جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ومن الحكم في غيبته عجّل الله فرجه ولعلها من أهم الحكم والاسرار هو تمحيص المؤمنين بهذه المحنة ، وابتلائهم بهذه الفتنة أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وهُمْ لا يُفْتِنُونَ (١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْ مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ والضَّرّاءُ وزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبُ (٢) حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا (٣) والاخبار بهذا المعنى كثيرة وأن بطول مدة غيبته يمتاز الايمان الثابت من المستودع ، والمؤمن الخالص من المغشوش ، فهي غربلة وتصفية للمؤمنين ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الْكافِرِينَ . (٤)

روى الصدوق رحمه‌الله عن الكاظم موسى عليه‌السلام : « اذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في اديانكم لايزيلكم عنها أحد يا بنيّ لابد لصاحب هذا الامر من غيبة حتى يرجع عن هذا الامر من كان بقول به ، انما هي محنة من الله عزوجل امتحن بها خلقه ـ الى ان قال ـ يابنيّ عقولكم تصغر عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله ». وفي احتجاج الطبرسي في التوقيع الصادر من الناحية المقدسة على يد العمري : أما علّة ماوقع من الغيبة فان الله عزوجل يقول : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (٥) انه لم يكن أحد من آبائي الا وقعتت في عنقه بيعة لطاغية زمانه واني أخرج ولابيعة لاحد من الطواغيت في عنقي.

وهناك اسرار وحكم أخرى لايتسع الوقت والمجال لبيانها ، على أن كل ذلك

__________________

(١) سورة ٢٩ آية : ٢.

(٢) سورة ٢ آية : ٢١٤.

(٣) سورة ١٢ آية : ١١٠.

(٤) سورة ٣ آية : ١٤١.

(٥) سورة ٥ آية : ١٠٢.

١٦١

تطفّل وفضول بد ما عرفت من أن لله في عباده شئونا لاتدركه العقول ، ونحن حتى الان لم تصل عقولنا الى اسرار خلقتنا وكنه أرواحنا وحقيقة حياتنا : فكيف نحاول معرفة أسرار الملك والملكوت ، والعزة والجبروت ؟ نحن لانستطيع ان نعرف الحكمة في جعل المغرب ثلاثا والعشاء اربعا والصبح اثنين وأمثال ذلك من الأوامر التشريعية فضلا عن الامور التكوينية !! نعم وفي مثل هذه المقررات المجهولة الحكمة سبحانه الراسخين في العلم حيث قال عزّ شأنه : والرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (١) مدحهم على الايمان بما جاء من الله عز شأنه وان لم يعرفوا تأويله وحكمته.

وأما قولك : وكيف يمكن أن يظل طيلة هذه المدّة حيّاً ؟! (٢) فهو سؤال غريب

__________________

(١) سورة ٣ آية : ٧.

(٢) لا استبعاد عند العقل والوجدان في طول عمر مولانا الامام المهدى المنتظر ارواحنا فداه فان من هو قادر على حفظ حياة الانسان آناً واحداً ويوما فاراداً يقدر على حفظ تلك الحياة آلافا من السنين ولم يكن ذلك محالا ذاتاً حتى لايتعلق به القذرة نعم هو خارق للعادة وخرق نواميس الطبيعة في شؤون الانبياء واوصيائهم ليس بشيء عجيب وأمر غريب.

على ان القرآن الكريم ينص لنا في قصة يونس عليه‌السلام « فلولا انه كان من المسبّحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون » = سورة الصافات آية ١٤١ = وهو في بطن الحيوان « الحوت » في قعر البحر = الاية الشريفة صريحة في ان يونس لولم يكن من المسبّحين لكان يلبث في بطن الحوت على حاله الى يوم يبعث سائر البشر فكيف لايعيش انسان يهتم في رعاية قوانين حفظ الصحة وهو عالم بجميع موجبات سلامة المزاج واستقامة وحفاظة اسباب طول عمره وهو يعيش ويتنعم ويتنفس في الهواء الصافى اللطيف ويتجنب عن الهواء الراكد الكثيف. مع اثبات العلم اليوم امكان الخلود للانسان في الدنيا آلافاً من السنين.

