جنّة المأوى

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

جنّة المأوى

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-379-379-7
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الرابع : وهو أعلى المعاني ولعله أصحّها وأجمعها وربما تندرج تلك الوجوه في طيّه ، وهو يحتاج الى بيان مقدمة تمهيدية تشمل على أمرين الاول : ان الولادة التي هي عبارة عن تكوّن شيء من شيء وانبثاق كائن من كائن آخر تقع في الخارج على ثلاثة أنواع :

١) : تولّد جسم من جسم ومادّي من مادّي كتولّد حيوان من حيوان ونبات من نبات ومعدن من معدن ومنه تولد انسان من آخر ، فيتحقق انتزاع النبوّة والأبوّة والأمومة ، وهذا هو التوالد الجسماني المحض :

٢) : تولّد روح من جسم كتولّد ارواح الحيوان من جسمه ؛ وتوالد أرواح البشر من أجسامها على ما حقّق في محله من ان النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، وان الروح تتكون من جسم الانسان او الحيوان كما تتكوّن الثمرة من الشجرة.

وأما أحاديث خلق الأرواح قبل الاجسام بألفي عام فهي محمولة على معان أخرى من الحكمة العالية والمعارف المتعالية مما لامجال لذكرها هنا ، وهذه الولادة برزخ بين الولادة الجسمانية المحضة والروحانية المحضة التي يأتى ذكرها لأنها روحانية جسمانية.

٣) : تولّد مجرد وروح من روح كتولّد النفوس الكلّية من العقول الكلّية في قوس النزول وتولد العقول الجزئية من النفوس الجزئية وتولد النفوس الجزئية من الأجسام الشخصية في قوس الصعود ، وقد قرر العرفاء الشامخون والحكماء الالهيون أنه لا تنافي بين أن يتولد شخص من آخر بالولادة الجسمانية ويكون الوالد متولداً من ولده بالولادة الروحانية ؛ فآدم ابوالبشر وابوالأنبياء وكذلك هو أب لخاتم الانبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولادة الجسمانية ولكنّه متولد من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولادة الروحانية ، ولعل اليه يشير شاعر العرفاء او عارف الشعراء ابن الفارض : (١)

__________________

(١) ابن الفارض هو شرف الدين ابوالقاسم عمر بن علي الحموي المصري العارف المشهور صاحب القصيدة التائية المعروفة = تائية الصغرى والكبرى = توفى سنة : (٦٣٢) ه‍ بالقاهرة.

١٠١

واني وان كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

وشاعر اهل البيت عليهم‌السلام العمري (١) يقول في مدح اميرالمؤمنين سلام الله عليه :

أنت ثاني الآباء في مبدء الدور

وآباؤه تعدّ بنوه

خلق الله آدم من تراب

فهو ابن له وأنت أبوه

فآباه النبي بالولادة الجسدية كلّهم أبنائه وهي ولادة حقيقية بل أحق من الولادة الجسمية.

الثاني : ان الولاية أوسع دائرة وأعلى أفقا واكثر أثرا من النبوة : هنالك الولاية لله ؛ وأول ولاية ولاية الله جل شأنه ، اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (٢) فولاية الله هي الولاية الكبرى ، وولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي الوسطى ، وولاية أوليائه من سدرة المنتهى وجنة المأوى ، ومن هنا قالوا ان الولاية أعمّ من النبوة وكلّ نبيّ وليّ ولاعكس ، والنبوة تحتاج الى الولاية لاتحتاج الى النبوة.

اذا تمهّدت هه المقدمة وما تنطوى عليه من الأمرين النيّرين ظهر لك معنى الحديث الشريف بالوجه الاكمل : وهو « حسين مني » بالولادة الجسمانية « وانا من حسين » بالولادة الروحانية فان الحسين بوجوده السعي الكلّي الأرجي العيني لا الذهني المفهومي هو الحائز بشهادته الخاصة ، وامامته العامة لمقام الولاية العظمى ، والفائز بالقدح الأعلى من سدرة المنتهى وهذه هي مجمع الولايات وغاية الغايات ، ومنها تنبثق وتتولد جميع النبوات ، فلاجرم ان حسينا من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحمّد من حسين عليه‌السلام.

