موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وأمّا إذا أحدث بعد صلاته بالحدث الأصغر فله صور.

صور ما إذا شكّ في الاغتسال وقد أحدث بالأصغر

الصّورة الاولى : أن تكون الصّلاتان مترتّبتين ، كما في صلاتي الظّهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلا يجوز في مثلهما الدّخول في الثّانية بالغسل بعد أُولاهما ، وذلك للعلم الإجمالي بأنّه إمّا مكلّف بالغسل لو كان لم يغتسل قبل صلاة الظّهر ووقعت هي مع الجنابة ، وإمّا إنّه مكلّف بالوضوء كما إذا كان اغتسل من الجنابة قبل صلاة الظّهر.

كما أنّ له علماً إجمالياً ثانياً وهو أنّه إمّا أن تجب عليه إعادة ما أتى به من الصّلاة كما لو كان لم يغتسل من الجنابة قبل الظّهر ، وإمّا أن يجب عليه الوضوء لصلاته الآتية كما إذا كان قد اغتسل منها قبله إلاّ أنّه لمّا أحدث بالأصغر فقد وجب عليه الوضوء لصلاة العصر مثلاً ، فالوضوء طرف لعلمين إجماليين ، فإذا صلّى العصر بالاغتسال من دون الوضوء فيحصل العلم التفصيلي ببطلانها ، وذلك للقطع بفقدان شرطها ، لأنّه إمّا أن كان اغتسل من الجنابة قبل الظّهر فهو محدث بالأصغر وقد صلّى العصر من غير وضوء ، وإمّا أنّه لم يغتسل منها قبل الظّهر فهو وإن كان مكلّفاً بالغسل حينئذ وغسله صحيح ، إلاّ أنّ صلاته عصراً باطلة ، لبطلان الظّهر وترتبها عليها لوقوعها مع الجنابة على الفرض.

فالجمع بين قاعدة الفراغ في الظّهر واستصحاب بقاء الجنابة إلى صلاة العصر أعني الحكم بصحّة الظّهر بقاعدة الفراغ وصحّة العصر بغسل الجنابة غير ممكن ، لأنّه على خلاف القطع الوجداني ، ومعه يجب الجمع بين الغسل والوضوء بالإضافة إلى صلاة العصر ، عملاً بالعلم الإجمالي بوجوب أحدهما. وأمّا العلم الإجمالي الثّاني أعني وجوب إعادة الظّهر أو الوضوء لصلاة العصر فهو ليس علماً إجمالياً على حدته ، وإنّما هو لازم للعلم الإجمالي بوجوب الغسل أو الوضوء ، لأنّه لو كان مكلّفاً بالغسل لا محالة تجب عليه إعادة الظّهر. نعم ، لا مناص من إعادة صلاة الظّهر أيضاً لا لذلك العلم الإجمالي ، بل لأنّ الموجب للحكم بصحّتها إنّما هو قاعدة الفراغ ، فإذا لم تجر‌

٤١

القاعدة لمعارضتها باستصحاب بقاء الجنابة من جهة أنّهما على خلاف القطع الوجداني لم يبق هناك ما يوجب صحّتها ، فلا بدّ حينئذ من إعادة الظّهر والجمع بين الغسل والوضوء.

الصّورة الثّانية : أن تكون الصّلاتان غير مترتّبتين ، كما إذا أتى بصلاة قضاء ثمّ شكّ في أنّه اغتسل عن الجنابة قبلها أم لم يغتسل وأراد بعدها أن يدخل في صلاة الظّهر مثلاً ، والكلام فيها هو الكلام في سابقتها ، ولا فرق بينهما إلاّ في أنّ هذه الصّورة لا يحصل فيها العلم التفصيلي ببطلان الصّلاة الثّانية ، بل يعلم إجمالاً بأنّه بعد صلاة القضاء إمّا مكلّف بالغسل وإمّا مكلّف بالوضوء ، ويلزمه العلم إجمالاً ببطلان ما أتى به ووجوب إعادته أو بوجوب الوضوء ، فلا بدّ من الجمع بينهما كما لا بدّ من إعادة ما أتى به ، لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها للعلم الإجمالي.

الصّورة الثّالثة : أن يكون شكّه هذا بعد انقضاء وقت الصّلاة الّتي أتى بها ، كما إذا أتى بصلاة العصر ولما خرج وقتها وأراد الدّخول في صلاة المغرب شكّ في أنّه هل اغتسل من الجنابة قبل العصر أم لم يغتسل ، وفي هذه الصّورة أيضاً يجب عليه الجمع بين الغسل والوضوء ، وذلك للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما في حقّه ، وأيضاً تتعارض فيها قاعدة الفراغ في الصّلاة السابقة مع استصحاب بقاء الجنابة إلى الصّلاة الثّانية ، للعلم بأنّه إمّا كان في حال الصّلاة الأُولى جنباً فالاستصحاب مطابق للواقع وقاعدة الفراغ على خلاف الواقع ، وإمّا إنّه قد اغتسل عنها قبل تلك الصّلاة فالقاعدة مطابقة للواقع والاستصحاب على خلاف الواقع ، إلاّ أنّه لا يجب عليه قضاء تلك الصّلاة ، وذلك للقطع بسقوط أمرها إمّا لامتثاله كما إذا كان اغتسل عن الجنابة قبلها وإمّا لتعذر امتثاله لخروج وقتها. والقضاء لو ثبت فإنّما هو بأمر جديد ، وموضوعه فوت الواجب في وقته ، وهو غير محرز في المقام لاحتمال أنّه قد اغتسل من الجنابة قبل تلك الصّلاة ، ومع عدم إحراز موضوع الأمر بالقضاء أصالة البراءة العقليّة محكّمة ، لقبح العقاب من دون بيان ، وهو قاعدة عقليّة غير قابلة للتخصيص ، فالقضاء غير واجب حينئذ ، نعم لا بدّ من أن يجمع بين الغسل والوضوء بمقتضى العلم الإجمالي كما مرّ.

٤٢

ولو كان الشكّ في أثناء الصّلاة بطلت (١) لكن الأحوط إتمامها ثمّ الإعادة.

