موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

إحداهما : رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ، ثمّ تستظهر على ذلك بيوم » (١) وقد ادّعي أنّ الرّواية هكذا « فتقتدي بأقرانها » بدلاً عن « أقرائها » ، وبها استدلّ على أنّ المستحاضة إذا لم تتمكّن من الرّجوع إلى أقاربها ترجع إلى أقرانها.

ويرد عليه أوّلاً : أنّها ضعيفة السند ، لعدم وثاقة طريق الشيخ إلى ابن فضال كما تقدّم (٢).

وثانياً : أنّ نسخة « أقرانها » لم تثبت صحّتها ، بل الصحيح هو « أقرائها » كما في الوسائل.

وثالثاً : أنّ النسخة لو كانت هي أقرانها فهي إنّما تدلّ على الرّجوع إلى أقران نسائها لا إلى مطلق الأقران كما ادّعي.

ورابعاً : مع الغض عن جميع ذلك أنّها لو دلّت فإنّما تدلّ على الرّجوع إلى الأقران في عرض الأقارب ، فمن أين يستفاد منها الترتيب وأنّ الرّجوع إلى الأقران إنّما هو بعد عدم التمكّن من الرّجوع إلى الأقارب ، فلا دلالة للرواية على المدعى.

وثانيتهما : موثقة سماعة قال « سألته عن جارية حاضت أوّل حيضها ، فدام دمها ثلاثة أشهر وهي لا تعرف أيّام أقرائها ، فقال : أقراؤها مثل أقراء نسائها ، فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيّام وأقلّه ثلاثة أيّام » (٣) وادّعي أنّ قوله « أقراء نسائها » عام يشمل الأقران كما يشمل الأقارب.

ويرد عليه : أنّ هذه الدعوى لو تمّت فإنّما تثبت دلالة الموثقة على الرجوع إلى الأقران في عرض الأقارب ، وأمّا أنّ الرّجوع إلى الأقارب متقدّم على الأقران كما هو المدعى فلا يستفاد منها بوجه.

على أنّ الموثقة مشتملة على قرينة ظاهرة في أنّ المراد من نسائها هي الأقارب‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٨ / أبواب الحيض ب ٨ ح ١.

(٢) تقدّم صحّة طريق الشيخ إلى ابن فضال في الصفحة ٧٠.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٨٨ / أبواب الحيض ب ٨ ح ٢.

٣٢١

[٧٤١] مسألة ١٤ : المراد من الأقارب أعم من الأبويني والأبي والأُمِّي فقط (١) ، ولا يلزم في الرّجوع إليهم حياتهم.

[٧٤٢] مسألة ١٥ : في الموارد الّتي تتخيّر (*) بين جعل الحيض أوّل الشهر أو غيره (٢) إذا عارضها زوجها وكان مختارها منافياً لحقّه وجب عليها مراعاة حقّه (٣)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دون الأقران ، وهي قوله « فإن كانت نساؤها مختلفات » ، لأنّ النساء القابلة للانقسام إلى مختلفات بحسب العادة ومتّفقات هي الأقارب فحسب لقلّتهنّ فإنّهنّ قد يتّفقن في أيّامهنّ وقد يختلفن ، وأمّا النِّساء الأقران فهنّ لكثرتهنّ مختلفة في العادة دائماً ، ولا توجد نساء بلدة واحدة أو أكثر مثلاً متّفقات في عادتهنّ ، فالرّجوع إلى الأقران لا دليل عليه.

(١) لإطلاق الموثقة.

(٢) كما في ذات العادة العدديّة حيث بنى الماتن قدس‌سره فيها على أنّها ترجع إلى عددها ، ومن حيث الزّمان تأخذ بما فيه الصفة ، ومع عدم التمكّن من التمييز تجعل العدد في الأوّل على الأحوط وإن كان الأقوى التخيير (٢) ، وكذا في الناسية والمبتدئة والمضطربة فيما إذا قلنا برجوعهنّ إلى العدد من الثّلاثة والستّة والسبعة مخيّرة بين جعل العدد في أوّل رؤية الدم أو غيره (٣) وإن احتاط فيها الماتن قدس‌سره بجعل العدد في أوّل رؤية الدم ، وذكرنا نحن أنّه الأظهر (٤).

تنافي مختار المرأة وحق زوجها‌

(٣) لعدم تعيّن جعل العدد في زمان ينافي حقّ زوجها ووجوب إطاعة الزّوج وتمكينه ، ومن الواضح أنّ غير الواجب لا يعارض الواجب ، ومن ذلك يظهر الحال في‌

__________________

(*) تقدّم أنّه لا موضوع للتخيير.

(١) بنى عليه في المسألة [٧٣٤].

(٢) راجع الصفحة ٢٨٣ وما بعدها.

(٣) راجع المسألة [٧٣٠] وتعليقتها.

٣٢٢

وكذا في الأمة مع السيِّد ، وإذا أرادت الاحتياط الاستحبابي فمنعها زوجها أو سيِّدها يجب تقديم حقّهما. نعم ليس لهما منعها عن الاحتياط الوجوبي (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاحتياط الاستحبابي ، كما إذا قلنا باستحباب الاستظهار مثلاً ، لأنّ تمكين الزّوج واجب ، وهو مقدّم على غير الواجب ولو كان مستحبّاً.

(١) قد يكون الاحتياط مشتركاً فيه بين الزّوج والزّوجة ، كما إذا قلّدا من يرى وجوب الاستظهار بيوم أو يومين أو أكثر ، فإنّ المرأة كما يجب عليها الاحتياط فيها فلا تتمكّن من مطاوعة زوجها كذلك الزّوج يجب عليه فيها الاحتياط ، فلا يتمكّن من وطء زوجته ، فلا يسوغ له مطالبة الزّوجة بالجماع ، كما لا يجب عليها قبوله لحرمة تمكين الزّوج من نفسها.

وكذا الحال فيما إذا علم كلّ منهما إجمالاً بأنّ عادة المرأة إمّا في آخر الشهر أو أوّله إذ يجب على كلّ منهما الاحتياط ، وفي هذه الموارد لا إشكال في عدم وجوب الطاعة من الزّوجة والأمة للزوج والسيِّد.

