جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والمراد هنا الاعتبار التاريخي لا الاعتبار الذي عليه المدار في الاخبار التي يستنبط منها الاحكام الشرعية من الصحيح والحسن والموثق ، بل هو من قبيل قولنا تاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير ، معتبران ، ويكفي في هذا المعنى من الاعتبار للخبر أن ينقله مثل صاحب البحار والطريحي في المنتخب ، فضلا عما لوراه السيد بن طاووس ، في اللهوف او الشيخ المفيد ، وفي الارشاد ونظرائهم ، والظاهر ان مثل هذه الكرامات ( ولاتسمّى معجزات ) على تقدير صحّة وقوعها ما وقعت بمرأى من عامّة الناس وانما هي خصوصية لبعض الافراد الناقلين لها لحكمة هناك اما مجهولة لنا او معلومة ، وعلى تقدير وقوع شيء من ذلك بين امة من الناس وجمهرة من البشر ، (١) فلايلزم من ذلك ان يرتدعوا ، وكم وقعت من الانبياء معجزات بين

__________________

هذه الامور ممن بكى عليه الملائك في مصيبته وتقاطر الدم من السماوات في رزيته وناح عليه الجن بأصواته ومن انكر هذه الاخبار خوارق العادات مع كونها صحيحة فيجوز له انكار جميع الشرائع والمعجزات الصادرة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة عليهم‌السلام بل وجميع الضروريات الدينية والدنيويّة فانها ايضا قويّة السند صحيحة الطرق قد حصل لنا العلم بمضامينها.

اقول وليعلم بعض شباب العصر الذين لم يطلعوا على حقائق القرآن ولم يخوضوا في المطالب الدينيّة ان انكار تكلّم رأس سيد الشهداء عليه‌السلام على القناة وصدور بعض خوارق العادات من ذلك الرأس المطهر وكذا انكار بعض ما نقل من طريق الاحاد عن الصديقة الطاهرة عليهم‌السلام من الاعمال والكرامات الخارقة للعادة وان لم يخرج المنكر عن مذهب التشيع وربقة الاسلام ولكن هذا الانكار وسلوك هذا الطريق الوعر يفضى بالاخرة الى انكار المتواترات والضروريات ويتورط الانسان في المسالك الوعرة والمهالك المظلمة والغياهب المدهشة : من انكار المعاد وحشر الاجساد وامثال ذلك. ويعلموا يقيناً ان شيوع انكار هذه المنقولات بطريق الاحاد بينهم ليس الاّ من ناحية اعداء الدين وخصماء الاسلام للاخلال تدريجاً الى الاعتقاديات الضرورية ومحو الاساسيات عن قلوبهم اذهانهم ونسفها ليصلوا الى مقاصدهم المشومة ونيّاتهم الممقوتة وتسلّطوا على شئون الامّة كلها ألا قاتل الله اذناب الاستعمار وقد تداخلوا في جميع شئوننا وأمورنا وافسدوا اخلاق الامة لاستجاب ميول اسيادهم أئمة الكفر والطغيان وانبياء الشر واعوان الشيطان. خذلهم الله.

(١) كما يظهر للقارىء الفطن بعد الفحص والتأمل في معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان بعضا نادرا منها لم يكن

١٢١

أممهم فلم يرتدعوا حتى أصابهم العذاب ، وعدم ارتداعهم واصرارهم ليس بأعظم من اصرارهم على القتل من غير جرم ولاجناية ، وقد ورد في الاخبار المعتبرة ان رأس يحيى بن زكريا تكلم بعد قتله مع الجبار الذي أمر بقتله وقال له ( انها لاتحل لك ) عن المرأة التي تزوجها وأمرته بقتل يحيى فلم يرتدع (١) وسرّ ذلك كله ان الحرص والشهوة والطمع اذا استحكم في النفس وصار خلقا لها وطبعا فيها لم يكن شيء من العبر والعظات مؤثراً فيها ( وحبّ الشيء يعمى ويصم ) فاذا شاهدت

__________________

ظاهرا لعموم الناس ومرآهم في كل الاوقات كتظليل الغمامة على راسه الشريف فانها كانت ظاهرة لبعض الناس دون بعض من غير فرق قبل البعثة وبعدها ويظهر ما ادعيناه واضحا مكشوفاً لمن تتبع وتأمل معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته انظر الى قصة الراهب « بحيرا » في « بصرى » في مناقب ابن شهر آشوب (ره) ، ج ١ ، ص ٣٦ ـ ٣٧ ط النجف. قال الراهب : اني لارى ما لاترون واعلم ما لاتعلمون ... ولقد رايت له وقد اقبل نورا امامه ما بين السماء والارض ولقد رايت رجالا في ايديهم مراوح الياقوت او الزبرجد يروحونه وآخرين ينثرون عليه انواع الفواكه ثم هذه السحابة لاتفارقه ... الخ يظهر من ملاحظتها ان هذه الخوارق العادات كان يراها الراهب وابوطالب عليه‌السلام دون غيرهما من قريش ثم شرع الراهب يخبرهم بما رآه.

