موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وشرطيّته للأعمال غير الواجبة الّتي يشترط فيها الطّهارة (١).

[٧٦٨] مسألة ٢٥ : غسل الحيض كغسل الجنابة مستحب نفسي (٢) ، وكيفيّته مثل غسل الجنابة في الترتيب والارتماس وغيرهما ممّا مرّ (٣) ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) أي الأعمال غير الواجبة وغير المستحبّة ولكن مع توقفها على الطّهارة كمسّ كتابة القرآن ، فإنّ الغسل والطّهارة شرط لجوازه.

الاستحباب النفسي لغسل الحيض‌

(٢) والدليل على أنّ غسل الحيض مستحب نفسي أمران :

أحدهما : أنّ الغسل من أعظم الطّهارات ، والطّهارات كلّها مستحبّة نفسيّة شرعاً.

ثانيهما : لو لم نلتزم باستحباب الطّهارات في أنفسها فلنا أن نستدل على استحبابها النّفسي بطريق ثان ، بأن يقال إنّا أسبقنا في محلّه أنّ المقدّمة لا تتصف بالأمر الغيري بوجه ، وعلى فرض تسليم أنّها تتصف بالأمر الغيري شرعاً فلا إشكال في أنّه أمر توصّلي لا يعتبر في امتثاله قصد التقرّب بوجه ، فلا يمكن أن يكون الأمر الغيري التوصلي منشأً للعباديّة في شي‌ء ، مع أنّ الطّهارات الّتي منها الغسل يعتبر فيها قصد التقرّب قطعاً ، فإذن نسأل عن أنّ عباديّة تلك الطّهارات نشأت من أيّ شي‌ء؟ فلا وجه لها إلاّ كونها مستحبّة نفساً كما ذكرناه ، بلا فرق في ذلك بين الغسل والوضوء والتيمم.

كيفيّة غسل الحيض‌

(٣) ويدلّ عليه أيضاً أمران :

أحدهما : الرّواية الواردة في أنّ غسل الجنابة والحيض واحد ، وهي موثقة الحَلَبي (١) وقد دلّت على أنّ الكيفيّة المعتبرة في غسل الجنابة هي الكيفيّة المعتبرة في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣١٥ / أبواب الحيض ب ٢٣ ح ١.

٤٠١

والفرق أنّ غسل الجنابة لا يحتاج إلى الوضوء بخلافه ، فإنّه يجب معه الوضوء (١) قبله أو بعده أو بينه إذا كان ترتيبيّاً (١)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غسل الحيض من لزوم غسل الرأس والرقبة أوّلاً وغسل الجانب الأيمن ثانياً ثمّ غسل الجانب الأيسر أو من غير ترتيب.

ثانيهما : أنّ الطبيعة الواحدة إذا بيّنت كيفياتها في مورد ، كما إذا ورد أنّ الصّلاة أوّلها التكبيرة ثمّ قراءة الفاتحة ثمّ الرّكوع إلى آخر أجزاء الصّلاة في مورد ، وبعد ذلك ورد في مورد ثان أنّ الصّلاة في اللّيل كذا ، فإنّ المتفاهم العرفي من مثله هو الكيفيّة الّتي وردت في ذلك المورد ولا منصرف للذهن إلاّ إليها ، وهذا أمر عرفي يعرفه كلّ أحد.

هل غسل الحيض يغني عن الوضوء‌

(١) الكلام في هذه المسألة يقع تارة في غسل الجنابة ، وأُخرى في غيره من الأغسال الّتي منها غسل الحيض.

أمّا غسل الجنابة فلا إشكال في أنّه يغني عن الوضوء ولا يجب معه وضوء ، بل الوضوء مع غسل الجنابة بدعة محرمة كما في بعض الرّوايات.

ويدلّ على ما ذكرناه الكتاب والسنّة. أمّا الكتاب فقوله تعالى ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ... ) (٢) حيث إنّ الآية المباركة اشتملت على تفصيلين :

أحدهما : التفصيل بين واجد الماء وبين فاقده ، وأوجبت على الأوّل الغسل والوضوء وعلى الثّاني التيمم بالصعيد.

__________________

(*) على الأحوط وسيأتي عدم الحاجة إليه وبذلك يظهر الحال في المسألة الآتية.

(١) المائدة ٥ : ٦.

٤٠٢

وثانيهما : التفصيل في المحدث بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، فإنّ الآية المباركة ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... ) فسّرت بالقيام إليها من النوم ، فسواء أُريد منها القيام إلى الصّلاة من النّوم أو من غيره من الأحداث فرضت الآية المباركة المكلّف محدثاً بالحدث الأصغر وأوجبت عليه الوضوء ، ثمّ فرضته محدثاً بالجنابة حيث قال تعالى ( ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... ) وأوجبت عليه الغسل. ومن الظّاهر أن التفصيل قاطع للشركة ، فدلّت الآية المباركة على أنّ الوضوء إنّما يجب على من قام إلى الصّلاة من غير حدث الجنابة ، وأمّا المحدث بحدث الجنابة فهو مكلّف بالغسل دون الوضوء.

وأمّا السنّة فقد دلّت الرّوايات المستفيضة على أنّه لا وضوء مع غسل الجنابة لا قبله ولا بعده (١) ، بل ورد في بعضها أنّ الوضوء معه بدعة محرمة (٢). نعم في موثقة أبي بكر الحضرمي (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام الأمر بالوضوء قبل غسل الجنابة ، إلاّ أنّها محمولة على التقيّة لموافقتها العامّة ومخالفتها للكتاب والسنّة ، فإنّ العامّة ذهبوا إلى لزوم الوضوء قبل غسل الجنابة.

بل وفي بعض الأخبار : « قلت له عليه‌السلام إنّ أهل الكوفة يروون عن علي عليه‌السلام أنّه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة ، قال : كذبوا على عليّ عليه‌السلام ، ما وجدوا ذلك في كتاب علي عليه‌السلام ، قال الله تعالى ( ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... ) » (٤).

