جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقع فعلا كما أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف انتقل تقبيل فم الحسن الى فم الحسين الذي مات منحوراً من قفاه ؟ ولم ينتقل تقبيل نحر الحسين عليه‌السلام الى نحر الحسن عليه‌السلام الذي مات مسموما في فمه.

وفي الاستعراض الدينى لاهل البيت نجد اعتراضا على الحديث الذي ورد بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال مخاطبا سلمان الفارسى : نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشرية ، يا سلمان نزلونا عن الربوبية ثم قولوا فينا ما استعطتم. فان البحر لاينزف وسرّ الغيب لايعرف ؛ وكلمة الله لاتوصف ومن قال هناك لم ومم وبم فقد كفر ، اذ أن من يتأمل العامي الاستهلالية من الحديث يجد ان منها ما يعد استكباراً في الارض ، وهو يخالف بمنطوقة ارادة الله التي جائت في القرآن فمحت آية الاستكبار الخليفة بالمستضعفين من الناس ، ويجد أن كلمة أسرار الله المودعة التي عمت جميع هياكل البشرية تتعرّض الشرّ حينا وللخير حينا آخر ، وتنقل من الزهد والتقوى دوراً والى افساد والاثم والفوضى دوراً آخراً ، حيث كانت هياكل البشر الطاهرة فيها ، فهل كان الرسول يعنى انه هو وذريته سرّ الله المودع في هياكل البشرية الطاهرة فقط ؟

او في جميع الهياكل سواء كانت طاهرة أو خبيثة ، مجرمة او مصلحة ، مدنسة. وغيرمدنسة ؟! هذا سؤال نطرحه امام سماحتكم من الشطر الاول من الحديث.

وأما الشطر الاخر فيه ( ومن قال لم ومم وبم فقد كفر ) فيكفينا أن نقول ان فيه حجراً لعقل الاسلامى الذي خلق حرّاً طليقا بحكم التشريع الاسلامي ، ونتسائل كيف اباح النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لنا ادراك الله عن طريق العقل بعد التفكير والتكييف والمقارنة والمشابهة والظن والشك والريبة وما أشبه ذلك ، ثم تكون هذه الاشياء كلها شرعية بنظر القانون الاسلامي ، ولم يبح لنا ادراك كنه ( أسرار الله المودعة والسر الله الذي لايعرف وكلمة الله التي لا توصف ) المتجسمة في شخصه وشخص ذريته من بعده ؟

١٤١

ان هذا المنع الجرد عن العقل والروية بعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ اذا كان صادرا عنه ـ الى عدة انتقادات عقلية أهمها انه اباح للعقل أن يدرك الله تعالى عن طريق الظنّ والتفكير الذي حرّمه لادراك شخصه ، وبذلك جعل نفسه فوق الله تعالى ؟ وان كانت هذه النفس هي خليفة الله والخاضعة لامر الله ، هذا فضلا عن أن هذا الادعاء المتجسّم في كلمة : سرّ الغيب الذي لايعرف وكلمة الله التي لاتوصف ، يجعل للشكوك والاوهام سبيلا للوقوف حائلا بين حكم العقل وعاطفة الاعتقاد ، ولماذا لايعرف رسول الله الذي هو كلمة الله وله أعمال واقوال تدل على شخصه وتنم عن سجاياه وأخلاقه ؟ ومتى كانت أعمال الرجل وأقواله وتصرفاته الدينية والاجتماعية بين ايدينا يمكننا أن نحكم على شخصيته من أنها شخصية صالحة اذا كانت أعماله واقواله توافق الصلاح وان نحكم على هذه الشخصية من أنها شخصية مجرمة فاسدة فيما اذا كانت اعماله واقواله تأتي الفساد وترتكب الاجرام والفوضى الاجتماعية ؟

لا أعتقد أن هذا القول يصدر عن النبي كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متواضعا جداً وهو كانسان بسيط يمشى في الاسواق ، ويأكل ويشرب ، فكيف به كنّبي يقول مثل هذا القول الذي هو من صفات الالهية ؟ بل أعتقد أن هذا الحديث من جملة الاحاديث التي دسّتها اليهود دسّا في كتب الاسلام انتقاصا في قيمة الدعوة المحمدية التي هي أسمى كل شيء طهر على وجه الارض !

أما اذا كان هناك ما يدعوا الى الاعتقاد بصحّتها فأرجوا سماحتكم أن تتفضلوا بيان ذلك ولو مفصلاً.

الجواب :

تقول ـ أيدك الله ـ في كتابك : ونحن اذا قلنا ان الحسين عليه‌السلام مات دفاعا عن شرف الدين نكون قد أسأنا الى الدين الاسلامي ، الى آخر ما أبديت في هذا

١٤٢

الموضوع وكأنه غاب عنك أننا حيث نقول ؛ مات او قتل دفاعا عن الدين ؛ لانريد أن الدين اسلامى يموت بموته ويحيى بحياته ، بل نريد العكس يعنى ان الدين يحيى بموته ويموت باستبقاء حياته ، وهذه حال جميع من قتل في سبيل الله الذين يقول الله جلّ شأنه عنهم : ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (١) ... ، مثل حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث وسعد بن الربيع (٢) وأمثالهم ممن بذلوا حياتهم في الدنيا لحياة الدين فوجدوا خيراً من تلك الحياة عندالله تعالى ؛ فهم عند الله أحياء غير أموات وان كانوا بالنظر الى الدنيا أمواتا غير أحياء ، ولايلزم من هذا أن يكون الدين الاسلامي صورة مادية يملكها فرد من البشر كما تخيلت ، ضرورة أن الدين هو عبارة عن تلك الاحكام والقوانين التي جاء بها الرسول الامين من رب العالمين وحياتها وموتها بالعمل بها وعدم العمل بها ، ولما سلك يزيد في خلافته مسلكا يوجب ابطال العمل بشرائع الاسلام حيث صار يجاهر يشرب الخمور وارتكاب الفجور وترك الصوم والصلاة والناس يتبعونه طبعا ( لان الناس على دين ملوكهم ) كما قيل ، وكأنه بهذا يريد القضاء على الاسلام وموته ، لذلك ضحى الحسين عليه‌السلام بحياته وحياة خيرة أهل بيته وأصحابه انكاراً على يزيد وابطالاً لمساعيه واحياء للدين ، ولحمل الناس على العمل بشرائعه كما قال سلام الله عليه او قيل عنه :

ان كان دين محمّد لم يستقم

الا بقتلي يا سيوف خذيني

فحقّاً ان الحسين سلام الله عليه ما بذل نفسه الا دفاعا عن شرف الدين وتفاديا

__________________

(١) سورة ٣ آية : ١٦٩.

