟ فقال : تتجاهل عليّ ، هذا مولاك ابوالحسن موسى بن جعفر اني اتفقده الليل فلا أجده في وقت من الاوقات الاّ على الحال التي اخبرك بها انه يصلي الفجر فيعقّب ساعة في دبر صلاته الى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى يزول الشمس وقد وكلّ من يترصّد له الزوال فلست أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس اذ يثب فيبتدء بالصلاة من غير ان يجدد وضوء ، فاعلم انه لم ينم في سجوده ولا اغفى فلايزال كذلك الى ان يفرغ من صلاة العصر، فاذا صلى العصر سجد سجدة طويلة الى مغيب الشمس ، فاذا غابت وثب من سجدته فصلّى من غير ان يحدث حدثا ولايزال في صلاته وتعقيبه الى ان يصلى العتمة ، فاذا صلى العتمة افطر على شوى ثم يجدد الوضوء ثم يسجده ثم ينام نومة

٢٩٧

خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ثم يقوم فلايزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فهذا دأبه مذحول اليّ.

فقلت : اتق الله ولاتحدثن في أمره حديثا يكون منه زوال النعمة فقد تعلم انه لم يفعل احد باحد منهم سوءً إلاّ كانت نعمته زائلة فقال : ارسلوا اليّ غير مرّة يأمروني بقتله فلم اجبهم الى ذلك واعلمتهم اني لا افعل ولو قتلوني.

والغوى هارون لم يزل كلما حبس الامام عليه‌السلام عند واحد من ثقاته وخاصته كلّفه بشتمه وقتله فيمتنع من ان يلقى الله بدمه ويتحرّج ان يبوء باثمه ولمّا كان الشّقي السندي ممن اشترى سخط الخالق برضا المخلوق وباع آخرته بدنياه اجابه الى ما دعاه ووافقه على سمّ الامام ففي بعض مؤلفات اصحابنا ان هارون لما اراد أن يقتل الامام عليه‌السلام عرض قتله على سائر جنده وفرسانه فلم يقبل احد منهم حتى احضر من بلاد الافرنج قوماً لايعرفون الله ولارسوله ولا الاسلام ولاشيئا من لغة العرب وادخلهم على الامام ليقتلوه فلما رأوه خرّواً سجداً بين يديه ولما عزم السندي بامر فرعونه هارون على سمّ الامام عليه‌السلام وعلم هارون منه ذلك احضر رطبا وأخذ منه عشرين رطبة وأخذ سلكا فعركه في السم وادخله في سم الخياط واقبل يردد السلك في كل رطبة حتى علم ان السمّ قد حصل فيها ، ثم وضعه في صينية وبعثه الى السندي فقدمه الى الامام عليه‌السلام وقال له أن الخليفة اكل من هذا الرطب وانذلك وهو يقسم عليك حقّه لما أكلتها عن آخرها فأكل الامام عليه‌السلام شيئاً قليلا فامره السندي أن يزداد فقال : حسبك فقد بلغت ماتريد.

وروى عن بعض الثقات قال : جمعنا السندي ونحن ثمانون رجلاً من الوجوه ممّن ينسب الى الخير فادخلنا على موسى بن جعفر عليه‌السلام فقال لنا السندي يا هؤلاء انظر والى هذا الرجل هل حدث به حدث فانّ الناس يزعمون انه قد فعل مكروه به ويكثرون في ذلك وهذا منزله وفرشه موسّع عليه في جميع أمره فسئلوه

٢٩٨

فقال عليه‌السلام : اما ذكر من التوسعة واما اشبه ذلك فهو على ما ذكر غير اني اخبركم ايها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات فاني اخضر غداً وبعد غد أموت قال : فنظرت الى السندي بن شاهك لعنه الله يرتعد ويضطرب مثل السعفة ثم انّ الامام عليه‌السلام بعد ان أكل الطعام المسموم بقى ثلاثة ايام وقيل سبعة.