واحتمال ارادة موت يونس بازهاق روحه ولبث جسده في بطن الحوت الى يوم البعث واحيائه عنده مخالف لظاهر الاية الشريفة لايصار اليه مالم يدل عليه دليل ولادليل لنا على خلاف الظاهر وارتكاب الظاهر وارتكاب التأويل. وظواهر القرآن حجة ما لم يدل عليه على خلافها من العقل او النقل.

قال في مجلة المقتطف ج ٣ سنة (٥٩) : ان العلماء الموثوق بعلمهم يقولون ان كل الانسجة الرئيسية في جسم الحيوان تقبل البقاء الى مالا نهاية له وانه في الامكان ان يبقى الانسان حيّاً ألوفا من السنين اذا

١٦٢

بل وغريب جداً ، كأنك نسيت قوله تعالى في نبيه نوح عليه‌السلام : فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً . (١) وذكر أرباب السير أن عمره كان الفاً وستمأة ، وقيل أقل ، وقيل اكثر حتى قيل انه تجاوز الالفين. ومن تدبر وأنصف عرف أن الانسان اذا أمكن أن يعيش سنة امكان ان يعيش ألوف السنين فان من وهبه الحياة سنة يقدر أن يمدّها الى ماشاء الله.

وأما سبب غيبة الخضر عليه‌السلام ان صح كونه حيّاً موجوداً الى الآن كما عليه اكثر علماء الفريقين فلعل العلة في غيبته كراهته لمعاشرة هذا الخلق المنعوس ، وتجافيه عن مباشرة البشر الذي ثلثاه شرّ ، بل كلّه شرّ الاّ من عصم الله ممن يصل اليهم او يصلون اليه ، ويأنس بهم ويأنسون اليه. أراد ـ ونعم ما أراد ـ أن يعيش متباعداً عن هذه الجلبة والضوضا ، والمدنية الزائعة ، وكان وظيفته بني الانبياء ـ ان كان نبيّاً ـ تكميل الخواص من عباد الله من السيّاح والزهاد ، والابدال والاوتاد بخلاف سائر الانبياء ، فان وظيفتهم دعوة العامة من سواد الناس الى الايمان بالله واليوم الاخر ولو بالايمان والبسيط واليقين الضعيف.

__________________

لم تعرض عليه عوارض تصرم حبل حياته وقولهم هذا ليس مجرد ظن بل هو نتيجة عملية مؤيدة بالامتحان. راجع الى اجزاء تلك المجلة تجد فيها البراهين الجلية في اثبات هذا الموضوع على ان من كان من البشر مزاجه في منتهى حد الاعتدال الحقيقي يمكن ان يعيش ويبقى حيا مادامت اسباب العيش موفورة له ومادام لم يعرض له عارض خارجي يميته.

والاعتدال الحقيقى في المزاج يوجد في بعض الناس من الانبياء والاولياء وما ذكره السابقون من الفلاسفة من الشبهات في وجوده فقد ظهر وهنها اليوم ولا يعبأ با في هذا العصر انكشاف اسرار الطبيعة.

(١) سورة ٢٩ آية : ١٤.