(٢) سعد بن الربيع الخزرجي احد نقباء الانصار من شهداء احد ، انظر ترجمته في تنقيح المقال ، ج ٢ ص ١٣ ط النجف.

١٤٣

للمبدء المقدس ، ولانكون بهذا قد أسانا الى الدين بل أحسنّا اليه حيث جعلناه فوق نفس الامام المعصوم وأنه يفدى بأعز النفوس ، ومن الغريب قولك على قولنا ان العادة العربية دفعت بالحسين عليه‌السلام أن يصحب أولاده ونسائه معه مستميتا في سبيل الكرامة والشرف ، فقلتم ان التعاليم الاسلامية حرمت المرأة مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم الامن وراء حجاب ، أليس من الغريب أن تقول وأنت بهذه الثقافة : ان الدين الاسلامى حرّم المرأة من مخالطة الرجال فتجعل ذلك وصمة شنعاء ولطخة سوداء في جبين الدين الاسلامي ؟ كيف يقال هذا وهذه الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت مشرّع الدين الاسلامي خطبت في المسجد النّبوي في حشد المهاجرين والانصار تلك الخطبة البليغة الغرّاء التي تستغرق مايقرب من ساعة وكلّهم يسمعون ويشهدون ؟ وهذه عايشة مازالت مدة عمرها تخطب وتحدث الرجال بالاحاديث النبوى واذا نظرت الى كتب صحح اخوانا العامّة تجد الربع او الثلث تقريبا ينتهى سنده الى عائشة ، حتى نسبوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خذوا ثلث دينكم من الحميراء ، وهل اول جواز الاختلاط من أنها قادت جيشا جرّاراً وجنداً قهارا الى حرب البصرة حاربت أميرالمؤمنين عليه‌السلام ومعه اعاظم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الانصار والمهاجرين ؟ دع عنك هذا وراجع كتاب ( بلاغات النساء ) وأمثاله وانظر الى النساء اللاتي كنّ يخطبن في الجيوش في صفين ويحرضن أهل العراق على حرب اهل الشام ، وانظر الى كلام الوافدات (١) على معاوية بعد أن تم الامر له. وكيف كانت تلك النسوة أجرء من اللبوة وأقوى قلبا من الصخور ،

__________________

(١) مثل كلام سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية ، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي رحمه‌الله التي حبسها معاوية سنتين ، انظر الى بلاغات النساء لابن طيفور واعلام النساء لعمر رضا كحالة وامثالهما من الكتب.

١٤٤

أنظر الى الخنساء (١) يوم حرضت أولادها الاربعة في بعض حروب المسلمين حتى قتلوا جميعا ، وبعد هذا فهل تجد من الصحيح قولك : ان الاسلام حرّم المرأة من مخالطة الرجال ؟ ألم تكن النساء تضمّد الجرحى وتسقى العطاشا ، وتزغزد وتهلهل وتحرض المقاتلين على الهجوم في حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرب الوصى عليه‌السلام.

دع وانظر الى صفايا النبوّة وحرائر الرسالة وبنات سيد الموحّدين ويعسوب الدين عليه‌السلام من زينب وأم كلثوم وسكينة في كربلاء والكوفة والشام ، وفي مجلس يزيد وابن زياد في النوادي والمجتمعات ، فهل مع هذا كله نقول : ان تعاليم حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع احاديثهم وأرجعتها الى بيتها ؟ أما آية الحجاب فهى واردة في خصوص نساء النبي عليه‌السلام (٢) وكان الاعراب الذين أخبر الله جل شأنه عنهم بقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٣) يؤذون نساء النبي بالهجوم عليهن في منازلهن نهاهم الله عن ذلك ، راجع سورة الاحزاب نعم ان التعاليم الاسلامية حرمت على النساء مطلقا التبرج واظهار الزينة للرجال : ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى (٤) وأين هذا من

__________________

(١) الخنساء بنت عمرو بن الشريد اتفق اهل العلم بالشعر انه لم يكن امرأة قبلها ولابعدها اشعر منها ووفدت الخنساء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قومها من بني سليم فاسلمت معهم وتوفيت حدود سنة : (٢٦) ه‍.

(٢) الاية وان كانت واردة في خصوص نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن حكمها عام فان من المحقق في محله ان خصوص المورد لا يخصص عموم الحكم قال الجصاص : وهذا الحكم وان نزل خاصاً في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه فالمعنى عام فيه وفى غيره اذكنا مأمورين باتباعه والاقتداء به الا ما خصه الله به دون امته. انظر احكام القرآن ، ص ٤٤٥ طبعة سنة : ١٣٤٧ ه‍ بمصر ومع ذلك كله ، الاية لاتدل على الحرمة التي ادعاها صاحب المقال.

(٣) سورة ٤٩ آية : ٤.

(٤) سورة ٣٣ آية : ٣٣ قال الجصاص المتوفى (٣٧٠) ه‍ : « ولاتبرجن تبرج الجاهلية الاولى » يعنى اذا خرجتن من بيوتكن قال : كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنها عن الله عن ذلك وقيل هو اظهار المحاسن

١٤٥

حرمة المخالطة ولو سلمنا تنازلا بحرمة المخالطة فأيُّ منافاة بهذا لما أبديناه واريناه من ان حمله لنسائه واولاده استماتة في سبيل الكرامة والشرف ، فان حمله لهن لايستلزم الخالطة بوجه والا لما جاز لامرأة تسافر من محل الى آخر أبداً.

