جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



٥٩

الزّكاة والاشتراكية الصحيحة

والتعاون في الاسلام

لما قضت العناية الازلية ؛ والحكمة البليغة لبقاء هذا النوع ( البشر ) أن يكونوا مختلفين غير متساويين في القوى والملكات والافهام والذكاء كاختلافهم في الاخلاق والصفات والخلق والهيئات ، وكاختلافهم في الغنى والفقر ، والسعادة والشقاء ، ولو كانوا جميعاً في رتبة واحدة من الذكاء والفقر والغنى والسعادة والعنا لهلكوا جميعاً ، والى هذا اشار الامام الجواد عليه‌السلام في كلمة موجزة من ابلغ الكلمات القصار ، حيث يقول : ( لو تساويتم لهلكتم ) ؛ وهذا جلي واضح لاحاجة الى ايضاحه ، ولكن لازم هذا الاختلاف الواسع والتباين الشاسع لحفظ بقاء النوع هو التعاون مع رعاية التوازن والتعاون ضرورة من ضرورات الحياة ، وهو في الجملة غريزة وطبيعة قضت به حاجة بعضهم الى بعض ، وتبادل المنفعة وتكافى المصالح ، وبه يتمّ النظام وتحفظ الهيئة الاجتماعية وهذا التعاون التي تدفع اليه الحاجة وتدعو له الضرورة هو في غنى عن الحثّ والبعث اليه.

وانّما الذي يحتاج الى التشريع والبعث اليه هو التعاون بلاعوض وعمل الخير

٢٦١

والاحسان ؛ وصنع المعروف لوجه الله ، وفي سبيل الله ، لجميع عباد الله ، للفقير والغني ، والعاجز والقوي ، للمؤمن والكافر ، وهذه الفضيلة هي فضيلة الجود والسخاء التي يقابلها رذيلة الشحّ والبخل فالكرم عطاء بلاعوض ، وبذل من دون نظر الى الاستحقاق وعدمه ، والبخل المنع حتى مع الاستحقاق ، والاولى هي بمرتبتها العليا هي صفة الحق جلّ شأنه والامثل فالامثل من الانبياء والمرسلين ، والاوصياء والصديقين ، ولعلها في بعض البشر من الغرائز والمواهب لاتحصل بالطلب والكسب كصفاء اللؤلؤة واشراق الشمس وفيض الينابيع ، ومثلها رذيلة البخل قد تكون طبيعة في بعض البشر وغريزة وهناك اوساط ونفوس ساذجة اليس في جبلّتها هذا أوّلاً ذاك ، فيؤثر فيها المحيط والتربية ، والأقران فضيلة أو رذيلة ، وما من شريعة من الشرايع ، ولا دين من الاديان ، ولا كتاب من الكتب قد حث وبعث وبالغ في الدعوة الى الاحسان والمعروف وبذلك المال في سبيل الخير مجّاناً ولوجه الله تعالى كشريعة الاسلام وكتابها المجيد.

وقّلما تجد سورة من سور القرآن لم يتكرّر فيها طلب الانفاق والوعد بالأجر العظيم له خذ أول سورة بعد الفاتحة وهي اوسع سورة بعد الفاتحة وهي اوسع سورة تضمّنت التشريع الاسلامي وعامة فرايضه من الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح والرضاع والطلاق والمعاملات والدّيون والرهن والقصاص والدّيات وغيرذلك ، افتتح البارى جل شأنه هذه السورة بالانفاق ، وقرنه بالايمان بالله ، وبأهمّ دعائم الاسلام وفى الصلاة فقال الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١) ثمّ قال جلّ شأنه فيها بعد جملة آيات وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والْكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٣.

٢٦٢

ذَوِي الْقُرْبى والْيَتامى وَالمَساكِينَ (١) ثم قال بعد فصول طويلة ، وبيان احكام كثيرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ (٢) ولم يكتف بهذا كله في هذه السورة المباركة حتى أفاض في فضل الانفاق وأجره العظيم ، وانّه يعود لاضعافه المضاعفة وجاء بأبلغ الامثال ، وابدع المقال فندب الى البذل والاحسان وحرمة الربا الذي في قطع سبيل المعروف ، وأكل المال بالباطل ، وجعل من يصرّ على استعماله محارب بالله العظيم والله محارب له ، كلّ ذلك في ضمن أكثر من ثلاثة عشر آية مطوّلة بدأها عزّ شأنه بقوله : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعَفُ لِمَنْ يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣) الى قوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤) ثم بعدها اربعة عشر في فضل الانفاق الحقها بتحريم الرّبا ، وفظاعة شأنه ، وتهويل جريمته ، وبيان جملة من احكامه فقال : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ وهذا تصوير بديع لحال المرابين ، وعظيم جشعهم ، وحرصهم على جمع المال وادّخاره وتوفيره ، فهو كالذي فيه مسّ من الجنون يذهب ويجىء ويقوم ويقعد ويأخذ ويعطى ، فهو في حركة دائبة وعمل متواصل لايقرّ له قرار ، ولا يستريح من التفكير والتوفير والادخار في ليل ولانهار واذا اعترضه معترض قال ممرّراً عمله انما البيع مثل الربا والبيع حلال فالرّبا مثله ، وهو قياس فاسد ، ويعرف فساده من القاعدة الشرعية المباركة « الغُنم