والظاهر ان من هذا القبيل عدم الظل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانه ايضا لم يكن بمرأى من عامة الناس في عامة الاوقات. وغير خفى ان خوارق العادات الصادرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة تسمى « ارهاصات » وصدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارهاصات كثيرة ذكر المؤرخ الشهير فريد وجدي المصري مقدارا منها في « دائرة المعارف » في مادة « رهص » ج ٤ ، ص ٣٠٠ ، ط ٣ مصر ، فراجع.

ومما ينبغي لفت النظر اليه هو ان الراس الاقدس قرأ القرآن في حشد الناس ايضا كما نقل انه حينما نصب في موضع الصيارفة وهنا لغط المارة وضوضاء المتعاملين فاراد سيد الشهداء عليه‌السلام توجيه النفوس نحوه ليسمعوا بليغ عظاته فتنحنح الراس الشريف تنحنحا عاليا فاتجهت اليه الناس واعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا راساً مقطوعا يتنحنح قبل يوم الحسين عليه‌السلام فعندها قرأ سورة الكهف الى قوله تعالى : « انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ولاتزد الظالمين الا ضلالا » انظر مقتل الحسين للمقرم ، ص ٤٠٢ ، ط ٢ النجف.

(١) كما نقل الحجاج بن يوسف الثقفى بعد ما قتل التابعي الكبيري جهبذ العلماء وعالم الشهداء ومن لم يكن على الارض احد الا وهو محتاج الى علمه اعني سعيد بن جبير (رض) وسقط راسه الشريف الى الارض قال : « لا اله الا الله ».

فهل ارتدع ذلك الظالم الغشوم ؟ = كلا وكلا ، قتله سنة : (٩٥) ه‍ بواسط ودفن في ظاهرها وقبره بها.

١٢٢

النفس من تلك الغرائب شيئا انصرفت عن التفكر به وترتيب الاثر عليه او تصرفت فيه بالتأويلات وصرفته عن وجه الحقيقة ، وان أمة تقتل عترة نبيها وتسبى عياله لا تستبعد عليها جهود معجزة له او كرامة ، ولو أنعمت النظر في رجال عصرنا الحاضر وما يرتكبون من الجناية على هذه الامة المسكينة وما يقترفون من الخيانة والغدر لحقوقها حتى اسقطوها في هوة الافلاس والفقر المدقع والهلاك المؤبد لوجدت من أبناء عصرك وسماسرة مصرك المتربّعين على دست الحكم بقوة الظالم الغاشم وعدو العرب والاسلام ما هو أشنع وافظع ممّا يحدثنا التاريخ عنه من أبناء العصور الغابرة وابناء الملوك الجائرة ، فلا تستبعد شيئا بعد الذي تراه بعينك في زمانك وأوطانك والسلام.

١٢٣
١٢٤



٢١

هل كان خروج الامام عليه‌السلام القاء النّفس الى التهلكة ؟

ما تقول في خروج اميرالمؤمنين أرواحناه فداه ليلة ١٩ رمضان مع علمه بقتل ابن ملجم له كما يظهر من كلامه لأم كلثوم ، وكلامه لابن ملجم : لو شئت لاخبرتك بما تحت ثيابك ، وقصة أوز وغير ذلك من الدلالات ، وهل هذا الخروج من باب القاء النفس الى التهلكة ؟

الجواب :

معاذ الله ان يكون ذلك من باب القاء النفس الى التهلكة بل هو على الاجمال من باب الجهاد الخاص على الامام لا الجهاد العام على عموم الاسلام. يعنى انه من باب المفادات والتضحية والتسليم لامر الله سبحانه في بذل النفس لحياة الدين وتمييز الحق من الباطل ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حي عن بيّنة ، ويميز الله الخبيث من الطيب ومن هذا الباب اقدام الحسين عليه‌السلام على الشهادة مع علمه بأنه مقتول لامحالة.

ولاشك انهم سلام الله عليهم كانوا يعلمون بكل ذلك باخبار النبي عليه‌السلام وحياً ،

١٢٥

ولكن يحتملون فيه ان يتطرق اليه البداء ويكون من لوح المحو والاثبات وان يكون ثابتا خلافه في العلم المخزون المكنون الذي استأثر الله سبحانه به لنفسه فلم يظهر عليه ملكا مقربا ولانبيا مرسلا ، وباب البداء باب واسع لامجال هنا لشرحه ، وفي هذا كفاية ان شاء الله.

