موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الثّالث : أن يقال إنّ تحصيل الجزم بالنيّة وإن لم يكن معتبراً في جميع الواجبات إلاّ أنّه معتبر في خصوص صلاة المرأة الخارج منها الدم المردّد بين دم الحيض ودم البكارة بمقتضى هاتين الصحيحتين ، حيث دلّتا على وجوب الاختبار بالإضافة إليها فلو صلّت لا مع الجزم بالنيّة فسدت.

وهذه الوجوه برمّتها فاسدة لا يمكن المساعدة على شي‌ء منها.

أمّا احتمال حرمة الصّلاة على الحائض ذاتاً فيدفعه أنّه أمر لم يقم عليه دليل ، لأنّ نهيها عن الصّلاة في هاتين الصحيحتين أو إحداهما بقوله فلتتّق الله وتمسك عن الصّلاة إذا كان الدم دم حيض ، وفيما ورد من قوله عليه‌السلام « دعي الصّلاة أيّام أقرائك » (١) إرشاد إلى فساد صلاة الحائض لعدم الأمر بها ، وأمّا أنّها من المحرّمات الإلهيّة الذاتيّة في الشريعة المقدّسة فمما لا نحتمله ولا دليل عليه.

وأمّا دعوى اشتراط الجزم بالنيّة في العبادات فيدفعه ما ذكرناه في غير مورد من أنّ العبادة يعتبر إضافتها إلى المولى نحو إضافة ، وأمّا اعتبار الإتيان بها مع الجزم بالنيّة وغيره فهو أمر زائد يحتاج اعتباره فيها إلى دلالة الدليل ، ولا دليل على اعتباره في المقام.

وإنّما الكلام في الوجه الثّالث ، حيث قد يتوهّم أنّ الصحيحتين دلّتا على نهي المرأة عن الصّلاة إلاّ مع الاختبار ، فلو جازت الصّلاة في حقّها مع الرّجاء ولم يعتبر في صحّتها الجزم بالنيّة لم يكن لاشتراطه مطلقاً وجه صحيح.

ولكنّه يندفع بأنّهما دلّتا على نهي المرأة عن أن تصلّي حينئذ كما كانت تصلّي لولا هذا الدم ، حيث إنّها كانت تصلّي مع الجزم بالنيّة على ما هو الطبع والعادة في الامتثال فقد دلّتا على أنّها لا تتمكّن من الصّلاة مع الجزم حينئذ ، لأنّه تشريع محرّم والاستصحاب منقطع في حقّها ، وأمّا أنّها لا تتمكّن من أن تصلِّي رجاء عدم كونها حائضاً فلا دلالة عليه في شي‌ء من الصحيحتين.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٧ / أبواب الحيض ب ٧ ح ٢.

١٠١

نعم قد يصل إلى النظر أن المسألة في الرّوايتين كانت قد عُرضت على فقهاء العامّة قبل أن يسألوا عنها الإمام عليه‌السلام ، وأجابوا بأن تصلّي المرأة رجاءً ، لأنّها إن لم تكن حائضاً واقعاً فقد أدّت واجبها ، وإن كانت حائضاً فقد أتت بشي‌ء لغو لا يضرّها ، والإمام عليه‌السلام لم يرتض ذلك ولم ينفذ أجوبتهم وآراءهم ، فلو كان الإتيان بها رجاءً صحيحاً من دون اختبارها لم يكن لإعراض الإمام عليه‌السلام عن ذلك وأمره بالاختبار وجه صحيح ، فمن هذا يستكشف أنّ الاختبار شرط في صحّة صلاة المرأة في مفروض البحث مطلقاً حتّى فيما إذا صلّت رجاء.

ويدفع ذلك أنّ المسألة وإن كانت قد عرضت على فقهاء العامّة إلاّ أنّ حكمهم بصحّة صلاتها مع الرّجاء لم يذكر للإمام عليه‌السلام حتّى ينفذه أو يردع عنه ، وإنّما سأله الرّاوي عن حكم المرأة المذكورة ابتداءً وأجابه عليه‌السلام بالاختبار ، فلا دلالة في شي‌ء من الصحيحتين على بطلان صلاة المرأة عند الإتيان بها رجاءً فيما إذا لم تكن حائضاً واقعاً.