هذا على أنّ المسألة متسالم عليها بينهم.

وأمّا غير غسل الجنابة من الأغسال فالكلام فيه قد يقع من حيث مقتضى القاعدة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٦ ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٤ و ٣٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٥ و ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٣ ح ٥ فيه ( أنّ الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة ) وح ٦ و ٩ و ١٠ فيها ( أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة ).

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٧ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ٦.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٤٧ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ٥.

٤٠٣

وأنّها ماذا تقتضي؟ وأُخرى من جهة الأخبار الواردة في المقام.

الجهة الأُولى : فقد يفرض المكلّف متوضئاً قبل طروء أسباب الغسل عليه ، كما إذا توضأت ثمّ استحيضت أو نفست أو مسّ الميت أو غير ذلك من الأسباب المقتضية للاغتسال بحيث كان باقياً على وضوئه إلى زمان طروء الأسباب عليه. نعم هذه الصورة بعيدة في حقّ الحائض لأنّ أقلّه ثلاثة أيّام ، ويبعد بل لا يتحقّق بقاء الوضوء من قبل ثلاثة أيّام إلى آخرها حتّى تغتسل. وهذا بخلاف بقيّة الأغسال ، إذ يمكن بقاء المكلّف على وضوئه قبل النّفاس إلى آخره حتّى تغتسل ، لأنّ النّفاس قد يتحقّق بلحظة أو ساعة ، وكذلك الاستحاضة أو مسّ الميت ، فإنّ الوضوء في هذه الموارد يمكن بقاؤه في نفسه إلى زمان الاغتسال بخلاف الحيض ، إذ لطول مدّته لا يمكن معه فرض المكلّفة باقية على وضوئها إلى زمان الاغتسال منه.

وفي هذه الصّورة مقتضى القاعدة الأوّلية عدم وجوب الوضوء مع الغسل ، وهذا لا لأنّ الغسل يغني عن الوضوء ، بل لأنّ المقتضي لوجوب الوضوء قاصر في نفسه حيث إنّ المكلّف على ما هو مفروض الكلام كان متطهراً قبل أن يمسّ الميت أو تستحاض أو تنفس ولم يعلم انتقاضه بطروء هذه الأسباب في حقّه ، لأنّ نواقض الوضوء محصورة فيما يخرج عن طرفيك اللّذين أنعم الله بهما عليك أو في ثلاثة أُمور على ما في بعض الأخبار الأُخر (١) ، وليس منها هذه الأسباب المقتضية للاغتسال ، نعم الجنابة ناقضة للوضوء ولا وضوء مع غسلها كما سبق ، إلاّ أنّ كلامنا في غير غسل الجنابة كما هو المفروض ، فمقتضى القاعدة في هذه الصّورة هو عدم وجوب الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال.

وقد يفرض المكلّف غير متوضئ حال مسّه الميت أو استحاضتها أو غيرها من الأسباب ، ومقتضى القاعدة حينئذ هو وجوب الوضوء مع تلك الأغسال ، لأنّه غير متوضئ على الفرض ، وإجزاء الأغسال عنه يتوقّف على دلالة الدليل عليه كما دلّ في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢.

٤٠٤

غسل الجنابة ، ولم يقم عليه دليل لأنّ كلامنا فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النّظر عن الأخبار.

الجهة الثّانية : الأخبار الواردة في المسألة وهي على طائفتين :

الطائفة الاولى من الأخبار‌

إحداهما : ما دلّ على وجوب الوضوء في غير غسل الجنابة من الأغسال.

منها : مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : كلّ غسل قبله وضوء إلاّ غسل الجنابة » (١) ، نعم يمكن رفع اليد عن تقييدها بكون الوضوء قبل الاغتسال بما دلّ على جوازه بعده أو في أثنائه ، والكلام في لابديّة وقوع الوضوء قبل الغسل أو جواز أن يؤتى به بعده أو قبله أو في أثنائه يأتي تفصيله موضّحاً بعد ذلك إن شاء الله.

ومنها : ما رواه حَمّاد بن عثمان أو غيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : في كلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة » (٢).

ومنها : ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام « قال : إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضّأ واغتسل » (٣).

هذه هي الأخبار الواردة في لزوم الوضوء مع غير غسل الجنابة من الأغسال ، إلاّ أنّها غير قابلة للاعتماد عليها ، لضعفها بحسب السند والدّلالة.

أمّا بحسب السند فلأنّ الرّواية الأُولى مرسلة ، ولا يعتمد على المراسيل في الاستدلال ودعوى أنّ مرسلها ابن أبي عمير وهو لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة قد سبق الجواب عنها غير مرّة.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ٣.

٤٠٥

وأمّا الرّواية الثّانية فلعدم العلم بالراوي المنقول عنه وأنّه هل هو حماد بن عثمان أم غيره؟ فالرواية بحكم المرسلة لعدم علمنا بغيره وأنّه ثقة أو ليس بثقة.

ودعوى أنّ الرّواية مسندة إلى حماد بن عثمان في كلام العلاّمة (١) والشهيد (٢) قدس‌سرهما ، حيث رويا هذه الرّواية عنه وأسندوها إلى حماد من دون تردّد في الإسناد ، وحماد بن عثمان ممّن لا إشكال في قبول روايته.

مندفعة بأنّه من البعيد غايته أن يروي العلاّمة والشهيد قدس‌سرهما هذه الرّواية عن نفس كتاب حماد من دون التنبيه عليه ، فإنّ الظّاهر أنّهما روياها عن الشيخ (٣) ، وغاية ما يمكن أن يصحّح روايتهما حينئذ أن يقال : إنّهما أسقطا « أو غيره » للتسامح ، فإنّ حماداً نسبت إليه هذه الرّواية غاية الأمر لا عن جزم ، أو يقال : إنّ النّسخة الموجودة عندهما من التّهذيب لم يكن فيها لفظة « أو غيره » ، فتدخل الرّواية في اختلاف النسخ ولا يعتمد عليها حينئذ ، لعدم العلم بمن هو الرّاوي عن الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الرّواية الثّالثة فلأنّ في سندها سليمان بن الحسن (٤) ، وهو مجهول لم يوثق في الرّجال.