[٦٩٨] مسألة ١٥ : إذا اجتمع عليه أغسال متعدِّدة فإمّا أن يكون جميعها واجباً أو يكون جميعها مستحبّاً أو يكون بعضها واجباً وبعضها مستحبّاً ، ثمّ إمّا أن ينوي الجميع أو البعض ، فإن نوى الجميع بغسل واحد صحّ في الجميع (٢)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) لأنّ الطّهارة من الشّروط المقارنة لأجزاء الصّلاة وأكوانها المتخللة بين أجزائها ، ومعه لا يمكن إحراز شرط الآن أو الجزء الّذي يشكّ فيه في الطّهارة بقاعدة التّجاوز أو الفراغ ، فلا محالة يحكم ببطلان الصّلاة.

حكم اجتماع الأغسال المتعدِّدة على المكلّف‌

(٢) الكلام في ذلك من جهتين :

الاولى : من جهة القاعدة وأنها تقتضي التّداخل أو تقتضي عدمه.

الثّانية : من جهة النص الوارد في المقام.

أمّا الجهة الأُولى فقد قرّرنا في مبحث مفهوم الشرط أنّ الطّبيعة الواحدة إذا كانت متعلّقة للأمر بها مرّتين أو أكثر ، كما إذا ورد إن ظاهرت فكفّر وإن أفطرت فكفّر فمقتضى القاعدة عدم التداخل ، لأنّ الطبيعة الواحدة يستحيل أن يبعث نحوها ببعثين ويؤمر بها مرّتين ، وإن كان مقتضى إطلاق الأمر في كلّ واحد من الشّرطين ذلك ، إلاّ أنّه لمكان استحالته لا بدّ من تقييد متعلّق كلّ منهما بوجود مغاير للوجود الآخر الّذي تعلّق به الآخر ، فيقال إن ظاهرت فأوجد وجوداً من طبيعة التكفير ، وإن أفطرت أوجد وجوداً منها ، وهو معنى عدم التداخل كما عرفت.

وقد استثنينا من ذلك مورداً واحداً وهو ما إذا كانت النسبة بين المتعلّقين عموماً من وجه ، كما إذا ورد أكرم العالم وورد أيضاً أكرم الهاشمي ، فإن إكرام مورد التصادق حينئذ وهو العالم الهاشمي يجزئ عن كلا الأمرين ، لأنّه مقتضى إطلاقهما ، والقاعدة في‌

٤٣

مثله التداخل ، حيث إنّ كلّ واحد من المأمور بهما أمر مغاير للآخر في نفسه ، وليس أمراً واحداً ليستحيل البعث نحوه ببعثين ، ومعه لا مانع من التداخل في مورد التصادق حسب إطلاقهما. هذا ما قدّمناه في بحث المفاهيم (١).

إلاّ أنّه فيما إذا كان الأمران نفسيين مولويين ، وأمّا في الأوامر الإرشاديّة كما في الوضوء والغسل حيث إنهما غير واجبين في نفسهما وإنما أُمر بهما مقدّمة للصلاة ، كما في قوله تعالى : ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) إلى قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... ) (٢) ، وهكذا الحال في بقيّة الأغسال الواجبة حيث أُمر بها في السنّة مقدّمة وشرطاً للصلاة ، فالأمر بها أمر إرشادي لا محالة فالأمر بالعكس والقاعدة تقتضي فيها التداخل لإطلاقهما ، ولا مانع من أن يكون للشرط الواحد أسباب متعدّدة ، بأن يكون لاشتراط الصّلاة بالغسل والطّهارة أسباب من الجنابة والحيض ونحوهما ، كما هو الحال في الوضوء لتعدّد أسبابه من البول والغائط.

وحيث إنّ المأمور به في الجميع أمر واحد ، وهو طبيعة الغسل لا الغسل المقيّد بالجنابة أو بالحيض أو بغيرهما ، لأنّهما أسباب الأمر بالطبيعة ، فالمأمور به شي‌ء واحد في الجميع ، فلو أتى به للجنابة مثلاً غافلاً عن بقيّة الأسباب أيضاً حصل به الامتثال وسقط عنه الجميع ، نعم علمنا خارجاً أنّ الغسل عبادي ويشترط في صحّته قصد التقرّب ، إلاّ أنّه يكفي في التّقرب به أن يؤتى به لأجل أنّه مقدّمة للصلاة أو للصوم أو لغيرهما من الواجبات ، فإنّ الإتيان بهذا الدّاعي من أحد طرق التقرّب على ما حرّرناه في محله. ومعه إذا أتى بالغسل لأجل كونه مقدّمة للصلاة كفى هذا عن الجميع ، ولو مع كونه غافلاً عن غير الجنابة أو مسّ الميت أو نحوهما ، لأنّ الطبيعة قد تحقّقت في الخارج وأتى بها بقصد القربة وحصل به الامتثال ، فحال الغسل حينئذ حال الوضوء ، فكما أنّه إذا نام وبال ثمّ توضأ مقدّمة للصلاة مع الغفلة عن نومه كفى‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٠٩.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

٤٤

هذا عن الجميع ، ولا يتوهّم وجوب الوضوء حينئذ ثانياً من جهة النوم ، كذلك الحال في المقام ، هذا كلّه في الأغسال الواجبة.

اجتماع الأغسال المتعدّدة المستحبّة

وأمّا الأغسال المستحبّة الّتي منها غسل الجنابة ، حيث قدّمنا أنّه مستحب نفسي وإن كان مقدّمة للصلاة أيضاً وواجباً بالوجوب العقلي فقد تكون النسبة بين الغسلين المستحبين عموماً من وجه ، وهذا كما في غسل الجمعة وغسل الإحرام ، فإنّه يمكن الاغتسال للجمعة دون الإحرام ، كما إذا كان اليوم جمعة ولم يكن المكلّف قاصداً للإحرام أو لم يكن هناك موقع للإحرام ، وقد يمكن الاغتسال للإحرام دون الجمعة ، كما إذا أحرم ولم يكن اليوم جمعة ، وثالثة يتمكن من كليهما كما إذا أحرم يوم الجمعة ، وحيث إنّ المتعلقين متغايران في أنفسهما فلا مانع من تعدّد الأمر والطلب ، والقاعدة حينئذ تقتضي التداخل في مورد اجتماعهما ، لإطلاق كلّ من الأمرين ، فلو اغتسل للجمعة أو للإحرام كفى عن كليهما حتّى مع الغفلة عن الآخر.