١٦٣
١٦٤



٢٧

الاجتهاد والحرّية الفكرية عند الشيعة الامامية

السؤال

الى أيّ حد نعتبر باب الاجتهاد مفتوحا امام علماء الشيعة الامامية وما مسافة هذا الاجتهاد ؟ وما نوعه وما تأثيره على الفقه الشيعي ؟ وهل حرّيتهم الفكرية المعروفة عنهم مطلقة بالمعنى الصحيح أم هي مقيّدة تقييداً كبيراً بمذهبهم ؟

الجواب

١. يعتبر باب الاجتهاد مفتوحا أمام فقهاء الامامية بغير حد من ناحية المجتهد الاّ حدود تحقق شرائطه وأهليته من أى عنصر كان وفي أي بلد او زمان يكون ، والى أيّ نحلة من نحل الاسلام ينتسب ، فهو من هذه الناحية حرّ طليق لايتقيد الاّ بنفسه وتحقّق ذاته.

٢. واما مسافته : فهي كذلك غير محدودة لافي أول ولا آخر ، بل مستمرّة مادام التكليف ، وما بقين العقول التي هي الحجة الكبرى للخالق على المخلوق ، وللمخلوق

١٦٥

على الخالق ، وهي ثابتة في كل زمان ومكان ؛ وفي عامة الشرائع والاديان.

٣. وأما نوعه : فهو من العلوم النظرية الفكرية الاستقلالية ، وليس من العلوم الالية ، وهو مقدمة للعمل وليس تحققه منوطاً به ؛ بل هو ملكة نفسية كسائر العلوم والفنون ، ولاتكون ملكة راسخة الا بعد الممارسة والمزاولة وسبر الادلة ، واستحضار القواعد العامة ، والاحاطة بالاشباه والنظائر ، وهو احوج ما يكون الى ذهن نافذ وفهم وقّاد ، وذوق سليم واعتدال سليقة واستقامة طريقة ، ومعرفة بالأمور العرفية يستطيع بها تطبيق الاصول للفروع وأستنباط حكم الجزئي من الدليل الكلي ، ويستحيل عادة او حقيقة حصول هذه الملكة ـ أعني ملكة الاجتهاد ـ للبليد والرجل العادي ، ولذا قالوا : ان الاجتهاد نور يقذقه الله في قلب من يشاء ، وأنا أقول : نعم هو نور ولكن لا يقذفه الله في قلب احد جزافاً ، وانما ينفحه به بعد طول الكدّ والجدّ والتعب ، والعناء ، وان نقل عن بعض الاساطين : ان ملكة الاجتهاد حصلت لهم قبل البلوغ ، وهو ان صح فمن النوادر والشواذ.

٤. هل حرّيتهم الفكرية مطلقة بالمعنى الصحيح أم هي مقيدة تقييدا كبيراً بمذهبهم ؟! قد أشرنا الى ان الاجتهاد لا يتقيد بمذهب من المذاهب ، فهو مطلق من هذه الناحية ، ولكن الاجتهاد الصحيح الذي يجوز للمجتهد ان يعمل به ، وللمقلد أن يأخذ به ويرجع اليه مقيد بأن يكون على مذهبهم ومن السنّة المعتبرة عندهم ، مثلا الأحناف قد يفتون على ما يقتضيه القياس والمصالح المرسلة، وهذا لايجوز عند الامامية أصلا ؛ بل لابد من الاستناد الى كتاب او السنّة المعتبرة عندهم ، او العقل القطعي البديهي لا الظن او الاستحسان وحتى ان مراجعهم العليا في الحديث ـ وهي الكتب الاربعة المشهورة : ( الكافي ) و ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) و ( من لا يحضره الفقيه ) ـ مع جلالة قدرها وعظمتها عندهم فهم لا يعلمون بكل حديث فيها ؛ بل يمحّصونه ويقحصونه ويجتهدون في سنده ومتنه ، فقد يقبله مجتهد حسب

١٦٦

اجتهاده ؛ وقد يردّه آخر لعيوب يجدها فيه او معارض أقوى حسب اجتهاده ايضاً ، ومن هنا تعرف حريتهم الفكرية كيف ترامت الى أمد بعيد قد تجاوز الحدود واخترق التخوم ، ومنه تعرف ايضا تأثير انفتاح باب الاجتهاد على الفقه ، فان هذا الانفتاح قد شحذ أذهانهم ، وفتق قرائحهم ، وفتح لهم مدائن واسعة في الفروع والاصول يعرف ذلك جلياً من راجع مؤلفاتهم في الفقه والاصول ، من المتقدّمين والمتوسّطين والمتأخرين.