وقد يجب الاحتياط على المرأة ولا يجب على الزوج ، وهذا يتحقّق في كلّ من الشبهات الحكمية والموضوعيّة ، كما إذا قلّدت الزّوجة من يرى وجوب الاستظهار بيوم أو بيومين أو أكثر واعتقد الزّوج عدم وجوبه اجتهاداً أو تقليداً ، ونظيره من حيث اختلاف الزّوج والزّوجة ما إذا قلّدت المرأة من يرى حرمة وطء الزّوجة بعد نقائها وقبل الاغتسال والزّوج رأى جوازه ، أو قلّدت هي من يرى حرمة وطء الزّوجة في دبرها أيّام حيضها أو مطلقاً والزّوج رأى جواز ذلك إمّا مطلقاً أو في أيّام حيضها.

وكذلك الحال في الشبهات الموضوعيّة ، كما إذا علمت المرأة إجمالاً بأنّ وقتها إمّا هو آخر الشهر وإمّا أوّله ، ولكن الزّوج علم بأنّ وقتها أوّل الشهر معيّناً.

وفي هذه الموارد إذا كان الاحتياط متعلّقاً للأمر المولوي ، كما في أيّام الاستظهار بناءً على وجوبه والأوامر الواردة في التوقف والاحتياط إذا قلنا أنّها مولويّة شرعيّة‌

٣٢٣

أيضاً لا كلام في أنّ السيِّد والزّوج ليس لهما منع الأمة أو الزّوجة عن الاحتياط ، لأنّ المرأة مأمورة بذلك ويحرم عليها المطاوعة والتمكين من نفسها ، ومعه لا يمكن الحكم بجواز المطالبة لهما ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولأنه يستلزم الأمر أو الترخيص في المعصية ، إذ لو كانت المرأة مأمورة بالمطاوعة مع فرض حرمتها في حقّها كان ذلك من الأمر بالمعصية.

وأمّا إذا لم يكن الاحتياط متعلّقاً للأمر المولوي وإنّما وجب عقلاً ، كما في موارد العلم الإجمالي أو الشبهات قبل الفحص وقلنا بأنّ أوامر التوقّف والاحتياط أوامر إرشاديّة وليست بمنجزة للواقع لأنّ الحكم الواقعي يتنجز قبلها فهي إرشاد إلى ما استقلّ به العقل ، فقد يقال : إنّ أمر المرأة يدور بين الحرمة والوجوب ، لأنّها إن كانت حائضاً فقد حرمت عليها المطاوعة من زوجها ، وإن كانت مستحاضة وجب عليها التمكين والقبول ، والزّوج غير مكلّف بالاحتياط وترك المطالبة ، فله أن يطالب بحقّه كما أنّ لها القبول ، لأنّها مخيّرة لا محالة ، لدوران أمرها بين المحذورين.

ويدفعه : أنّ المرأة وإن لم تكن مأمورة بالاحتياط حينئذ شرعاً إلاّ أن تمكينها معصية لا محالة ، وذلك لأنّ المعصية لغة وشرعاً غير متوقّفة على العلم بالحكم الواقعي أو بما قامت عليه الحجّة شرعاً ، بل المعصية هي كلّ عمل لم يرد فيه ترخيص من قبل المولى ، لأنّه تصرّف في سلطانه وخروج عن زيّ العبوديّة ووظيفة الرقيّة وإن لم يكن هناك حكم واقعي ولا ظاهري ، ومن ثمة قلنا إنّ المتجري يستحق العقاب مع عدم ارتكابه المحرّم الواقعي ، فإنّ إقدامه على ما لا مسوّغ للإقدام عليه هتك وتمرّد على المولى.

ومن جملة الموارد الّتي استعملت فيها المعصية في غير موارد الحكم الواقعي أو الظاهري قوله تعالى ( ... وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (١) ، وذلك لمّا بيّناه في التفسير من أنّ نهيه تعالى عن أكل الشجرة كان نهياً إرشاديّاً إلى ما يترتب عليه من المفاسد‌

__________________

(١) طه ٢٠ : ١٢١.

٣٢٤

[٧٤٣] مسألة ١٦ : في كلّ مورد تحيّضت من أخذ عادة أو تمييز أو رجوع إلى الأقارب أو إلى التخيير بين الأعداد المذكورة فتبيّن بعد ذلك كونه خلاف الواقع يلزم عليها التدارك بالقضاء أو الإعادة (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمشقات ، أعني الخروج عن الجنة والاحتياج إلى تهيئة المأكل والمشرب وغيرهما ممّا يحتاج إليه البشر في حياته ، كما أُشير إليه في الآيات المباركات ( إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ) (١) ، ولم يكن نهياً مولويّاً لينافي نبوّة آدم عليه‌السلام ، ومع عدم حرمة العمل ظاهراً ولا واقعاً أُطلق على ارتكابه عنوان المعصية لأنّه لم يكن مرخّص مولوي.

ومن ذلك أيضاً ما ورد في بعض الرّوايات من قوله عليه‌السلام : لأنّه إنّما عصى سيِّده ولم يعص الله (٢) ، فإذا كان تمكين المرأة حينئذ عصياناً ومعصية فيشمله ما قدّمناه من أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وليس الحكم بوجوب الطاعة والتمكين في عرض الحكم بحرمتهما وإنّما هما طوليان ، فإنّ الطاعة إنّما تجب في غير موارد الحرمة ومعصية الله سبحانه ولا وجوب في موارد المعصية ، وقد ورد في بعض الأخبار : أنّ طاعة الزّوج إنّما هي فيما إذا استحلّت به الصّلاة (٣). وعليه فما أفاده الماتن قدس‌سره من أنّ السيِّد والزّوج ليس لهما منع الأمة أو الزّوجة عن الاحتياط الوجوبي هو الصحيح.

لزوم التدارك عند انكشاف الخلاف‌

(١) لعدم إتيانها بالوظيفة الواقعيّة حينئذ ، ولا تبتني هذه المسألة على مسألة‌

__________________

(١) طه ٢٠ : ١١٨.

(٢) الوسائل ٢١ : ١١٤ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٢٤ ح ١ و ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٨ وفيها : « وكلّ شي‌ء استحلّت به الصّلاة فليأتها زوجها ».

٣٢٥

إجزاء الأحكام الظاهريّة عن الواقعيّة وعدمه ، بل لو قلنا في تلك المسألة أيضاً بالأجزاء لا نلتزم به في المقام ، وذلك لأنّ مسألة الإجزاء إنّما هي فيما إذا أتى المكلّف بالعمل على طبق الأمر الظاهري وكان المأمور به الواقعي على خلافه ، فيقع الكلام حينئذ في أنّ العمل على طبق الحكم الظاهري يجزئ عن الواقع أو لا يجزئ.