فالصحيح أنّ الصحيحتين إنّما تدلاّن على انقطاع الاستصحاب في حقّ المرأة واشتراط الاختبار في صحّة صلاتها إذا أرادت الصّلاة مع الجزم بالنيّة ، ولا دلالة لهما على الاشتراط مطلقاً ، نعم إذا أرادت الصّلاة مع الجزم بالنيّة لم تتمكن إلاّ بالاختبار وإلاّ كان تشريعاً محرّماً ، وهذا بخلاف ما إذا صلّت رجاء عدم كونها حائضاً ، لأنّها إذا لم تكن حائضاً واقعاً يحكم بصحّة صلاتها لإتيانها بالصلاة متقربة ، فلا تجب إعادتها أو قضاؤها ، والاختبار إنّما أوجب طريقاً إلى استكشاف حال الدم لا أنّه شرط في صحّة الصّلاة.

ويترتّب على ذلك أنّها إذا غفلت عن حالها وصلّت مع الجزم بالنيّة ولم تكن حائضاً واقعاً فإنّ صلاتها بناءً على ما قدّمناه صحيحة ، لأنّها أتت بالصلاة مع التقرّب بها إلى الله ، ولا بأس بجزمها لمكان غفلتها ، ولا يتحقّق معها التشريع كما مرّ فيحكم بصحّة صلاتها ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا باشتراط صلاتها بالاختبار مطلقاً حيث يحكم ببطلان صلاتها حينئذ لفقدها الاختبار الّذي هو شرط في صحّتها على‌

١٠٢

وإذا تعذّر الاختبار ترجع إلى الحالة السابقة من طهر أو حيض ، وإلاّ فتبني على الطّهارة ، لكن مراعاة الاحتياط أولى (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفرض.

إلاّ أنّ ذلك إنّما هو على ما تقتضيه القاعدة ، وأمّا بالنظر إلى حديث « لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمسة » (١) فلا تجب إعادتها حتّى على القول بأنّ الاختبار شرط مطلقاً ، لعدم كون الاختبار من الخمسة المعادة منها الصّلاة ، وعليه فلا فرق بين القولين في النتيجة ، وإنّما تظهر الثمرة فيما تقتضيه القاعدة فحسب.

حكم تعذّر الاختبار‌

(١) وإذا تعذّر الاختبار لفوران الدم أو لعدم القطنة وما يقوم مقامها فعلى ما قدّمناه من عدم دلالة الصحيحتين إلاّ على انقطاع الاستصحاب في حقّ المرأة حالئذ من دون أن يكون الاختبار شرطاً لصحّة صلاتها مطلقاً فلا بدّ من الرّجوع إلى استصحاب حالتها السابقة ، وذلك لأنّ الصحيحتين إنّما دلّتا على عدم رجوعها إلى استصحاب الحالة السابقة ووجوب تمييز الدم بالاختبار في حقّها فيما إذا تمكّنت من الاختبار ، لأنّه الظّاهر المستفاد منهما كما لا يخفى ، فلا ترفع اليد عن الاستصحاب إلاّ بهذا المقدار فقط.

وأمّا إذا لم تتمكّن من الاختبار فلا تشملها الأخبار ، ومعه لا مانع من الرّجوع إلى الاستصحاب ، فإن كانت حالتها السابقة هي الطّهارة تجب عليها الصّلاة والصّيام وغيرهما من وظائف غير الحائض ، كما أنّها إذا كانت هي الحيض تستصحبه ، فيحكم بحرمة دخولها المسجد وسقوط الصّلاة عنها وغير ذلك من الوظائف المقرّرة في حقّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨ ، ٦ : ٩١ / أبواب القراءة في الصّلاة ب ٢٩ ح ٥ ، ٣١٣ / أبواب الرّكوع ب ١٠ ح ٥ ، ٣٨٩ / أبواب السجود ب ٢٨ ح ١ ، ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ح ١.