ولولا انحراف الصّحة ، وضعف القوى ، وسوء ملكة العلل والاسقام لنا ساعة كتابتي هذه لذكرت نبذة وافية من الشواهد على ما كان له من التأثير على الفقه الشيعي ، بل قد تجاوز ذلك الى تأثيره على الأدب العربي ، والشعر البديع فقد كان لأكثر فقهائنا ، حتى من غير العرب نصيب من الادب العالى والشعر الرائق والمؤلّفات النفيسة في انواع علوم العربية حتى متن اللغة ولو نظرت الى ( طراز اللغة ) لسيّد عليخان صاحب السلافة الذي هو وان لم يكمل أضعاف القاموس ، نعم لو نظرته لرأيت العجب من تلك السعة والاحاطة وحسن الذوق.

والخلاصة : أن انفتاح باب الاجتهاد لم يؤثر على الفقه عندهم فقط بل له تأثيره البليغ في سائر العلوم حتى الحساب والهندسة والفلك وما اليها واذا أردت أن تعرف الفرق بين فقههم وفقه بقية المذاهب الاسلامية فمن الجدير ان تسيم نظرك في مؤلّفنا الجديد الذي فرغنا من تأليفه وطبعه العام الماضي ، وهو كتاب ( تحرير المجلة ) في خمسة اجزاء ، الاربعة الاولى منه في العقود والمعاملات والالتزامات والضمانات والقضاء والمرافعات ، والخامس في ما يسمّونه اليوم بالحقوق الشخصية الذي استدركناه على أرباب المجلة.

وهذا البيان الوجيز وفق ما امكن لاوفق ما يلزم ، ولا زلتم موفّقين لخدمة المعارف بدعاء الأب الروحي.

١٦٧
١٦٨



٢٨

غيبة المهدي المنتظر عليه‌السلام

ولدي العزيز المهذّب النجيب

سألت عن « المهدى المنتظر » وقلت ان الشيعة يزعمون انه دخل في سرداب في سامراء وتغيّب هناك ... ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشبتك النجوم ، ثم ينفضون ويرجئون الأمر الى الليلة الآتية ـ ( انتهى ).

الجواب

عجبت كيف تسألني عن هذه الخرافة ؟ ونسيت ما قلته أنت ونقلته عنّا في صفحة من صفحات كتابك انه ( اي محمّد الحسين ) لا يرضى عن الرجوع في تاريخ الشيعة اي ما كتبه ابن خلدون ( البربري ) الذي يكتب وهو في أفريقيا وأقصى المغرب عن الشيعة في العراق واقصى المشرق انتهى. فهل نقلت الأسطورة الخرافية الاّ عن ابن خلدون أو أمثاله ؟ وهل وجدتها في شيء من كتب الشيعة ؟

وقد أوضحنا غير مرّة أن من الاغلاط الشائعة عند القوم ( اي عند السنّة ) من

١٦٩

سلفهم الى خلفهم والى اليوم زعمهم أن الشيعة يعتقدون غيبة الامام في السرداب ؛ مع أن السرداب لا علاقة له بغيبة الامام اصلا ؛ وانما تزوره الشيعة وتؤدّي بعض المراسيم العبادية فيه لأنه موضع تهجد الامام وآبائه العسكريين ، وحل قيامهم في الأسحار لعبادة الحق.