والأمر في المقام ليس كذلك ، لأنّ المرأة إذا أخذت بالتحيّض من أوّل الشهر مثلاً وتركت الصّلاة وغيرها من العبادات ثمّ انكشف أنّ عادتها إنّما هي من اليوم الخامس مثلاً وقد نسيتها فلم يصدر منها شي‌ء ، فإنّها لم تأت بعمل ليوافق الواقع أو يخالفه حتّى يقال إنّ عملها على طبق الحكم الظاهري يجزئ عن الواقع أو لا يجزئ.

وكذلك الحال فيما إذا بنت على طهارتها فصلّت وصامت ثمّ انكشف أن تلك الأيّام هي أيّام عادتها ، وأمّا السابقة عليها فلم تكن من عادتها ، فإنّها وإن أتت بالصوم حينئذ إلاّ أنّه لا أمر به في حقِّها واقعاً ليوافقه أو يخالفه ، لأنّها في الواقع لم تكن مأمورة بالصوم ليكون ما أتت به على طبق الأمر الظاهري موافقاً للواقع أو مخالفاً له ، حيث لا أمر في الواقع كما عرفت ، هذا بالإضافة إلى صومها. وأمّا صلاتها فلا أثر لإتيانها حينئذ ، إذ لا يجب قضاء ما فات منها في أيّام العادة.

نعم إذا بنت على طهارتها وأتت بقضاء صلوات كانت في ذمّتها ، ثمّ تبيّن أنّها أيّام عادتها وصلاتها المأتي بها قضاءً باطلة فوجوب الإتيان بها قضاءً ثانياً وعدمه يبتني على أنّ العمل على طبق الحكم الظاهري مجزئ عن الواقع أو غير مجزئ ، لأنّها أتت بالعمل على طبق حكمها الظاهري وكانت في الواقع مكلّفة بذلك العمل مشروطاً بالطّهارة وهي غير طاهرة ، وبما أنّا بنينا في محله على عدم إجزاء الأحكام الظاهريّة عن الواقعيّة فلا مناص من أن تأتي بالقضاء في غير تلك الأيّام ثانياً.

٣٢٦

فصل

في أحكام الحائض

وهي أُمور :

أحدها : يحرم عليها العبادات المشروطة بالطّهارة ، كالصّلاة والصّوم والطّواف والاعتكاف (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل

في أحكام الحائض‌

(١) لا ينبغي الإشكال في بطلان العبادات الصادرة من الحائض ، كالصلاة والصّوم ونحوهما ممّا يشترط فيه الطّهارة ، كما لا إشكال في حرمتها التشريعيّة.

وإنّما الكلام في أنّها محرمة ذاتاً أو ليست محرمة بالذات. وتفصيل الكلام يقع في ضمن جهات :

الاولى : أنّ محل الكلام في هذه المسألة إنّما هو العبادات الصادرة من الحائض قبل نقائها من الدم ، وأمّا العبادة بعد نقائها وقبل الاغتسال فهي أيضاً وإن كانت باطلة من غير كلام لفقدانها الطّهارة الّتي هي من شرائطها ، إلاّ أنّ الحرمة الذاتيّة فيها غير محتملة ، وذلك مضافاً إلى التسالم وعدم نقل القول بالحرمة الذاتيّة حينئذ ، أنّ فقدان الطّهارة كفقدان العبادة غير الطّهارة من الشرائط ، فكما لا تكون الصّلاة إلى غير القبلة محرمة بالذات فلتكن الصّلاة من غير طهارة أيضاً كذلك ، وهذا لأنّه لا دليل عليها.

وما يمكن أن يستدلّ به على حرمة العبادات الصادرة من الحائض بعد نقائها وقبل الاغتسال موثقة مَسعَدة بن صَدَقة : « إنِّي أمرّ بقوم ناصبيّة وقد أُقيمت لهم الصّلاة وأنا على غير وضوء ، فإن لم أدخل معهم في الصّلاة قالوا ما شاءوا أن يقولوا ، أفأُصلِّي معهم ثمّ أتوضّأ إذا انصرفت وأُصلِّي؟ فقال جعفر بن محمّد عليه‌السلام : سبحان‌

٣٢٧

الله ، أفما يخاف من يصلّي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً! » (١) ، حيث دلّت على أنّ الصّلاة من غير طهارة من دون أن يقصد بها القربة موجبة للعذاب والعقاب ولا يكون ذلك إلاّ في ارتكاب أمر محرم بالذات.

ويرد على الاستدلال بها : أنّ هذه الرّواية لا تقاوم التسالم في المسألة ، لأنّها ضعيفة السند حيث لم تثبت وثاقة مسعدة بن صدقة (٢) ، فلا يمكن الاعتماد على هذه الرّواية بوجه.

على أنّا لا نحتمل حرمة الإتيان بذات الصّلاة من الرّكوع والسّجود وغيرهما لا بعنوان العبادة بحيث لو أرادت الحائض أن تعلّم الجاهل الصّلاة ارتكبت محرماً ، أو أنّ الحائض إذا أمسكت عن الطعام لعدم اشتهائها لا للعبادة كان محرماً ، فإنّه ممّا لم يقم عليه دليل.

ومعه ماذا كان يمنع الشيعي أن يدخل معهم في الصّلاة من غير وضوء من دون أن يقصد بها القربة ، فإنّه ممّا لا حرمة فيه ولا يكون مثله موجباً للعقوبة المذكورة بوجه فلو لم يتمكن إلاّ من الصّلاة معهم بقصد العبادة فهي أيضاً لا يحتمل حرمتها ، لأنّ الاضطرار والتقيّة يرفعان الحرمة لا محالة.

فهذه الرّواية لو كانت سليمة السند لم يمكن الاعتماد عليها فضلاً عمّا إذا كان سندها مورداً للمناقشة كما عرفت ، فمحل الكلام في المقام إنّما هو العبادة الصادرة من الحائض قبل انقطاع دمها.

الجهة الثّانية : أنّ الحائض تارة تأتي بالعبادة بقصد أمرها الجزمي ، فتصلِّي أو تصوم قاصداً بها امتثال الأمر المتعلّق بهما جزماً ، وهذا لا شبهة في حرمتها التشريعيّة ، لأنّ الله تعالى لم يأذن لها بذلك ، إذ لا أمر للحائض بالعبادة فتكون داخلة في قوله تعالى ( ... قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٣) ، فإذا قلنا بحرمة عبادات الحائض‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٧ / أبواب الوضوء ب ٢ ح ١.