١٢٦



٢٢

سؤال عن تضحية أصحاب الحسين عليه‌السلام

ذكر المؤرخون وأهل السير بأن الحسين عليه‌السلام أحلّ أصحابه من بيعته يوم كربلاء وأذن لهم بالانصراف وقد أبوا الاّ مواساته ، فان صح ذلك فكيف يحلّهم من بيعته والحال انه خلاف الضرورة من دين المسلمين : من مات وليس في عنقه بيعة لامام زمانه مات ميتة جاهلية ؟ فكيف يأمرهم عليه‌السلام بذلك ؟ ويقول لهم أنتم في حل من بيعتي مع ما يترتب عليه من المحذور وهو ميتة الكفر ، ثم أليس الجهاد معه واجب ؟ وحفظه عليه‌السلام على الامّة واجب ؟ فكيف يأمرهم بترك الواجب وقد صمّموا على الجهاد والدفاع عنه حتى الممات ؟ ولما كان امره واجب الطاعة فكيف لم يتفرقوا عنه حينما أمرهم بالتفرق عنه ؟ فبقائهم معه مع امره بالتفرق عنه معصية وحاشاهم المخالفة لامر امامهم ونهيه وهم العالمون بأن طاعته واجبة.

وان قيل : انه اراد اختبارهم واقامة الحجة عليهم. فيقال : هذا لايصح لان الاختبار انما يصح مع مشكوك الحال او معلوم النفاق عند المختبر ( بالكسر ) لتتمّ الحجة عليه في ذلك الحال ، أما هؤلاء الصفوة والعلماء الابرار فان ذلك لهم من قبيل تحصيل الحاصل لانهم رضوان الله عليهم بأعلى مراتب الايمان والتقوى وانهم

١٢٧

لم يطلقوا حلائلهم ولم يعرضوا عن زهرة دنياهم ، ويناصروا الحسين عليه‌السلام الاّ وهم على بصيرة وعلم من أنه عليه‌السلام امام تجب طاعته وتحرم معصيته ، فكيف يختبرهم بعد هذا الاخلاص والمعرفة الثابتة بوجوب طاعته ؟

الجواب :

أن فاجعة الطّف قضية هي الوحيدة من نوعها واليتيمة في بابها خرجت عن جميع القواميس والنواميس ولاينطبق عليها حكم من أحكام الشرائع السماوية ولا الأرضية لا الدينية ولا المدنية ، ولاينفذ في فولاذها الحديدي ( لماذا ولأن ) قل لي بربك أيّ حرب في العالم برز فيها سبعون نفر ازاء سبعين ألف اولئك عطاشا قد كظّهم الجوع والظمأ وهؤلاء ملاءى البطون من الطعام والشراب ، اولئك مقسمة أفكارهم موزّعة ألبابهم بعيالهم وأطفالهم المعرّضة للنهب والسلب ، وهؤلاء وادعة نفوسهم مجتمعة افكارهم حيث لاعيال ولا أطفال ولاجوع ولاعطش ، قل لي بربك أيّ حرب يبرز فيها غلام لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه قلم التكليف بصوم وصلاة فضلا عن الجهاد فيأذن له عمّه (١) في المبارزة ويتقدم الى سبعين الف من الابطال الامعة سيوفهم مشرعة رماحهم ، أفما كان اللازم بحكم الشرائع السماوية ان يقول له عمّه أنت غير مكلّف بجهاد ولادفاع ؟ ويجب علينا ان ندفع عنك لا أن

__________________

(١) كقاسم بن الحسن عليه‌السلام خرج وهو غلام لم يبلغ الحلم فلما نظر اليه الحسين عليه‌السلام اعتنقة وبكى ثم استأذن فاذن له فبرز كأن وجهه شقة قمر وبيده السيف وعليه قميص وازار وفي رجليه نعلان فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى وأنف ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يحتفى في الميدان فوقف يشد شسع نعله وهو لا يزن الحرب الا بمثله غير مكترث بالجمع ولا مبال بالالوف.

وكان خرج قبله اخوه لامه وابيه ابوبكر بن الحسن عليه‌السلام وهو عبدالله الاكبر وأمه ام ولد يقال لها رملة فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه. وكان عبدالله زوج سكينة بنت الحسين عليه‌السلام فقتل قبل ان يبنى بها انظر اعلام الورى ، ص ٢١٣. انظر ( مقتل الحسين ) للمقرم ، ص ٣٠٦ ، ط ٢ النجف.

١٢٨

تدافع عنّا ، فكيف يأذن له عمّه العطوف الرؤوف حتى يقتل ويصرع نصب عينيه ، ثم يبرز له أخ أصغر منه غلام (١) بل دون الغلام في أول الصبا وغضارة العمر وطراوة الشباب فيقتحم الميدان الذي ترتجف من رؤيته العقول والابدان ، فيضربه أحد العتاة من عسكر العدو على رأسه ضربة صرعته وضربة أخرى على يده فأبانها من المرفق وبقيت معلّقة ، فنادى واعماه ، وعمّه ينظر اليه فيسرع اليه قائلا : عزّ على عمّك ان تدعوه لايجيبك او يجيبك فلا يغنى عنك هذا يوم كثر واتره وقلّ ناصره ، ويبقى الغلام يتفحّص برجليه حتى يموت ، قل لي بربك اي حرب برزت فيها ربات الحجال الى القتال واشتبكت مع الرجال وحملت على الابطال بعمود الخيمة.