__________________

(١) سورة البقرة آية : ١٧٧.

(٢) سورة البقرة آية : ٢٥٤.

(٣) سورة البقرة آية : ٢٦١.

(٤) سورة البقرة آية : ٢٧٤.

٢٦٣

بالغرم » فكلّ معاملة فيها غنم بلا غرم فهي أكل مال بالباطل ، والبيع غنم بغرم ، ومبادله مال بمال ، بخلاف الربا فانه للاخذ غنم بلاغرم ، وللدافع غرم بلا غنم ، فاذا أعطى العشرة باثنتى عشر من جنس واحد فقد اخذ اثنين بلا عوض فهو أكل مال بالباطل ولذا اختص الربا بالمتجانسين ، أي أن يكون العوضان من جنس واحد ويكون من المكيل والموزون اذ المعاملة بالمعدود ، والمشاهدة نادرة والنادر ملحق بالعدم ، ومدار المعاملات في العالم على الكيل والوزن مضافاً الى جهات اخرى ، وما أبدع وأروع تعقيب آيات الحث على الانفاق احساناً وكرماً بآيات تحريم الرِّبا فان ذلك فضل واحسان ، وهذا جور وعدوان وهذه الفصول في آخر هذه السورة التي هي أطول أو افضل سور القرآن من حيث بيان النواميس الاسلامية ، محبوكة كاسرد الوضين فانه عز شأنه ذكر فضل الانفاق في سبيل الله والعطاء المجّاني وربط به حرمة الرّبا ، وهو الأخذ العدواني ، ثم اردفه بالدين والرهن واحكامهما والامر بانظار المعسر وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (١) انظر واعجب لهذه الرحمة الواسعة ، وهذا التشريع الرفيع ، وهل يبقى لك شك في ان هذا القرآن من الوحي المعجز والذكر المبين ، نزل به الروح الامين من رب العالمين ، وهل تجد شيئاً من هذه الأساليب في شيء من التوراة والانجيل والزبور وغيرها وهي اكبر حجماً ، واكثر ألفاظاً ورقماً أرأيت كيف تنازل العظيم من أوج عظمته الى مخلوقه العاجز الضعيف فصار يستقرضه ويقول : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (٢) ثم لم يكتف بهذا كله في الدعوة الى التعاون وتعاطف البشر بعضهم على بعض بالاحسان والمعروف ، نعم لم يكتف بما ندب اليه من المعروف على سبيل الندب والاستحباب وان كان واجباً اخلاقياً.

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٢٨٠.

(٢) سورة الحديد آية : ١١.

٢٦٤

نعم لم يكتف بذلك العموم والاطلاق في الترغيب الى الانفاق والاحسان لكل ذي روح حتى البهائم والهوام بل وحتّى الكلب العقور ، فاذا رأيت كلباً يلهث من العطش استحب لك في الشريعة الاسلامية أن تسقيه الماء ( فان لكل كبد حرّاء أجر ) كما في الحديث ما الرفق بالحيوان والحمولة والدواب فقد عنيت الآداب الاسلامية برعايتها والرحمة لها عناية بالغة ، وفى الحديث ما مضمونه : اذا وصلت المنزل فابدأ بسقى دابتك وعلفها وراحتها قبل نفسك ولاتتخذوا ظهور دوابّكم منابر ، ولا تحملوا عليها فوق طاقتها ولا تجدوها ولاتضربوا وجوها الى كثير من امثال ذلك مما لامجال لاحصائه في هذه البيان.