وأعجب من ذلك قضية الوقوف على باب السرداب والهتاف باسمه ودعوته للخروج ، فان سامراء من مشاهير مدن العراق ، يقصدها كل يوم او كل شهر ، او كلّ عام ألوف من أهل الاقطار النائية من مختلف العناصر والمذاهب ، ومقام السرداب وبابه مفوح لكل وارد انفتاح سائر المشاهد والمعابد ، فمن ذا الذي رأى الشيعة يقفون على بابه ويهتفون باسمه للخروج نعمر السرداب مزار عند الشيعة ويقفون على بابه أيّ وقت شاؤوا لايختص بمغرب ولاغيره ؛ ويسميّه العوام او بعض الخواص ب‍ ( سرداب الغيبة ) لان الامام غاب في تلك الدار ، وهي التي ولد ونشأ فيها ، ويقفون على الباب يستأذنون للدخول شأن الوقوف على الاماكن المقدّسة ، ويسألونه تعالى تعجيل الفرج برفع كابوس هذا الظلم عن العالم ، واقامة موازين القسط والعدل بظهور امام يملؤها قسطاً وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجوراً ، ولا يختص السرداب بهذا الدعاء بل يدعون به في كل زمان وكل مكان وهذه احدى الافتراآت التي كانت الدعايات السوداء تنشرها عن الشيعة ، وكنّا نحسبها زالت او تزول في هذا العصر الذي يسمّونه عصر النور ـ وهو أظلم العصور ظلماً وظلاما ـ كنا نحسبه عصر التمحيص وعصر الحقائق ـ واذاً الناس تلك الناس ـ والزمان ذلك الزمان ، وكل كتاب فجر الاسلام ، وكل كاتب أحمد أمين ... ( فلا حول ولا قوة الا بالله العظيم ).

ثم ذكرت أنّ المؤرخون السنّيون يَشِكّون كلّ الشك في نسب عبيدالله المهدى ـ ( الفاطمي ). مع أن كثيراً من مؤرخى السنة يصححون نسب الفاطميين ، ومنهم

١٧٠

المقريزي على ما ذكر ، والظاهر ان محمّد بن اسماعيل هو محمّد المكتوم لامحمّد بن المكتوم ، أما ما نقلته عن المقريزي من أن أصل الدعوة الفاطمية مأخوذ عن القرامطة فان الحس والوجدان ، وسيرة الفاطميين أنفسهم تفند هذا الرأي وتزيفه ، فان القرامطة ملاحدة ، وقضيتهم في مكة المشرفة وقلع الحجر ، وقول زعميهم :

أنا بالله وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا

وقوله بعد أن قتل في المسجد الحرام سبعين ألفا من الحجّاج :

ولو كان هذا البيت لربّنا

لصبّ علينا من صواعقه صباً

الى آخر الأبيات ، فان كل ذلك معروف.

١٧١
١٧٢



٢٩

الفاطميون والقرامطة

سألت عن الفاطميين وصلتهم مع القرامطة ، أقول : الفاطميون فيمكن أن يصحّ القول عنهم : أنه ما من دولة نشرت الثقافة الاسلامية وخدمت الاسلام عموماً ، ومصر خصوصاً مثل الدوله الفاطمية ، ولو لم يكن لهم من المآثر والمفاخر سوى الأزهر الخالد لكفى ، أمن الحق والانصاف أن يكون جزاء هؤلاء ازاء خدماتهم لمصر والاسلام انهم ملاحدة قرامطة مذهباً ؟ ويهود بالاصل نسباً ؟! الحكم في ذلك لوجدانك النزيه ، وضميرك الحرّ ونعوذ بالله من العصبية التي تضع على الأبصار والبصائر كل غشاوة.