قل لي بربّك أيّ حرب منع فيها العدو الماء حتى عن النساء والأطفال فانّ الطاغي معاوية (٢) وان سبق الى ذلك في صفين ولكن لم يكن في معسكر اميرالمؤمنين عليه‌السلام سوى الرجال ، قل لي بربك أي حرب حملت الرؤوس فيها على اطراف الرماح يطاف بها من بلد الى بلد ، فانّ الجبت والطاغوت معاوية وان حمل اليه رأس الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي وهو اول راس حمل في الاسلام ولكن ما حمل على الرمح ولاطيف به في البلدان.

قل لي بربك أيّ حرب في الاسلام بل وفى الجاهلية حملت فيها المخدّرات المصونات مع أطفالهن مسبية بتلك الصورة المهولة من بلد الى بلد ولو أردنا ان نحصى ونستقصى الفظائع التي اقترفتها يد الاثم والعدوان في حادثة الطف وذيولها تلك الفظائع التي خرقت النواميس ومزقت القواميس ولا ينطبق عليها أيّ حكم

__________________

(١) هو عبدالله بن الحسن عليه‌السلام كان له احدى عشر سنة.

(٢) انظر الى مخازى ابن آكلة الاكباد وصحائف تاريخه السوداء في الجزء العشر من الاثر الخالد « الغدير » للعلامة الاميني رحمه‌الله والنصايح الكافية وغيرها.

١٢٩

من الأحكام ولاتسيغها شريعة من الشرايع ، لاقتضى ذلك تأليف يشجبك ويشجيك ، يضحك ويبكيك.

اما ما أشكل عليك من جعل الحسين سلام الله عليه أصحابه في حلّ من بيعته فليس محل العجب منه وموضع السؤال وعقدة الاشكال معكوسة وهي انه سلام الله عليه كيف أباح لهم الجهاد معه وهو يعلم كما قال لهم ان القوم انما يطلبون شخصه الكريم فقط ، وانهم لو ظفروا به لم يكن لهم حاجة بغيره ، ويعلم هو كما يعلم كل واحد منهم انهم لايستطيعون دفع القتل عنه مهما جاهدوا واجتهدوا ، اذا ألاّ يكون جهادهم معه من العبث والقاء النفس في التهلكة بغير فائدة فكيف رضى سلام الله عليه منهم بذلك ؟ وهذا هو السرّ الغامض الذي يحتاج الى البحث والنظر لاما ذكرته من جعلهم في حل بيعته ، وليس معنى ذلك انه أسقط عنهم التديّن بامامته التي جعلها الله طوقاً في عنق كل مكلف يستحيل نزعه وخلعه ، وليس هو المقصود من جعلهم في حلّ من بيعته كما توهّمت.

نعم العقدة التي لاتحل ولعل سرّها الغامض لايعلمه الا الله والراسخون في العلم هو هذه الناحية ، فانّ المعلوم بضرورة العقل والنقل وفي عامّة الشرائع والأديان ان الجهاد انما يجب أو يجوز مع احتمال السلامة ورجاء الظفر والغلبة أما مع اليقين بالهلكة والمغلوبية فهو اتلاف للنفوس بغير فائدة (١) فاصحاب الحسين عليه‌السلام لو تركوا

__________________

(١) ان الحسين عليه‌السلام امام معصوم وانسان حكيم فلايخفى عليه الصواب ويتجلّى اصابة الحسين عليه‌السلام في موافقته على تضحيتهم معه بعد تخييرهم بالرجوع الى الرأى الحديث في العمل السياسي ، وخلاصته ان التاريخ من صنع الانسان افراداً وجماعات ولاتجرى حوادث التاريخ بصورة عفوية آنية وبدون ارتباط بالحوادث السابقة ، فحوادث السابقة ، فحوادث التاريخ مترابطة ولذلك لابد في العمل السياسي لاجل الوصول لغاية معيّنة من العمل المستمر والجهاد المستمر ، فالتضحية في سبيل الحق على اختلافها وان لم تكن ذات فائدة آنية فانها تثمر في المستقبل خصوصا الشهادة في سبيل الحق فانها تنبه الافكار وتهيج النفوس

١٣٠

اقتحام هذه المعركة وتباعدوا عنها لم يكن العدو ويتعقّبهم وليس له أيّ غرض بهم ، ولما دخلوا في الحرب لم يحفظوا الحسين عليه‌السلام ولم يحفظوا أنفسهم فكان اللازم البقيا على أنفسهم ولعل بقائهم وسلامتهم أنفع للحسين عليه‌السلام وعياله من قتلهم واستئصالهم ، هذا هو الامر المشكل والسرّ الغامض لاجعلهم في حلّ من البيعة الذي هو بمعنى اسقاط الجهاد عنهم أو الدفاع الذي هو ساقط بطبعه وبذاته ، والله هو العالم بأسرار أوليائه وحكمة احكامه وقضائه ، وله الحمد.