وأمّا بحسب الدلالة فلأنّ الرواية الثّالثة إنّما وردت في غسل الجمعة ، وهو من المستحبّات ولا يجري فيها قانون الإطلاق والتقييد ، بل يحمل المقيّد منها على أفضل الأفراد ، فيكون غسل الجمعة الّذي قبله أو بعده وضوء من أفضل أفراد غسل الجمعة ، لا أنّ الغسل يعتبر أن يكون مع الوضوء ، فلا دلالة لها على أنّ الغسل لا يغني عن الوضوء.

__________________

(١) منتهى المطلب ٢ : ٢٣٩ / في أحكام الجنب.

(٢) الذكرى : ٢٦ السطر ٣٥ / في الغسل.

(٣) التهذيب ١ : ١٤٣ / الرقم [٤٠٣] في حكم الجنابة.

(٤) في التهذيب : الحسين بدل الحسن ، وهو الصّحيح فإنّ سليمان بن الحسين كاتب لعلي بن يقطين كما ورد في رواية أُخرى ، وهو موجود في تفسير القمّي.

٤٠٦

وأمّا الرّوايتان الأُوليان فلأنّ الأخبار الواردة في إغناء غسل الجنابة عن الوضوء اشتمل بعضها (١) على أنّ الوضوء على غسل الجنابة بدعة محرمة ، ومعه يكون استثناء غسل الجنابة قرينة على أنّ المراد من صدرهما أنّ الوضوء مشروع في غير غسل الجنابة من الأغسال ، فلا دلالة لهما على أنّ بقيّة الأغسال لا تغني عن الوضوء ومن تلك الرّوايات ما عن الفقه الرّضوي (٢) إلاّ أنّه ممّا لا يمكن الاعتماد عليه.

الطائفة الثّانية من الأخبار‌

الطائفة الثّانية : وهي الّتي تدلّ على أنّ الغسل يغني عن الوضوء ، وهي جملة من الأخبار فيها روايات معتبرة وقابلة للاعتماد عليها.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : الغسل يجزئ عن الوضوء ، وأيّ وضوء أطهر من الغسل » (٣) ، وقد دلّت على أنّ طبيعة الغسل تغني عن الوضوء ، وقد حملها بعض الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) على غسل الجنابة ، إلاّ أنّه مضافاً إلى كونه تقييداً بلا مقتض ، لإطلاق الرّواية لا يلائم التعليل الّذي ظاهره أنّ مطلق الغسل أطهر من الوضوء لا خصوص غسل الجنابة ، وإلاّ لبينه عليه‌السلام ، وإرادة خصوص غسل الجنابة منه خارجاً يستلزم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن.

ومنها : ما عن محمّد بن عبد الرّحمن الهمداني « كتب إلى أبي الحسن الثّالث يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة ، فكتب عليه‌السلام : لا وضوء للصلاة في غسل يوم الجمعة ولا غيره » (٤).

ومنها : ما عن عمّار الساباطي قال « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرّجل إذا‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٥ / أبواب الجنابة ب ٣٣.

(٢) المستدرك ١ : ٤٧٦ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٤ / أبواب الجنابة ب ٣٣ ح ١.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٤٤ / أبواب الجنابة ب ٣٣ ح ٢.

٤٠٧

اغتسل من جنابته أو يوم الجمعة أو يوم عيد هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده فقال : لا ، ليس عليه قبل ولا بعد ، قد أجزأه الغسل ، والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد ، قد أجزأها الغسل » (١).

ومنها : غير ذلك من الرّوايات (٢).

ومعها لا مناص من الحكم بعدم الفرق بين غسل الجنابة والحيض وغيرهما ، وأنّ الغسل بإطلاقه يغني عن الوضوء كما ذهب إلى ذلك جملة من المحقّقين من متأخري المتأخرين.

نعم ، يستثني من ذلك غسل الاستحاضة المتوسّطة ، لدلالة النص الخاص على أنّ المرأة يجب أن تتوضأ لكلّ صلاة وإن كانت تغتسل مرّة لكلّ يوم على ما أشرنا إليه في التعليقة ، ولأجل تماميّة الأخبار النافية للوضوء مع الغسل نلتزم بما ذكرناه.

على أنّا لو سلمنا تماميّة الطائفة الأُولى أيضاً من حيث السند والدلالة فالطائفتان متعارضتان والجمع الدلالي ممكن بينهما ، وهو حمل الطائفة الثّانية على عدم وجوب الوضوء مع الغسل ، وحمل الطائفة الأُولى على مشروعيّته معه وإن لم يكن بواجب هذا.

وربما يستدلّ على إغناء كلّ غسل عن الوضوء بأنّ الأخبار الواردة في الأغسال على كثرتها من الحيض والجنابة ومسّ الميت والاستحاضة والنّفاس ساكتة عن بيان وجوب الوضوء مع الأغسال ، فلو كان واجباً معها لكان عليهم عليهم‌السلام البيان كباقي الواجبات مع الغسل ، ومن سكوت الأخبار وهي في مقام البيان نستكشف عدم وجوب الوضوء مع الغسل وأنّه يغني عن الوضوء مطلقاً.

وهذا الاستدلال يتمّ على بعض الوجوه ولا يتمّ على بعض الوجوه الأُخر ، لأنّ المحتملات بناءً على عدم إغناء الغسل عن الوضوء ثلاثة :

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٤ / أبواب الجنابة ب ٣٣ ح ٣.

(٢) نفس الباب.

٤٠٨

أحدها : أن يقال إنّ سبب الغسل ناقض للوضوء أيضاً ، ومع تحقّق الناقض لا يبقى الوضوء بحاله ، فلو كان المكلّف على وضوء ثمّ مسّ ميتاً أو حاضت المرأة أو طرأ غيرهما من الأسباب فقد ارتفع الوضوء بنفسه ، فلا بدّ له من التوضّؤ لما يشترط فيه الوضوء.