وأغرب من ذلك بل وأعجب جداً قولك : وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصى وهو ان الخمسة اثواب ... يزيد ثمن الواحد منها على مأة ليرة عثمانية لاتتوافق اقتنائها مع دواعي الزهد التي كانت متجسمة في أبيه وجدّه سيد الرسل الى آخر من افضت به وافدت في هذه الناحية ، وكأنك تحسب ان الزهد هو الفقر والفلاكة وعدم الوجدان ، وان الغناء والثروة تنافي الزهد ؟ لا يا عزيزي حقيقة الزهد هو عدم الحرص على المال وعدم المبالات في الدنيا وان يكون وجود المال وعدمه عنده سواء ؛ وقد جمع الله الزهد في كلمتين : لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (١) وحقيقة الزهد لاتظهر ولاتتجلّى الا مع توفر النعم وغزارة المال وبذله وعدم الحرص والتعفف عن رذيلة الشحّ والبخل : ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (٢) أما الفقير المعدم الذي لايجدو لايملك شيئا فأي زهد له ؟ وأي فضيلة له بذلك الزهد القهري وقد سئل الحسن البصري : أنت أزهد أم عمر بن العزيز وهو خليفة المسلمين ، فقال : عمر بن عبد العزيز أزهد مني لانه وجد فعفّ وتمكن فكفّ ولعل الحسن لو وجد وتمكن لأستخف وأكل فأسرف.

وأما رسول الله واميرالمؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما حيث كانوا يأكلون

__________________

للرجال وقيل الجاهلية الاولى ما قبل الاسلام والجاهلية الثانية حال من عمل في الاسلام بعمل اولئك فهذه الامور كلها مما ادب الله تعالى به نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صيانة لهن وسائر نساء المؤمنين مرادات بها (اه‍) انظر احكام القرآن ، ج ٣ ، ص ٤٤٣ ط مصر.

(١) سورة ٥٧ آية : ٢٣.

(٢) سورة ٥٩ آية : ٩ ، سورة ٦٤ آية : ١٦.

١٤٦

الشعير ويلبسون الصوف فليس لأنهم كانوا لا يتمكنون من المآكل الطيّبة والملابس الليّنة ولكنهم كانوا يحتقرون الدنيا ونعيمها الفاني ويقولون عن اهل الدنيا : اولئك قوم عجلت لهم طيباتهم ونحن أخرت طيباتنا ؛ ولاميرالمؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة كلام من العلاء بن عاصم الذي ترك الدنيا ولبس الصوف فقال له : يا عديّ (١) نفسه لقد استهام بك الخبيث ( بمعنى الشيطان ) فقال : يا أميرالمؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ، قال : ويحك اني لست كأنت ان الله تعالى فرض على ائمة العدل ان يقدروا انفسهم بضعفة الناس كي لايتبيّغ بالفقير فقره ، (٢) وللباقر والصادق عليهما السلام مع سفيان الثوري واصحابه من متقشفة ذلك العصر ومتّصفة تلك الايام حيث كانوا يعترضون على الائمة عليهم‌السلام اذا وجدوا عليهم بعض الملابس الفاخرة قائلين : ان جدّكم رسول الله وأميرالمؤمنين صلوات الله عليهما ما كانوا يلبسون هذه الملابس ؟ فيقول لهم الامام : ذاك حيث ان الزمان قلّ اما اذا درت الدنيا أخلافها فأولى الناس بها أولياء الله أو ما هو بهذا المضمون ، وللرضا عليه‌السلام كلام عال شريف في هذا الموضوع. ولقد كان لاميرالمؤمنين عليه‌السلام في المدينة من الضياع والبساتين والمزارع كعين أبي نيزر والبغيبغة وغيرها ما يدرّ كل سنة بألوف الدنانير ، وقد أوقفها جميعاً في سبيل الله وكان يضرب بالمسحاة بيده في عقار له لاحرصا على الدنيا والاموال ولكن حرصا على الانفاق في سبيل الله والاحسان على الضعفاء من عباد الله (٣) وكانت قنية تلك الاثواب الثمينة تمسّ ورع

__________________

(١) عدي تصغير عدو.

(٢) نهج البلاغة ، ج ١ ، ص ٤٢٣ ، ط مصر ، شرح ابن ابي الحديد ، ج ٣ ، ص ١١١ ، ط مصر.

(٣) قال السيد الاعظم السيد رضي الدين بن طاووس الحسني قدس‌سره في كتابه القيّم « كشف المحجة » ما هذا لفظه :

واعلم يا ولدي محمّد ... ان جماعة ممن ادركتهم كانوا يعتقدو ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جدك محمّد واباك عليا