محمّد النّبي من الحسين الوليّ ونور النبوّة ينبثق من نور الولاية ثم يصير النور

__________________

(١) انظر هامش صفحة : (٣٤) من هذا الكتاب.

(٢) سورة ٢ آية : ٢٥٧.

١٠٢

واحداً ، وهنا تزول الحيثيات وتسقط الاعتبارات وليس الا الله جلّ جلاله أنواره وتجلياته ، فأطفأ السراج فقد ظهر الصباح لذي عينين وزال كل فرق وفارق من البين ، ووصل الكلام الى مقام لا تحتمله عقول الانام ، وهنا أسرار وأكوار لايجوز نشرها وذكرها ، وكيف كان فهذا الحديث من جوامع كلمه صلوات الله عليه ، والحمدلله وليّ الالهام في البدء والختام.

١٠٣
١٠٤



١٥

الحسين عليه‌السلام كتاب الله التكويني

جرت عادة الصحف منذ سنوات أن تفرّد عدداً خاصا في الحسين سلام الله عليه عند رأس السنة مستهل محرم من كل عام فيستنهضون أقلام الكتاب و يشحذون عزائهم لتحبير المقالات ، فيأخذ كل كاتب او شاعر او خيب ناحية من نواحي واقعة الطف ويكتب فيها ما تملى عليه قريحته وتواتيه قدرته ، وكنا كتبنا في فواتح عدة من الصحف في مستهل النسوات الغابرة ما لو جمع لجاء مؤلفاً مستقلاً وكتابا فذاً ، أما لو جمع ما كتبه العلماء والأدباء والشعراء والخطباء في تلك الفاجعة.

نعم لو جمع كل ما قيل في تلك الفاجعة الدامية من بدء حدوثها الى اليوم لأستوعب الوف الكتب والمؤلفات وبرزت منه دائرة معارف كبرى لم يأت لها الدهر بنظير ، وليس هذا هو الغرض من كلمتي هذه وانما المقصود بالبيان : أن نهضة الحسين عليه‌السلام على كثرة ما نظّم الشعراء فيها ممّا يجمع مئات الدواوين وأكثر منها الخطب والمقالات وألوف المؤلفات هل ترى أن كل ذلك وجميع اولئك أحاطوا بكل مزاياها ؟ وأحصوا جميع خصائصها وخفاياها ؟ ووصلوا الى كنه أسرارها وعجائبها ؟ كلاّ فان اسرار تلك الشهادة ومزاياها لا تزال تتجدد بتجدد الزمان

١٠٥

وتطلع كل يوم على البشر طلوع الشمس والقمر لاينتهى أمدها ولاينتفى نورها ولايحدّ سورها ولعل أقرب مثل يضرب للحسين عليه‌السلام هو كتاب الله المجيد ، فان هذا الفرقان المحمدي على كثرة تفاسيره وشرح نكاته ودقائقه وغوامض حقائقه واعجازه وبلاغته وباهر فصاحته وبراعته لايزال كنزاً مخفيا ، ولاتزال محاسنه تتجدد واسراره تتجلى ، وفي كل عصر وزمان يظهر للمتأخر من اشاراته ومغازيه ما لم يظهر للمتقدم ، فكأنه يتجدد مع الدهر ويتطور بتطور الزمان.

نعم القرآن كتاب الله الصامت والحسين عليه‌السلام كتاب الله الناطق ، القرآن كتاب الله التدويني والحسين « كتاب الله التكوينى » وكل من الكتابين صنع ربوبي وعمل الهي ، نعم كل الكائنات صنع ربوبي ولكن الحسين عليه‌السلام والقرآن صنعهما للتحدّي والاعجاز ، وما تحدي الله بصنعه يعجز البشر عن الاحاطة به واستيعاب مزاياه وأسراره وبدائع أحكامه وحكمته.