أمّا الفقراء والضعفاء والعجزة فلم يكتف لهم الشارع المقدس ورحمته الواسعة بهذه العمومات والمطلقات ، بل جعل لهم مزيد عناية تخصّهم وفرض لهم في اموال الأغنياء نصيباً مفروضاً ، وصيّرهم شركاء لهم فيما بأيديهم ولكن من دون اجحاف واعتساف باموالهم بل قال الشارع الاقدس في كتابه المقدس يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (١) يعني الزائد من المال على حاجته حسب شأنه في سنة أو سنوات ، وقال المبلغ عنه من فضول اموال أغنيائكم ترد على فقرائكم وفي الحديث مامؤدّاء ( لما علم الله أن نسبة الفقراء من الاغنياء العشر فرض لهم العشر في اموالهم وما جاع فقير الا بما منعه الغني من حقّه ) نعم فرض للفقراء الحق على الاغنياء ولكن جعل السلطنة الأغنياء وأعطاهم الحرّية الواسعة والاختيار العام فيما يدفعون من نقود أو عروض ولأيّ فقير يدفعون ، وبأي وقت يشاؤون ، والفقير وان صار شريكاً ولكن لاسلطة له على الأخذ وانّما سلطة الدفع والتعيين لربّ المال ، وعدلت الشريعة الاسلامية هذه القضية حذراً من تفشّى داءِ الكسل والاتكال في النفوس وترك الناس السعي والعمل وتغلّب البطالة والمسألة على المجتمع ، فخصّ ذلك

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٢١٩.

٢٦٥

الحق بالفقير الذي لا يستطيع العمل لعذر من الاعذار أو كان عمله لايفي بمؤونة عياله ، ثمّ حث الناس على الكسب والسعي في توفير المال وأوجبه لتحصيل الرزق له وللعيال ، كما أوجب للعمال دفع حقوقهم موفّرة من أرباب الأموال وعدم بخس ما يستحقّونه من الأجر وأن يدفع للعامل أجرته فوراً قبل أن يجفّ عرقه ، وهذه هي الاشتراكية الصحيحة العادلة السمحاء التي وقعت وسطاً بين افراط الاشتراكية الحمراء وتفريط الرأسمالية القاسية السوداء فلم تسلب الغني حرّيته فيما بيده وما استحصله بجهده كما تسلبه الشيوعية الظالمة التي تسلب بعسفها ، وظلمها أفضل نعم الله على العبد وهو الحرّية ، ولاسلبت الأمل ما يستحقه بعمله من الأجرة ، ولم تبخس حقّه كالرأسمالية و كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (١) أنظر سعة نظر التشريع الاسلامي وعنايته بسدّ الحاجة وتدراك مواضع الضعف في الامّة فيما فرض من الزكاة وتعيين مصرفها ومستحقّيها فجعل الفقراء والمساكين في الدرجة الأولى ، ثم للعاملين في جبايتها ، ثم للمدينين الذين لا يستطيعون وفاء دينهم ، ثم الأسراء والعبيد وعتقهم ، ثم أبناء السبيل المنقطعين في الغربة والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله أى المصالح العامة كبناء القناطر والمدارس والمعاهد والمعابد وتعبيد الطرق وامثال ذلك فرض الله الفقراء العاجزين عن تحصيل ما يمونهم وعيالهم لنقص في أبدانهم من مرض ونحوه او عدم مواتاة الحظ لهم ( ان صح أنّ شيئا يسمّى الحظ له شيء من التأثير في المقادير ).

نعم فرض الله الزكاة وقرنها بالصلاة اهتماما بها في زهاء عشرين آية متفرقة أَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ أربع منها في سورة البقرة (٢) ثم تكرّرت في عامّة سور

__________________

(١) سورة البقرة آية : ١٤٣.

(٢) سورة البقرة آية : ٤٣ ـ ٨٣ ـ ١١٠ ايضاً سورة البقرة آية : ١٧٧ ( أقام الصلاة وآتى الزكاة ) سورة البقرة آية : ٢٧٧ ( أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ).

٢٦٦

الطوال ، والمفصل والقصار وآخرها في سورة ( البينة ) آخر القرآن وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (١) وفي الجميع قدمت الصلاة على الزكاة الاّ في آية واحدة قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (٢) لنكتة معلومة ، ولكن في الحديث ما يشير الى انه تعالى ربط الزكاة بالصلاة للدلالة على أن من لا زكاة له لاصلاة له ، يمعنى ان من وجبت عليه زكاة في امواله ولم يدفعها لمستحقّها لم تقبل صلاته ، وان اتى بها على أصح وجوهها ، ومن سعة رحمته وعناية بخلقه جعلها في اهم الاشياء واعمّها ، والزمها في حياة البشر ومقوّمات العيش وهي الاجناس التسعة النقدان ، والغلاّت الأربع والانعام الثلاثة ، وهو عزّ شأنه وان فرض فيها النزر اليسير ، وهو العشر ونصفه أو ربعه ولكن الحاصل من مجموعه الشيء الكثير ، وليست فوائد هذا التشريع وهذه الاشتراكية العادلة الحرّة مقصورة على الناحية الماديّة فقط بل فيها من الفوائد الاجتماعية والتأليف بين الطبقات وتعاطف الناس بعضهم على بعض وقطع دابر الفساد والشغب فيما بينهم ما هو اوسع وانفع واجلّ واجمع فانّ فيه غرس بذور المحبة بين الغني والفقير فالغني يدفع وينفع الفقير باليسير من ماله عن طيب خطره أداء لواجبه ورغبة بطلب المثوبة من ربه والفقير يأخذ من غير مهانة ولاذلّة لأنه اخذ الحق الواجب له من مالكه وخالقه ثم اردف الزكاة بالخمس توفيراً لحق الفقراء ، وتكريما للعترة الطاهرة عن تلك الفضول التي هي صدقات ونوع من الاستجداء ثم رعاية شبه الجزاء والأجر الأعظم فيما تحمل من عناء التبليغ واعباء اداء الرسالة