١٠٣

الحائض ، وأمّا إذا اشتبهت الحالة السابقة ولم تكن لها حالة سابقة معيّنة فيأتي الكلام عليها عن قريب.

وأمّا إذا قلنا باشتراط صلاة المرأة في محل الكلام بالاختبار فمقتضى القاعدة حينئذ الحكم بعدم وجوب الصّلاة في حقّها ، لأنّها إمّا حائض فهي ساقطة عنها لا محالة وإمّا غير حائض ولكنها غير مكلّفة بالصلاة لتعذرها بتعذر شرطها ، إلاّ أن يتشبث بذيل قوله عليه‌السلام إنّها « لا تدع الصّلاة على حال » (١) حيث يدلّ على أنّ المرأة في مفروض الكلام على تقدير عدم كونها حائضاً بحسب الواقع لم تسقط عنها الصّلاة.

بل يمكن استفادة ذلك من نفس الصحيحتين أيضاً ، حيث ورد في إحداهما أنّها تتّقي الله وتصلّي إذا خرجت القطنة مطوّقة بالدم ، لأنّها واضحة الدلالة على أنّ المرأة على تقدير عدم كونها حائضاً مكلّفة بالصلاة ، وكذلك الصحيحة الأُخرى حيث أوجبت الصّلاة في حقّها على تقدير عدم خروج القطنة منغمسة بالدم ، فيدور الأمر بين سقوط أصل الصّلاة عنها كما إذا كانت حائضاً وبين سقوط شرطيّة الاختبار كما إذا لم تكن حائضاً واقعاً.

ومعه لا بدّ من الرّجوع إلى الاستصحاب بعد عدم شمول الصحيحتين للمقام ، لاختصاصهما بصورة التمكن من الاختبار ، فإن كانت حالتها السابقة هي الطّهارة فمقتضى استصحابها وجوب الصّلاة في حقّها ، كما أنّها إذا كانت هي الحيض فمقتضاه عدم وجوبها في حقّها.

فتحصّل أنّه لا فرق في الرّجوع إلى استصحاب الحالة السابقة بين القول باشتراط صلاة المرأة بالاختبار مطلقاً وبين القول باختصاص شرطيّته بصورة الإتيان بالصلاة مع الجزم بالنيّة ، هذا كلّه إذا كانت الحالة السابقة معيّنة.

وأمّا إذا جهلت الحالة السابقة لكونها حائضاً في زمان ومتطهرة في زمان آخر‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

١٠٤

واشتبه المتقدّم منهما بالمتأخر فلم تدرِ كانت طاهرة فخرج منها الدم المردّد أم كانت حائضاً فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب حينئذ ، إمّا للمعارضة كما هو الصحيح وإمّا لقصور المقتضي وعدم جريان الاستصحاب في نفسه كما بنى عليه صاحب الكفاية قدس‌سره.