القرآن يملي على البشر في كل زمان أسرار الكون وخبايا الطبيعة ودقائق الفطرة ، ونهضة الحسين عليه‌السلام في كل محرم من كل سنة بل في كل سنة تملي على الكائنات عجائب التضحية وغرائب الاقدام والثبات ومقاومة الظلم ومحاربة الظالم ، تلقى على العالم دروس العزّة والاباء والاستهانة بكل عزيز من نفس او مال في سبيل نصرة الحق وقمع الباطل والدفاع عن المبدء والعقيدة ، يلقى على الواعين دروس الاخلاق الفاضلة والانسانية الكاملة ، والسجايا العالية والملكات الزاكية وكل ما جاء به القرآن والسنّة من الخلق العظيم والنهج القويم ، ولكن جاء بها القرآن قولا وطبّقها الحسين عليه‌السلام عملا وأبرزها للناس يوم الطف عيانا ، أتريد أن تتعرف بناحية مما صنع الحسين عليه‌السلام يوم الطف ؟ أنظر الى الكتاب الكريم فان أقصى ما طلبه من العباد في باب الجهاد هو الجهاد بالنفس والمال فقال تعال : جاهَدُوا

١٠٦

بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ (١) والحسين سلام الله عليه لم يقنع بهذا حتى جاهد بماله ونفسه وأولاده وعياله وأطفاله والصفوة من صحبه وأسرته. صنع الحسين عليه‌السلام يوم الطف صنع العاشق الولهان ، فضحّى في سبيل معشوقه كلما اعزّ وهان كان الله تعالى أعزّ شيء عند الحسين عليه‌السلام ، فأعزه الله صار ثار الله في الارض والوتر الموتور.

نعم قلنا ولانزال نقول ان نهضة الحسين عليه‌السلام لاتحصى أسرارها ولاتنطفى أنوارها ولا تنتهى عجائبها :

وعلى افتنان الواصفين بوصفه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

فصلوات الله عليك يا « ابا عبدالله » وعلى نهضتك المقدسة التي حيّرت الافكار وأذهلت العقول وأدهشت الالباب. وأعجزت عن الاحاطة بها كل كاتب وكتاب ، على مرّ الدهور وتمادي الاحقاب.

__________________

(١) سورة ٩ آية : ٤١. ومما هو جدير بالذكر هنا أنه ينبغى للفقهاء أن يتكلموا حول الجهاد بالمال في سبيل الله تعالى وما المراد من ذلك ؟ كما نرى أن في كثير من الايات قدم الله تعالى الجهاد بالاموال على الجهاد بالانفس فينبغي التكلم والتحقيق في فروعات ذلك والتوضيح والتشريح فيها فانا لانجد في كتبنا الفقهية أن يتعرض الفقهاء لهذا المطلب المهم بل الاهم مستقلا هذا كتاب الجهاد من كتبنا الفقهية بين أيدينا ليس في باب في فروعات الجهاد بالمال والتحقيق حولها أولا ثم التكلم في الجهاد بالانفس ثانياً ولعل الله تعالى ان يقبض بعد ذلك من الفقهاء من يقوم لتحمل اعباء هذه المهمة وهو الموفق.

١٠٧
١٠٨



١٦

موقف الحسين عليه‌السلام واصحابه يوم الطف

لقد وقفوا في ذلك اليوم موقفا

الى الحشر لايزداد الا معاليا

وذاك لأنّ موقفهم ذلك اليوم ماكان عملا من أعمال الأنام وحادثة غريبة من حوادث الايام بل كان عملا ربوبيا ، وطلسما الهيا.

نعم هي دروس الاهية ، وتعاليم روحية ، أملاها على جوامع الجبروت وصوامع الملكوت ، لأجيال الأبدية ، وأحقاب السرمدية ، وأعقاب البشرية اكبر أستاذ الهي ، وعملم ربوبي مع سبعين نفر من اهل بيته وخاصته ، خرّيجي جامعته ، ما فتح الدهر سمعه وبصره على مثيل لهم قط.

وقفوا ضحوة من النهار على تلال الطف فألقوا على الأملاك والأفلاك والأرض والسماء والأنس والجن دروساً طاشت لها الالباب ، وذهلت عندها البصائر ، ذاك لأن تلك الدروس ما كانت اقوالا وكلمات ؛ والفاظا وعبارات بل كانت أعمالاً جبّارة ، وتضحيات قهارة ، وعزائم ملتهبة ؛ خاضوا لجج غمرات البلاء شعلاً نارية بل نورية التمع منها في آفاق الأبدية سطور تسجّل احتقار هذه الحياة مهما كانت شهيّة بهيّة ، وتبرهن أنها مهما غلت وعزت فهي أرخص ما يبذل في سبيل المبدء ،

١٠٩

وأهون ما ينبذ في طريق الشرف والكرامة وسمو العقيدة ونبالة الذكر الخالد والمجد المؤبد ، وليست القضية قضية تقابل بين مزاج يعمل للاريحية والنخوة ومزاج يعمل للمنفعة الغنيمة ونزاع بين العقائد عراك بين الكفر والايمان. وحراب بين الشرك والتوحيد بل بين الدِّين والجهود ، والروح والمادة والفضيلة والرذيلة.