ثانيهما : أنّ سبب الغسل وإن لم يكن من نواقض الوضوء إلاّ أنّ الوضوء أمر مقوّم للغسل ومن قيود الغسل ، فكما أنّ الغسل يعتبر فيه غسل الرأس والرقبة والجانبين ومع الإخلال بشي‌ء منها يبطل الغسل ، كذلك الحال بالنسبة إلى الوضوء ، لأنّه شرط في صحّة الغسل ومع عدم الإتيان بالوضوء يحكم ببطلان غسله أيضاً.

ثالثها : أن يقال إنّ سبب الغسل وإن لم يكن من نواقض الوضوء ولا إنّه من شروطه ومقوماته ، إلاّ أنّ الوضوء إذا وجب بسببه كالنوم والبول وغيرهما لا يغني عنه الغسل ، وحاصله أنّ الغسل في المحدث بالحدث الأصغر لا يغني عن الوضوء من دون أن يكون ناقضاً له أو شرطاً للغسل.

والاستدلال بسكوت الإمام عليه‌السلام في الرّوايات الواردة في الأغسال على كثرتها عن وجوب الوضوء معها يتمّ على الاحتمالين الأوّلين ، وذلك لأنّ سبب الغسل لو كان موجباً لانتقاض الوضوء أيضاً فلم لم يتعرّضوا له عند التعرّض لما يترتّب على السبب من الأُمور ، مضافاً إلى أنّ نواقض الوضوء محصورة ، وليس منها الأسباب الموجبة للاغتسال.

كما أنّ الوضوء لو كان شرطاً مقوّماً للغسل كبقيّة الأجزاء والشروط فلم سكتوا عن بيان الاشتراط في الأخبار الواردة في الأغسال على كثرتها ، فمن السّكوت في مقام البيان نستكشف عدم كون الأسباب من نواقض الوضوء وعدم كونه شرطاً مقوماً للغسل ، فالأغسال مغنية عن الوضوء.

وأمّا على الاحتمال الثّالث فلا يمكن استكشاف أنّ الأغسال مغنية عن الوضوء من سكوتهم عليهم‌السلام عن بيان ما يجب بتلك الأسباب من الوضوء أو غيره ، وذلك لأنّ الرّوايات الواردة في وجوب الأغسال بأسبابها على كثرتها إنّما هي بصدد بيان ما‌

٤٠٩

يجب على المكلّف بذلك السبب من الحيض والنّفاس وغيرهما ، أي أنّها بصدد بيان ما يترتّب على تلك الأسباب ، لا بصدد بيان ما يترتّب على أسباب أُخر من النّوم والبول وغيرهما من أسباب الوضوء.

بل مقتضى إطلاق أدلّته وجوب الوضوء مع السبب الموجب للغسل أيضاً ، وذلك لأنّ قوله تعالى ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) (١) مطلق يشمل ما إذا وجد مع سبب الوضوء ما هو سبب للغسل أيضاً ، فإن من نام وأراد الصّلاة إلاّ أنّه مسّ الميت أيضاً مشمول للآية المباركة ، ومن هنا قلنا إنّ مقتضى القاعدة عدم إغناء الغسل عن الوضوء ، فإن إجزاء الغسل عن الوضوء يحتاج إلى دليل وإلاّ فإطلاق أدلّته يقتضي وجوبه مع الاغتسال أيضاً. فهذا الاستدلال إنّما يتمّ على الوهمين الأوّلين.

هل يجب تقديم الوضوء

ثمّ إنّه بناءً على القول بوجوب الوضوء مع الغسل أو بجوازه معه فهل لا بدّ من إتيانه قبل الغسل أو أنّ له أن يأتي به بعده وفي أثنائه إذا كان غسله تدريجيّاً أي ترتيبيّاً؟

مقتضى المرسلة الثّانية لابن أبي عمير (٢) وهي الّتي رواها عن حماد أو غيره جواز الإتيان بالوضوء قبل الغسل وبعده ، وأمّا مرسلته الاولى (٣) الّتي دلّت على أنّ كلّ غسل قبله وضوء إلاّ الجنابة فهي لا تكون مقيّدة لإطلاق المرسلة الثّانية ، لاحتمال كونهما رواية واحدة لأنّهما مرويتين عن ابن أبي عمير ، ولكن الصحيح أنّهما روايتان متعددتان ، ومجرّد وقوع ابن أبي عمير في أثناء السندين لا يجعلهما رواية واحدة ، فإن إحداهما يرويها ابن أبي عمير عن رجل ، والأُخرى يرويها عن حَمّاد أو غيره ، وكم فرق بينهما.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ١.

٤١٠

ومع التعدّد لا بدّ من الالتزام بالتقييد فيما إذا قلنا بوجوب الوضوء مع كلّ غسل سوى الجنابة ، فيتحصّل أنّ الوضوء لا بدّ من وقوعه قبل كلّ غسل ولا يجوز بعده أو في أثنائه.

وأمّا إذا قلنا بجوازه ومشروعيّته فلا يمكننا التقييد ، لأنّ المستحبّات لم يلتزموا فيها بقانون الإطلاق والتقييد بل أخذوا بكليهما ، فإنّه إذا ورد الأمر بزيارة الحسين عليه‌السلام في كلّ يوم وورد الأمر بزيارته في خصوص يوم عاشوراء لا يمكننا تقييد الحكم باستحباب زيارة الحسين عليه‌السلام بيوم عاشوراء فقط ، بل نلتزم بأنّ زيارته مستحبّة في كلّ يوم كما أنّها مستحبّة في يوم عاشوراء ، وعليه ففي المقام لا بدّ من الالتزام بجواز الوضوء واستحبابه قبل كلّ غسل وبجوازه مطلقاً سواء كان بعده أم قبله ، هذا.