__________________

لطلب الثار ومواصلة الكفاح للوصول الى الهدف والغاية ، فالمهم في العمل السياسي ان تكون الغاية شريفة والوسيلة شريفة مع المثابرة والاستمرار وقوة الايمان ، وقد ظهرت على مرّ القرون آثار تضحيه الحسين عليه‌السلام وأعوانه وانه لو لا شهادته لكان الاسلام ديناً ويزيدياً ولم يبق من الاسلام الحقيقي شيء.

١٣١
١٣٢



٢٣

سكينة بنت الحسين عليه‌السلام وتعاطى الشِّعر

هل الأخبار الواردة في سكينة بنت الحسين عليها‌السلام من تعاطيها الشعر وبلوغها درجة الحكم بين الشعراء وكثرة مراجعتهم لها في مجلس أعدّ لذلك كما في الأغانى وغيره صحيحة عندكم ؟ فان صح ذلك فالمرجو التفضّل بكلمات تؤيّد تلك الأخبار ويحتجّ بها على من أباها ونفاها ، وان لم تصح فتصدقوا علينا ببسط كلام في التشنيع على من صدّق تلك الاخبار واعتقد بها وأهلّ سكينة لمحادثة الرجال ومراجعتهم في الاشعار ومناظرتهم فيما نظّم بالشعر وغيره.

الجواب :

فاعلم وفّقك الله ان أول من روى هذه الاخبار ونشرها على الظاهر هو ابوالفرج الاصفهاني في كتاب الاغاني ، وكل من رواها بعده فعليه اعتمد ومن شرعته ورد. اما من قبله من الثقات الاثبات كابن قتيبة فلم يذكر شيئا منها في شيء من كتبه وكذلك ابن طيفور في بلاغات النساء وهما أقدم من ابي الفرج بكثير ، ومن المعلوم

١٣٣

ان كتاب الاغاني كتاب لهو وطرب (١) يجمع فيه كل غثّ وسمين ، اذ ليس المقصود منه على الاكثر سوى الفكاهة وأحاديث السمر ، وابوالفرج وان كان ثقة لايكذب ولكنه كثيراً ما يروى عن الكذّابين ولايعنيه أمر الصحة والضعف في الاخبار ، ويسرد كل ما وصل اليه مهما كان ، والاحاديث التي رواها في سكينة منها مقطوع بكذبه وأنه من المجعولات وأحاديث السمر ، مثل حديث ابن سريج مع سكينة فانه من السماجة والسخافة بحيث يدرك كل احد جعله وكذبه ، ولاسيما وان راويه

__________________

(١) ابوالفرج الاصبهاني المتوفى سنة : (٣٥٦) ه‍ = مرواني النسب مرواني النزعة ولذلك الف لأقاربه الامويين من ملوك الاندلس كتبها وصيرها اليهم سرّا فاتته الجائزة منهم سراً.

وقد ارسل المؤرخون تشيعه حتى تسرب الوهم منهم على جملة من الشيعة فذكروه في كتب رجالهم وذهب عنهم ان هذه الاكذوبة امر دبربليل وانما فعلوها ليحملوا الشيعة أوزارا مما اثبته من هناته وليس فى كتبه وشعره ايّ صراحة بانتمائه الى مذهب اهل البيت عليه‌السلام عدا الشعارات لاتعدوا ان تكون تزلفا منه الى ملوك وقته آل حمدان وامرائه ممن ينتمون الى ولاء العترة الطاهرة عليه‌السلام ويصلون مادحيهم بعطائهم الجزيل ولذلك الّف كتاب « مقاتل الطالبيين ».

فالحق مع العلامة الخونسارى صاحب روضات الجنات رحمه‌الله فيما ابداه من الرأي في حق ابي الفرج وتحامل المحدث العلامة النوري رحمه‌الله في خاتمة « المستدرك » عليه ليس على ضوء التحقيق والتحليل الصحيح بل جمود على اقوال بعض علماء الرجال من الشيعة مع انهم ذكروه من الشيعة الزيدية اعتمادا على الشهرة الكاذبة بين المؤرخين قال ابن الجوزي في المنتظم = ج ٧ ، ص ٤٠ ـ حوادث سنة : ٣٥٦ = لا يوثق برواية أبي الفرج لانه يصرح بكتبه بما يوجب الفسق عليه وتهاونه بشرب الخمر وربما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمل كتاب الاغاني راى كل قبيح ومنكر.

وللدكتور ذكي مبارك كلمة قيمة وقد اتى فيها بالحقائق الراهنة وصوّرت الرجل وكتابه الاغاني بما يقيد للقارى ، زيادة بصيرة بما عليه من الخلاعة والمروق عن الدين وفراغ الكتاب ـ الاغاني ـ عن الحقائق التاريخية وقال هو كتاب ادب لا كتاب تاريخ اراد ان يقدم لاهل عصره اكبر مجموعة تغذى الأندية ومجامع السمر ومواطن اللهو ومغان الشراب وقد جاءت احاديث الاغاني مروية بالسند والرواية بالسند شيء ساحر فتن به كثير من الناس وظنّوه علما دقيقا له آداب وشروك واعتمادا على هذا العلم الدقيق اطمأن كثير من الباحثين الى روايات الاغاني فضلّوا في حقائق التأريخ.