نعم الحروب التي كانت بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي سفيان في بدر وأحد والأحزاب سوى أن الاول ظفر بالثاني بالغالبية وفي محاربة الحسين عليه‌السلام ويزيد يوم الطّف ظفر الأول بالثاني بالمغلوبية فانعكست القضية هنا فصار المقتول هو القاتل والمغلوب هو الغالب ، المقتول غالب والقاتل مغلوب (١) نعم كان القراع والصراع على ذلك المبدء أولا وأخيراً ، ولولا نهضة الحسين عليه‌السلام وأصحابه يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا أخضر له عود ، ولأماته أبوسفيان وابناء معاوية ويزيد في مهده ، ولدفنوه من أول عهده في لحده. ولعل مراد القائل بالنخوة والحميّة هذه المعاني السّامية ولمّا ضاقت عليه العبارة رمز اليه بالاشارة ، وعلى كلّ فالمسلمون جميعا بل والاسلام من ساعة قيامه الى قيام الساعة رهين شكر للحسين عليه‌السلام وأصحابه (٢) على ذلك الموقف الذي أقل ما يقال فيه.

« لقد وقفوا في ذلك اليوم موقفا

الى الحشر لايزداد الا معاليا »

__________________

(١) قال الشيخ الاستاذ رحمه‌الله في بعض كلماته النّيرة : ان قضية الحسين عليه‌السلام غالبية في صورة المغلوبية.

(٢) الحق ان يقال : ان الدعوة النبوية كملت وبلغت الى حدكما لها بقضية الحسين عليه‌السلام وتضحيته.

١١٠



١٧

هل البكاء على الحسين عليه‌السلام اغراء للشيعة

هل في قرائة الخطيب للأخبار الواردة في ثواب البكاء على الحسين عليه‌السلام كما هو مذكور في محله من المقاتل الحسينية اغراء للشيعة يوجب حرمة قرائتها ؟

الجواب :

الأخبار الواردة في ثواب البكاء على الحسين سلام الله عليه أو زيارته فهي وان كانت عظيمة ولكنّه ولله المجد والعظمة أعظم من ذلك ويستحق اكثر من ذلك ولكنّ اللاّزم على خطباء المنابر والذاكرين لرزيّة الحسين عليه‌السلام في هذا العصر الذي ضعفت فيه علاقة الدين وتجرّأ الناس على المعاصي وتجاهروا بالكبائر أن يفهموا ان الحسين عليه‌السلام قتل وبذل نفسه لأجل العمل بشعائر الدين ، فمن لايلتزم بأحكام الاسلام يتجاهر بالمعاصي فالحسين عليه‌السلام منه بريء كبرائته من يزيد وأصحاب يزيد ، وأما ذكر أخبار الثواب فقط ففيها أعظم الاغراء ، وقد تنبّه كثير من الكتاب وذوي الألباب ونشروا ذلك من الصحف حتى أن بعضهم كتب مقالاً واسعاً في هذا المعنى وجعل العنوان ( جنايتنا على الحسين ) وحقّا ان اكثر أعمالنا جناية عظمى على الحسين عليه‌السلام ولا مجال للبيان أكثر من هذا ، وفقكم الله لكل عمل صالح بدعاء.