١٤٧

__________________

صلوات الله عليهما كانا فقيرين لاجل ما يبلغهم ايثارهم بالقوت واحتمال الطوى والجوع والزهد في الدنيا فاعتقد السامعون لذلك الان ان الزهد لايكون الا مع الفقر وتعذر مع الامكان وليس لامر كما اعتقدوه اهل الضعف المهملين للكشف لان الانبياء عليهم‌السلام اغنى اهل الدنيا بتمكين الله جل جلاله لهم مما يريدون منه جل جلاله من الاحسان اليهم ومن طريق نبوتهم كانوا اغنى اممهم واهل ملتهم ولو لا اللطف برسالتهم ما كان لاهل وقتهم مال ولاحال وانما كانوا عليهم‌السلام يؤثرون بالموجود ولايسبقون الله جل جلاله بطلب مال يريد ان يطلبوه من المفقود وقد وهب جدك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله امك فاطمة صلوات الله عليها فدكا والعوالي من جملة مواهبه وكان دخلها في رواية الشيخ ( عبدالله بن حماد ) الانصاري اربعة وعشرون الف دينار في كل سنة وفى رواية غيره سبعون الف دينار وهي وزوجها المعظم والواهب الاعظم من اعظم الزهاد والابرار وكان يكفيهم منها ايسر اليسير ولكن العارفين ما ينازعون الله جل جلاله في تملك قليل ولاكثير ولكنهم كالو كلاء والامناء والعبيد الضعفاء فيصرفون في الدنيا وفيما يعطيهم منها كما يصرفهم هو جل جلاله وهم في الحقيقة زاهدون فيها وخارجون عنها ووجدت في اصل تاريخ كتابته سبع وثلاثين ومأتين ... عن مولانا على أبيك اميرالمؤمنين عليه‌السلام تزوجت فاطمة عليها السلام وما كان في فراش وصدقتي اليوم لو قسمت على بني هاشم لو سعتهم وقال في الكتاب انه عليه‌السلام وقف امواله وكانت غلّته اربعين الف دينار وباع سيفه وقال من يشتري سيفه ولو كان عندي عشاءة مابعته.

وروى فيه انه قال مرة عليه‌السلام من يشتري سيفي الفلاني ولو كان عندي ثمن ازار ما بعته قال وكان يفعل هذا وعلته اربعون الف دينار من صدقته.

... ورأيت في كتاب ابراهيم بن محمّد الاشعري الثقة باسناده عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : قبض على عليه‌السلام وعليه دين ثمان مائة الف درهم فباع الحسن عليه‌السلام ضيعة له بخمسمائة الف درهم فقضاها عنه وباع ضيعة اخرى له بثلاثة الف درهم فقضاها عنه وذلك انه لم يكن يذر من الخمس شيئاً وكان تنوبه نوائب ورأيت في كتاب ( عبدالله بن بكير ) باسناده عن ابي جعفر عليه‌السلام ان الحسين عليه‌السلام قتل وعليه دين وان علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام باع ضيعة له بثلاث مأة الف ليقضى دين الحسين عليه‌السلام.

... وكان وقف جدك اميرالمؤمنين عليه‌السلام على اولاده خاصة من فاطمة عليها السلام لها عامل من ذريته فكيف وقع للضعفاء انه كان فقيرا وان الغنى لايكون لمن جعله الله جل جلاله من خاصته وهل خلق الله جل جلاله الدنيا والاخرة الا لاهل عنايته (ا ه‍) انظر كشف المحجة ص ١٢٣ = ١٢٦.

وغير خفي على القارىء الكريم ان علياً اميرالمؤمنين عليه‌السلام استخرج عيونا بكد يده بالمدينة وينبع وسويعة واحيا بها مواتاً كثيرا ثم اخرجها عن ملكه وتصدق بها على المسلمين ولم يمت وشيء منها فى ملكه وجملة من وصاياه عليه‌السلام في صدقاته وموقوفاته مروية في الجامع الكبير « الكافي » للكليني رحمهم الله فراجع.

١٤٨

الحسين عليه‌السلام وزهده لو كان يشح بها يحرص عليها ، اما وقد بذلها في فك الأسير المجاهد في سبيل الله فتلك فضيلة للحسين عليه‌السلام وكرامة تزيد في علو ورعه وزهده ورغبته في تضميد عواطف الفقراء المجروحة والترفيه عن كل بائس محتاج.

ولعلك حسبت ان الحسين عليه‌السلام يلبس تلك الثياب ويتظاهر فيها بالبذخ والخيلاء او نحو ذلك مما ينافى تلك القدسية السامية كلا يا عزيزي ، فان الحسين سلام الله عليه لو ملك الدنيا كلها لوهبها لحظة واحدة في سبيل الله وفى سبيل البرّ والمعروف ، وما كان يضع شيئا من تلك الثياب على بشرة بدنه الشريف وانما يقتنيها ليجود بها ويعطيها ويضعها في مواضعها اللائقة بها ، وقد ورد في بعض الاخبار انه سلام الله عليه لما استشهد كان عليه من الدين سبعة آلاف دينار ذهباً

__________________

ولم يورث اميرالمؤمنين عليه‌السلام بنيه قليلا من المال ولاكثيرا الا عبيده وامائه وسبعمائة درهم من عطائه تركها ليشترى بها خادما لاهله قيمتها ثمانية وعشرون دينارا على حسب المائة أربعة دنانير هكذا كانت المعاملة بالدراهم اذ ذاك.

وكان أميرالمؤمنين عليه‌السلام يعمل بيده يحرث الارض ويستقى الماء ويغرس النخل كل ذلك يباشر بنفسه الشريفة ولم يستبق منه لوقته ولا لعقبه ولاكثيرا وانما كان صدقة وقصة عين أبى نيزر معروفة نقله ابوالعباس المبرد في الكامل انظر ، ج ٣ ، ص ٩٣٨ ، ط مصر.

وقدمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وله ضياع كثيرة جليلة جدا بخيبر وفدك وبني النضير = والحوائط السبعة مشهورة = وقد اوصى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ابنته الصديقة الطاهرة عليها‌السلام وروى ان هذه الحوائط كانت وقفا وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ياخذ منها ما ينفقه على اضيافه ومن يمر به فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة عليها‌السلام فيها فشهد على عليه‌السلام وغيره انها وقف.

وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وادي نخلة وضياع اخرى كثيرة بالطائف.

عن ابى بصير قال لما بلغ اميرالمؤمنين عليه‌السلام ان طلحة والزبير يقولان : ليس لعلي مال فشق ذلك عليه وامر وكلائه ان يجمعوا غلته حتى اذا حال الحول أتوه وقد جمعوا من ثمن الغلة ماة الف درهم فنشرت بين يديه فارسل الى طلحة وزبير فأتياه فقال لهما هذا المال والله لي ليس لاحد فيه شيء وكان عندهما مصدقا قل فخرجا من عنده وهما يقولان ان له لمالا.