انظر كتاب « النثر الفني » ج ١ ص ٢٣٤ = ٢٤٥ ط مصر وكتاب « السيدة سكينة » ص ٤٠ = ٥٤ لسيدنا الحجة السيد عبد الرزاق المقرم النجفي رحمه‌الله وممن اعتمد على الاغانى في جعله هذا الكتاب مصدراً لنقل التواريخ هو « جرجي زيدان » في تأليفاته.

١٣٤

حماد الرواية (١) المشهور بالكذب وكان يضع القصص والوقائع وينشىء الاشعار وينسبها الى العرب ، وكيف يحتمل العاقل ان سكينة تقول لابن سريج المغنّي الذي تنسك وترك الغناء أنا بريئة من جدّي ان لم تغنّي لي ، وبريئة من جدّي ان لم تقم في بيتي شهراً كي تغنّي لي كلّ يوم ، وهكذا تبرّأت من جدّها عدة مرّات ، والحاصل ان المؤرخ وكتب التاريخ والأدب كحاطب ليل ، واللازم في تمييز الصحيح من السقيم الرجوع الى العقل والتعويل الى القرائن والأمارات ، فمثل تلك الاخبار حرام نقلها والاعتماد عليها ، نعم في الاغاني ما يمكن التعويل عليه في احوال سكينة مثل أن جريراً والفرزدق (٢) وجماعة من الشعراء اجتمعوا في ضيافة سكينة ، فمكثوا اياما ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولايرونها ، وتسمع كلامهم ، ثم اخرجت وصيفة لها وضيئة قد روت الاشعار والأحاديث فقالت أيّكم افرزدق ؟ فقال لها أنا ذا الى الآخر ، فمثل هذا الخبر الذي يحفظ كرامة هذه العقيلة ويجعلها في

__________________

(١) حماد بن سابور بن المبارك ولد (٩٥) هو توفى (١٥٥) ه‍ كان من اعلم الناس بايّام العرب واشعارها واخبارها وانسبها اصله من الديلم ومولد في الكوفة ورحل الى الشام فتقدم عند بني امية وهو الذي جمع السبع الطوال ( المعلقات ) قال الانباري في نزهة الالباء ص ٤٣ : ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة (ا ه‍). وقال محمّد بن سلام الجمحي المتوفى : (٢٣١) ه‍ في كتاب : طبقات فحول الشعراء كان اول من جمع اشعار العرب وساق احاديثها : حماد الرواية وكان غير موثوق به : كان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره ويزيد في الاشعار وسمعت يونس يقول : العجب لمن ياخذ عن حماد ، كان يكذب ويلحن ويكسر وقال علم الهدى رحمه‌الله في الامالي. واما حماد الرواية فكان منسلخا من الدين زاريا على اهله مدمنا لشرب الخمر وارتكاب الفجور انظر طبقات فحول الشعراء ص ٤٠ = ٤١ ط مصر بتحقيق وشرح الاستاذ محمود محمّد شاكر والاعلام للزر كلي ج ١ ص ٢٧٠ ط ١ مصر والامالي للسيد المرتضى ج ١ ، ص ٢٣١ ط مصر.

(٢) الفرزدق همام بن غالب التميمي الشاعر المشهور من الشعراء المجاهرين في محبة اهل البيت عليهم‌السلام صاحب جرير توفى بالبصرة سنة : (١١٠) ه‍ وبلغ خبره جريرا بكى وقال اما والله اني لاعلم اني قليل البقاء بعده ولقد كان نجمنا واحدا وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقلما مات ضد او صديق الاّ وتبعه صاحبه وكذلك كان توفى جرير سنة : (١١٠) ه‍ التي مات فيها الفرزدق.

١٣٥

المقام اللائق بشرفها من الستر والصيانة هو المعقول والمقبول ، ولاجرم أنها كما ذكر ابوالفرج بنفسه ان سكينة كانت عفيفة سلمة برزة تجالس الجلّة من قريش وتجتمع اليها الشعراء وكانت ظريفة مزّاحة ، فكيف يعقل ان اقل غلمانها وهو أشعب يجترىء عليها ويقول في خبر ابن سرج الذي اشرنا اليه : الرجل ( يعنى ابن سريج ) زاهد ولاحيلة فيه فارفعى طمعك وامسحى بوزك الى آخره.

والخلاصة ان اخبار الأغاني بل وغيرها مغشوشة ، والكذب فيها ان لم يكن اكثر من الصدق فهما سواء والا يميز هذا من ذاك الا الماهر المتبحر من العلماء ولايجوز لغيرهم من الذاكرين وغيرهم ذكرها الا بعد عرضها على من يوثق به من اهل البحث والنظر ، والاّ كان اثمه اكبر من نفعه ؛ اما اخبار سكينة من الاغاني وغيره فالارجح بل اللازم ترك ذكرها في النوادي العامة والمحافل ومجالس العزاء وان كان السيد المرتضى رضوان الله عليه (١) ذكر خفيفا منها في اماليه ، والظاهر ايضا انه أخذه من الاغاني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَديِداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً . (٢)

__________________

(١) انظر الامالي لسيدنا المرتضى علم الهدى ، ج ١ ، ص ٥١٣ ط مصر سنة (١٣٧٣) ه‍

(٢) سورة ٣٣ آية : ٧٠ = ٧١.