(٢) وقد فصّل فيه في المعجم ١٩ : ١٤٨ / الرقم [١٢٣٠٤].

(٣) يونس ١٠ : ٥٩.

٣٢٨

ذاتاً تتصف بحرمتين ذاتيّة وتشريعيّة ، ولا مانع من اجتماع حرمتين في شي‌ء واحد إذا كان بعنوانين ، كما إذا أتى المكلّف بشي‌ء من المحرمات الذاتيّة بداعي أمره الجزمي ، كما قد ينسب إلى بعض الصوفيّة حيث يشربون الخمر للتقرّب به إلى الله تعالى ، فإنّه محرم بالذات ومحرم تشريعاً أيضاً.

وأُخرى : تأتي الحائض بالعبادة لا بعنوان العبادة بل بعنوان آخر كعنوان التعليم ونحوه ، وهذا أيضاً لا شبهة في عدم حرمته لا تشريعاً إذ لم تنسب إلى الله أمراً قط ولم تقصد القربة بوجه ، ولا ذاتاً لما تقدّم من أنّ ذوات الأُمور العباديّة ممّا لا دليل على حرمتها.

وثالثة : تأتي بالعبادة لا على النحو الأوّل أعني بقصد أمرها الجزمي ، ولا على النحو الثّاني بأن تأتي بها لا بعنوان العبادة ، بل تأتي بها بعنوان العبادة لكن بقصد الرّجاء واحتمال مطلوبيتها واقعاً ، وهذا كما في موارد التردّد في أنّها حائض أو طاهرة فتأتي بالصلاة مثلاً لاحتمال مطلوبيتها ، وليست في ذلك حرمة تشريعيّة بوجه ، إذ لم تسند إلى الله الأمر بها ، وإنّما الكلام في أنّها محرمة بالذات أو أنّها غير محرمة بالذات كما هي ليست محرمة تشريعيّة ، وقد قدّمنا أنّ العبادات بناءً على كونها محرمة ذاتيّة على الحائض لا تتمكّن المرأة من الاحتياط فيها ، بل يدور أمرها بين الحرمة والوجوب.

ولكنّه قد يقال بأنّها متمكّنة من الاحتياط ولا ثمرة بين القول بحرمتها الذاتيّة وعدمه ، وذلك لأنّ المرأة إذا أتت بالعبادة باحتمال كونها طاهرة في الواقع فإن كانت في الواقع أيضاً طاهرة وهي مكلّفة بالصلاة فقد حصل بها الامتثال ، لأنّها أتت بوظيفتها على الفرض ، وإذا كانت حائضاً في الواقع فهي لم تأت بالعبادة أصلاً ، لأنّها إنّما قصدت العبادة على تقدير كونها طاهرة في الواقع ومأمورة بالصّلاة ، لأنّه معنى إتيانها باحتمال مطلوبيتها ، فإذا لم يحصل المعلّق عليه وهو كونها طاهرة لم تحصل العبادة. نعم أتت بذات العمل من أجزائه وشرائطه إلاّ أنّها ممّا لا يحتمل حرمته كما مرّ.

٣٢٩

وقد يقرب هذا المطلب على نحو آخر ، وهو أنّ الإتيان بالعمل باحتمال مطلوبيّته واقعاً إنّما هو انقياد ، والعقل مستقل بحسنه لأنّه والطاعة من باب واحد ، ولا يمكن أن تطرأ عليه الحرمة والقبح بوجه ، لأنّه نظير كون الإطاعة محرمة وهو ممّا لا معنى له.

وعليه فلم تبق ثمرة مترتبة على القول بالحرمة الذاتيّة ، فإنّ موضوع الحرمتين شي‌ء واحد ، وهو ما إذا أتت بالعبادة بداعي أمرها الجزمي ، وذلك لأنّ المرأة إذا أتت بالعبادة بقصد أمرها الجزمي فهي محرمة قطعاً في حقّها للتشريع ، سواء أكانت محرمة عليها بالذات أيضاً أم لم تكن ، وإذا أتت بها بداعي الاحتمال فلا حرمة عليها مطلقاً قلنا بالحرمة الذاتيّة أم لم نقل.

ولكن الأمر ليس كذلك ، وذلك لأنّا إن قلنا بتماميّة ما استدلّ به على الحرمة الذاتيّة فمقتضى إطلاقها أن ما يؤتى به عبادة محرم بالذات سواء أكانت عباديّته من جهة قصد أمره الجزمي أم من جهة قصد أمره الاحتمالي ، فإنّ قوله عليه‌السلام : فلتمسك عن الصّلاة يقتضي حرمة الصّلاة على الحائض أتت بها بداعي أمرها الجزمي أم بداعي احتمال الأمر.

وأمّا ما ادعي من أنّ المرأة حينئذ لم تأت بالعبادة إذا كانت حائضاً واقعاً ففيه خلط ظاهر بين الأُمور الاعتباريّة والأُمور الواقعيّة ، حيث إنّ الأُمور الاعتباريّة اختيارها بيد المعتبر ، فقد ينشئها المنشئ ويوجدها مطلقاً وقد ينشئها ويوجدها معلّقة على شي‌ء فيقول : هي إن كانت زوجتي طالق ، أو بعتك هذا الكتاب إن كنت ابن عمّي ، أو أبحتك هذا المال إن كنت أخي ، فإنّ الطلاق والبيع والإباحة إنّما تتحقّق على تقدير تحقّق ما علّقت عليه بحيث لا طلاق ولا بيع ولا إباحة حقيقة على تقدير عدم تحقّق المعلّق عليه ، فإنّ التعليق إنّما هو في المُنشأ لا في الإنشاء. نعم قد يوجب التعليق بطلان المعاملة وقد لا يوجبه ، وهو أمر آخر تعرّضنا لتفصيله في محله.

وأمّا الأُمور الواقعيّة فأمرها مردّد بين الوجود والعدم ، فهي إمّا أن تكون موجودة وإمّا أن تكون معدومة ، ولا معنى فيها لكونها موجودة على تقدير كذا ، فلو ضرب أحداً على أنّه عدوه لا معنى لكون الضرب معلقاً على كونه عدوه بحيث لو كان‌

٣٣٠

صديقه لم يضربه ، فإنّ الضرب قد تحقّق على الفرض سواء أكان المضروب صديقه أم عدوه ، وكذا إذا شرب المائع على تقدير أنّه ماء أو اقتدى بأحد على تقدير أنّه عمرو ، لأنّ الشرب والاقتداء قد تحقّق ، كان المشروب ماءً أو غيره وكان الإمام عمراً أم لم يكن.