وحينئذ قد يقال بأنّ الواجب هو الاحتياط بالجمع بين وظائف الطاهرة والحائض بأن تصلّي وتصوم ولا تدخل المسجد ولا تمكّن زوجها من نفسها بالوقاع ، وذلك لأنّ الحيض موضوع لجملة من الأحكام الإلزاميّة كحرمة الدخول في المساجد وحرمة تمكين الزّوج من نفسها بالجماع ، كما أنّ الطّهارة من الحيض موضوع لجملة من الأحكام الإلزاميّة كوجوب الصّلاة والصّيام وغيرهما ، وحيث إنّها مردّدة بين كونها طاهرة وحائضاً فلها علم إجمالي بتوجّه أحد التكليفين الإلزاميين نحوها ومقتضاه وجوب الاحتياط كما ذكرناه.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ المرأة حينئذ غير محكومة بالحيض شرعاً ويجوز لها محرمات الحائض ، كما هو ظاهر جملة من الأعاظم والأعلام ، وذلك لأنّ المستفاد من الأخبار أنّ دم الحيض دم يمتاز عن بقيّة الدّماء ، وله أوصاف يمتاز بها عن غيره (١) ، فإنّه يخرج من الرّحم ، ودم الاستحاضة يخرج من عرق آخر ، كما أنّ دم البَكارة يخرج من نفس الموضع دون الرّحم. وكيف كان فدم الحيض ممتاز عن بقيّة الدّماء ، وهو عنوان وجودي وله أحكام خاصّة ، وقد تقدّم أنّ الحيض اسم لنفس الدم ، كما أنّ التكليف بالصّلاة والصيام والحكم بجواز الدّخول في المسجد متوجّه إلى عامّة المكلّفين ، وإنّما خرج عنها ذلك العنوان الوجودي ، حيث إنّه موضوع للحكم بحرمة الدخول في المساجد وعدم وجوب الصّلاة وهكذا.

فإذا شكّكنا في مورد أنّ هذا العنوان الوجودي هل تحقّق أم لم يتحقّق فالأصل عدم تحقّقه وعدم اتّصاف الدم بكونه حيضاً ، لجريان الأصل في الأعدام الأزليّة كما مرّ غير مرّة ، وبه ننفي الأحكام المترتبة على نفس عنوان دم الحيض ، ككونه مانعاً عن‌

__________________

(١) راجع الوسائل ٢ : ٢٧٥ / أبواب الحيض ب ٣.

١٠٥

ولا يلحق بالبَكارة في الحكم المذكور غيرها كالقَرحة المحيطة بأطراف الفرج (١). وإن اشتبه بدم القرحة فالمشهور أنّ الدم إن كان يخرج من الطرف الأيسر فحيض وإلاّ فمن القرحة (٢) ، إلاّ أن يعلم أنّ القرحة في الطرف الأيسر ، لكن الحكم المذكور مشكل فلا يترك الاحتياط بالجمع بين أعمال الطّاهرة والحائض (*).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصّلاة ولو كان أقل من درهم على ما هو المعروف بينهم ، كما ننفي الأحكام المترتبة على من خرج منها هذا الدم ونحكم عليها بوجوب الصّلاة والصّيام ، لانتفاء الحيض الّذي هو اسم لنفس الدم ، وعدم كون المرأة حائضاً ، أي عدم خروج الدم المتصف بالحيض منها ، ومعه يجوز لها ارتكاب المحرّمات في حقّ الحائض وإن كان تركها أحوط.

القَرحة لا تلحق بالبكارة‌

(١) لاختصاص أدلّة الاختبار بما إذا دار الدم بين دم الحيض ودم البكارة ، وهو على خلاف القاعدة ، ومعه لا مسوغ لاسرائه إلى صورة دورانه بين دم الحيض ودم القرحة أو غيرها ، لأنّه قياس.

دوران الدم بين الحيض والقَرحة‌

(٢) إذا دار الدم بين دم الحيض ودم القرحة فقد ذكروا أنّ الحال فيه حال دورانه بين دم الحيض ودم البكارة في وجوب الاختبار ، إلاّ أنّ كيفيّته مختلفة ، فإنّه عند دورانه بين دم الحيض والقرحة إنّما يختبر باستلقاء المرأة على ظهرها ورفع رجليها ثمّ إدخال إصبعها في فرجها ، فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو حيض ، وإن كان خارجاً من الطرف الأيمن فهو دم القرحة ، هذا هو المشهور بينهم ، ونسبه إلى المشهور غير واحد من الأصحاب.

__________________

(*) لا يبعد جريان أحكام الطاهرة عليها إلاّ إذا كانت مسبوقة بالحيض.