وقد تكون النسبة عموماً مطلقاً ، كغسل الجمعة وغسل الجنابة أو مسّ الميت أو غيرهما ، لأنّ المأمور به في غسل الجنابة مثلاً طبيعي الغسل كما عرفت ، وفي غسل الجمعة هو الغسل المقيّد بكونه في يوم الجمعة ، فالنسبة عموم مطلقاً ، والقاعدة تقتضي عدم التداخل حينئذ ، لاستحالة البعث نحو الشي‌ء الواحد ببعثين ولو استحبابيّين ، فلا مناص حينئذ من تقيّد متعلّق كلّ منهما بفرد دون الفرد المقيّد به متعلّق الأمر الآخر.

وكذلك الحال فيما إذا كان أحد الغسلين مقيّداً بقيد دون الآخر ، كما ورد في أنّ من شرب الخمر ونام يستحب أن يغتسل من الجنابة ، لأنّه يمسي عروساً للشيطان (١) وكان الغسل الآخر مطلقاً أو كانت النسبة بين الغسلين هو التّساوي كما في الغسل‌

__________________

(١) المستدرك ١ : ٤٨٨ / أبواب الجنابة ب ٣٧ ح ١١. وإليك نصّه : جامع الأخبار : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من أحد يبيت سكراناً إلاّ كان للشّيطان عروساً إلى الصّباح ، فإذا أصبح وجب عليه أن يغتسل كما يغتسل من الجنابة ، فإن لم يغتسل لم يقبل منه صرف ولا عدل.

٤٥

للزيارة أو الغسل لرؤية المصلوب أو الغسل لمسّ الميت بعد تغسيله أو غسل الجنابة فإنّ الطبيعة فيها واحدة ، والقاعدة في هذه الموارد هي عدم التداخل ، لعدم إمكان البعث نحو الشي‌ء الواحد ببعثين إلاّ أن يقيّد متعلّق كلّ منهما بفرد غير الفرد المقيّد به متعلّق الآخر ، هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة في نفسها.

وممّا ذكرنا في المقام ظهر الحال في الغسل الواجب والمستحب ، كما في غسل الجنابة أو مسّ الميت مع غسل الزّيارة أو غيره من المستحبات ، فإنّ القاعدة تقتضي فيه التداخل ، لأنّ الأمر في الغسل الواجب إرشاد إلى شرطيّته للصلاة ، ولا مانع من اجتماع مثله مع الطلب الاستحبابي المولوي ، فلو أتى بغسل واحد كفى عنهما.

وأمّا الجهة الثّانية فالروايات الواردة في المقام إنّما وردت في موارد خاصّة (١) ، ولا يمكننا التعدِّي عنها إلى غيرها ، والرّواية الدالّة على كفاية الاغتسال مرّة واحدة لعدّة أغسال رواية واحدة ، وهي رواية زرارة وقد نقلت بعدّة طرق :

منها : ما رواه الكليني بسند صحيح عن حريز عن زرارة ، قال « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزّيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » الحديث (٢) ، وهي أجمع رواية في المقام ، وهذه الرّواية لو كنّا نحن وصدرها لم يكن لها أيّ ظهور في الإضمار ، لاحتمال أن تكون كلّها قول زرارة نفسه ، لكن جملة « قال ثمّ قال » الواقعة في ذيلها ظاهرة في أنّ زرارة يرويها عن شخص آخر ، وبما أنّ المضمر هو زرارة فلا بدّ وأن يكون ذلك الشخص هو الإمام عليه‌السلام ، كما صرّح به في سائر الرّوايات.

ومنها : ما رواه الشيخ عن محمّد بن علي بن محبوب عن علي بن السندي عن حماد عن حريز عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام (٣) ، وهي مشتملة على عين الرّواية المتقدِّمة بتبديل الحجامة بالجمعة ، ولعله الصّحيح إذ لم يعهد غسل للحجامة وإن‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ١٠٧ / ٢٧٩.

٤٦

أمكن استحبابه لها في الواقع ، إلاّ أنّ هذا الطّريق ضعيف بعلي بن السندي وغير قابل للاعتماد عليه.

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن حريز عن زرارة ، هكذا نقلها صاحب الوسائل (١) ، وهذا الطريق مضافاً إلى إرساله فإنّ محمّد بن علي ابن محبوب لا يمكن أن يروي عن حريز بلا واسطة لم نجده في كتابي الشيخ.

ومنها : ما رواه ابن إدريس عن كتاب محمّد بن علي بن محبوب عن علي بن السندي عن حماد عن حريز عن زرارة عن أحدهما عليه‌السلام (٢) ، وهذا الطّريق أيضاً ضعيف بعلي بن السندي.

ومنها : ما رواه ابن إدريس أيضاً عن كتاب حريز بن عبد الله عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) ، وهذا الطريق أيضاً ضعيف لجهالة طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز ، فإنّه وإن ذكر ابن إدريس في آخر الرّوايات الّتي رواها عن كتاب حريز : أنّ كتابه أصل معتمد ومعوّل عليه (٤) ، وكذلك جعل الصدوق قدس‌سره في ديباجة الفقيه كتاب حريز من الكتب المشهورة الّتي عليها المعوّل وإليها المرجع (٥) إلاّ أنّ القدر المتيقن من هذه العبارات أنّ أصل كتاب حريز إجمالاً كان مشهوراً ومعمولاً به ، وأمّا اعتبار كلّ نسخة نسخة منه فلا.

والحاصل أنّ الطّريق الأوّل صحيح ، وهو الّذي نعتمد عليه في المقام ، فالرواية من حيث السند ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الكلام في دلالتها ، فهل تقتضي التداخل في خصوص ما إذا كانت الأغسال المجتمعة واجبة ، أو تقتضي التداخل مطلقاً ولو إذا كانت مستحبّة أو كان بعضها مستحبّاً وبعضها واجباً؟

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) السّرائر ٣ : ٥٨٩.

(٥) الفقيه ١ : ٣.

٤٧

المورد المتيقّن من الصّحيحة هو ما إذا كانت الأغسال بأجمعها واجبة ، حيث إنّه مورد التسالم بين الأصحاب ، ولم يستشكلوا في أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الجميع حينئذ.