وعليه ما معنى قصد المرأة العبادة على تقدير كونها طاهرة واقعاً ، فإنّ القصد أمر واقعي إمّا أن يكون موجوداً وإمّا أن لا يكون ، وأمّا قصدها معلّقاً على شي‌ء فهو ممّا لا معنى له ، بل الصحيح أنّها قاصدة للعبادة مطلقاً ، غاية الأمر أنّ قصدها وحركتها نشأت من احتمالها الأمر لا من الأمر الجزمي.

وأمّا ما ادعي من أنّ الإتيان بالعبادة بداعي احتمال الوجوب انقياد ، وهو حسن لا يطرأ عليه القبح والحرمة فنعم وإن كان الأمر كما أُفيد ، إلاّ أنّ الكلام في تحقّق الانقياد مع احتمال الحرمة الذاتيّة ، إذ يتعارض احتمال الوجوب مع احتمال الحرمة حينئذ ، فلا يمكنها التحرّك من أحدهما ، فهل ترى أنّه يمكن أن تأتي بشي‌ء من المحرمات بداعي احتمال الوجوب والانقياد.

فالإنصاف أنّ موضوع الحرمتين متغاير ، لأنّ موضوع الحرمة التشريعيّة هو الإتيان بالعبادة بقصد أمرها الجزمي ، وموضوع الحرمة الذاتيّة هو الإتيان بالعبادة الأعم من تحقّقها بقصد الأمر الجزمي وقصد الأمر الاحتمالي.

الجهة الثّالثة : فيما استدلّ به على الحرمة الذاتيّة.

المعروف بينهم عدم كون العبادة على الحائض محرمة ذاتاً ، وإنّما حرمتها تشريعيّة فقط ، وذهب جمع إلى أنّها محرمة بالذات واختاره المحقّق الهمداني (١) قدس‌سره وغيره واستدلّوا على ذلك بوجوه :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « دعي الصّلاة أيّام أقرائك » (٢). فإنّ ظاهر‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٢٨٤ السطر ٣١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٨٧ / أبواب الحيض ب ٧ ح ٢.

٣٣١

الأمر بالترك والودع أنّه أمر مولوي ، وبما أنّا لا نحتمل أن يكون ذلك من جهة المصلحة في ترك الصّلاة فيستكشف من الأمر بتركها أنّ في فعل الصّلاة مفسدة وهي محرمة على الحائض بالذات ولذا أمرها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركها.

ويدفعه : أنّ هذه الجملة لم ترد في كلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابتداءً ليدّعى أنّ ظاهره حرمة العبادة على الحائض ، وإنّما ورد بعد السؤال عن حكم المستحاضة الّتي لم تشخص حيضها من غيره ، فأمرها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركها الصّلاة في أيّام أقرائها ، فهذه الجملة واردة لبيان طريقيّة أيّام العادة إلى الحيض وأنّها أمارة عليها ، ولم تصدر لبيان أنّ العبادة محرمة على الحائض وأن تركها واجب لأنّه أمر معلوم لكلّ أحد فإنّ الصّلاة غير واجبة على الحائض ، وإنّما ورد للدلالة على أنّ أيّام العادة طريق إلى حيضيّة الدم المرئي فيها ، هذا.

على أنّا لو سلمنا أنّها واردة لبيان وجوب ترك الصّلاة أيضاً لا دلالة لها على أنّ العبادة محرمة على الحائض بالذات ، وذلك لأنّ حالها حال بقيّة النواهي الصادرة عنهم عليهم‌السلام لبيان ترك العبادة والمركّبات عند فقدها جزءاً أو شرطاً ، كما في نهيه عن السجود على ما يؤكل ، ونهيه عن الصّلاة فيما لا يؤكل لحمه ، ونهيه عن الصّلاة إلى غير القبلة وغير ذلك من النواهي.

وقد ذكرنا في موردها أنّ الأوامر والنواهي الواردة في المركّبات قد انقلبت عن ظهورها الأوّلي إلى ظهور ثانوي في الإرشاد إلى جزئيّة شي‌ء أو شرطيّته أو الإرشاد إلى مانعيّته أو الإرشاد إلى الفساد ، وأظهر منها المعاملات كنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البيع الغرري أو المنابذة ونحوهما ، لأنّه ظاهر في الإرشاد إلى فساد تلك المعاملات ، وأمره بترك الصّلاة في أيّام العادة أيضاً كذلك ، لأنّه إرشاد إلى اشتراط الطّهارة في الصّلاة وفسادها في حالة الحيض ، فلا ظهور لها في الأمر المولوي حتّى يستدلّ به على كون العبادات محرمة ذاتيّة على الحائض.

ومنها : ما ورد في روايات الاستظهار من الأمر بالاحتياط بترك العبادة ، لأنّ العبادة لو كانت محرمة تشريعاً لكان الاحتياط في فعل الصّلاة بداعي احتمال الوجوب‌

٣٣٢

لا في تركها ، فيدلّ الأمر بالاحتياط بتركها على أنّها محرمة بالذات على الحائض.

ويدفعه : أنّا لو سلّمنا سند الرّواية المشتملة على الأمر بالاحتياط وظهورها في ذلك يتوجّه على الاستدلال بها ما قدّمناه من أنّ العبادة بناءً على حرمتها الذاتيّة على الحائض إذا تردّدت المرأة في طهرها وحيضها لا تتمكن من الاحتياط ، لدوران أمرها بين الوجوب والحرمة ، لأنّها إن كانت طاهرة في الواقع فالصلاة واجبة في حقّها وإن كانت حائضاً فهي محرمة عليها ، ومعه لا معنى للاحتياط بترك العبادة. إذن لا مناص من توجيه الأمر بالاحتياط على كلا القولين قلنا بالحرمة التشريعيّة أم قلنا بالحرمة الذاتيّة.