__________________

(١) سورة البينة آية : ٥.

(٢) سورة الاعلى آية : ١٤ ـ ١٥.

٢٦٧

وبعد ذلك الحثّ على الانفاق عموما ، وتشريع الزكاة والخمس خصوصاً هل قنعت واستكفت سعة تلك الرحمة وبليغ هاتيك الحكمة ؟

هل اكتفت للفقراء والعناية بهم بكل ذلك ؟ كلاّ بل فتحت في التشريع الاسلامي باب ( الكفارات ) وهو باب واسع يدخل في اكثر العبادات وغير العبادات من المحرمات وغير المحرمات ، فقد مشت وفشت فريضة هذه الضريبة حتى في الصلاة وتكثّرت في الصوم والاعتكاف والحج والايلاء والظهار والنذر واليمين وقتل الخطأ بل والعمد وغير ذلك مما يجد المتتبع في اكثر ابواب الفقه ، وهو اطعام للفقراء تارة ، وكسوة أخرى وعتق ثالثة ، جمعت الشريعة الاسلامية بسعة رحمتها وعظيم حكمتها بين رعاية الفضل والعدل ، وأقامت قواعد الاقتصاد والاعتدال في بذل الأموال ولمّا ندبت وبالغت في الحث على الانفاق في سبيل الله ، وتدرّجت فيه الى أبعد غاية الانفاق من فاضل المال وحواشيه اولاً لامن صلبه ثم المواساة والمشاطرة من صميمه ثانياً وَ فِي أَمْولِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ (١) ثم الايثار على النفس ثالثاً وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (٢) وهذا اقصى ما يتصوّر من السخاء والكرم والردع عن رذيلة البخل والشح ، وحذراً من أن تطغى هذه العاطفة فتجحف بالمال وتضرّ بالاهل والعيال ، ويضطرب بها حبل المعيشة والعائلة تداركت الشريعة ذلك ودلّت هذا المملّ على المال ، وقال : لاصدقة وذو رحم محتاج بل سبق ذلك كتاب الله المجيد فانّه جلّت عظمته لمّا بالغ في دعوة الناس عموماً ، والمسلمين خصوصاً الى البذل والاحسان وانفاق المال على الفقراء والمساكين فيما يزيد على سبعين آية باساليب مختلفة ، وتراكيب عجيبة توجّه

__________________

(١) سورة المعارج آية : ٢٤ ـ ٢٥ وفي سورة الذاريات آية : ١٩ قوله تعالى : وفي أموالهم حق للسائل والمحروم.

(٢) سورة الحشر آية : ٩ (٣) سورة الاسراء آية : ٢٦ ـ ٢٧.

٢٦٨

الكتاب الكريم الى تعديل ذلك فأمر بالاقتصاد والتدبير والاعتدال ومجانبة التبذير فقال جلّ وعلا ، وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّةُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (١) بل زاد فقال : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ولا تُسْرِفُوا (٢) اي لا تسرفوا في العطاء بل أوضح ذلك في سورة الاسراء وسورة الفرقان فقال في الاولى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ولا تَبْسِطُه كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٣) وفي الثانية وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٤) الى كثير من أمثالها ، ومن هنا كانت الشريعة الاسلامية شريعة العدل والفصل وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (٥) لاتدعوا الى فضيلة الاّ وتقرنها بالاعتدال والعقل والتوسط ( وخير الامور أوسطها ) فلله شريعة الاسلام المقدسة ما أسعها وأجمعها وأمنعها وأنفعها ، أفلا قائل يقول لهذا الشباب الطائش المخدوع بتلك الشيوعية الحمراء ، والبلشفية السوداء ؟... أتطلبون اشتراكية أعلى وأصح من هذه الاشتراكية المنظّمة العادلة التي توسّع على الفقراء والمحاويج مايرفع حاجتهم ؛ ويحفظ لأرباب الاموال والأغنياء مكانتهم وحرّيتهم ، ولاتضايقهم ولا ترهقهم ولاتحرم العاملين ثمرة اتعابهم ولا تجعلهم كآلة ميكانيكية ، أو كالبهائم ليس لها الا علفها ومعلفها ، نعم انك لاتهدي من أحبت ولكن الله يهدي من يشاء ، بل الشيطان سوّل لهم وأملي لهم ؛ ولعل العناية تدركهم فتردّهم الى صوب الصواب والمنهج القويم ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة الاسراء آية : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سورة الانعام آية : ١٤١.