١٠٦

وفي قبال ذلك قولان آخران :

أحدهما : ما ذهب إليه الشهيد في الدروس (١) والذكرى (٢) ولكن حكي رجوعه عن ذلك في البيان (٣) الّذي هو متأخِّر عن سائر كتبه في التأليف وحكي عن الكاتب وابن طاوس (٤) ، من أنّه إن كان خارجاً من الطرف الأيمن فهو حيض ، وإن كان خارجاً من الطرف الأيسر فهو دم القرحة ، على عكس مسلك المشهور.

ثانيهما : ما مال إليه المحقّق (٥) ، بل هو ظاهر الشرائع (٦) حيث نسب الاختبار بما ذهب إليه المشهور إلى القيل ، لأنّه لو كان ثابتاً عنده لذكره على وجه الجزم ، كما في الاختبار عند اشتباه الحيض بدم البكارة ، وحكي عن الأردبيلي وتلميذه المقدّس الكاظمي كما في مفتاح الكرامة (٧) ، والشهيد الثّاني في المسالك (٨) ، من عدم ثبوت الاختبار حينئذ وعدم كون الخروج من الطرف الأيسر أو الأيمن أمارة على الحيض بل حاله حال بقيّة الدماء المشتبهة بالحيض غير الاستحاضة ، ولا بدّ معه من الرّجوع إلى مقتضى الأُصول كما يأتي.

أمّا مستند المشهور فهو رواية الشيخ قدس‌سره في التهذيب عن محمّد بن يحيى مرفوعاً عن أبان بن تَغلب قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام فتاة منّا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة ، فقال عليه‌السلام : مُرْها فلتستلق على ظهرها ثمّ ترفع رجليها وتستدخل إصبعها الوسطى‌

__________________

(١) الدروس ١ : ٩٧ / درس ٦.

(٢) الذكرى : ٢٨ س ١٤ / المقام الثّاني في الحيض.

(٣) حكاه في الحدائق ٣ : ١٥٦ / في غسل الحيض ، وراجع البيان : ١٦ السطر ١١.

(٤) حكاه في الذكرى : ٢٨ السطر ١٥ و ١٦ / المقام الثّاني في الحيض ، وحكاه عن الكاتب ( وهو ابن الجنيد ) في المختلف ١ : ١٩٤ / في الحيض ، المسألة ١٤٠.

(٥) المعتبر ١ : ١٩٩ / الثّاني في غسل الحيض.

(٦) الشرائع ١ : ٣٣ / الفصل الثّاني في الحيض.

(٧) حكاه عنهما في مفتاح الكرامة ١ : ٣٣٨ / المقصد السادس في الحيض.

(٨) المسالك ١ : ٥٧ / الفصل الثّاني في الحيض.

١٠٧

فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة » (١).

ومستند الشهيد قدس‌سره رواية الكليني قدس‌سره عن محمّد بن يحيى أيضاً مرفوعاً عن أبان قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منّا بها قرحة وساق الرّواية كما نقلناها عن الشيخ إلى أن قال فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة » (٢) على عكس رواية الشيخ وعن الشهيد قدس‌سره أنّ كثيراً من نسخ التهذيب مطابق لرواية الكليني قدس‌سره هذا.

أمّا ما اعتمد عليه الشهيد قدس‌سره فيتوجه عليه أنّ الرّواية ضعيفة ، لأنّها حكيت مرفوعة وغير منجبرة بعمل الأصحاب ، لأنّ المشهور بينهم عكس ذلك كما مرّ ، على أنّها لو كانت معمولاً بها بينهم أيضاً لم نكن نعتمد عليها ، لأنّ ضعف الرّواية لا ينجبر بعملهم ، فلا وقع لما ذهب إليه قدس‌سره في المسألة.