قال علي بن سويد كتبت الى ابي الحسن موسى عليه‌السلام أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة فاحتبس الجواب عليّ ثم اجابني بجواب هذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره ابصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون وابتغى من في السماوات والارض اليه الوسيلة بالاعمال المختلفة والأديان المتضادة فمصيب ومخطىء ومهتد وسميع واصم وبصير واعمى وحيران اما بعد فانك امرء انزلك الله من آل محمّد بمنزلة خاصة وحفظ مودة لما استرعاك من دينه وما الهمك من رشدك وبتفضيلك اياهم وردك الامور اليهم كتبت تسلئني عن أمور كنت منها في تقية ومن كتمانها في سعة فلما انقضى عني سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة الى اهلها العتاة على خالقهم رأيت ان افسّر لك ماسئلتني عنه مخافة ان تدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قبل جهالتهم فاتق الله جل ذكره وخص بذلك الامر أهله واحذر ان تكون سبب بليّة الاوصياء او حارشا عليهم بافشاء ما استودعتك واظهار ما استكتمك ولن تفعل ان شاء الله ان اول ما انهى اليك اني انعى اليك نفسي في ليالي هذه غير جازع ولانادم ولاشاك فيما هو كائن مما قد قضى الله جل وعز وحتم فاستمسك بعروة الدين آل محمّد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي والمسالمة لهم الرضا بما قالوا ولاتلتمس دين من ليس من شيعتك ولاتحبّ دينهم فانهم الخاثنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم وتدري كيف خانوا اماناتهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدلوه ودلّوا على ولاة الامر منهم فانصرفوا عنهم الى ان قال عليه‌السلام : وسئلت عن الشهادات

٢٩٩

لهم فاقم الشهادة لله عزوجل ولو على نفسك اوالوالدين الاقربين فيا بينك وبينهم فان خفت على أخيك ضيما فلا وان من واجب حق اخيك ان لاتكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولاتحقد عليه وان ساء وأجب دعوته اذا دعاك ولاتخل بينه وبين عدوّه من الناس وان كان اقرب اليه منك وعدّه في مرضه ليس من اخلاق المؤمنين الغش ولا الأذى ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ، فاذا رأيت المشوّه الاعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين ، فاذا انكسف الشمس فاربع بصرك الى السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين وقد فسرت لك جملاً و صلى الله على محمّد وآله الاخيار.

فلما كان اليوم الثالث قال عليه‌السلام للمسّيب بن زهير وهو من مواليه وكان موكّلاً بالامام عليه‌السلام : اني على ما عرفتك من الرحيل الى الله عزوجل ، فاذا دعوت بشربة من ماء فشربتها واصفر واحمر واخضر وأتلون ألوانا ، فاذا رأيت بي هذا الحدث فاياك ان تظهر عليه أحداً ولاعلى من عندي الا بعد وفاتي قال المسيب : فلم ازل أرقب وعده حتى دعا بالشربة فشربها ، ثم دعاني فقال لي يا مسيب ان هذا الرجس السندي سيزعم انه يتولى غسلي ودفني وهيهات هيهات ان يكون ذلك أبداً ، فاذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فالحدوني بها ولاترفعوا قبري فوق اربع اصابع مفرجات قال ثم رايت شخصاً اشبه الاشخاص به عليه‌السلام جالسا الى جنبه وكان عهدي بسيدي الرضا عليه‌السلام وهو غلام فأردت سؤاله فنهاني سيدي موسى عليه‌السلام فلم أزل صابراً حتى مضى وغاب الشخص ، ثم انهيت الخبر الى الرشيد فوافى السندى بن شاهك فوالله لقد رأيتهم بعيني وهم يظنّون انهم يغسلونه فلاتصل أيديهم اليه ويظنون انهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم لايصنعون به شيئاً ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لايعرفونه ولما قضى سلام الله عليه امر السندي ان يحمل على نعش ونودي عليه

٣٠٠