فمن عقائد الفاطميين قولهم بوصاية على بن البطالب عليه‌السلام ، وهي فكرة مأخوذة عن الشيعة الامامية. وهم الذين لقبّوا عليا بهذا اللقب في حياته وان علياً لم يرض به كما لم يرض بغيره من الاقوال التي ذهبوا فيها الى تقديسه الى آخر ما ذكرت ، وهذه شنشنة قديمة أعرفها من اخواننا السنّيين ، ولا استطيع ان أثبت لك بهذه الفصاصة وصاية علي عليه‌السلام من كتبهم لانه قد يستوعب مجلداً ، ولكن ليت شعري أنظرت في « أصل الشيعة وأصولها » ونسيتها او تناسيتها او لم تنظرها ؟ وعلى كل

١٧٣

فأنا أرشدك الى شاهد ثبت لعلك تقنع به ، وتعرف منه أن لقب الوصى لعلّي عليه‌السلام أشهر ـ كما يقولون ـ من الشمس في رائعة النهار ، هو المسطور في آخر مجلد من لسان العرب لابن منظور المصري تحت مادّة « وصى » أنظر هناك واعجب (١) ثم ليت شعري من اين ثبت عندك أن عليا عليه‌السلام لم يرض به في حياته ؟

وهذا ( نهج البلاغة ) مشحون بما يدلّ على ذلك ، وغير المنهج من خطبه وكتبه.

__________________

(١) قال امام ائمة اللغة جمال الدين محمّد المعروف بابن منظور الافريقي المصري الانصاري المتوفى (٧١١) ه‍ في كتابه الكبير النفيس « لسان العرب » ما هذا لفظه :

قيل لعلي عليه‌السلام « وصى » لاتصال نسبه وسببه وسمته بنسب سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسببه وسمته ( قلت ) كرم الله وجه اميرالمؤمنين على وسلم عليه هذه صفاته عند السلف الصالح رضي الله عنهم ويقول فيه غيرهم لولا دعابة فيه وقول كثير.

تخبر من لاقت انك عائذ

بل العائذ المحبوس في سجن عارم

وصى النبي المصطفى وابن عمه

وفكاك اغلال وقاضى مغارم

انما اراد ابن وصي النبي وابن ابن عمه وهو الحسن بن علي او الحسين بن علي رضى الله عنهم فاقام الوصى مقامهما الا ترى أن عليا رضي الله عنه لم يكن في سجن عارم ولاسجن قط قال ابن سيدة انبأنا بذلك ابوالعلاء عن ابى على الفارسى ولاشهر انه محمّد بن الحنفية رضي الله عنه حبسه عبدالله بن الزبير في سجن عارم والقصيدة في شعر كثير مشهورة والممدوح بها محمّد بن الحنفية (ا ه‍) انظر لسان العرب ، ج ٢٠ ، ص ٢٧٤ ، ط مصر. وقد خاطب رسول الله ـ اميرالمؤمنين ـ في صدر الاسلام بلقب ( الوصي ) وذلك حينما نزلت آية وانذر عشيرتك الاقربين وجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اعمامه وعشيرته وتكلم فقال : يا بني عبدالمطلب انى والله ما اعلم شابا في العرب جاء قومه بافضل ممّا قد جئتكم به قد جئتكم بخير لادنيا والاخرة وقد امرنى الله تعالى ان أدعوكم اليه فايكم يوازرني على هذا الامر على ان يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم ، فاحجم القوم عنها جميعا قال اميرالمؤمنين عليه‌السلام وقلت اني لاحدثهم سنّاً وارمصهم عينا واعظمهم بطناً واحمشهم ساقا انا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : ان هذا اخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا قال : فقام القوم يضحكون فيقولون لابي طالب قد امرك ان تسمع لابنك وتطيع. وقد اجمع المؤرخون على نقل هذه القضية في كتب التواريخ انظر تاريخ الكامل لابن الاثير ج ٢ ، ص ٢٢ ، ط مصر وتاريخ الطبري ج ٢ ، ص ٢١٦. وغيرهما من الكتب المعتبرة يطول الكلام بذكرها.

١٧٤



٣٠

عصمة الأئمة عليهم‌السلام و ...

١. سألت عن القول بعصمة الائمة عند الشيعة الامامية يحجب شيئا من الحرية الفكرية عندهم ، او يحول دون التمتع بها على الوجه الاكمل.