ودعوى : أنّ الأمر بالاحتياط بتركها من جهة احتمال أهميّة الحرمة ،

مندفعة : بأنّها أيضاً ممّا لا وجه له ، وذلك لأنّه مضافاً إلى أن الترجيح باحتمال الأهميّة يختص بالمتزاحمين ، أعني التكليفين الثابتين في أنفسهما مع اشتمالهما على الملاك ولا يمكن الترجيح به في المتعارضين كما في المقام ، للشكّ في أنّ الثابت هو الحرمة أو الوجوب ، فإنّ احتمال الأهميّة في أحدهما لا يترتب عليه أثر حينئذ ، لعدم العلم بثبوته وإن كان أهمّ على تقدير الثبوت ، إلاّ أنّ نسبة البراءة إلى كلّ من الاحتمالين على حدّ سواء لعدم العلم بثبوته ، فلا يترجح أحدهما على الآخر وإن كان أحدهما على تقدير ثبوته أهمّ من الآخر لا يكون الأخذ بأحد الاحتمالين من جهة احتمال الأهميّة احتياطاً بوجه.

على أنّا لا نحتمل أهميّة حرمة الصّلاة من وجوبها ، كيف والصّلاة عمود الدين وهي المائز بين الكفار والمسلمين ، وكيف يحتمل أهميّة تكليف لم يرد في الكتاب على الفريضة الواردة في الكتاب العزيز ، كما في قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (١). فتحصل أنّ الأمر بالاحتياط بترك العبادة ممّا لا بدّ من توجيهه على كلا المسلكين.

وأمّا الرّواية المشتملة على الأمر بالاحتياط بترك العبادة فهي روايتان :

__________________

(١) النِّساء ٤ : ١٠٣.

٣٣٣

إحداهما : رواية إسماعيل الجُعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « المستحاضة تقعد أيّام قرئها ، ثمّ تحتاط بيوم أو يومين ... » (١).

ثانيتهما : موثقة عبد الرّحمن بن أبي عبد الله قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستحاضة أيطؤها زوجها وهل تطوف بالبيت؟ قال : تقعد قرأها الّذي كانت تحيض فيه ، فإن كان قرؤها مستقيماً فلتأخذ به ، وإن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين ، ولتغتسل ولتستدخل كرسفاً ، فإن ظهر عن الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفاً آخر ثمّ تصلّي ، فإذا كان دماً سائلاً فلتؤخر الصّلاة إلى الصّلاة إلى أن قال وكلّ شي‌ء استحلّت به الصّلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت » (٢).

أمّا الرّواية الأُولى : فهي ضعيفة بالقاسم الواقع في سندها (٣) ، وأمّا دلالتها فهي أيضاً قابلة للمناقشة ، إذ لم يذكر فيها أنّ الاحتياط بيوم أو يومين من أيّ جهة.

نعم ، بضمّ الأخبار الواردة في الاستظهار وأنّ المرأة تترك فيها الصّلاة يمكن أن يقال إنّ المراد فيها بالاحتياط هو ترك العبادة ، وأمّا في نفسها فلا ظهور لها في ذلك فلو كنّا وهذه الرّواية لاحتملنا من ذلك إرادة ترك الدخول في المساجد وغيره من المحرمات دون ترك العبادات.

وأمّا الرّواية الثّانية : فهي وإن كانت تامّة من حيث السند ، إلاّ أنّ دلالتها غير ظاهرة ، حيث تدلّ على أنّ المرأة غير المستقيمة العادة تحتاط بيوم أو بيومين ، والمرأة غير مستقيمة العادة إمّا هي مضطربة أو مبتدئة أو ناسية ، وقد عرفت عدم وجوب الاستظهار على شي‌ء منهنّ ، وحمل غير مستقيمة القرء على ذات العادة الّتي قد تتقدّم بيوم أو تتأخّر كذلك كما حمله صاحب الحدائق (٤) خلاف الظاهر لا يصار إليه.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٠٢ / أبواب الحيض ب ١٣ ح ٧ ، ص ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١٠.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٨.

(٣) كذا بنى عليه دام ظلّه أوّلاً ، ثمّ إنّه عدل عنه أخيراً وبنى على وثاقته لوجوده في أسناد كامل الزّيارات.

(٤) الحدائق ٣ : ٢٢١ / في الحيض.

٣٣٤

على أنّ الاحتياط فيها أيضاً لم يذكر أنّه من جهة ترك العبادة ، لأنّ السابق على تلك الجملة أمران : أحدهما السؤال عن أنّ الزّوجة يطؤها أو لا يطؤها. وثانيتهما السؤال عن أنّها هل تطوف بالبيت أو لا تطوف.

فليحمل الاحتياط على ترك زوجها لوطئها وعلى عدم طوافها حتّى تتيقّن بطهارتها ، لأنّ الطواف واجب موسع ، فأين دلالتها على الاحتياط بترك العبادة ، بل قوله عليه‌السلام في ذيلها « وكلّ شي‌ء استحلّت به الصّلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت » قرينة على ما ادّعيناه من أنّ الاحتياط هو ترك الوطء والطواف إلى أن تقطع بطهارتها وارتفاع حيضها ووجوب الصّلاة عليها.

وأمّا قوله قبل ذلك : « ولتغتسل ولتستدخل كرسفاً إلى قوله ثمّ تصلّي » فهو لا يدل على أنّ هذه الأُمور بعد الاحتياط بيوم أو يومين ، بل يلائم كونها في نفس ذلك اليوم أو اليومين ، فتغتسل فيها وتستدخل الكرسف ثمّ تصلّي ، فلا يستفاد منها أنّ الاحتياط أُريد منه ترك العبادة يوماً أو يومين.

على أنّه لو كان أُريد منه ذلك لا بدّ من توجيهه على كلا القولين كما عرفت.

ومنها : صحيحة خلف الواردة في اشتباه دم الحيض بدم العُذرة ، حيث ذكر للإمام عليه‌السلام أنّه سأل عن حكم ذلك الفقهاء فأجابوا بأنّ المرأة تصلّي حينئذ ولا تترك صلاتها ، ثمّ إن كانت طاهرة في الواقع فقد أتت بفريضتها ، وإذا كانت حائضاً في الواقع فقد وقعت صلاتها لغواً ولا شي‌ء عليها ، ولم يرض الإمام عليه‌السلام بما أفتى به الفقهاء وقال « إنّ الله رضي لهم بالضّلال فارضوا لهم بما رضي الله به » ، ثمّ قال عليه‌السلام إنّ المرأة يجب عليها أن تتقي الله بقوله « فلتتّق الله فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصّلاة ... وإن كان من العُذرة فلتتّق الله ولتتوضّأ » (١).

فقد أمرها عليه‌السلام بالتقوى والإمساك عن الصّلاة على تقدير كون الدم حيضاً ، كما أمرها بالتقوى والإتيان بالصلاة إن كان الدم دم عُذرة ، فإنّ الصّلاة إذا لم تكن محرمة على الحائض بالذات لم يكن وجه لمنعه عليه‌السلام عن الإتيان‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٧٢ / أبواب الحيض ب ٢ ح ١.