١١١
١١٢



١٨

التضحية في ضاحية الطفّ

انّ التضحية والمفادات التي تسامى وتعالى بها امام الشهداء وأبوالائمة يوم الطّف من أي ناحية نظرت اليها ، ومن كل وجهة اتجهت لها متأملاً فيها أعطتك دروساً وعبراً ، وأسراراً وحكماً تخضع لها الالباب وتسجد في محراب عظمتها العقول ، واقعة الطف وشهادة سيّد الشهداء واصحابه في تلك العرصات كتاب مشحون بالآيات الباهرات والعظات البليغة فهي :

كالبدر من حيث التفت وجدته

يهدى الى عينيك نوراً ثاقبا

أو :

كالشمس في كبد السماء ونورها

يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً

أو :

كالبحر يمنح للقريب جواهرا

غرراً ويبعث للبعيد سحائبا

هذه الدنيا وشهواتها ولذائذها وزينتها وزخارفها التي يتكالب عليها البشر ويتهاوى على مذبحها ضحايا الانام ، هذه الدنيا التي اتخذها كل واحد من الناس

١١٣

ربّاً وصار عبداً لها ولمن في يده شيء منها فلعبت بهم ولعبوا بها ، هذه الدنيا وشهواتها التي أشار جلّت عظمته الى جمهرتها بقوله تعالى : زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والْبَنِينَ والْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ (١) كانت كل هذه النفائس الدنيوية قد توفر للحسين عليه‌السلام أكملها وأجمها : من المال والبنين والنساء والخيل المسمومة مضافا الى ماكان له من العز والكرامة وكل مؤهلات الشرف والتقدير التي استحقها بحسبه ونسبه وبيته ومواهبه وقدكان في ذلك العصر لايوازيه ولايدانيه أحد في دنيا المفاخر والمآثر ، الكلّ يعترف ويعرف ماله من عظيم القدر ورفيع المنزلة ؛ فسلّم المجد والصعود الى السماء بيمينه ، ومفاتيح خزائن الدنيا في قبضة شماله. ومع ذلك كلّه فحين جدّ الجدّ وحقّت الحقيقة بذل كل ذلك وضحّى به في ضاحية يوم الطف ، وفى سبيل المبدء كان أهون شيء عليه كل تلك النفائس ، وما اكتفى حتى بذل نفسه وجسده ورأسه وأوصاله وأولاده وكل حبيب له وعزيز عليه في سبيل حبيب الأعلى ومعشوقه الأول ، أفليس هو الجدير والحرى بأن يقول ؟ :

وبما شئت في هواك اختبرني

فاختياري ما كان فيه رضاكا

يحشر العاشقون تحت لوائي

وجميع الملاح تحت لواكا

واقتباس الأنوار من ظاهري

غير عجيب وباطني مأواكا

__________________

(١) سورة ٣ آية : ١٤.

١١٤



١٩

ساعة الوداع لسيّد الشهداء عليه‌السلام

كلّما ازداد الشيء عظمة وتعالى خيراً وبركة ، وتوفّرت غرر أوصافه من جميع أطرافه ، وتسامت معاليه من كل مناحيه ازدادت حيرة العقول فيه ، وقصرت الأفهام عن ادراك كنهه وأداء حقّه ، هناك وما أدريك ما هناك ، تقف الأفهام ، وتنكسر الاقلام ، وتطيش الالباب ، وتوصد الابواب دون الدخول الى مجاز حقيقته وحقيقة مجازه ، وحلّ ألغازه ، ومعرفة سرّ اعجازه مهما أطنبت وأطالت ، ومهما أنشأت وقالت ، فان قصاراها الاعتراف بالتقصير بل القصور عن التعبير والتصوير.

خذ اليك مثلا على ذلك هذا القرآن العظيم فقد مضى على نزوله من المبدء الأعلى من السماء الأسمى الى هذه الارض السفلى زهاء أربعة عشر قرناً ألف سنة وزهاء أربعمأة عام ، وفى كل عام من الصدر الاول الى اليوم تنشر عنه المقالات وتؤلّف المؤلّفات ، مطوّلة ومختصرة عن بلاغته وفصاحته ، واعجاز آياته ودقائق نكاته ، وربما ينوف هذا النوع من المؤلفات على الألوف بل عشرات الألوف ؛ ولكن أترى ان جميع اولئك الكتبة بلغوا من عظمة مقداره عشر معشاره ؟ او وزنوا دانقاً من قنطاره ؟ أو انتهلوا القطرة من بحره ؟ او اهتبلوا الذرّة من ذروته ؟ لا ولا

١١٥

وكلا ولقد احسن العارف ابن الفارض فما فرض في احدى عرفانياته حيث قال :

وعلى افتتان الواصفين بوصفه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

ولعل من قال انّ القرآن لم يفسر حتى الآن لم يبالغ فيما قال كل ذلك لتعاظم القرآن وتساميه ، وارتفاع أفق أسراره عن أفق ادراك البشر.