ولكن الصحيح أنّ الوضوء لا بدّ أن يقع قبل كلّ غسل سواء قلنا باستحبابه أم بوجوبه ، وذلك لما ورد من أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة (١) ، فلا مناص من الالتزام بعدم جوازه بعد الغسل.

ودعوى : أنّ المراد بالغسل في تلك الرّوايات هو غسل الجنابة لا مطلق الأغسال ، مندفعة : بأن غسل الجنابة لا يجوز الوضوء قبله ولا بعده بمقتضى غير واحد من الأخبار ، ومعه لو حملنا ما دلّ على أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة على خصوص الجنابة لزم اللغويّة في كلام الإمام عليه‌السلام ، لأنّ التقييد بالبعديّة لغو ، إذ لا أثر للبعديّة على الفرض.

ثمّ إنّا لو قلنا بلزوم وقوع الوضوء قبل الغسل بالمرسلتين السابقتين فلا يجوز الوضوء لا بعد الغسل ولا في الأثناء لأنّهما خلاف القبليّة ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بلزوم التقديم من باب ما دلّ على عدم مشروعيّة الوضوء بعد الغسل ، لأنّ الإتيان بالوضوء حينئذ قبل الغسل أو في أثنائه جائز ، لعدم صدق البعديّة عليهما.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٥ / أبواب الجنابة ب ٣٣.

٤١١

والأفضل في جميع الأغسال جعل الوضوء قبلها (١).

[٧٦٩] مسألة ٢٦ : إذا اغتسلت جاز لها كلّ ما حرم عليها بسبب الحيض (٢) وإن لم تتوضّأ ، فالوضوء ليس شرطاً في صحّة الغسل ، بل يجب لما يشترط به كالصلاة ونحوها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) يأتي وجه ما اختاره قدس‌سره في التعليقة الآتية.

بالاغتسال يحلّ لها كلّ ما حرم عليها‌

(٢) ما أفاده قدس‌سره يتمّ على ما سلكناه من إغناء كلّ غسل عن الوضوء فإنّ المرأة على هذا إذا اغتسلت جاز لها كلّ ما حرم عليها من دخول المسجد والاجتياز عن المسجدين ومسّ كتابة القرآن وغيرها.

وكذلك يتمّ على ما سلكه قدس‌سره من عدم إغناء غير غسل الجنابة عن الوضوء مع الالتزام بجواز الوضوء قبله وبعده وفي أثنائه ، لحمل الأخبار الواردة في أنّ الوضوء بعد الغسل بدعة على الجنابة ، وترجيح الطائفة الدالّة على أن في كلّ غسل وضوءً إلاّ غسل الجنابة على الطائفة المعارضة لها ، ولو بدعوى كونها موافقة لعمل المشهور دون الطائفة المعارضة ، وحمل مرسلة ابن أبي عمير الدالّة على أن قبل كلّ غسل وضوءً إلاّ الجنابة على الاستحباب.

نظراً إلى أنّها لا يمكن أن تقيّد بها جميع المطلقات الواردة في مقام البيان ، على أنّها خلاف المشهور لعدم التزامهم بكون الوضوء قبل الغسل ، وحيث إنّ الرّوايات الدالّة على وجوب الوضوء في كلّ غسل سوى الجنابة مطلقة فمقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كون الوضوء قبل الغسل أو بعده أو في أثنائه ، إلاّ أنّ كونه قبل الغسل أفضل بمقتضى المرسلة المتقدّمة ، فإنّه على هذا أيضاً إذا اغتسلت الحائض لحيضها جاز لها كلّ ما حرم عليها من جهة الحيض وإن لم تتوضّأ ، إلاّ أنّها إذا تركت التوضّؤ مع الغسل لم يجز لها الدّخول فيما يشترط فيه الطّهارة من الحدث الأصغر كالصلاة ونحوها.

٤١٢

وأمّا إذا قلنا بعدم إغناء الغسل عن الوضوء من جهة أنّ الوضوء شرط لصحّة الغسل فلا يتمّ ما أفاده قدس‌سره بوجه ، لأنّ الحائض على ذلك لو اغتسلت وتركت التوضؤ قبله وبعده وفي أثنائه لم يحل لها ما حرم عليها بسبب الحيض ، لبطلان غسلها فإنّه مشروط بالوضوء ، ومع عدم الشرط يبطل المشروط.

وهذا القول هو الصحيح بناءً على عدم إغناء الغسل عن الوضوء ، والوجه في ذلك أنّ الأخبار دلّت على أنّ في كلّ غسل وضوءً إلاّ الجنابة أو أنّ قبل كلّ غسل وضوء إلاّ ... (١) ، ومحتملات هذه العبارة ثلاثة :

محتملات الرّواية

الأوّل : أن يقال إنّ في كلّ غسل يجب الوضوء وجوباً تعبديّاً شرعيّاً من دون أن يرتبط بالغسل ، بحيث لو اغتسلت الحائض ولم تتوضأ صحّ غسلها وإن ارتكبت معصية بتركها الوضوء الواجب في حقّها ، نظير ما إذا وجب عليها الوضوء مع الغسل بالنذر وشبهه ، لأنّها حينئذ لو تركت الوضوء واغتسلت صحّ غسلها وإن عصت بترك الوضوء الواجب في حقّها ، فعلى هذا لو اغتسلت الحائض جاز لها كلّ محرم بسبب الحيض وإن لم تتوضأ.

إلاّ أنّ هذا المحتمل خلاف ظاهر الرّواية ، لأنّ الأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط والمركّبات ظاهرة في الإرشاد إلى الشرطيّة والجزئيّة ، ولا ظهور لها في الوجوب النفسي بوجه ، ومقامنا هذا من هذا القبيل كما إذا قيل إنّ في كلّ صلاة وضوءً ، فإن ظاهره الإرشاد إلى شرطيّة الوضوء للصلاة.

الثّاني : أن يقال إنّ ظاهر الرّواية هو الشرطيّة ، بمعنى أنّ شرط صحّة الوضوء في حقّ المحدث بالحدث الأكبر هو الغسل ، فمن مسّ الميت أو حاضت وتوضّأت من دون أن تغتسل بطل وضوءها وإن صحّ غسلها ، وعلى ذلك إذا اغتسلت الحائض جاز لها كلّ ما حرم عليها بسبب حيضها وإن لم تتوضّأ.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥.