وأمّا إذا كان بعضها واجباً وبعضها مستحبّاً فقد يناقش في التداخل حينئذ باستحالة أن يكون شي‌ء واحد مصداقاً للواجب والمستحب بناءً على استحالة اجتماع الأمر والنّهي ، حيث إنّه من باب المثال ، إذ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، فكما أنّ الواجب يضاده الحرام كذلك يضاده الاستحباب والإباحة ، ويضادهما الكراهة والحرمة ، فكيف يعقل مع ذلك أن يكون المستحب واجباً وبالعكس ، فيكون شي‌ء واحد مصداقاً لهما معاً. وأمّا كونه مصداقاً لأحدهما ومسقطاً عن الآخر فهو أمر آخر يأتي فيه الكلام. وبما أنّ البرهان العقلي قام على استحالة كون الغسل الواحد مصداقاً للواجب والمستحب فلا مناص من رفع اليد عن ظهور الصحيحة في جوازه ، لأنّ الظّهور لا يصادم البرهان.

وتندفع هذه المناقشة بأنّه لا مانع من أن يكون شي‌ء واحد مصداقاً للطبيعة الواجبة والمستحبّة وإن قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي ، بل قد يكون ذلك على طبق القاعدة ، كما إذا كانت النسبة بين المتعلقين عموماً من وجه كالأمر بإكرام العالم والأمر بإكرام الهاشمي ، لأنّ إطلاق كلّ منهما يقتضي جواز الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي ، حيث دلّ أحدهما على وجوب إكرام العالم سواء كان هاشمياً أم لم يكن ، ودلّ الآخر على وجوب (١) إكرام الهاشمي سواء كان عالماً أم لم يكن ، ومعه إذا أكرم العالم الهاشمي حصل بذلك امتثال كلا الأمرين ، وهو على طبق القاعدة ولا استحالة في ذلك عقلاً حتّى يتصرّف بذلك في ظاهر الصّحيحة المقتضية للتداخل عند كون بعض الأغسال واجباً وبعضها مستحبّاً.

والغرض من هذا الجواب أنّ ما ورد في بعض الكلمات من استحالة اجتماع الوجوب والندب في مورد ، ولكنّا نرفع اليد عن ذلك بصحيحة زرارة الدالّة على‌

__________________

(١) الأنسب أن يُقال : استحباب إكرام الهاشمي ....

٤٨

جواز اجتماعهما ممّا لا وجه له ، لوضوح أنّ اجتماعهما لو كان أمراً مستحيلاً عقلاً لاستلزم ذلك رفع اليد عن ظهور الصّحيحة في الجواز ، لأنّ الظّهور لا يصادم البرهان ، إذن فالصحيح أن يُقال إنّ اجتماعهما أمر غير ممتنع لدى العقل كما صنعناه.

نعم ، يبقى هناك سؤال الفرق بين الحرمة والوجوب فيما إذا كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، كما في مثل الصلاة والغضب ، حيث قلنا باستحالة اجتماعهما في شي‌ء واحد ، وبين الوجوب والاستحباب أو الوجوبين أو الاستحبابين ، حيث قلنا بجواز اجتماعهما وإمكان أن يكون شي‌ء واحد مصداقاً للواجب والمستحب مع أنّ الأحكام بأسرها متضادّة.

والجواب عن هذا السؤال أنّ الأمر في المستحبّات والواجبات إنّما يتعلّق بالطبائع على نحو صرف الوجود المعبّر عنه بناقض العدم ، ولا يتعلّق بها على نحو مطلق الوجود المنحل إلى جميع أفرادها ، لعدم قدرة المكلّف على إتيان جميع أفراد الطبيعة وعليه فالفرد مصداق لذات الطّبيعة المأمور بها لا للطبيعة بوصف كونها واجبة ، نظير ما ذكروه في المعقولات الثانية كالنوع ، حيث إنّ الإنسان نوع وزيد مصداق للإنسان مع أنّه ليس بنوع ، وذلك لأنّ النوع كالوجوب والاستحباب إنّما هو وصف للطبيعة الملغى عنها الخصوصيات ، وزيد وإن كان مصداقاً للطبيعة إلاّ أنّه ليس مصداقاً للطبيعة الملغى عنها الخصوصيات أي للطبيعة المتّصفة بالنوع ، وعليه فالفرد ليس بواجب ولا بمستحب ، ومن هنا لو أتى بالصلاة في أوّل وقتها كانت مصداقاً للصلاة إلاّ أنّه إذا لم يأت بها وأتى بفرد آخر لا يكون عاصياً وتاركاً للواجب.

وعلى الجملة الفرد ليس بواجب ولا بمستحب وإنّما هو مصداق لهما ، وأيّ مانع من أن ينطبق على شي‌ء واحد طبائع مختلفة من دون أن يكون مجمعاً للوجوب والاستحباب.

وهذا بخلاف الحرمة ، لأنّها تسري إلى كلّ واحد من الأفراد لأنّها انحلاليّة لا محالة ، فحرمة الكذب مثلاً تنحل إلى كلّ واحد من أفراده بحيث لو أوجد فردين منها‌

٤٩

ارتكب محرمين ، ومع حرمة الفرد ومبغوضيّته لا يرخّص المكلّف في تطبيق الطّبيعة الواجبة على ذلك الفرد ، لأنّ الأمر بالطبيعة يقتضي الترخيص في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء المكلّف ، ومع حرمة الفرد ومبغوضيّته ليس للمكلّف ترخيص في تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه ، ومن هنا قلنا بعدم إمكان اجتماع الحرمة والوجوب بخلاف الوجوب والاستحباب.

فالمتحصل أنّه لا مانع من الالتزام بالتداخل في جميع الأقسام ، وبما أنّ الصّحيحة دلّت على التداخل في الجميع ولا مانع عنه عقلاً فالحكم هو التداخل مطلقاً ، ولم يقم برهان عقلي على عدم التداخل في الواجب والمستحب حتّى يرفع اليد به عن الصّحيحة ، نعم لو قام برهان على استحالته للزم رفع اليد عن ظاهر الصّحيحة لا محالة ، فلا فرق في الأغسال بين كونها واجبة بأجمعها وما إذا كان بعضها واجباً وبعضها الآخر مستحبّاً.