(٣) سورة الاسراء آية : ٢٩.

(٤) سورة الفرقان آية : ٦٧.

(٥) سورة البقرة آية : ١٤٣.

٢٦٩
٢٧٠



٦٠

ما هي السماوات في نطق القرآن

السّماوات التي نطق بها القرآن الكريم ما حقيقتها في الديانة المقدّسة وتطبيقها مع الأفلاك التي تقول بها الهيئة القديمة وكذا تطبيقها مع الهيئة الجديدة لا تطمئنّ به النفس وايضاً أيّ دليل دلّ صريحاً من الكتاب والسنة على كون العرش والكرسيّ شيئاً جسمانياً.

الجواب

ظاهر القرآن العزيز أنّ السماوات أجسام واجرام مبدأها دخان ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ (١) ولعله كناية عن الغاز أو الأثير أو ما اشبه ذلك من العناصر اللطيفة الشفّافة السائلة ثم تماسكت وجمدت كما تشير اليه بعض خطب اميرالمؤمنين عليه‌السلام في النهج وغيره ، وهذا قريب الى ما تصوره الهيئة القديمة من الأفلاك السبعة بل التسعة من فلك الأفلاك الى فلك القمر وأنّ كل واحد منهما

__________________

١. سورة فصلت ، آية ١١.

٢٧١

جسم اثيريّ مستدير لا يقبل الخرق والالتئام والكوكب يعنى زحل والمشتري والمريخ وأخواتها كل واحد منها مركوز في ثخن فلكه وفرضوا لبعضها حوائل وموائل وجوز هرات الى تمام ما هو مبسوط في الهيئة القديمة من الحدسيات ونحوها مما اضطرّهم الى فرضه حركات تلك الكواكب السبعة ولا سيّما الخمسة المتحيّرة منها ذوات الرجوع والاقامة والاستقامة نعم ما هو الظاهر من الشرع في السّماوات والكواكب لا ينطبق على الهيئة الحديثة بل هي قديمة ايضاً فانّها مبنيّة على الفضاء الغير المتناهي وكلّ كوكب يتحرك في ذلك الفضاء في مدار مخصوص ويرتسم من حركته فلك أيّ دائرة لا ينفك سيره عليها ، وفرضوا شموساً ولكلّ شمس نظام من أقمار وكواكب وأراضي تدور حول شمسها أحدها بل اصغرها نظامنا الشمسي ، وليس في انكارهم للسموات بالمعنى الظاهر من الشرع دعوى اليقين بعدها بل بمعنى أنّ علمهم وبحثهم لم يوصلهم اليها وهي أيّ هذه الطريقة أسلم وأبسط من الاولى والاعتبار والآثار تدلّ عليها ولم يحتاجوا الاّ الى فرض الأثير المائي لذلك الفضاء لنقل النور من كوكب الى آخر ، وقد اكتشفوا بآلاتهم الرصديّة سيارات أخرى كثيرة غير السبعة المشهورة ممّا لا مجال لذكرها في هذا المقام.

وأما العرش والكرسى فليس في الشرع كتاباً وسنة ما يدلّ صريحاً على جسمانيتهما سوى بعض اشارات طفيفة مثل قوله تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ (١) وقوله عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٢) وهي مصروفة عن هذا الظاهر قطعاً وامّا السنّة فالأخبار كما في السماء والعالم من البحار وغيره مختلفة اشدّ الاختلاف

__________________

١. سورة البقرة ، آية ٢٥٥.

٢. سورة طه ، آية ٥.