ومن هذا القبيل وعلى هذا السبيل فاجعة الطف التي حدثت عام احدى وستين هجرية ، ولا يزال المؤرخون وأرباب السير والمقاتل والفلاسفة والأدباء وكتبة الشرق والغرب يكتبون عنها باحثين عن جريان سيرها وتسلسل اسبابها ، وأليم وقعها ، وعظيم هولها نظما ونثراً ، وتمثيلا وتحليلا ، حتى لو أمكن تعداد نجوم السماء ، وجاز الصعود الى الجوزاء أمكن احصاء كل ما قيل وما نظم وما نثر في هذه الحادثة النكراء التي ما حدث في عصر من العصور نظيرها ولاحدث التاريخ بمثلها ، ولكن كأن كل من كتب فيها اوجز او أطنب وقصر او أطفل ما اعترضها الا من ناحيتها السطحية ولا تنالها الاّ من وجهتها التاريخية ، وما أقل من استطاع سبر جرحها الدامي وغورها العميق ، وأسرارها الغامضة من كل ناحية من نواحيها وكل فصل من فصولها ، لانه على الغالب غير مستطاع لهم ولا تصل الى أقله أكثر او اكبر مداركهم.

على القاعدة التي افتتحنا بها كلمتنا من أن الشيء كلما ازداد عزمة تزداد فيه الحيرة ، فترتبك الافهام ، وتقف الاقلام ، وتعجز الارقام ، قل لي بربك : ريشة أيّ رسّام مصور مهما كان فنانا بارعا ومصورا ماهراً يستطيع أن يمثل ويصور لك حالة الحسين سلام الله عليه بعد الظهر بساعتين من يوم عاشوراء بعد مصرع جميع أولاده واخوته وبني أخيه وبني عمومته جعفر وعقيل وجمهرة أصحابه حتى الاطفال والشباب الذي لم يبلغ الحلم ، فهاهي جثثهم على رقعة الارض المحمّرة

١١٦

بدمائهم في حرّ الهجير تصهرهم الشمس نصب عينه بين المعارة والمخيم ، وقد خفقت أجنحة المنيّة على رأسه ، وجراحاته تشخب دما ، وقد بنى عليه درعه بنيانا ، وحال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، ولما راى انه لم يبق بينه وبين الشهادة الا سويعة ، ليس بينه وبين هبوط جسده المبضع الى الارض وعروج روحه المعذبة الى السماء ، نعم لم يبق الا هذه الحملة الاخيرة يدخل الى الميدان ثم لايخرج منه الا ورأسه على السنان.

نعم من ذا الذي يقتدر أن يصوّر لك الحسين عليه‌السلام وقد تلاطمت امواج البلاء حوله ، وصبّت عليه المصائب من كل جانب ، وفي تلك الحال عزم على توديع العيال ومن بقى من الاطفال ؛ فاقترب من السرادق المضروب على حرائر النبوة وبنات علي عليه‌السلام والزهراء عليها‌السلام ، فخرجت المخدرات من الخدور كسرب القطاء المذعور ، فأحطن به وهو سابح بدمائه ، فهل تستطيع أن تتصور حالهن وحال الحسين عليه‌السلام في ذلك الموقف الرهيب ولا يتفطّر قلبك ؟ ولا يطيش لبَّك ؟ ولا تجرى دمعتك ؟ أما أنا فيشهد الله وكفى به شهيداً اني اكتب هذه الكلمات عصر هذا اليوم من محرم سنة : (١٣٧٣) ه‍ ولعلها الساعة التي وقف فيها سلام الله عليه لوداع اهل بيته اكتب والقلب يرتجف ، والقلم يرتعش والعين تدمع والحشا تذوب وتتلاشى. لا أدرى كيف أعبّر ؟ وكيف أصوّر ذلك الموقف المهول ؟ وأعجب كيف لم تسقط السماء على الأرض أسى وحزنا ولوعة وشجواً ؟ غيرة الله وحجته يريد ان يرتحل من هذه الدنيا ويترك هذه الحرائر المخدرات في تلك الصحراء ، يتركهن في الصحراء بين جثث القتلى ومصارع فتيانهن ، وبين الوحوش الكاسرة التي قتلت رجالهن وأطفالهن ، تدبر ما شئت وفكر ما وسعك التفكير ، وتأمل كيف حاله سلام الله عليه في فراقه لهن وهن بذلك الوضع الشائك ، وكيف حالهن في فراقهن له وهو غيرة الله ، وهن ودائع الله ، وودائع رسوله ، تجسّمت للحسين عليه‌السلام عند التوديع