وأمّا إذا كانت بأجمعها مستحبّة فقد يتوهّم أنّ ظاهر كلمة الحقوق في الصّحيحة هي الأغسال الواجبة دون المستحبّة ، ولكنه توهّم في بادئ النّظر ، لأنّ الحق بمعنى الثبوت ، وكون الثابت على نحو الوجوب أو الاستحباب أمر آخر ، فالحقوق تشمل الواجب والمستحب.

على أنّا لو أغمضنا عن ذلك وقلنا إنّ ظاهر الحقوق في نفسها هو الأغسال الواجبة فقط ففي الصّحيحة قرينة قطعيّة على أنّ المراد بها أعمّ من الواجب والمستحب ، حيث طبّقها الإمام على غسل العيد والزّيارة بل الجمعة وغيرها من المستحبّات ، فلا فرق في التداخل بين كون الأغسال واجبة بأجمعها وكونها مستحبّة كذلك وكون بعضها واجباً وبعضها الآخر مستحبّاً ، فإنّ ظاهر الصّحيحة وإن كان تعدّد الأغسال وتغاير بعضها عن بعض حيث عبّر بالحقوق ، إلاّ أنّه لا مانع من أن ينطبق على عمل واحد عناوين متعدّدة ، وهو يوجب الإجزاء عن بقيّة الأغسال.

٥٠

وحصل امتثال أمر الجميع (١) ، وكذا إن نوى رفع الحدث أو الاستباحة إذا كان جميعها أو بعضها لرفع الحدث والاستباحة ، وكذا لو نوى القربة ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حصول امتثال جميع الأغسال بغسل واحد‌

(١) وذلك لأنّه قصد كلّ واحد منها على نحو التفصيل ، فلا محالة يكون ما أتى به امتثالاً للجميع كما أنّه مجزئ عن الجميع ، وأمّا إذا قصد الجميع على نحو الإجمال ، كما إذا أتى بالغسل الواحد بقصد القربة المطلقة ، فإنّه أيضاً يكون امتثالاً للجميع ، حيث إنّ كلّ واحد من الأغسال قربي ، وهو قد قصد مطلق القربة ولم يخصص القربة ببعض دون بعض ، وكذلك الحال فيما إذا قصد رفع الحدث وكانت الأغسال بأجمعها رافعة له أو قصد الاستباحة وكانت بأجمعها مبيحة ، لأنّه قصد إجمالي للجميع وهو امتثال للجميع.

وأمّا إذا كان بعضها رافعاً للحدث وبعضها مبيحاً وقد قصد رفع الحدث أو قصد الاستباحة فذكر الماتن أنّه أيضاً يكون امتثالاً للجميع ، وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا المدّعى أنّ الغسل الرّافع غير مقيّد بعدم كونه مبيحاً ، كما أنّ الغسل المبيح غير مقيّد بأن لا يكون رافعاً ، لأنّهما حكمان شرعيّان طارئان عليهما لا أنّهما قيدان لهما ، وهما غسلان مطلقان ، ومعه إذا قصد الغسل الرافع مثلاً فهو امتثال للغسل الرّافع بلا كلام ، كما أنّه امتثال للغسل المبيح ، لأنّه بقصده الغسل المقيّد بالرّفع قصد الغسل المطلق لا محالة ، فإنّ قصد المقيّد قصد ضمني للمطلق ، وقصد الخاص قصد ضمني للعام والكلّي ، وهكذا إذا قصد الغسل المبيح لأنّه امتثال للغسل المبيح وقصد تفصيلي له ، كما أنّه قصد إجمالي ضمني للغسل المطلق وهو الغسل الرّافع ، وبهذا يحصل الامتثال للجميع.

ولكن تعميم هذا المدّعى أمر مشكل ، وذلك لمّا قدّمناه سابقاً وقلنا إنّ النسبة بين المتعلّقين إذا كانت هي العموم المطلق فمقتضى القاعدة عدم التداخل في مثله ، فلا يمكن أن يتعلّق الأمر بالمطلق والعام ويتعلّق أمر آخر بالمقيّد والخاص ، وعليه فالإتيان بالغسل الواحد غير مجزئ عن كليهما فضلاً عن أن يكون امتثالاً لهما.

٥١

وحينئذ فإن كان فيها غسل الجنابة لا حاجة إلى الوضوء بعده أو قبله (١) ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثمّ لو بنينا فيه بالاجتزاء والتداخل للصحيحة المتقدّمة فإن لم نبن على أنّ قصد أحد الغسلين يجزئ عن الغسل الآخر فيما إذا لم يقصده لغفلته ، كما إذا اغتسل للجنابة وغفل عن أنّ اليوم جمعة أيضاً فلا وجه للقول بالإجزاء فيما إذا قصد الغسل المبيح ولم يقصد الغسل الرّافع ، وأمّا إذا بنينا على الإجزاء حينئذ كما هو الصّحيح وأنّه إذا قصد أحد الأغسال الثّابتة عليه أجزأه عن جميع أغساله وإن لم يلتفت إليه ، فأيضاً لا يمكننا الالتزام بحصول الامتثال للجميع في المقام ، نعم نلتزم بالإجزاء كما عرفت ، إلاّ أنّه لا موجب ولا سبب لتحقق امتثال الغسل الرّافع عند قصد المبيح مع عدم قصد الرّافع بوجه.

لا يشرع الوضوء مع غسل الجنابة‌

(١) وذلك لعدم المقتضي للوضوء حينئذ ولوجود المانع عنه.

أمّا عدم المقتضي فلقوله تعالى ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... ) (١) ، لأنّه دلّ بصدره على أنّ كلّ محدث بالنوم أو بغيره يتوضأ إذا قام إلى الصّلاة ، ثمّ حكم في حقّ المجنب بالاغتسال ، وحيث إنّ التفصيل قاطع للشركة فتدل الآية المباركة على أنّ الوضوء وظيفة المحدث غير الجنب ، وأمّا وظيفة المحدث المجنب فهي الاغتسال ، وقد صرّح بذلك في قوله عزّ من قائل ( ... لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... ) (٢) ، وبما أنّ المكلّف مجنب على الفرض فليست وظيفته الوضوء ، سواء قلنا بأنّ مثل مسّ الميت والحيض ونحوهما أسباب للوضوء وناقض له أيضاً أو قلنا بأنّها ليست بأسباب له ، فعلى جميع التقادير لا مقتضي للوضوء حينئذ.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) النِّساء ٣ : ٤٣.