انظر الجامع الكبير « الكافي » والبحار وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ، ج ٣ ، ص ٤٣٣ ، ط مصر وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، ط مصر.

١٤٩

او سبعون ألف وان علي بن الحسين عليهما السلام لما رجع الى المدينة امتنع عن الطعام والنام الى ان قضاها عن أبيه ، والخلاصة ان الزهد هو قطع العلاقة عن الدنيا وعن حب المال لاعدم وجود المال ، وليس الزهد هو لبس الثياب الممزّقة والاطمار المرقعة والمآكل الخشنة ، اسمح لي ان اقول لك : ان اكثر الناس لايعرفون من حقيقة الزهد شيئاً ، والمواكب العظيم الذي سارفيه الحسين عليه‌السلام من الحجاز الى العراق وسقى في قفر الارض بحرّ الهجير ألف فارس وألف فرس (١) أعظم وأفخم من قضية الثياب الخمسة.

أما زيد بن ارقم وقوله ارفع عودك عن هاتين الخ ... فلعل تقبيل رسول الله شفتي الحسين عليه‌السلام من جهة انه تعالى أعلمه أنهما موضع ضرب يزيد وابن زياد الذين قرعوا ثغر الحسين عليه‌السلام بالخيزرانة. (٢)

واما حديث : نحن اسرار الله المودعة الخ ... فحيث انه من الاسرار التي لايليق افشاؤها مضافا الى ضيق المجال وطول المقال فالاجدر عدم الخوض فيه ونسأله تعالى ان يعصم افهامنا واقلامنا من الهفوات ، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.

__________________

(١) اشارة الى قضية الحر رحمهم‌الله ولقائه مع سيدالشهداء عليه‌السلام ومنعه الامام عليه‌السلام من الدخول الى الكوفة = مذكورة في كتب التواريخ والمقاتل.

(٢) نقل العلامة الزمخشرى قضية زيد بن ارقم مع ابن زياد بهذه الصورة قال في الفائق ما هذا لفظه : ابن زياد لعنه الله ـ دخل عليه زيد بن ارقم وبين يديه رأس الحسين ـ عليه وعلى ابيه وجده وامه وجدته من الصلوات أزكاها ومن التحيات انماها ـ وهو ينكته بقضيب معه فغشى عليه ، فلما أفاق قال له : مالك يا شيخ ؟ قال : رأيتك تضرب شفتين طالما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقبلهما. فقال ابن زياد لعنه الله : اخرجوه فلما قام ليخرج قال : ان محمّديكم هذا لدحداح.انظر الفائق ، ج ١ ، ص ٣٩٢ ، مصر ١٣٦٤ ه‍.

١٥٠



٢٥

لابد من ظهور المهدي (عج)

ولَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ (١)

دلت الادلة القاطعة. وقامت البراهين الساطعة ، ولم يبق مجال شك لذوى العقول والالباب أن بهذه العوالم المحسوسة فضلا عن العوالم الغائبة عن الحس من الذرّة الى الذرى ، ومن الثريا الى الثرى من الاملاك والافلاك ، والانسان والحيوان ، والنبات والجهاد = لم يبق شك لذى عقل = في أن لها صانعا حكيماً ، ومدبراً عليماً ، كما لاريب في ان المدبر الحكيم ، والصانع القدير منزه عن العبث مقدس عن اللغو وجميع افعاله معللة بالحكمة ، ومنوطة بالفائدة ، ومربوطة بالاغراض الصحيحة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (٢) واذا توسّعنا في الفكر واستقصينا النظر وطالعنا من اول فجر التاريخ لي صحوة هذه العصور ، وتأملنا في

__________________

(١) سورة ٢١ آية : ١٠٥.

قال الشيخ الطبرسى رحمه‌الله في تفسير هذه الاية الشريفة : قال ابوجعفر عليه‌السلام اصحاب المهدى عليه‌السلام في آخر الزمان ويدل على ذلك مارواه الخاص والعام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : لو لم يبق من الدنيا ... الخ. انظر ج ٤ ، ص ٦٦ ، ط صيدا.

(٢) سورة ٢٣ آية : ١١٥.

١٥١

جريان عوالم الشر من أبيه الاول الى ولده الاخير وجدنا الشرّ هو الغالب على الشر ، والفساد هو المستولى على الصلاح ، والباطل غابا مستفحل على الحق ، وان الانسانية لاتزال تئنّ من جروح الظلم الدامية ، وترزح تحت اثقال الجور العاتية ، فهل يصلح هذا أن يكون هو الغرض والحكمة لذلك الصانع الحكيم من خلق هذا المخلوق التعيس وهو الانسان ؟ وهل هذه الفائدة والثمرة من ايجاده ؟ كلا ثم كلا وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً هذا البشر الذي ثلثاه شرّ بل أكثره ؟ وقد قال القائل ؟

ليت الكلاب لنا كانت مجاورة

وأننا لم نر ممن نرى أحداً

و قال الاخر :

اني لافتح عيني حين افتحها

على كثير ولكن لا أرى أحداً

أفهذا يصلح أن يكو غاية الصنع ، وفائدة الايجاد ، وثمرة التكوين ؟ جل الصانع وتعالى ، وتقدس عن ذلك ، كيف وقد قال جل شأنه : كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (١) وقد رأينا اكثر الرسل مغلوبين مقهورين مستضعفين مقتّلين ، ولاشك ان المراد بالغلبة المنوّه عنها في الكتاب هي الغلبة في الدنيا. اما في الاخرة فالغلبة له جل شأنه وحده كل شيء هناك هالك الا وجهه (٢) ـ والملك يومئذ لله الواحد القهار ـ (٣) اذاً فلامحيص ولامجال من ان للحق في هذه الدنيا دولة ، وللصلاح فوزو نجاح وللعدل ظهور وغلبة ، ورسله في هذا الكون سطوة وسلطان على جنود الشيطان ، وان الله جل شأنه سوف يفى بوعده لانبيائه وأوليائه وهو لايخلف الميعاد.