١١٧

فى تلك البرهة القصيرة ، وتمثل له كل ما تصبه سحائب المصائب على هذه الحفنة من اليتامى والنسوة الثواكل اللاتي مافيهن الامن الا من فقدت عزيزها من ولدا وأخ او زوج وكم فيهن من فقدت كل اولئك وكل عميد لها وزعيم.

مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع

عميداً لها الا وفيه تعثرا

تمثّل للحسين عليه‌السلام حالهن من ساعته تلك الى رجوعهن إلى المدينة ، وأشد ما يشجيه ويبكيه لو كان مجال للبكاء ما يمرّ عليهن تلك الليلة ليلة الحادية عشر وصبحها يوم الرحيل مفكّرا من يراقبه تلك الليلة الحادية عشر وصبحها يوم الرحيل مفكّراً من يراقبهن تلك الليلة في تلك الصحراء ومن يحميهن ومن يطعمهن ؟ ومن يسقيهن ؟

نعم وهو سلام الله عليه امام كل هذه الخواطر صابر ، وبينما هو يودّع ودائع النبوة ويأمرهن بالصبر (١) اذا استعجله جيش بني امية وناداه مناديهم : للنزال ودخل خيمة النساء فودّعنه ولسان حال كل واحدة يقول :

ودّعته وتؤدّى لو توّدعني

روح الحياة واني لا أودّعه

__________________

(١) رجع الحسين عليه‌السلام الى حرمه مرة اخرى وودعهم وامرهم بالصبر ووعدهم الثواب والاجر وامرهم بلبس أزرهم وقال لهم استعدوا للبلاء واعلموا ان الله حافظكم وحاميكم وسينجيكم من شر الاعداء ويجعل عاقبة أمركم الى خير ويعذب اعدائكم بانواع البلاء ويعوضكم الله عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ثم توجه الى قتال اعدائه.

قال عمر بن سعد : ويحكم اهجموا عليه مادام مشغولا بنفسه وحرمه والله ان فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم ،فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بني اطناب المخيم وشك سهم بعض أزر النساء فدهشين وارعبن وصحن ودخلن الخيمة ينظرن الى الحسين عليه‌السلام كيف يصنع فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق احداً الا يعجه بسيفه فقتله والسهام تاخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره انظر مقتل الحسين عليه‌السلام او حديث كربلا ص ٣٢٣ ط ٢ النجف ، لسيدنا الحجة السيد عبدالرزاق المقرم النجفي وجلاء العيون للسيد عبدالله الشبر رحمه‌الله ج ٢ ، ص ٢٠٥ النجف. يظهر من قوله عليه‌السلام وأمرهم بلبس أزرهم ... أنه أمرهم بحفظ حجاب نسائهم.

١١٨



٢٠

هل تكلم رأس الحسين عليه‌السلام ؟

نسمع من الذاكرين أن رأس الحسين عليه‌السلام قد تكلّم غير مرّة ويروون بذلك أخباراً شتّى ورواياتاً مختلفة كخبر زيد بن أرقم وابن وكيدة وغيرهما ، ويروون انه قد تكلم في مجلس يزيد ، فهل هذه الاخبار صحيحة أم لا ؟ فان كانت صحيحة فهل يمكن ان يقع مثل هذه المعجزة العظيمة الخارقة للعادة بمرأى من الناس و مسمع ولايرتدع منهم أحد ؟ أو يرميه بالسحر كما رموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ؟ أو يغالون فيه كما غالوا في الامير عليه‌السلام لم ظهرت على يديهما بعض المعاجز ؟ فان التاريخ لم ينقل لنا شيئا من ذلك ، وهل يجوز أن يكون جميع الذين شاهدوا ذلك الامر العظيم معاندين مكابرين ؟ هذا ما نرجو الجواب عنه ، ولكم جزيل الاجر والثواب.