٤١٣

[٧٧٠] مسألة ٢٧ : إذا تعذّر الغسل تتيمم بدلاً عنه ، وإن تعذّر الوضوء أيضاً تتيمّم ، وإن كان الماء بقدر أحدهما تقدّم الغسل (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولكن يرد على هذا المحتمل أوّلاً : أنّه خلاف ظاهر الرّواية ، فإنّها سيقت لبيان وظيفة المغتسل في غسله وأنّه يعتبر في غسله أيّ شي‌ء ، لا أنّها بصدد بيان كيفيّة الوضوء وأنّ وظيفة المتوضئ أن يغتسل إذا كان محدثاً بالحدث الأكبر.

وثانياً : أنّ لازم هذا الكلام أنّ المحدث بالحدث الأكبر كمسّ الميت مثلاً لو اغتسل من دون وضوء لم يصحّ له الوضوء بعد ذلك أبداً إلى أن يحدث بحدث آخر بعد ذلك ويتوضأ مع الاغتسال عن ذاك الحدث ، وهذا ممّا نقطع بخلافه إذ لا يمكن الحكم في الشريعة المقدّسة بعدم صحّة الوضوء للمكلّف إلى أن يحدث بالأكبر ، وعليه يتعيّن الاحتمال الثّالث.

الثّالث : أنّ ظاهر الرّواية شرطيّة الوضوء للغسل ، فلا يصحّ الغسل من الحائض فيما إذا لم تتوضأ ، وهذا هو المتعيّن الصحيح بناءً على القول بعدم إغناء الغسل عن الوضوء.

وعليه فلا يتمّ ما أفاده الماتن قدس‌سره من أنّ الحائض إذا اغتسلت جاز لها كلّ ما حرم عليها بسبب الحيض وإن لم تتوضأ ، فإنّها إذا لم تتوضّأ بطل غسلها على هذا القول ولم يجز لها ما حرم بسبب حدث الحيض ، ولعلّ هذا من الموهنات لما ذهب إليه المشهور من عدم أغناه الغسل عن الوضوء إلاّ الجنابة ، فإنّ لازمه القول باشتراط الغسل بالوضوء ، وهو ممّا لا يلتزمه المشهور.

بدليّة التيمم عن غسل الحيض‌

(١) إذا قلنا بعدم إغناء الغسل عن الوضوء وكانت الحائض واجدة للماء بقدر غسلها ووضوئها وجبا عليها وهو ظاهر.

٤١٤

وإذا لم يكن عندها ماء أصلاً لا بمقدار غسلها ولا بقدر وضوئها وجب عليها أن تتيمّم مرّتين ، أحدهما بدلاً عن غسلها وثانيهما بدلاً عن وضوئها.

وهذا لا يفرق فيه بين القول بإغناء الغسل عن الوضوء وعدمه ، أمّا على الثّاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلأنّ الأدلّة الآمرة بالوضوء للمحدث بالحدث الأصغر مطلقة تشمل ما إذا اغتسل المكلّف وما إذا لم يجب عليه غسل كقوله تعالى ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) (١) ، وإنّما رفعنا اليد عن إطلاقها بما دلّ على أنّ الغسل يغني عن الوضوء ، وهذا مختصّ بنفس الغسل ، والتيمّم البدل عنه يحتاج إغناؤه عن الوضوء إلى دليل ولا دليل عليه ، بل مقتضى الإطلاقات في أدلّة الوضوء عدم كون التيمم البدل عن الغسل مغنياً عن الوضوء ، وبما أنّها غير متمكّنة من الوضوء فيجب عليها التيمّم بدلاً عن الوضوء أيضاً ، فوجوب التيمّم عليها مرّتين لا يفرق فيه بين القول بإغناء الغسل عن الوضوء وعدمه.

وثالثة : تتمكّن من الاغتسال دون الوضوء ، كما لو كان مالك الماء لا يرضى باستعمال الماء إلاّ في الاغتسال ، ولا كلام حينئذ في أنّه يجب عليها أن تغتسل وتتيمّم بدلاً عن الوضوء.

ورابعة : ينعكس الأمر ، فلا تتمكّن المرأة من الغسل وتتمكّن من الوضوء ، لعدم إذن المالك للماء في الاغتسال أو لقلّة الماء وعدم وفائه بالاغتسال ، فهل يجب على الحائض حينئذ أن تتوضّأ وتتيمّم بدلاً عن الغسل أو أنّها تتيمّم تيمّمين أحدهما بدلاً عن الغسل وثانيهما بدلاً عن الوضوء ويبطل حكم الماء؟ ذهب الشيخ الكبير إلى الثّاني (٢) وهو من الغرائب.

بل للمسألة صور خمسة :

الصورة الأُولى : ما إذا تمكّنت الحائض من التوضّؤ والاغتسال ، وهذه الصّورة‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) كشف الغطاء : ١٣٥ السطر ٥ / في الأحكام المشتركة بين الدماء الثلاثة.

٤١٥

هي الّتي قدّمنا حكمها وقلنا إنّ الغسل يغني عن الوضوء ، إلاّ أنّ المرأة تتمكّن من أن تتوضّأ قبل الاغتسال ثمّ تغتسل ، لإطلاقات أدلّة الوضوء. نعم لا يجوز لها الوضوء بعده لأنّه بدعة ، وعليه فالمقام من موارد التخيير بين الأقل والأكثر ، لتخيير المرأة بين الغسل وبين التوضّؤ ثمّ الاغتسال ، وقد قلنا في محلّه إنّ التخيير بين الأقل والأكثر لا بأس به إذا كان للأقل وجود مستقل.

وأمّا بناءً على أنّ الغسل لا يغني عن الوضوء فيجب عليها أن تتوضأ وتغتسل لإطلاقات أدلّة كلّ من الغسل والوضوء.