٢٧٢

وفيها ما يشعر بأنّهما جسمان واكثرها صريح في عدم الجسمية وأنّهما من مقولة العلم والقدرة والملك وصفات الذات المقدسة ، وبالجملة فامعان النظر في الاخبار وكلمات العلماء والمفسرين لا يزيد الا الحيرة والارتباك والذى أراه في هذا الموضوع الدقيق والسرّ العميق والبحث المغلف بسرائر الغيب وحجب الخفاء أنّ المراد بالكرسي هو الفضاء المحيط بعالم الاجسام كلها من السّماوات والارضين والكواكب والافلاك والشموس ، فانّ هذه العوالم الجسمانية بالقطع والضرورة لها فضاه يحويها ويحيط بها سواء كان ذاك الفضاء متناهياً بناءً على تناهي الأبعاد أو غيرمتناهي أيّ مجهول النهاية بناءاً على صحة عدد متناهى معلولات العلة الغير المتناهية ، وهذا الفضاء المحيط بعوالم الاجسام هو الكرسيّ ـ وسع كرسيه السماوات والأرض ـ وهو المعبّر عنه ايضاً بلسان الشرع ( بعالم الملك ) تبارك الذي بيده الملك ، ثم تحمل هذا الفضاء وكل ما فيه القوة المدبّرة المتصرفة فيه وليست هي من الأجسام بل نسبتها الى الاجسام نسبة الروح الى الجسم وهذه هي ( العرش ) الذي يحيط بالكرسي ويحمله ويدبّره ويصرّفه ويتصرّف فيه ، وتقوم تلك القوة بثمانية أركان كلّ واحد متكفّل بجهة من التدبير فتحمل ذلك العرش المحيط بالكرسي وما فيه وهي حملة العرش ، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، ولعلّ هذه الثمانية هي الصفات الثمانية : العلم والقدرة والحياة والوجود والارادة والسمع والبصر والادراك ، فهي بالنظر الى نسبتها الى تدبير الاجسام والسماء والارض وما فيهما ( العرش الاولى ) وبالنظر الى نسبتها الى الذات المقدّسة وأنّها صفات تلك الذات ( العرش الاعلى ) والملائكة الكروبيين ، والعرش الاعلى والادنى هو عالم الملكوت ثم فوق القوة المدّبرة للاجسام عالم العقول والمجرّدات والملائكة الروحانيين وهذا هو عالم الجبروت ، ثم يحيط بهذا العالم ويدبّره ويتصل به عالم الأسماء والصفات والاشراقات والتجلّيات وهو عالم اللاهوت ، فانتظمت العوالم الاربعة هكذا عالم

٢٧٣

اللاهوت ، ثمّ عالم الجبروت ، ثمّ عالم الملكوت وهو العرش ، ثمّ عالم الملك وهو الكرسيّ أعني الاجسام والجسمانيات.

أمّا أهل الهيئة القديمة من علماء المسلمين فقد جعلوا فلك الثوابت هو الكرسي ، والفلك التاسع الأطلس هو العرش ، ومهما كان الواقع فانّ كل هذه العوالم أشعة تلك الذات المقدّسة الأحديّة ومضافة اليها اضافة اشراقية لا مقولية وسارية تلك الحقيقة سريان العلة في المعلول.

جمالك في كلّ الحقائق سائر

وليس له الا جلالك ساتر

الى آخر الأبيات ، وهذا البيان في توجيه العرش والكرسي وتطبيقه على العوالم الكونية من متفرداتنا ولنا هنا مباحث دقيقة واسرار عميقة لا يتّسع لها الوقت ولا المجال ولله الحمد والمنّة على كلّ حال.

٢٧٤



٦١

ولاية الفقيه

عموم الولاية للفقيه في زمن الغيبة ثابت أم لا ؟ وما هو المحقّق في ذلك.

الجواب

الولاية على الغير نفساً ، أو مالا ، أو أيّ شأن من الشئون لها ثلاث مراتب بل أربعة :

( الاولى ) ولاية الله جلّ شأنه على عباده وهو المالك لهم ولما يملكون بالملك الحقيقي الذاتي لا الجعلي العرضي ( هنا لك الولاية لله ) وهذه الولاية بدرجتها.

( الثانية ) جعلا وذاتاً لرسول الله والائمة سلام الله عليهم النَّبِيُّ أَوْلى بَالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (١) أي فضلا عن الكافرين ، وهذه الآية واسعة مطلقة بتمام السعة والاطلاق بحيث لو أنّ النبي أو الامام طلّق زوجة رجل طلقت رغماً عليه فضلا عن المال وغيره.

__________________

١. سورة الاحزاب ، آية ٦.