__________________

(١) سورة ٥٨ آية : ٢١.

(٢) اشارة الى آية : ٨٨ من سورة : ٢٨.

(٣) اشارة الى آية : ١٦ من سورة : ٤٠.

١٥٢

وانه لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يظهر من يملاء الارض قسطا وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجوراً ؛ (١) هنالك تظهر حكمة الصنع وفائدة الايجاد ، والغرض الصحيح من الابداع والتكوين ويستبين أن هذه العوالم المتقدمة والشرور المتطرّفة كلها مقدمات وتمهيدات لظهور دولة الحق ، وقمع دولة الباطل ، هنالك يعرف كل انسان صدق قوله تعال : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ... الاية ، وقوله عز من قائل : كتب الله أنا ورسلي ، ذلك حيث يظهر مهدي الامم ، وجامع الكلم ، والحق الجديد ، والعالم الذي علمه لايبيد. (٢)

__________________

(١) قال امام المفسرين الشيخ الطبرسى رحمه‌الله في مجمع البيان : روى الخاص والعام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا صالحا من اهل بيتي يملا الارض عدلا وقسطا كما قد ملئت ظلما وجورا. وقدا ورد الامام ابوبكر احمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور اخبارا كثيرة في هذا المعنى حدثنا بجميعها عنه حافدة ابوالحسن عبيدالله بن محمّد بن احمد في شهور سنة : ثمانى عشرة وخمسمائة (ا ه‍) انظر ج ٤ ، ص ٦٧ ط صيدا.

الاحاديث والاخبار في حق المهدى المنتظر (عج) بطرق اهل السنة والشيعة متواترة مضافا الى ان وجود المهدى سلام الله عليه من ضروريات مذهب الشيعة الامامية واحاديث اهل البيت عليهم‌السلام به متواترة والعجب بعد ذلك من ابن خلدون المغربي وأمثاله من المخالفين النواصب = أعداء اهل البيت عليهم‌السلام وأعداء القرآن = حيث نقل في مقدمته المشهورة من الروايات المتواترة الواردة من طرق اهل السنة ثم اخذ يستشكل في اسنادها ورواتها مع ان المحقق في اصول الفقه ان الحديث اذا بلغ الى حد التواتر لاينظر فيه الى الاسناد والرجال الراوين لذلك الحديث ولا يلاحظ احوال الناقلين له لعدم الحاجة الى ذلك بعد حصول العلم الضرورى بسب التواتر.

(٢) قال تعالى : « فذكر بايام الله » سورة ١٤ آية : ٥ = يستفاد من احاديث اهل البيت عليهم‌السلام ان من ايام الله ايام ظهور الدولة الحقة بفيام مهدى هذه الامة = تلك الايام التي يصل رقى البشر فيها الى اوج الكمال لايكون فيها شرك ولا نفاق والعالم كلها عدل وايمان وتوحيد وصلاح ولذلك نسبت تلك الايام الى الله تعالى مع ان الايام كلها لله ولامعبود سواه. انظر تفسير البرهان للسيد البحرانى رحمه‌الله ، ج ٢ ، ص ٣٠٥ ، ط طهران ١٣٧٥ ه‍.

١٥٣
١٥٤



٢٦

أسباب غيبة المهدى عليه‌السلام وهل ...

الأسباب التي دعت الى غياب حجّة عجل الله فرجه وهل هو حي الآن ؟ وكيف يمكن أن يظل طيلة هذه المدّة حياً ؟ وما الفائدة من تغيّبه ؟ ولماذا لم يظهر خصوصاً فى هذا العصر الذي فيه المسلمون أرقاء ؟ وكذلك يسئل عن سبب تغيّب الخضر ؟

الجواب

قال سبحانه وتعالى : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِيِنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ (١) ، لاشك أن دين الاسلام من حين ظهوره الى الآن لم يظهر ويغلب على جميع الاديان بحيث لايكون على وجه الارض دين سواه ، وقد وعدالله سبحانه بذلك في هذه الاية ، آيات أخرى ، والله سبحانه لايخلف الميعاد ، فلابد في وقت من الأوقات ان يقوم داع الله سبحانه والى دينه الحق بحيث لايعبد في الارض غيره تعالى شأنه كما لايعبد في السماء سواء.

هناك يملاءها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجوراً ، وهذا فرع من أصل بل

__________________

(١) سورة ٩ آية : ٣٣ وسورة ٦١ آية : ٩.

١٥٥

أصول يبتني بعضها على بعض ، يبتدء من اثبات الحكيم بنعوته الجلالية وتنتهي الى وجوب وجود الامام في كل عصر. وأن الارض لاتخلو من حجة ؛ وأنها لولا وجود الحجة لساخت وانقلبت بمن فيها كما ورد في الحديث المروي من طرق الفريقين وهنا اسرار وأستار لا يمكن كشفها ورفع الحجب عنها.

أما السؤال عن الاسباب التي دعت الى غيبته ، فاللازم أولا أن يعرف السائل أن الانسان اذا عرف أن له خالقا لم يخلقه عبثا ولم يتركه سدى بل كلّفه بتكاليف يؤهّله بها للفوز والسعادة الابدية في دار أخرى هي دار القرار ودار الجزاء ، فاذا عرف ذلك جيداً وجب عليه ان يعرف التكاليف والاحكام التي أمره الله بها ، ويأخذها من الحجة عليه والسفير بينه وبين الله سبحانه.

ولايلزم عليه ان يعرف حكمة تلك الاحكام ، ومصالح تلك التكاليف وان كنا نعتقد على الاجمال ان جميعها مشتمل على اشرف الحكم والمصالح ولكن ليس كل العقول تستطيع الوصول الى تلك الاسرار الربوبية والحكم الالهية ، وهناك مراتب ومقامات حتى الانبياء والائمة عليهم‌السلام تقف دونها ولاتستطيع الوصول اليها ، فما ظنك بأمثالها ؟ ومهما اتسعت علوم البشر واكتشافاتهم عن اسرار الطبيعة ، ومكنونات الخليفة والحقيقة اتضح لهم ان نسبة معلومات جميع البشر من أول التاريخ الى اليوم نسبتها الى مجهولاتهم نسبة القطر الى البحر بل أقل بكثير.