٣٣٥

بالصلاة بداعي الرّجاء والاحتمال كما ذكره الفقهاء ، فإنّ المرأة حينئذ إن كانت طاهرة في الواقع فقد أتت بفريضتها ، وإن كانت حائضاً فلم ترتكب محرماً ، لأنّها أتتها بالاحتمال فلا حرمة تشريعيّة في البين كما لا حرمة ذاتيّة ، فيستفاد من منع الإمام عليه‌السلام عن ذلك وأمرها بترك الصّلاة أنّها محرمة على الحائض بالذات بحيث لو كانت حائضاً في الواقع وأتت بها ولو رجاءً ارتكبت محرّماً ، لأنّ الصّلاة بذاتها محرمة.

وقد ذكر المحقّق الهمداني (١) قدس‌سره أنّ هذه الرّواية صريحة أو كالصريحة في أنّ العبادة من الحائض محرمة بالذات.

ولكن الجواب عن ذلك ظاهر ، وهو أنّ المحكي من كلام الفقهاء في هذه الرّواية غير مشتمل على إفتائهم بأنّ المرأة تأتي بصلاتها حينئذ بداعي الاحتياط والرّجاء بل ظاهره أنّهم أفتوا بوجوب الصّلاة عليها كما كانت تصلّي في الأيّام السابقة ، أعني بقصد أمرها نظراً إلى أنّها إن كانت طاهرة فقد أتت بوظيفتها ، وإن كانت حائضاً فلم تأت بالحرام وإنّما وقعت صلاتها لغواً ، وقد غفلوا عن أنّ إتيانها بقصد الأمر حينئذ تشريع محرم ، لأنّ الحائض غير مأمورة بالصلاة ، ومن هنا لم يرتض به الإمام عليه‌السلام وقال : أنّها تتقي الله وتمسك عن الصّلاة ، أي عن تلك الصّلاة الّتي أوجبها الفقهاء ، وهي الصّلاة كالصلاة في الأيّام السابقة ، وذلك لأنّها تشريع محرم. ثمّ بيّن طريق استكشاف أنّ الدم حيض أو دم عُذرة ، فلا تعرّض في الرّواية لحكم إتيان المرأة الصلاة بداعي الرّجاء والاحتمال نفياً ولا إثباتاً ، حتّى يقال إن منعه عليه‌السلام عن الصّلاة بداعي الاحتياط كاشف عن أنّ الصّلاة محرمة على الحائض في ذاتها ، وإلاّ لم يكن وجه لمنعه عليه‌السلام عن الاحتياط.

وعليه فحال هذه الرّواية حال بقيّة الأخبار الناهية عن الصّلاة في أيّام الحيض كقوله « لا تحل لها الصّلاة » (٢) وقوله « تدع الصّلاة » (٣) وغير ذلك من العبائر ، وقد‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٢٨٥ السطر ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٤٣ / أبواب الحيض ب ٣٩ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٧٦ / أبواب الحيض ب ٣ ح ٤.

٣٣٦

الثّاني : يحرم عليها مسّ اسم الله وصفاته الخاصّة ، بل غيرها أيضاً إذا كان المُراد بها هو الله (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قدّمنا أنّها ظاهرة في الإرشاد إلى الفساد أو مانعيّة الحيض.

وعليه فالإنصاف عدم ثبوت الحرمة الذاتيّة في عبادة الحائض بوجه. ومع عدم حرمة العبادة ذاتاً على الحائض تتمكّن من الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالحيض أو الاستحاضة أو غيرهما من موارد احتمال الحيض.

بل الظاهر أنّ إمكان الاحتياط متسالم عليه بينهم ، وذلك لأنّهم في موارد العلم الإجمالي بالحيض والاستحاضة يحتاطون بالجمع بين أحكام الحائض والمستحاضة فلو كانت العبادة محرمة ذاتاً على الحائض ولم تتمكّن من الاحتياط فما معنى الجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة الّتي منها الصّلاة.

ثمّ إنّا لو التزمنا بالحرمة الذاتيّة فهل تختصّ الحرمة بالفرائض الخمسة من الصّلاة ولا تعم مثل صلاة الآيات ، أو نلتزم بعمومها لجميع الصلوات؟

ذكر صاحب الحدائق أنّ الحرمة مختصّة بالفرائض الخمسة ولا حرمة لغيرها.

إلاّ أنّه ممّا لا وجه له ، لإطلاق الأخبار (١) الناهية عن الصّلاة في حال الحيض ولأنّ المستفاد منها أنّ الله لا يحبّ العبادة في تلك الحالة ، وهذا لا يفرق فيه بين الفريضة اليوميّة وغيرها ، وقد ورد في بعض الأخبار « فأحبّ الله أن لا يعبد إلاّ طاهراً » (٢) ، فلا فرق في الحرمة على القول بها بين الفرائض اليوميّة وغيرها.

حرمة المس على الحائض‌

(١) استدلّ على حرمة مسّ اسم الله تعالى الأعم من اسم الذات كلفظة الجلالة وصفاته أو أسمائه العامّة إذا قصد بها الذات المقدّسة بأمور :

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٤٣ / أبواب الحيض ب ٣٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٤٤ / أبواب الحيض ب ٣٩ ح ٢.

٣٣٧

أحدها : أنّه هتك.

وفيه : أنّه لماذا يكون هتكاً دائماً ، ولا سيما فيما إذا مسّته تعظيماً له كما إذا قبّلته المرأة للتعظيم.

ثانيها : إن ترك مسّه تعظيم له.

وفيه : أنّ ترك المس من الحائض وإن كان تعظيماً للاسم لا محالة ، إلاّ أنّه لا دليل على وجوب كلّ تعظيم ، كيف واستقبال القبلة في جميع الأحوال تعظيم للقبلة ، ولم ير من حكم بحرمة تركه ، فلا نقول بوجوبه إلاّ إذا كان نقيضه هتكاً ، كما إذا كان فعل المس هتكاً للاسم ، هذا كلّه بحسب الكبرى.

على أنّ الصغرى أيضاً مورد المناقشة ، فإن ترك المس لا يكون دائماً تعظيماً ، بل قد يكون التعظيم في مسّه كما إذا وقع الاسم في موضع غير مناسب له ، فإن مسّه لرفعه ووضعه في مكان مناسب له تعظيم لا محالة.