٢٧٥

( المرتبة الثالثة ) ولاية الفقيه المجتهد النائب عن الامام وهي طبعاً أضيق من الأولى ، والمستفاد من مجموع الأدلة أنّ له الولاية على الشئون العامة وما يحتاج اليه نظام الهيئة الاجتماعية المشار اليه بقولهم عليهم‌السلام : ( مجاري الامور بايدي العلماء والعلماء ورثة الانبياء وامثالها ) وهي المعبّر عنها في لسان المتشرعة بالامور الحسبية مثل التصرف باموال القاصرين الذين لا وليّ لهم ، والاوقات التي لا متولى عليها ، وتجهيز الاموات الذين لا وليّ لهم ، واخذ ارث من لا وارث له ، وطلاق زوجة من لا ينفق على زوجته ولا يطلّقها ، أو الغايب غيبة منقطعة وكثير من أمثال ذلك ممّا لابدّ منه وعدم امكان تعطيله للزوم العسر والحرج ، ولعلّ من هذا الباب اقامة الحدود مع الامكان وامن الضرر ، وبالجملة فالعقل والنقل يدلّ على ولاية الفقيه الجامع على مثل هذه الشئون فانّها للامام المعصوم أولاً ، ثم للفقيه المجتهد ثانياً بالنيابة المجعولة بقوله عليه‌السلام : وهو حجّتي عليكم ، وانا حجة الله عليكم.

٢٧٦



٦٢

حالات اميرالمؤمنين وأوصافه عليه‌السلام

انّما يعرف الرجل العظيم بأعماله العظيمة ويكرم ويعظم على قدر مساعيه الكريمة ويمتاز عن غيره ويرتقى على من سواه بآثاره الخالدة وعن صفاته التي هي على نفاسة ذاته شاهدة ولو أن الانسان تصفح وسبر احوال جميع من وجد في هذا العالم من بني آدم من الأنبياء والأصفياء والملوك والعظماء والقادة والزعماء ونظر في حياتهم وصحيفة اعمارهم ومابقى من اخبارهم وآثارهم لم يجد واحداً في الدهر لأميرالمؤمنين عليه‌السلام مساوياً لابل لايجد له مقارباً او مدانيا عدا من اعتراف هو له بالفضل وشهد له بالتقدم بل يظهر من مستجم كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومستجمع ما أبان في فضل اميرالمؤمنين عليه‌السلام انهما في المزايا الذاتية سيّاق وفى حقيقة الشرف الجوهرى عدلان متوازيان وان اختلفا في شرب المنصب من حيث النبوة والامامة الذى لايرجع الى تفاوت في الكمالات الذاتية والفضايل الكسبيه وانما هو نص واختيار وتلجئة واضطرار بل في بعض كلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو نص بانه لااحد اعظم منزلة عند الله سبحانه من علي عليه‌السلام وهو كثير.

فمنه ما في كلام لاميرالمؤمنين عليه‌السلام وقد تكرر منه ذلك بعبارات مختلفة حيث

٢٧٧

يقول « انا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كالعضد من المنكب وكالذارع من العضد وكالكف من الذراع ربّاني صغيراً وآخانى كبيراً وقد علمتم اني كان لي منه مجلس سرّ لا يطلع عليه غيري واوصى الى دون اصحابه واهل بيته ولاقولن ما لم اقله لاحد قبل هذا اليوم سأته مرّة ان يدعو لى بالمغفرة فقال : افعل ثم قام فصلى فلما رفع يده بالدعاء استمعت اليه ، فاذا هو قائل : اللهم بحق عليٍّ عندك اغفر لعلي فقلت يا رسول الله : ما هذا الدعاء ؟ فقال : أو أحد اكرم منك عليه فاستشفع به اليه ».

ولاغرو ولاعجب بعد الوقوف على السبب ، فانك اذا نظرت الى أيّ حال من احواله وصفة من صفاته بل الى كل واحد من اعماله تجدها خارجة عن الطاقة البشرية وممّا يعجز عنها ولم يتهيأ مثلها لأكابر اولى العزم من الرسل فضلا عن غيرهم ، فاذا نظرت مثلا الى شجاعته وحدها او الى بلاغته مع قطع النظر عن غيرها وجدتها بالغة الاعجاز ومترفعة عن الطراز البشري والطبع الانساني بحيث لو أن رجلاً تخلّص للشجاعة والفراسة والقراعة والمجالدة مدة عمره بحيث لم يعان مهنة سواها ولاتعاطى حرفة غيرها ، ثم برزمنه تلك البسالة الباهرة والشجاعة القاهرة لكانت موضع الحيرة والدهشة وموضع العجب والعجب ، فكيف بك لو ضممت بعض تلك الصفات الى بعض على تضادها وتنافرها غالباً ، فان الشجاع لايكون حليما والحليم لايكون جسوراً والجسور لا يكون زاهداً والزاهد المتعبد لايكون عارفاً حكيما والحكيم العارف لايكون فيلسوفا والفيلسوف لايكون متقشّفا والمتقشف لايكون بشوشا مداعبا وهكذا وهو سلام الله عليه قد جمع كل تلك الصفات والمحامد بل كان في كل صفة هو فرده الاكمل ومظهرها الاتم الذي يضرب به المثل وله العل منها والنهل فليس له في الشجاعة ثاني ولا في البلاغة مداني ولا فى العلم مقارب ولا في الحلم مناسب وهكذا.