الصورة الثّانية : ما إذا لم تتمكّن من شي‌ء منهما ، ولا إشكال حينئذ في وجوب التيمم عليها مرّتين : مرّة بدلاً عن الغسل وأُخرى بدلاً عن الوضوء ، بلا فرق في ذلك بين القول بإغناء الأغسال عن الوضوء وعدمه ، وذلك لأنّ الأدلّة إنّما دلّت على أنّ الغسل يغني عن الوضوء وأنّه بدل عنه في الطّهارة فقط ، وأمّا أنّ البدل وهو التيمم يغني عن الوضوء أيضاً فهو أمر يحتاج إلى الدليل ولا دليل عليه.

وقد عرفت إطلاق أدلّة الوضوء ، ومقتضى إطلاقها وجوبه مع التيمّم بدلاً عن الغسل أيضاً ، وبما أنّها غير متمكّنة من الوضوء فتنتقل إلى بدله بمقتضى أدلّة البدليّة كما أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الغسل كقوله « إذا طهرت اغتسلت » وجوب الغسل على المرأة في المقام ، وحيث إنّها غير متمكّنة من الاغتسال تنتقل إلى بدله بمقتضى ما دلّ على أنّ التيمم بدل عن الغسل ، من دون فرق بين القول بأن التيمم مبيح أو أنّه رافع للحدث ، أمّا على الإباحة فظاهر ، وأمّا على القول بالرافعيّة فلأنّ التيمم يرفع الحدث الأكبر ويكون التيمم بدل الوضوء رافعاً للحدث الأصغر ، ولعلّه ظاهر.

الصورة الثّالثة : ما إذا تمكّنت المرأة من الاغتسال فحسب ولم تتمكّن من الوضوء لعدم إباحة المالك التوضؤ منه ، ولا كلام حينئذ في أنّها تغتسل لإطلاقات أدلّة وجوب الغسل على الحائض ، كما أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الوضوء وجوبه عليها بناءً على أنّ الغسل لا يغني عن الوضوء ، وحيث إنّها غير متمكّنة من التوضّؤ الواجب في‌

٤١٦

حقّها ينتقل الأمر إلى بدله وهو التيمم ، نعم بناءً على إغناء الأغسال عن الوضوء لا تحتاج المرأة إلى التوضّؤ لتتمكّن منه أو لا تتمكّن منه.

الصورة الرّابعة : ما إذا تمكّنت المرأة من التوضّؤ فحسب دون الاغتسال.

والمعروف في هذه المسألة أنّها تتيمم بدلاً عن الغسل وتتوضّأ ، من دون فرق بين القول بإغناء الغسل عن الوضوء وعدمه ، لأنّ المغني هو الغسل دون بدله وهو التيمم.

وذهب كاشف الغطاء (١) قدس‌سره إلى أنّها تتيمم بدلاً عن الوضوء أيضاً ولا يترتّب على تمكّنها من الوضوء أثر ، ولا يمكن توجيه ما ذهب إليه قدس‌سره بشي‌ء من الوجوه.

وذلك لأنّا إن قلنا إنّ لصلاة المرأة مقدّمتين إحداهما الغسل وثانيتهما الوضوء ومقتضى إطلاق أدلّتهما وجوبهما على المرأة إلاّ أنّها لا تتمكّن من الاغتسال فتنتقل إلى بدله بحسب أدلّة البدليّة ، فلا وجه لما ذهب إليه من وجوب التيمّم بدلاً عن الوضوء مع تمكّنها منه.

وإن احتملنا بعيداً كون المقدّمة هو المجموع من الغسل والوضوء ، بأن يكون كلّ منهما جزءاً من المقدّمة نظير المسحتين والغسلتين في الوضوء فما أفاده يتم ، لعدم تمكّنها من مجموع الغسل والوضوء فتنتقل إلى بدلهما ، كما إذا تمكّن المكلّف من الغسلتين دون المسحتين فإنّه لا بدّ من أن يتيمم ولا معنى للقول بوجوب الغَسل الممكن والتيمم بدلاً من المسحتين.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال بعيد في نفسه ، لأنّ مقتضى أدلّة الوضوء والغسل أنّ المقدّمة كلّ واحد منهما مستقلا.

ويتوجّه عليه مضافاً إلى بعده في نفسه أمران :

أحدهما : أنّ لازم هذا الاحتمال وجوب التيمم عليها مرّة واحدة ، إذ المفروض أنّ‌

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٣٥ السطر ٥ / في الأحكام المشتركة بين الدّماء الثلاثة.

٤١٧

المقدّمة هي المجموع من حيث المجموع وهو أمر واحد ، ومع عدم التمكّن منه تتيمم بدلاً عنه لا محالة ، كما أنّه إذا لم تتمكّن من المسحتين في الوضوء مع التمكّن من الغسلتين لم يجب إلاّ تيمم واحد.

ثانيهما : أنّ لازمه أن يلتزم بمثله في الصّورة الثّالثة أيضاً ، لأنّ المقدّمة وهي مجموع الأمرين ليست مقدورة للمكلّف ، لعجزه عن الوضوء فينتقل إلى بدله ، مع أنّه لا يلتزم بوجوب التيمم عن الغسل في الصّورة الثّالثة ، وإنّما يوجبون عليه التيمم بدلاً عن الوضوء دون الغسل.

وعليه فالصحيح ما ذهب إليه الماتن قدس‌سره وغيره من أنّها تتوضأ وتتيمم بدلاً عن الغسل ، بلا فرق بين القول بالرّفع والقول بالاستباحة.

الصورة الخامسة : ما إذا تمكّنت من أحدهما من غير تعيين ، كما إذا كان الماء غير واف للوضوء والغسل ، فعلى مسلكنا من إغناء كلّ غسل عن الوضوء لا إشكال في أنّ الغسل متعيّن في حقّها ، لتمكّنها من الطّهارة المائية بقدرتها على الاغتسال ، ومعه لا يجوز لها تفويت الماء بصرفه في الوضوء لعدم كفايته عن الغسل ، وهذا بخلاف استعماله في الغسل الّذي يكفي ويغني عن الوضوء.