٥٢

وإلاّ وجب الوضوء (*) (١) ، وإن نوى واحداً منها وكان واجباً كفى عن الجميع أيضاً على الأقوى وإن كان ذلك الواجب غير غسل الجنابة وكان من جملتها ، لكن على هذا يكون امتثالاً بالنسبة إلى ما نوى (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأمّا وجود المانع عنه فلأن الرّوايات صرحت على أنّه ليس قبل غسل الجنابة ولا بعده وضوء ، وظاهر كلمة « ليس » نفي مشروعيّة الوضوء مع غسل الجنابة ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين أن يكون الغسل متمحضاً في الجنابة وبين أن يكون معه غسل آخر ، فما عن بعضهم من المناقشة في عدم وجوب الوضوء حينئذ (٢) في غير محله.

هذا إذا لم نبن على أنّ كلّ غسل يغني عن الوضوء ، وأمّا إذا بنينا على ذلك كما يأتي في محله عند تعرّض الماتن قدس‌سره بعد الأغسال في أنّ غسل الحيض والنّفاس والاستحاضة يغني عن الوضوء أو لا يغني عنه ، ونبيّن أنّها تغني عن الوضوء مطلقاً غير غسل الاستحاضة المتوسطة حيث إنّه لا يغني عن الوضوء فلا وقع للاستشكال في عدم وجوب الوضوء حينئذ ، لأنّه قد اغتسل قطعاً ومعه لا موجب للوضوء وهو ظاهر.

(١) أي إذا لم يكن بينها غسل الجنابة وجب الوضوء ، وهو كما أفاد على مسلكه من أنّ غير غسل الجنابة لا يغني عن الوضوء ، وأمّا على مسلكنا فلا يجب عليه الوضوء في هذه الصّورة أيضاً.

إذا نوى واحداً من الأغسال وغفل عن غيره‌

(٢) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

__________________

(*) على الأحوط الأولى.

(١) راجع المستمسك ٣ : ١٤١.

٥٣

أحدهما : ما إذا نوى الجنابة وكان عليه أغسال واجبة اخرى وغفل عنها حين الاغتسال ، فهل يكون اغتساله من الجنابة مسقطاً عن غيره من الأغسال الواجبة أو لا يكون مسقطاً عنها؟

وثانيهما : في أنّه إذا اغتسل من غسل واجب غير الجنابة كغسل مسّ الميت أو الحيض وكان عليه أغسال واجبة أُخرى من الجنابة أو غيرها ، فهل يكون غسله ذلك مسقطاً عن غيره من الأغسال الواجبة فيما إذا غفل ولم ينوها أو لا يكون مسقطاً عنها؟

أمّا المقام الأوّل فالظاهر تسالمهم على أنّ غسل الجنابة مسقط عن الأغسال الواجبة وإن لم ينوها حال الاغتسال ، بل قد نقل الإجماع على كفايته وإسقاطه لبقيّة الأغسال الواجبة على المكلّف.

والوجه في تسالمهم هذا أنّ غسل الجنابة وكفايته عن غيره من الأغسال هو القدر المتيقن من صحيحة زرارة المتقدّمة (١) ، لأنّ موردها الجنب ، وإلاّ لم يكن معنى لكون غسله مجزئاً عن الجنابة كما هو مفروض الصّحيحة ، ومن الطّبيعي أنّ الجنب يغتسل عن الجنابة أي يغتسل ناوياً لجنابته ، وفي هذا المورد حكم عليه‌السلام بإجزاء ذلك الغسل عن غيره.

وأمّا أنّه مجزئ عن غيره حتّى فيما إذا لم ينو غير غسل الجنابة من الأغسال الواجبة أو أنّه إنّما يجزئ فيما إذا نوى الجميع فهو مبني على استظهار أنّ قوله « للجنابة ... » في صدر الصّحيحة الّذي هو جارّ ومجرور متعلّق بأيّ شي‌ء ، فهل هو متعلّق بالغسل في قوله « أجزأك غسلك ذلك للجنابة » ، وعليه تدلّ الصّحيحة على إجزاء غسل الجنابة عن بقيّة الأغسال فيما إذا أتى بالغسل بعنوان الجنابة وغيرها ممّا في ذمّته من الأغسال ، ولا يجزئ فيما إذا لم ينو غير الجنابة ، لأنّ معناها حينئذ أنّ غسلك للجنابة وللزيارة ولعرفة مجزئ عنها ، فلا مناص من قصد عناوين الأغسال حال الاغتسال ، وإلاّ لم يكن الغسل للزيارة أو للجنابة أو لغيرهما.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٤٦.

٥٤

أو أنّه متعلّق بالإجزاء ، أي غسلك أجزأك للجنابة ولغيرها ، وحينئذ تدل الصّحيحة على أنّه إذا أتى بغسل الجنابة أجزأه ذلك عن كلّ ما في ذمّته من الأغسال وإن لم ينو عناوينها حال الاغتسال ، لدلالتها على أنّ غسله من غير تقيّده بشي‌ء يجزي للجنابة وعرفة وغيرها.

والظّاهر هو الثّاني ، لأنّه الفعل المذكور قبله ، والجارّ ومجروره يتعلّقان بالفعل المذكور في الكلام ، لا بكل ما يصلح ويمكن أن يتعلقا به ، فإذا ورد أكرم كلّ عالم في البلد ظاهره أنّ في البلد متعلّق بالإكرام ، فيجب الإكرام في البلد لكلّ عالم ، لا أنّه متعلِّق بالعالم حتى يدلّ على كفاية الإكرام لعلماء البلد ولو كان الإكرام في غير ذلك البلد ، وعليه فالصحيحة تدلّنا على أنّ الإتيان بغسل الجنابة مجزئ عن غيره من الأغسال وإن لم ينوها حال الاغتسال ، هذا أوّلاً.