انظر وعمق الفكر والنظر في ادنى الصفات وانزل المقامات وهو مقام زهده في

٢٧٨

الدنيا واحتقاره لها وشطف عيشه وجشوبة مأكله وخشونة ملبسه ثمّ قس ذلك الى شجاعته وبسالته وقوّة عضده وساعده وانظر هل يمكن عادة ان يعطى ذلك الغذاء تلك القوّة وينمو عليه ذلك الجسد هنالك تستيقن أن القوة الهية والتربية ملكوتية وانه صلوات الله عليه متصل بعالم الغيب بلاريب كما قال هو صلوات الله عليه والله ما قلعت باب خيبر ولادككت حصن يهود بقوة جسمانية ولكن بقوة الهية.

وكيف يمكن في العادة أن غلاما ابن احدى او اثنى عشرين سنة يلقع بابا يعجز عن حمله أربعون رجلاً.

أما طعامه وقوته فقد تظافر الخبر عنه بل تواتر يجد كل ناظر في تفاريق كتب التاريخ ومجاميع الاخبار ففي كتاب « نثر الدر للوزير الآبي » قال الاحنف : دخلت على معاوية فقدّم لي من الحار والبارد الحلو والحامض ماكثر تعجبي منه ، ثم قدّم لي لونا لم أدر ما هو فقلت ما هذا ؟ فقال : مصارين البط محشوّة بالمخ قد قلبت بدهن الفستق وذرّ عليها بالطبرزد فبكيت فقال :

ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت عليا عليه‌السلام بينا انا عنده وقد حضر وقت افطاره وطعامه وسئلني المقام اذ دعا فجئ له بجراب مختوم فقلت : سيدي ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير قلت : خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ فقال : لا ولا احدهما ولكن خفت ان يلثه الحسن او الحسين بسمن او زيت. قلت : محرّم هو يا اميرالمؤمنين عليه‌السلام ؟ فقال : لاولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلاّ يطغى الفقير فقره ، فقال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله (١) انتهى.

__________________

(١) واشكال بعض القاصرين عن درك الحقائق على هذه القصة بانه : هل كان الحسن والحسين عليه‌السلام لا ينتهيان بنهي أميرالمؤمنين عليه‌السلام : بعدم ادخال سمن أو زيت على الجراب حتى كان عليه‌السلام يختمه خوفا منهما ؟ = لاوجه له فانه اشكال فاسد اذ ليس في القصة اميرالمؤمنين عليه‌السلام نهاهما عن ذلك ولم يصدر

٢٧٩

وقد تكرر هذا المضمون باساليب متنوعة والظاهر انه عن وقايع متعددة ففي المجموعة بسنده عن عدي ابن حاتم الطائي رحمه‌الله انه دخل على علي بن ابيطالب سلام الله عليه في بعض مقاماته بصفّين عشاء قال : فلقيناه واذا بين يديه شنة فيها ماء قراح وكسيرات من خبز شعير وملح ثم قال : فقال له عدي : اني لارثي لك يا اميرالمؤمنين انك لتظلّ نهارك طاوياً مجاهداً وليلك ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك فرفع رأسه سلام الله عليه وقال : ياعدي الغنى في النفوس والفقر فيها وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

نهى عنه عليه‌السلام في حقهما وانما كان يخاف منهما من ادخال سمن أو زيت على الجراب اشفاقاً منهما عليهما السلام على أبيهما وتلطفاً ورحمة منهما على صلوات الله عليه ولم يكن في ادخال سمن أو زيت عليه حرمة أو كراهة بل كان أميرالمؤمنين عليه‌السلام امام عدل وحجة حق يسير في سيرته سيرة ائمة الحق كما قال عليه‌السلام : يجب على أئمة الحق أن يعتدوا ... وكان عليه‌السلام في جانب عظيم من النفرة عن صفات الملوك الجبابرة حتى في مأكله ومشربه. فصلوات الله وسلامه عليه وقد أسس دولة عدل لم يتيسر لأحد من الأقوام في الدنيا الى اليوم تأسيس مثلها ومن الجدير ان نفتخر نحن الشيعة بذلك ونقيم لأجلها حفلات.

٢٨٠