وعلى مسلك من قال بعدم الإغناء فهل يتعيّن عليها الغسل والتيمم بدل الوضوء أو يتعيّن الوضوء والتيمم بدل الغسل؟

المعروف بينهم في الأعصار المتأخّرة على ما عثرنا عليه إدراج المقام في المتزاحمين والترجيح بالأهميّة وحتمالها ، لأنّهما من مرجحات باب المزاحمة ، وبما أنّ الغسل أهم أو أنّه محتمل الأهميّة ، إذ لا يحتمل أهميّة الوضوء منه ، فيتعيّن القول بوجوب الغسل في حقّها مع التيمم بدلاً عن الوضوء.

وعن بعضهم ترجيح الوضوء لسبقه على الغسل بحسب الزّمان ، والتقدّم الزّماني مرجح في باب التزاحم ولو كان الآخر أهم.

٤١٨

التهافت في كلام المحقّق النائيني

ولشيخنا الأُستاذ قدس‌سره في مسألة ما إذا دار أمر المكلّف بين القيام والإيماء في ركوعه وسجوده وبين الرّكوع والسّجود مع القعود في صلاته حاشيتان : في إحداهما قدّم القيام وحكم بوجوب الصّلاة قائماً مع الإيماء في ركوعه وسجوده ، ترجيحاً بالتقدّم الزّماني لأنّ القيام أسبق من الرّكوع زماناً فيتقدّم على الرّكوع ولو كان أهم ، وفي الحاشية الثّانية قدّم الرّكوع وحكم بوجوب الصّلاة قاعداً مع الرّكوع والسّجود ، نظراً إلى الترجيح بالأهميّة لأهميّة الرّكوع من القيام. وهما كلامان متناقضان ، هذا.

اندراج المقام في التعارض

ولكن الصحيح أنّ أمثال المقام خارج عن باب المتزاحمين ، وإنّما يندرج تحت كبرى التعارض ، وذلك لأنّ التزاحم إنّما يختص بالتكاليف النفسيّة كوجوب الإزالة ووجوب الصّلاة.

وأمّا التكاليف الضمنيّة فلا يقع فيها التزاحم أبداً ، إذ ليس لها أمر مستقل ، وذلك لأنّ الأجزاء والشرائط إنّما يتعلّق بها أي بمجموعها أمر واحد ، وإذا عجز المكلّف عن بعضها كما في دوران الأمر بين ترك القيام وترك الرّكوع في الفرع المتقدّم سقط الأمر المتعلّق بالمركب من المتعذر وغيره ، كالأمر بالصلاة عن قيام وركوع ، والأمر الآخر بعد ذلك لو دلّ الدليل عليه كما في الصّلاة لا يعلم تعلّقه بالصلاة الواجدة للقيام دون الرّكوع أو أنّه تعلّق بالصلاة الواجدة للركوع دون القيام ، فالشكّ في المجعول الشرعي ، ومعه تدخل هذه الموارد في كبرى المتعارضين.

والأمر في المقام كذلك ، لسقوط الأمر بالصلاة الواجدة للوضوء والغسل لتعذرهما على الفرض ، والأمر بعد ذلك لم يعلم تعلّقه بالصلاة الواجدة للوضوء دون الغسل أو الصّلاة الواجدة للغسل دون الوضوء ، فهما متعارضان ومعه لا بدّ من ملاحظة أدلّة تلك الأجزاء والشرائط ، فإن كان كلا الجزئين أو الشرطين أو بالاختلاف ثبت‌

٤١٩

[٧٧١] مسألة ٢٨ : جواز وطئها لا يتوقّف على الغُسل لكن يكره قبله ولا يجب غسل فرجها أيضاً قبل الوطء وإن كان أحوط ، بل الأحوط ترك الوطء قبل الغُسل (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالإطلاق فيتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي الموجود في المسألة ، وإن ثبت كلّ منهما بالعموم فهما متعارضان ولا بدّ من الرّجوع إلى قواعد باب التعارض ، وإن ثبت أحدهما بالعموم والآخر بالإطلاق كان الثّابت بالعموم مقدّماً على الثابت بالإطلاق.

ولمّا كان كلّ واحد من الوضوء والغسل قد ثبت بالإطلاق فيحكم بتساقطهما والرّجوع إلى الأصل العملي بعده ، ومقتضاه التخيير في المقام ، وذلك للعلم الإجمالي بوجوب الصّلاة إمّا مع الوضوء وإمّا مع الغسل ، وبما أنّ الاحتياط غير ممكن واحتمال خصوصيّة الوضوء أو الغسل مندفع بالبراءة فيحصل التخيير بين صرفها الماء في غسل حيضها وصرفها في وضوئها ، وإن كان اختيار الصرف في الغسل أحوط لذهاب جمع إلى وجوبه وتعيّنه.

جواز الوطء لا يتوقّف على الاغتسال‌

(١) ذكرنا أنّ الأحكام المترتبة على الحائض على قسمين : منها ما يترتّب على الحائض بمعنى ذات الدم ، كعدم جواز الطلاق والظهار لصحّتهما فيما إذا انقطع دمها وإن لم تغتسل ، ومنها ما يترتب على الحائض بمعنى ذات الحدث ، كحرمة دخولها المساجد وحرمة اجتيازها المسجدين وحرمة مسّها القرآن ، فإنّها مترتبة على الحدث بقرينة ذكرها مع الجنب في الحديث (١).

وأمّا حرمة وطئها فالمعروف بين الأصحاب ترتبها على ذات الدم بحيث إذا انقطع دمها جاز وطؤها ، ونسب الخلاف في ذلك إلى أهل الخلاف وأنّهم ذهبوا إلى حرمة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٥ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٥ ، ٢ : ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٩ / أبواب الجنابة ب ١٥ ح ٣ ، ١٠ ، ١٧.

٤٢٠