قيل لأفلاطون (١) عند قرب موته. ما تقول في الدنيا ؟ قال ما أقول في دار جئتها

__________________

(١) نقل في بعض كتب المحدثين من الاخباريين : « ان عيسى عليه‌السلام لما دعى افلاطون الى التصديق بما جاء به اجاب بان عيسى الرسول الى ضعفاء العقول واما أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة الى ارسال الانبياء ».

وافلاطون عند الاطلاق هو افلاطون الفيلسوف « پلاطن » وهو ولد سنة : (٤٣٠) قبل الميلاد وتوفى سنة : (٣٤٨) او (٣٤٧) قبل الميلاد فكيف يمكن وقوع هذه القصة بينه وبين المسيح عليه‌السلام فلايمكن الركون الى تلك القصة الواهية ، واضف الى ذلك انه كيف يسوغ وجدان عاقل صدور هذا الكلام من

١٥٦

مضطراً وسأخرج منها مكرها ، وبقيت فيها متحيراً ، ولم استفد من جميع علمي سوى أني لا أعلم ؛ ولجميع اكابر الحكماء من اسلام وغيرهم الكثير من امثال هذه الكلمات ، والشافعي يقول : كلما ازداد علما زادنى علما بجهلى ؛ والفخر الرازي يقول من أبيات له :

نهاية ادراك العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وكفاف شاهداً على ضعف الانسان وقصور مداركه مهما كان قصة موسى عليه‌السلام مع الخضر مع ان موسى عليه‌السلام كان يومئذ نبيّاً ولله كليما ، ومع ذلك عجز عن معرفة أسرار أمور جزئية كخرق السفينة ، وقتل الغلام ، واقامة الجدار : فما ظنك بأسرار أمور جزئية كخرق السفينة ، وقتل الغلام ، واقامة الجدار : فما ظنك بأسرار الاحكام الكلية ، والنواميس الالهية ، فاذا الادلة القطعية عقلية ونقليه عن وجود امام يتردد في الامصار ولكنه غائب عن الابصار وجب الالتزام بذلك ولايجب علينا ان نعرف اسباب غيبته ومتى يظهر ؟ وكيف يظهر ؟ ولماذا لايظهر الان ؟ وقد فشى الجور والعدوان ، فان كل هذه الاسألة عبث وفضول وتلك اسرار تعجز عنها العقول.

روى الصدوق عن عبدالله بن الفضل الهاشمي قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : انّ لصاحب هذا الامر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل فقلت : ولم جعلت فداك ؟ قال : الامر لم يؤذن لنا في كشفه لكم ، قلت : فما وجه الحكمة في غيبته ؟ قال :

__________________

حكيم الهي يعدوا الناس الى الصانع وتوحيده ويحارب مع الشرك والوثينة.

ورايت في بعض المواضع من مصنفات بعض المحدثين نسبة هذه القصة الى جالينوس وهو ولد سنة : (١٣١) من الميلاد وتوفى سنة : (٢٠٠) بعد الميلاد وقال المسعودي : ( كان جالينوس بعد المسيح عليه‌السلام بنحو مأتي سنة ) = وقيل ظهر امره في سنة : (٢٥٠) بعد الميلاد فعلى ما ذكرنا لاشك ان جالينوس كان بعد المسيح عليه‌السلام وقول بعض انه كان معاصرا معه عليه‌السلام غير صحيح انظر قاموس الاعلام ، ج ٢ ، ص ١٠٠٤ وج ٣ ، ص ١٧٥٦ ط تركيه ، ومطرح الانظار لفيلسوف الدولة التبريزي رحمه‌الله ج ١ ، ص ٢١٢ و ٣٢٠ = وغيرها.

١٥٧

وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره ان وجه الحكمة لاينكشف الا بعد ظهوره الى أن قال : يا ابن الفضل ان هذا الامر امر من الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا أنه عزوجل حكيم صدقنا بان افعاله كلها حكمة وان كان وجهها غير منكشف لنا.

وقال عليه‌السلام لمهزم الاسدي يامهزم كذب الوقّاتون ؟ وهلك المستعجلون ونجى المسلمون الصابرون ، ولعله سلام الله عليه اشار بقوله : ان وجه الحكمة لا ينكشف الا بعد ظهوره الى انه بعد ظهوره ومشاهدة العجائب والايات الباهرة التي تكون معه ، والتي لم يقع نظيرها لنبيّ ولاوصي نبي مدة عمر الدهر ، هناك يعرف ان هذا الأمر العظيم يستحق ذلك التأخير وطول المدة وان يكون قريبا للساعة ، وفناء العالم وانقضاء دور من ادوار الكون وأكداره او لعل مراده بوجه الحكمة الذي ينكشف بظهوره هو الحكمة الغامضة ، والسرّ المخزون المكنون الذي استأثر الله به في علم الغيب عنده والا ففي تفاريق اخبارهم سلام الله عليهم قد أشاروا الى وجوه كثيرة من الحكمة في غيبته عليه‌السلام.

منها : أن دولته سلام الله عليه آخر الدول ولادولة بعدها لكفار ولاغير وانما بعده فتن (١) تتّصل بيوم القيامة. ولايقبل الجزية من أحد ، ويخرب البيع والكنائس ، ولا يبقى على وجه الارض صليبا ولا صنما ، ولا يقبل صلحا ولا هدنة وكيف يقبل الصلح من تعبّر جيوشه البحار باقدامهم ، وتهدم الحصون والقلاع بتكبيراتهم ، والحاصل كل شئونه وأحواله سلام الله عليه آيات باهرات وخوارق عادات ، ومثل هذا لايكون الاّ في آخر هذا العالم وفى نهاية الدور من السنوات الآلهية ، ولهذا الدور أمد وحدّ معين في علم الله ، والحكمة في غيبته انتظار انقاء هذا الدور حتى يخرج.