١٣٦



٢٤

لماذا قتل الحسين عليه‌السلام

اتيح لي ان أطّلع على كتاب « السياسة الحسينية » لجامعه ولدكم المحروس عبدالحليم ، ومادار من بحوث حول الحسين وسياسة الحسين عليه‌السلام فخرجت من هذه المطالعة على وشك الاعتقاد الراسخ من انّ الحسين لم يقتل الا لاجل شيء معنوي ، وهذا الشيء المعنوي لايزال مجهولاً عند الباحثين عن تاريخ الحرب الأموية وعند اتباع الحسين عليه‌السلام الذين يتحرّون جميع الاساليب المؤثّرة ويزيدونها على النواجيد الحسينية اثارة للذكريات الدفينة التي تمجّد موقف الحسين عليه‌السلام وتخذل موقف اليزيد والامويين الذين عاصروه ومشوا على مبادئه وسننه الظالمة.

أن الحسين عليه‌السلام لم يقتل لاجل الدين الاسلامي كما تقول الشعية بذلك ولم يستشهد طلبا للملك والسلطان ، بل قتل عليه‌السلام محافظا على معنويته الهاشمية التي هي علة وجود الامة العربية وبعثها من جديد متمتعة بجميع اساليب الثقافة ووسائل النجاح الاقتصادي المادي ، وهذه القتلة التي يقولون عنها أنها كانت في سبيل الله وسبيل المحافظة على معنوية آل محمّد في سبيل الله ايضا هي الشيء المعنوي الذي لايزال مخبئا عن أعين الباحثين ونحن اذا قلنا الحسين عليه‌السلام مات دفاعاً من شرف

١٣٧

الدين نكون قد أسأنا الى الدين اسلامي نفسه الذي ليس يقوم على قتلة الحسين عليه‌السلام او استشهاد أيّ نبيّ من الانبياء وليس هو صورة مادية يملكها فرد من البشر لتموت بموته وتحيى بحياته ، والافضل لكل مقتصد أن يجعل هذه القضية قضية عائلية تتفاوت عن حرّ وقوعها بين سمو مبادىء الحسين عليه‌السلام وبين انحطاط مبادىء يزيد.

وقد ادرك ولدكم ـ حرسه الله ـ في جوابه على كتاب الشيخ عبدالمهدي شيئا من هذا اذ قال : ان الذي عرض الحسين عليه‌السلام للقتل هو تمنعه عن المبايعة ليزيد ، وفي عدم القيام بهذه المبايعة يتعرض الحسين عليه‌السلام لان يقتل بسيوف الامويين ، حتى ولو كان في عقر داره دون ان يضطرّ الى الخروج لمحاربة يزيد وأتباعه ، وان يعرض نسائه وأطفاله للهتك الذي هو صورة القبح عند طبقات الاشراف الذين منهم الحسين ، كما زعم غير واحد في افترائه على الحسين وعائلة الحسين.

ان هذا الافتراض ممكن الوقوع اكثر من غيره ، ومبايعة الحسن عليه‌السلام لمعاوية التي ظلّت أسبابها مغمضة في بحثكم هي التي أجلت وقوع الحرب الاموية الى ما بعد وفاة معاوية ، ويظهر ان الحسن بتعهده لمعاوية انه لايرى من الحسين عليه‌السلام سيّئا ؛ ـ كما جاء برسالة سماحتكم ، ـ وقف وقفة المشفق الذي لايريد ان يفجع بأخيه وهو حى ، أراد بمبايعته أن يحجب دماء الابرياء التي أباحها يزيد في تعنته وطغيه وفساده واعتدائه على أخيه الحسين عليه‌السلام ؛ ولكن السياسة لعبت دورها يومذاك اذ مات معاوية الذي كان عنده مخافة من الله اكثر من ولده يزيد (١) واذا توفى الحسن عليه‌السلام الذي يعدّ بحث نبراس السياسة الهاشمية المؤدية الى اعمال السلام

__________________

(١) ليس عنده ولا عند ولده يزيد شيء من مخافة الله ولكن معاوية عنده سياسة وتدبر دنيوي ويزيد ليس عنده دين ولاسياسة. مراد شيخنا الاستاذ من قوله : ان معاوية عنده سياسة وتدبر دنيوى = يعني عنده النكراء الشيطنة والخباثة لا انه كان عنده النكراء والشيطنة والخبائة لا انه كان عنده سياسة صحيحة.