على أنّا لو سلّمنا عدم ظهور الجملة في كون الجار والمجرور متعلّقين بالإجزاء وكانت الجملة مجملة من هذه الجهة فيكفينا ذيل الصّحيحة أعني قوله « إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » ، حيث إنّه مطلق وليس قوله « غسل واحد » محلّى باللاّم ليحمل على كونه إشارة إلى الغسل المذكور في صدر الصحيحة الّذي بنينا على إجماله ، وإنّما هو نكرة ومقتضى إطلاقه كفاية غسل الجنابة عن بقيّة الأغسال الواجبة نواها حال الاغتسال أم لم ينوها.

ويدلُّ على ما ذكرناه مرسلة جَميل بن دَرّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام « أنّه قال : إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (١) ، بل هي صريحة في ما هو محل الكلام في المقام أعني إجزاء غسل الجنابة عن غيره ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين نيّة البقيّة وعدمها ، إلاّ أنّها لإرسالها لم يستدلّوا بها في المقام ، هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثّاني أعني ما إذا اغتسل غسلاً واجباً غير الجنابة ولم ينو غيره ، فهل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٢.

٥٥

هذا يجزئ عن الأغسال الواجبة عليه كالجنابة ومسّ الميت عند الاغتسال من الحيض مثلاً؟

الصحيح أنّه أيضاً مجزئ عن الأغسال الواجبة عليه وإن لم ينوها حال الاغتسال كما ذهب إليه الماتن وغيره ، وذلك لإطلاق صحيحة زرارة « إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (١) ، فلو اغتسل من الحيض غافلاً عن جنابته أو مسّه الميت أجزأه ذلك بمقتضى إطلاق الصحيحة ، لأنّا وإن بنينا على أنّ المتيقن من صدر الصّحيحة هو الجنب وكفاية غسله من الجنابة عن غيرها ، إلاّ أنّه عليه‌السلام بعد بيان هذا المورد بالخصوص أدرجه تحت ضابط كلِّي وحكم في ذيلها على أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الحقوق المجتمعة على المكلّف مطلقاً ، كان غسله هذا من الجنابة أو من غيرها ، هذا.

وقد استدلّ على عدم كفاية غير غسل الجنابة من الأغسال الواجبة عن غسل الجنابة وغيره بما ورد في الحائض من أنّها تجعل غسل الجنابة والحيض واحداً وتغتسل عنهما ، وما دلّ على أنّ الحائض جنب ويجب عليها الغسل للجنابة ، إذ لو كان غسل الحيض مسقطاً لغيره من الأغسال الواجبة الّتي منها الجنابة فما معنى أنّها تجعل الغسلين واحداً وأنّ غسل الجنابة واجب عليها ، وإليك بعض النّصوص.

منها : موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سئل عن رجل أصاب من امرأة ثمّ حاضت قبل أن تغتسل ، قال : تجعله غسلاً واحداً » (٢).

ومنها : موثقة حجّاج الخشاب قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ ، أتجعله غسلاً واحداً إذا طهرت أو تغتسل مرّتين؟ قال : تجعله غسلاً واحداً عند طهرها » (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٢ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٥.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٦٤ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٦.

٥٦

ومنها : موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن المرأة يواقعها زوجها ثمّ تحيض قبل أن تغتسل ، قال : إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإن لم تفعل فليس عليها شي‌ء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلاً واحداً للحيض والجنابة » (١) إلى غير ذلك من الأخبار.

ولكن الصّحيح عدم دلالتها على المدعى ، وذلك لأنّها إنما وردت في أنّ الحائض المجنبة هل يجب عليها أن تقدّم غسلها من الجنابة أو لها أن تؤخره إلى نقائها من الحيض حتّى تغتسل عنهما غسلاً واحداً ، وقد دلّت على عدم وجوب تقديمه عليها وأنّها مخيّرة بين تقديم غسل الجنابة وتأخيره ، وعند تأخيره لها أن تغتسل غسلاً واحداً ناوية لهما ، ولا إشكال في ذلك إلاّ أنّها لم تدل على أنّها إذا أخرت الجنابة واغتسلت من الحيض غافلة عن جنابتها لا يكون غسل الحيض مسقطاً للجنابة وهذا هو محل البحث والكلام ، فهذه الأخبار غير وافية للمدعى.

والعمدة موثقة سَماعة بن مِهران عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام « قالا : في الرّجل يجامع المرأة فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة ، قال : غسل الجنابة عليها واجب » (٢) ، حيث إنّ اغتسالها من الحيض لو كان يكفي عن جنابتها فما معنى وجوب غسل الجنابة عليها؟

إلاّ أنّ التّحقيق أنّها أيضاً ملحقة بالأخبار المتقدّمة ولا دلالة لها على عدم كفاية غسل الحيض عن الجنابة ، وذلك لأنّها ناظرة إلى أن طروء حدث الحيض هل يرفع حدث الجنابة المتحقّق قبله أو أنّ المرأة مع كونها محدثة بالجنابة تتصف بحدث الحيض فلا يكون الثّاني رافعاً له حتّى لا تجب عليها غير غسل الحيض فلها حدثان لا بدّ من رفعهما. وقد استفدنا من الأخبار المتقدّمة أنّ لها رفع حدث الجنابة متقدِّماً باستقلاله كما لها أن تصبر وترفعهما بغسل واحد للحيض والجنابة ، وأمّا أنّها إذا‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٤ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٤ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٨.

٥٧

اغتسلت للحيض بعد نقائها ولم تنو الجنابة لا يكون هذا مسقطاً لوجوب غسل الجنابة فلا دلالة للموثقة على ذلك فإطلاق صحيحة زرارة غير معارض بشي‌ء.