الجواب

أني لا احسب ان طائفة من طوائف الاسلام تلتزم الحرية الفكرية وتطلق سراح العقل في أوسع آفاقه كعلماء الطائفة الامامية ؛ والقول بالعصمة لايضايق العقل عندهم ولاتقيّده بشيء من قيود ، وللعقل المقام الأعلى في ادلة الاحكام ؛ واذا عارضه النقل فالمعول على العقل وكثيراً ما يأتى الحديث الذي هو في أعلى مراتب الصحة عن الائمة المعصومين عليهم‌السلام ـ وهو ما يسمّونه بالصحيح الاعلائي ـ ويكون منافيا للعقل ، فان أمكن تأويله الى ما يوافق العقل أوّلوه ، والاّ ضربوا به الجدار ، وتأدّباً يقولون نردّ علمه الى أهله ، ولا يعملون به.

٢. وسألت ما هي أهمّ الفروق الواضحة بين الشيعة الامامية والشيعة الفاطمية الذين هم فرع من الامامية ؟!

١٧٥

الجواب

ما قلته لبعض علماء الشيعة الاسماعيلية الذين هم الى اليوم في الهند ( بومباي ) فانّهم بقية الفاطميين تحقيقا وأعني بهم ( البهرة ) أتباع. « طاهر سيف الدين » لا أتباع « آغاخان » فانّهم ملاحدة تحقيقاً : لاحج ، ولاصوم ، ولاصلاة ، بخلاف الاوّلين.

نعم قلت : نحن وأنتم سرنا في طريق واحد وعند ما وصلنا منتصفة الطريق فارقتمونا وهكذا الحال فانهم يوافقوننا في ستة من الائمة من على عليه‌السلام الى جعفر الصادق عليه‌السلام وينكرون الستّة الآخرين ؛ وللمقال هنا مجال واسع في ذكر أصولهم وفروعهم ، وفي ذكر القاضي النعمان بن محمّد المصري وغيره من افراد أسرته الجليلة الذين تولّوا القضاء للفاطميين أكثر من مأة سنة وكتابه الجليل ( دعائم الاسلام ) ولكن لاقوة تساعدني على الافاضة في ذلك ، فعذراً.

٣. وسألت ما هي الصلة بين الشيعة الامامية ومنهم الفاطمية وبني المعتزلة التي هي من فرق السنة ؟ فقد وجدت الفريقين تتحدثان عن صفات الله ، وتخصّان صفة العدل من صفاته تعالى بالكلام.

الجواب

أن المعتزلة فرق كثيرة ، وقد انقرضت اليوم على الظاهر ، ومنها معتزلة الشيعة ، ومعتزلة السنّة ، ومعتزلة السنّة ايضا أنواع مفضّلة وغير مفضّلة ، والذي يجمعها عموما مع الشيعة عموما هو قولهم بأن من صفاته تعالى العدل الذي ينكره الاشاعرة. وعلى هذا تبتنى مسئلة الحسن والقبح العقليين التي تقول بها الامامية والمعتزلة ؛ وتنكرها الاشاعرة ايضا ، وبهذا الملاك يطلق على الفريقين اسم العدلية.

أما الكلام فهي مسئلة أخرى ، فان الاشاعرة قالوا بالكلام النفسي له تعالى ،

١٧٦

وأنه من صفاته الثبوتية ، وانكره العدلية بأجمعهم ، ومن هذه القضية تفرّعت المسألة المهمة التي أخذت دوراً واسعاً في زمن المأمون والمعتصم ، والواثق بل والمتوكل ايضا ، وهى قضية خلق القرآن وهل هو حادث او قديم ؟ مخلوق او غير مخلوق ؟ وهي المحنة التي ضرب في سبيلها الامام أحمد بن حنبل بالسياط ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المباحث في الجزء الاول من كتاب ( الدين والاسلام ) ولامجال لتفصيل هذه المباحث العويصة في هذا الكتاب الوجيز مع ما نحن فيه من العجز.