الجواب :

نعم خبر زيد بن ارقم (١) وابن وكيدة مروي كلاهما في بعض الكتب المعتبرة ،

__________________

(١) وممّا هو جدير بالذكر انه لا بدع في القدرة الالهية والحكمة الربانية بان مكنت رأس الامام المظلوم

١١٩

__________________

الباذل مهجته في سبيل الله واحياء دينه واقامة توحيده من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول الى كنهها ولا يحيط عقولنا بجميع جهاتها بعد ان اودعت في « الشجرة » قوة الكلام مع نبّي الله موسى بن عمران عليه‌السلام عند المناجات كما نص عليه في القرآن ( سورة ٣٨ آية ٣٠ ) وهل يقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمن واطاعة السبحان ؟ ... كلاًّ. وقد نص القرآن الكريم بانطاق الجوارح وتكلم الاعضاء من البشر يوم النشور بما فعلته في دار الغرور وقال تعالى : ... شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم ... وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ... ( سورة ٤١ آية : ٢٠ و ٢١ ) وقال تعالى : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (سورة ٢٤ آية : ٢٤).

وحمل هذه الايات وغيرها على خلاف ظاهرها من دون حجّة وبرهان ممّا لايقبله العقل والوجدان مع تأييد العلم والعيان في هذا الزمان ظواهر تلك الايات من القرآن ولذا لا يقدم على فتح باب التأويل عليها من كان من اهل الايمان اللهم الاّ ممن ليس هو من اهل العلم والفرقان وان يدعى التمسك بالقرآن.

فبعد تصريح القرآن بان الجوارح تنطق وتتكلم وتشهد يوم الحشر باعمال الانسان فلا غرو في تكلم الرأس الاطهر من سيد شباب اهل الجنان بقدرة الله تعالى وانطاقه وهو بضعة من سيد الانس والجان.

وصدر هذه الكرامة الباهرة من ذلك الرأس المطهر ليتم على الظالمين الحجّة ولكن طبع على قلوبهم وعلى ابصارهم غشاوة. « خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ـ سورة ٢ آية : ٧ ».

ولرئيس المحدثين الشيخ الصدوق رحمه‌الله كلمات نيّرة صدع بها في جواب السلطان ركن الدولة رحمه‌الله لها تعلق تام بهذا الموضوع لا بأس بنقلها لتزيد بصيرة للقارىء الكريم : وقد نقل في ترجمة الشيخ الصدوق رحمه‌الله : ان السلطان ركن الدولة جلس يوما على عرش السلطنة وشرع على الاطراء والثناء على الشيخ الصدوق رحمه‌الله لانه راى قبل ذلك اليوم بيانات الشيخ رحمه‌الله وتكلماته المذهبيّة على ضوء العلم والمنطق. فاعترض احد الحضار على السلطان : ان اعتقاد الشيخ رحمه‌الله على ان رأس سيد الشهداء عليه‌السلام يوم حمل على القناة كان يقرأ سورة الكهف فقال الملك : لم اسمع منه هذه المقالة ولكني أسأله فكتب اليه يستفتيه ويسأله عن هذا المطلب فكتب الشيخ الصدوق رحمه‌الله في الجواب :

ان هذه الرواية محكية ممن سمع من رأسه المطهر انّه يقرأ عدّة آيات من سورة الكهف الاّ ان ذلك غير منقول من أحد الائمة المعصومين عليهم‌السلام ومع ذلك لا ننكره بل هو صواب لاءنا اذا جوزنا في يوم الحشر تكلم أيدى الظالمين والعاصين وأرجلهم كما نطق به القرآن وقال تعالى : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( سورة ٣٦ آية : ٦٥ ) فكذا يجوز أن ينطق رأس الحسين عليه‌السلام ويتلو القرآن لكونه خليفة الله وامام المسلمين ومن شباب أهل الجنّة وسيدهم وسبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن وصيّه وأمّه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين بل انكار هذا المطلب يؤل في الحقيقة الى انكار قدرة الله تعالى وفضل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والعجب ممن ينكر صدور امثال

١٢٠