نعم ، يبقى الكلام في أنّ غسل الحيض إذا كان كافياً ورافعاً للجنابة حتّى فيما إذا لم تنوها فما ثمرة إيجاب غسل الجنابة على الحائض؟

والجواب عن ذلك أن المستفاد من الأخبار المتقدّمة أنّ الحائض مخيّرة بين رفعها الجنابة مستقلّة وبين تأخيرها إلى أن ينقطع حيضها وتغتسل عنهما بغسل واحد ، وثمرة تشريع غسل الجنابة وإيجابه عليها تظهر فيما إذا أرادت الحائض بعد انقطاع دمها وقبل اغتسالها أن تصوم قضاء لصوم شهر رمضان ، حيث إنّ صوم شهر رمضان يعتبر في صحّته عدم تعمد البقاء على الجنابة وعلى الحيض ، فلو بقي عليهما متعمداً بطل صومه ، وأمّا قضاء صوم رمضان فهو إنّما يشترط فيه عدم تعمد البقاء على الجنابة فحسب ، ولا يعتبر في صحّته عدم تعمد البقاء على حدث الحيض ، فلو انقطع حيضها ولم تغتسل منه قبل الفجر إلاّ أنها اغتسلت من الجنابة قبله صحّ قضاؤها ، فلو لم يجب عليها غسل الجنابة حتّى ترفع به حدث الجنابة قبل أن تغتسل من الحيض لم تتمكن من قضاء صوم رمضان فيما إذا تركت الاغتسال من الحيض قبل الفجر.

فالإنصاف أنّه لا شبهة في أنّ الأغسال الواجبة تكفي عن غيرها وإن لم تنو تلك الأغسال حال الاغتسال ، هذا.

على أنا لو سلمنا تماميّة دلالة الأخبار المتقدِّمة على أنّ الاغتسال من الحيض لا يسقط وجوب غسل الجنابة فيما إذا لم تنوه فلنقتصر على ذلك للأخبار ونحكم بأن غسل الحيض لا يكفي عن غسل الجنابة ، وأمّا أن غيره من الأغسال الواجبة لا يكفي عن غيره كغسل مسّ الميت مثلاً بالإضافة إلى الجنابة فلا دلالة في الأخبار السابقة عليه ، وإطلاق صحيحة زرارة سليم عن المعارض.

٥٨

وأداءً بالنسبة إلى البقيّة (١) ، ولا حاجة إلى الوضوء إذا كان فيها الجنابة (٢) وإن كان الأحوط مع كون أحدها الجنابة أن ينوي غسل الجنابة ، وإن نوى بعض‌

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) لا امتثالاً لها ، لعدم قصدها على الفرض.

لا يجب الوضوء إذا اغتسل لغير الجنابة مع كونها عليه‌

(٢) إذا اغتسل لغير الجنابة كما إذا اغتسل لمس الميت مثلاً وكانت عليه جنابة وقلنا بكفاية ذلك عن غسل الجنابة وإن لم ينوه حال الاغتسال فهل يجب عليه أن يتوضّأ معه أو لا يجب عليه الوضوء؟

إذا قلنا بأن كلّ غسل يغني عن الوضوء فلا إشكال في عدم وجوب الوضوء حينئذ ، لأنّه قد اغتسل لمس الميت ونواه وهو يغني عن الوضوء ، نظير ما إذا اغتسل للجنابة فحسب.

وأمّا إذا لم نقل بإغناء كلّ غسل عن الوضوء أو كان الغسل غسل الاستحاضة المتوسطة الّذي قلنا إنّه لا يرفع الحدث الأصغر أي لا يغني عن الوضوء. فقد يقال بوجوب الوضوء حينئذ ، لأنّ غسله لمس الميت أو للاستحاضة ونحوهما وإن كان يكفي عن غسل الجنابة إلاّ أنّ مقتضى الصّحيحة (١) الدالّة على الإجزاء والكفاية أنّ الغسل الواجب يسقط الأمر بغسل الجنابة ، حيث عبّر بالإجزاء فلا يجب عليه بعد ذلك الغسل للجنابة ، ولم يدل على أنّ غسل مس الميت مثلاً منزّل منزلة غسل الجنابة ، وبينهما فرق واضح ، حيث إنّ غسل المس لو كان منزّلاً منزلة غسل الجنابة لترتبت عليه جميع الآثار المترتبة على غسل الجنابة الّتي منها إغناؤه عن الوضوء لأنّ البدل في حكم المبدل لا محالة ، وأمّا إذا لم يدل الدليل إلاّ على أنّ ذلك الغسل يوجب سقوط الأمر بغسل الجنابة فإنّه لا يقتضي ترتب جميع آثار غسل الجنابة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

٥٩

المستحبّات كفى أيضاً عن غيره من المستحبّات ، وأمّا كفايته عن الواجب ففيه إشكال وإن كان غير بعيد ، لكن لا يترك الاحتياط (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه ، بل لا يترتب عليه غير أنّه ليس بجنب بعد الاغتسال ، وأمّا أنّه لا يجب الوضوء عليه فلا.

والأخبار الواردة في أنّه لا وضوء قبل غسل الجنابة ولا بعده (١) تختص بما إذا أتى بغسل الجنابة أو بما هو منزّل منزلته ، ولا دلالة لها على أنّه لا وضوء قبل الغسل المسقط للأمر بغسل الجنابة ولا بعده ، ومعه يجب عليه الوضوء لا محالة ، هذا.

ولكن الصّحيح وفاقاً للماتن قدس‌سره عدم وجوب الوضوء في المسألة ، وهذا لا للأخبار النافية للوضوء قبل غسل الجنابة وبعده ، بل لما قدّمناه من أنّ مقتضى الآية المباركة ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... ) (٢) أنّ المكلّف المحدث على قسمين : محدث غير جنب فوظيفته الوضوء ، ومحدث جنب ووظيفته الاغتسال ، وحيث إنّ المكلّف محدث بالجنابة في مفروض المسألة فلا مقتضى في حقّه للوضوء ، وإنّما وظيفته الاغتسال وقد حقّقه غسله من المسّ أو غيره ، فعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى عدم المقتضي له ، هذا كلّه في إغناء الغسل الواجب عن غسل واجب آخر.

نيّة بعض الأغسال المندوبة تكفي عن غيره‌

(١) إذا اغتسل للجمعة أو لغيرها من المستحبّات ولم ينو غسل الجنابة أو المس أو غسلاً مستحبّاً آخر فهل يكفي ذلك عمّا في ذمّته من الأغسال الواجبة أو المستحبّة أو الواجب بعضها والمستحب بعضها الآخر أو لا يكفي؟

التحقيق إغناء الغسل الاستحبابي عن جميع الأغسال الواجبة والمستحبّة ، وذلك‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

٦٠