١٣٨

القومي الذي وقف حائلا في حياته دون وقوع حرب طاحنة ـ كالحرب الاموي : فيما لو ضم صوته الى صوت اخيه الحسين عليه‌السلام في زمن معاوية الذي تعود مبايعته لهذا السبب الوفاقي ـ على ما أظن ـ لالأسباب الخوف والوجل الذي عزاه كثير من ضعفاء العقول والنوايا السيئة للحسن عليه‌السلام ، أما قضية العادة العربية التي قلتم سماحتكم أنها دفعت بالحسين عليه‌السلام أن يصحب أولاده ونسائه معه مستميتا في سبيل الكرامة والشرف ، فهذه تخضع على خروجها عن قلم سماحتكم لضروب النقد والاعتراض اذ كان الدين الاسلامي او التعاليم الاسلامية ـ بتعبير أصح ـ حرمت المرأة من مخالطة الرجال وسماع أحاديثهم الا من وراء الحجاب ، وأرجعتها الى بيتها حيث تقوم بتربية وتهذيب أولادها وتبير شئون منزلها الذي يعد نصف الحياة الزوجية ـ اذ لم يكن كلها ـ في نظر قانون الزواج المدني والديني فكيف بالحسين عليه‌السلام خرق حجاب هذا النظام وأصحب عائلته وتابعيه معه جريا على العادة العربية المعروفة قبل ظهور الاسلام وبعده ؟

وتعلمون ان العادة التقليدية غير حكم الدين التشريعي ، فحكم الدّين أسمى مكانة في نفس الحسين عليه‌السلام من العاطفة العادة ، فهل هناك ضرورة حيوية دفعت بالحسين عليه‌السلام ان لايكترث بتعاليم الدين ؟ ويتبع ما أوحته عاطفة العادة التي تعد ملغاة بحكم هذه التعاليم ؟ هذا ما نريد الاجابة عليه مفصلا.

وهناك شيء آخر يخضع للنقد الشخصي وهو ، أن الخمسة أثواب التي أعطاها الحسين عليه‌السلام الى محمّد بن بشير الحضرمي ـ السياسة الحسينية ـ كان يزيد ثمن الواحد منها على المأة ليرة عثمانية لايتوافق اقتنائها بهذا الثمن الباهظ من قبل الحسين عليه‌السلام مح دواعى الزهد التي كانت متجسمة في أبيه وجده سيد الرسل ، اذ عرفنا عن طرق الاحايث المروية أن عليا عليه‌السلام والد الحسين عليه‌السلام كان يرتدي الصوف على بدنه داخلا ويلبس الاطمار الرخيصة خارجا ، دلالة على زهده وورعه

١٣٩

وتقواه او تقليداً للنبي الذي هو المثل الاعلى للامة الاسلامية ، والذى جعل بهذه الارتداء امثولة عزاء للفقير الذي لا يستطيع أن يلبس ثوبا يساوي ثمنه مأة ليرة عثمانية ونحوها ، كما استطاع الحسين عليه‌السلام أن يلبس (١) مثل هذا الثواب ويهب خمسة على غرارة الى احد أتباعه من الفقراء ؟

ان هذه الرواية على ما فيها من استقراء في النقل تصور لنا الحسين مسرفاً طامعاً في خير الدنيا اكثر من خير الاخرة بينما لو رجعنا الى استقصاء ورع الحسين عليه‌السلام وزهده وتقواه لوجدنا ذلك أنه لايتوفق ـ ورغبة الحسين في تضميد عواطف الفقراء المجروحة ، والترفيه على كل بائس محتاج ولو أن راويا عزى ذلك الى الحسن عليه‌السلام الذي كان له ميل خاص وصفة خاصة بهذا الثراء الدنيوي لامكننا أن نصدق ذلك بدليل أن الحسن نشأ على الابهة والمجد في زمن جده وأبيه ، وأما الحسين عليه‌السلام فمن المعروف عنه انه كان لايعرف قيمة الدنيا. ولو عرف بها قيمة لبايع يزيد ، وبذلك كا أضاف الى ثراه ثراء آخر يدفعه له يزيد بدلا عن تلك المبايعة التي كانت منعت هذه الحرب وذلك الهتك ؛ وحولت معنوية الحسين عليه‌السلام من رجل شريف نزيه حافظ على مبدء أجداده ومعنوية هذا المبدء الى رجل مادي عبث بكل شيء وخضع لكل شيء بتأثير المادة.

ورواية أخرى لاتتوافق صحته النقل ، وهي واردة بجواب سماحتكم من زيد بن أرقم قال اليزيد يوم كان يضرب رأس الحسين بعوده : ارفع عودك عن هاتين الشفتين فوالله طالما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقبلهما ، اذ انه من المعروف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقبّل الحسين في نحره على اعتبار انه سيموت مقتولا ويقبّل الحسن عليه‌السلام في فمه على اعتبار أنه سيموت مسموماً ، فكيف تناقض المعنى الذي

__________________

(١) لم يلبس الحسين عليه‌السلام تلك الثياب وانما كان يقتنيها ليعطيها.

١٤٠