١٧٧
١٧٨



٣١

عصمة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله

سألت ـ وفقك الله ـ عن الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأرباب السنن كالترمذي ، وابن داود ابن ماجه عن حذيفة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى سباطة قوم فبال قائماً. وأن بعض أئمة المساجد لم تستطع أن تقنعه بأن هذا الحديث كذب. وتقول هل جاء نص بحرمته ؟ وطلبت من الجواب.

فاعلم أننا وأكثر المذاهب الاسلامية على الظاهر نعتقد عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاشك أنّ العصمة فوق العدالة بمراتب والعدالة كما هو معروف ترك الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر ، وعدم ارتكاب منافيات المروّة ، ويمثّلون منافيات المروة بمثل الأكل في الطريق او المشي فيه عاريا مستور العورة ، فاذا كل مثل الاكل منافياً للمروّة ومسقطاً للعدالة ، فكيف لايكون البول في الطريق منافيا للمروة ومسقطاً للعدالة ؟ فهل يعقل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير عادل ؟ مع أن الواجب عقلا أن يكون معصوما والعصمة فوق العدالة ، ومنافيات المروة لايلزم أن تكون حراما حتى يقال هل أتى نص بحرمته ، وغير خفى على ذي لب أن مقام النبي الكريم الذي يقول فيه العظيم : وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ

١٧٩

عَظِيمٍ (١) حتى في احواله العادية فضلاً عمّا يعود الى عالم التشريع هو فوق مستوى البشرية فهو منزه في كل أقواله وأفعاله بعيد عمّا يكون له أي مساس بحفظ الكرامة ، والصيانة والوقار ، والهيبة ولاريب أن البول قياما ولاسيما أمام جماعة من الناس ممّا تنبو عنه الطباع تشمئز منه النفوس ، ألا ترى ان العرب كانوا اذا أرادوا ذم الرجل ، وأنه جلف جافى لايعقل شيئا يقولون : ( أعرابي (٢) بوّال على عقبيه ) أي يبول قائماً يترشح البول او يسيل على عقبيه كالبهائم. فاذا كان أحد أئمة المساجد الذي لم تستطع اقناعه بكذب الخبر يرضى أن يكون نبيّه بوالاً على عقبيه ، فنحن لانرضى بذلك وننزّه مقام النبوّة ونقدّسه عن مثل هذا الرذائل. ومن الشائع المعروف عند الامامية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه أحد على بول او غائط قط وان الارض تبتلع فضلاته.

وهذا أمر جلي واضح يدركه الذوق والوجدان وهو في غنى عن الدليل والبرهان ، فان كل ذي شعور اذا وجد رجلا يبول في الطريق قائما أو قاعداً يسقط من عينه ، ولايبقى له أي كرامة في المجتمع ، كمن يمشى عاريا في المجامع ، ويستحق الذّم واللوم عند العقلاء وهو في سائر الناس فما ظنك بالنّبي والائمة سلام الله عليهم ؛ والعلماء الذين بهم الأسوة والقدوة ؟!

هذا من طريق العقل والعرف والاعتبار ، أما لو اردنا سرد الاخبار الواردة في كراهة البول قائما او في الطريق ، واستحباب التباعد بالبول بحيث لايرى ، وأن يتوقى الترشح ونحوه فهو كثير لا يسع المجال لاحصائه ، نعم لو رأينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بال قائما بأعيننا او ثبت ذلك بالتواتر وجب علينا تخرج وجه لصحة عمله ، وطلب وجوه التأويل لهذا العمل المنكر عقلا وعرفا وشرعا ، فنقول ان مراده بيان الجواز ؛

__________________

(١) سورة ٦٨ آية : ٤.

(٢) الاعراب أهل البادية من العرب والعجم.

١٨٠