__________________

(١) ومن الحوادث رجعة جمع من المؤمنين وجمع من الكافرين الى الدنيا قبل يوم القيامة ونحن نعتقد بالرجعة على نحو الاجمال ، والايات والاخبار في اثباتها متضافرة والعقل لايدل على امتناعه.

١٥٨

ومنها : انه سلام الله عليه يخرج بالسيف ويقتل العالَم ـ الظالم الجائر ـ قتلاً ذريعا قال محمّد بن مسلم : سمعت الباقر عليه‌السلام يقول : « لو يعلم الناس ما يصنع المهدى عليه‌السلام اذا خرج ما أحب أحد خروجه مما يقتل من الناس ، وليس بينه وبين العرب وغيرهم الا السّيف حتى يقول كثير من الناس ما هذا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان منهم لرحم الناس ». وحيث ان الله عزّ شأنه جعله نقمة على الكافرين وقاطعا لدابر الظالمين ومعلوم ان الله سبحانه قد اودع نطف المؤمنين في اصلاب الكافرين ، وقد رأينا في العصور المتقدمة وفى هذه العصور ايضا كثيراً من المؤمنين الاخيار وآبائهم من الكفار او الاشرار.

أيظن احد أن مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وهو اكفر من نمرود وأعتى من عاقر الناقة يخرج من صلبه مثل ذلك الشاعر الشيعي البليغ ؛ الحسين بن الحجاج (١) صاحب القصائد الغرر التي يمدح بها اهل البيت عليهم‌السلام ؟ منها قصيدته التي أنشدها في النجف بمحضر عضد الدولة لمّا بنى القبة البيضاء على قبر اميرالمؤمنين عليه‌السلام التي يقول في اولها :

يا صاحب القبّة البيضاء على النجف

من زار قبرك واستشفى لديك شفى

من كان يظنّ ان يزيد بن معاوية يخرج من صلبه مثل معاوية بن يزيد الذي خلع نفسه من الخلافة (٢) وقال : هي حق علي بن الحسين عليهما‌السلام حتى قتله بنوأميّة سرّاً ،

__________________

(١) الحسين بن احمد بن الحجاج النيلي البغدادي الامامي من شعراء اهل البيت عليهم‌السلام كان كاتبا فاضلا اديبا شاعرا له قصة مع السيد علم الهدى رحمه‌الله تتعلق بهذه القصيدة تشهد بجلالته ووجاهته عند الائمة عليه‌السلام ذكرها صاحب روضات الجناب ودارالسلام فراجع توفى (٣٩١).

(٢) اقل ابن تغرى بردى في « النجوم الزاهرة » : معاوية بن يزيد بن معاوية بويع بالخلافة بعد موت أبيه يزيد بعهد منه اليه وذلك في شهر ربيع الاول من سنة اربع وستين ، وكان مولده سنة ثلاث واربعين فلم تطل مدته في الخلافة.

١٥٩

ولو شئنا ان نعد الألوف من هذا القبيل لما عجزنا وحينئذ فلابد ان يكون ظهوره عليه‌السلام في زمان لايكون في اصلاب الكافرين ودائع نطف المؤمنين حتى لاتضيع باستيصال شافة الكفار. والله سبحانه اعلم بمقاديرها وزمان خلوّ الأصلاب منها.

وقد أشار الى ذلك ، الصادق عليه‌السلام في حديث رواه الصدوق في العلل حيث قال : « ان القائم عليه‌السلام لن يظهر أبداً حتى يخرج ودائع الله عزوجل ، فاذا خرج ظهر على من ظهر من أعداء الله فقتلهم » ، وبهذا فسرّ قوله تعالى : لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذّضبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١).

وببالى قديما في بعض الكتب أن الحسين عليه‌السلام في حملاته يوم الطف يعترضه الفارس من أعدائه فلايضربه بسيفه ، وكذلك أبوه يوم الصفين ، فسئل عن ذلك ؟ فقال : كشف [ لي ] عمّا في صلبه من المؤمنين فتركته ، وفي آية : يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ (٢) كفاية.

__________________

قال ابوحفص الفلاس : ملك اربعين ليلة ثم خلع نفسه ، فانه كان رجالا صالحاً ...

ان معاوية بن يزيد هذا لما اراد خلع نفسه جمع الناس وقال : ايها الناس ضعفت عن امركم فاختاروا من أحببتم ، فقالوا : ولّ اخاك خالداً ، فقال : والله ماذقت حلاوة خلافتكم فلا اتقلد وزرها ثم صعد المنبر فقال : ايها الناس ، ان جدي معاوية نازع الامر أهله ومن هو أحق به منه لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو علي بن ابى طالب ، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته ، فصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً بخطاياه. ثم قلد أبي الامر فكان غير اهل لذلك ، وركب هواه وأخلفه الامل ، وقصرعنه الاجل. وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، واسيراً بجرمه ، ثم بكى حتى جرت دموعه على خديه. ثم قال : ان من اعظم الامور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه ، وقد قتل عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واباح الحرم وخرب الكعبة ، وما انا بالمتقلد ولا بالمتحمل تبعاتكم ، فشأنكم امركم ، والله لئن كانت الدنيا خيراً فقد نلنا منها حظاً ، ولئن كانت شراً افكفى ذرية ابى سفيان ما اصابو منها ، الا فليصل بالناس حسان ابن مالك ، وشاوروا في خلافتكم رحمكم الله ، ثم دخل منزله وتغيّب حتى مات في سنته بعد ايام. ـ انظر ، ج ١ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٤. ط قاهرة. ( تغري بردي ) لفظ تركي معرب : « تاري وردي » بمعنى ( عطاء الله ).

(١) سورة ٤٨ آية : ٢٥.

(٢) سورة ٦ آية : ٩٥ ـ وغيرها.

١٦٠