ثالثها : أنّ الحيض أعظم من الجنابة ، فإذا حرم مسّ اسم الله سبحانه على الجنب كما مرّ حرم على الحائض بطريق أولى.

والجواب عن ذلك : أنّ المراد بذلك لعله كون الحيض أشدّ وأعظم من الجنابة من حيث طول الزّمان ، لأنّ الجنابة يمكن أن يرتفع في دقيقة ولكن الحيض أقلّه ثلاثة أيّام ، أو كونه أشدّ منها باعتبار عدم كون المكلّف مأموراً بالعبادة في الحيض وهو مأمور بها في الجنابة ، وإلاّ فلم يثبت أنّ حدث الحيض أشدّ من حدث الجنابة. إذن لا يمكننا إثبات الأحكام المترتبة على الجنابة على الحيض.

ومن هنا يظهر الجواب عن رواية سعيد بن يسار الواردة في المرأة ترى الدم وهي جنب حيث قال عليه‌السلام « قد أتاها ما هو أعظم من ذلك » (١) ، فإنّ المراد به أنّ ما جاءها من الحيض أشدّ من جنابته من حيث طول الزّمان أو سقوط التكليف بالصلاة ، لا أنّ هذا الحدث أعظم من الآخر.

على أنّها ضعيفة السند بإسماعيل بن مَرّار الّذي قدّمنا الكلام فيه في بعض الأبحاث‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣١٤ / أبواب الحيض ب ٢٢ ح ٢.

٣٣٨

السابقة وقلنا إنّه غير ثابت الوثاقة (١) ، وأمّا ما عن محمّد بن الحسن بن الوليد من أنّ جميع كتب يونس معتبرة عنده سوى ما تفرّد به محمّد بن عيسى عن يونس (٢) فلا دلالة له على وثاقة إسماعيل بن مَرّار باعتبار أنّه يروي عن يونس ، فإنّ ذلك إنّما كان يدلّ عليه فيما إذا كانت كتب يونس أو كتاب من كتبه مرويّاً بطريق إسماعيل بن مَرّار على وجه الانحصار فقط ، فإنّ هذا الكلام كان توثيقاً له حينئذ لتوثيقه روايات جميع كتبه ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك لأنّ كتبه مروية بطرق غير إسماعيل بن مَرّار ، وبعضها معتبر لا سيما ما وقع في سلسلته ابن الوليد نفسه. وعليه لا دلالة للحكم باعتبار كتب يونس على أنّ إسماعيل بن مَرّار ثقة.

وكذا الحال في الاستدلال على حرمة مسّ الحائض أسماء الله سبحانه بما دلّ على حرمة مسّها الكتاب العزيز ، فإنّ ذلك كسابقه لا يخرج عن القياس ، حيث إنّا نحتمل أن يكون للكتاب خصوصيّة اقتضت ذلك دون اسم الله سبحانه.

والصحيح أن يستدلّ على ذلك بصحيحة داود بن فَرقَد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض؟ قال : نعم لا بأس ، قال وقال : تقرؤه وتكتبه ولا تصيبه يدها » (٣).

فإنّها معتبرة سنداً حيث إنّ داود بن فَرقَد ممّن وثقه الشيخ (٤) والنجاشي (٥) ، وقال ابن الغضائري (٦) إنّه ثقة ثقة ، مع أنّ دابة القدح غالباً ، وبقيّة الرّواة أيضاً لا كلام في اعتبارهم كما هو ظاهر.

ودلالتها على المدّعى ظاهرة ، حيث نهت عن أن تصيب الحائض التعويذ بيدها‌

__________________

(١) هذا ما بنى عليه دام ظلّه أوّلاً ، غير أنّه عدل عنه بعد ذلك وبنى على وثاقة الرّجل لوجوده في تفسير علي بن إبراهيم. وقد تقدّم الكلام فيه في الصفحة ١٢٦.

(٢) راجع تنقيح المقال ٣ : ٣٣٨ س ٣٤ / ترجمة يونس بن عبد الرّحمن.

(٣) الوسائل ٢ : ٣٤٢ / أبواب الحيض ب ٣٧ ح ١.

(٤) رجال الشيخ : ٣٣٦ / الرقم [٥٠٠٤].

(٥) رجال النجاشي : ١٥٨ / الرقم [٤١٨].

(٦) بل قال ابن فضّال ذلك ، راجع الكتب الرّجالية في ترجمة داود بن فرقد.

٣٣٩

وكذا مسّ أسماء الأنبياء والأئمّة على الأحوط (*) (١)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومقتضى القرينة الداخليّة وهي مناسبة الحكم والموضوع والقرينة الخارجيّة وهي العلم بعدم حرمة مسّ الحائض لغير أسماء الله الموجودة في العوذة كلفظة « أعوذ » مثلاً هو أنّ مسّ الحائض أسماء الله تعالى الموجودة في التعويذ محرم في حقّها.

وبما أنّ التعويذ قد يكون باسم الذات كقولنا أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ، وقد يكون بصفاته كأعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً أو من فسقة الإنس والجن ، وقد يكون بالأسماء العامّة مقصوداً بها الذات المقدّسة كأعوذ بالعالم القادر ونحو ذلك فتدلّ المعتبرة بترك التفصيل على حرمة مسّ الحائض لأسماء الله تعالى على نحو الإطلاق.

وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض؟ فقال : نعم إذا كان في جلد أو فضّة أو قصبة حديد » (٢) ، وذلك للعلم بعدم خصوصيّة في الجلد والحديد ، بل المقصود أن لا تمس الحائض التعويذ لاشتماله على أسماء الله سبحانه ، فيجوز المسّ إذا كان في غيرهما أيضاً ممّا يمنع عن مسّ الاسم ، كما أنّ مسّه بما فيه من الأسماء محرم.

ويؤيّده ما رواه الشيخ عن داود عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض؟ قال : لا بأس ، وقال : تقرؤه وتكتبه ولا تمسّه » (٣).

(١) قدّمنا في بحث الجنابة أنّ مسّ الجنب والحائض أسماء الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام إنّما يحرم فيما إذا استلزم الهتك ، ومع عدم استلزامه ذلك لا دليل على حرمة مسّها (٤).

__________________

(*) لا بأس بتركه.

(١) الوسائل ٢ : ٣٤٢ / أبواب الحيض ب ٣٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٤٣ / أبواب الحيض ب ٣٧ ح ٤.

(٣) تقدّم في شرح العروة ٦ : ٣١١.

٣٤٠