وأمّا مستند المشهور فهو أيضاً كمستند الشهيد في الضعف ، وذلك لأنّه لم تثبت رواية الشيخ في نفسها ، وذلك لا لما ادّعاه الشهيد من أنّ كثيراً من نسخ التهذيب موافقة لنسخة الكليني ، لأنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، حيث إنّ الشيخ في كتبه أفتى على طبق مسلك المشهور وجعل خروج الدم من الجانب الأيسر أمارة على الحيض ، فلو كانت نسخة التهذيب مطابقة لنسخة الكليني فبأيّ شي‌ء اعتمد قدس‌سره في فتياه؟ وكذلك غيره من الأعلام ممّن ذهب مذهب المشهور ، حيث لو لم تكن رواية الشيخ كما نقلناها ، بأن كانت موافقة لنسخة الكافي لم يكن وجه لفتياهم بكون الخروج من الجانب الأيسر أمارة على الحيض.

بل الوجه في عدم ثبوتها في نفسها أنّ الشيخ إنّما يرويها عن كتاب محمّد بن يحيى‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٠٧ / أبواب الحيض ب ١٦ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٠٧ / أبواب الحيض ب ١٦ ح ١.

١٠٨

العطّار ، إنّه يروي الرّوايات عن كتب الرواة ثمّ يذكر أسانيدها وطرقه إلى مؤلّفيها لتخرج الرّوايات بذلك عن الإرسال إلى الاسناد على ما ذكره في تهذيبه (١) ، وبينه وبين الشيخ مدّة من الزّمان وإن أمكن أن يروي عن غير كتبهم في بعض الموارد أيضاً ، والكليني يروي عن نفس محمّد بن يحيى ، لأنّه من مشايخه وأساتذته ، وحيث إنّا نقطع أنّ محمّد بن يحيى لم يرو روايتين متعاكستين ، وإنّما الرّواية واحدة فلا محالة نقطع بأنّ رواية محمّد بن يحيى إنّما هي إحدى الرّوايتين أعني رواية التهذيب ورواية الكافي وحيث أنّ الكليني يروي عن نفس محمّد بن يحيى ، والشيخ يروي عن كتابه مع الواسطة ، وهو أضبط بخلاف روايات الشيخ في تهذيبه حيث وقع فيها الاشتباه على ما ذكروا موارده ، فلا محالة نجزم أو نطمئن بأنّ رواية محمّد بن يحيى هي الّتي يرويها الكليني قدس‌سره لبُعد أن تكون رواية محمّد بن يحيى ما عثر عليه الشيخ في كتابه ولو مع الواسطة ، دون ما ينقله عنه الكليني من نفسه بدون واسطة وأنّه وقع اشتباه في رواية الشيخ بتبديل الأيسر بالأيمن إمّا في كتاب محمّد بن يحيى وإمّا في رواية الشيخ.

لكن الظاهر أنّ الاشتباه ممن تقدّم على الشيخ ، حيث إنّه يجري على طبق رواياته في كتبه ويفتي على طبقها. وعليه فرواية الشيخ الّتي هي مستند المشهور غير ثابتة وهو من اشتباه الرّواية بغيرها ، حيث لا ندري أنّ رواية محمّد بن يحيى هي الّتي رواها الشيخ أو غيره ، ومعه لا يمكن الاعتماد عليها. وحاصل ما ذكرناه في المقام هو استبعاد أن تكون رواية محمّد بن يحيى هي الّتي عثر عليها الشيخ في كتابه ولو مع الواسطة دون ما روى عنه الكليني من نفسه بلا واسطة هذا.

ولكن قد ظهر بعد المراجعة أنّ الشيخ قدس‌سره يروي روايات محمّد بن يحيى العطار بطريقين : بطريق أحمد بن محمّد بن يحيى ، وبطريق الكليني نفسه ، فكلّما روى عنه الشيخ إنّما يرويه بواسطتهما ، ومع عدم نقل الكليني الرّواية كما ينقلها الشيخ‌

__________________

(١) التهذيب ١٠ ( المشيخة ) : ٥.

١٠٩

( قدس‌سره ) عنه ينكشف أنّ الشيخ عثر على ما يرويه عنه في بعض نسخ الكافي لا محالة ، وعليه فلا يعلم أنّ رواية محمّد بن يحيى الّتي يرويها الكليني من دون واسطة ويرويها الشيخ بواسطة الكليني هي الموجودة في الكافي أو الموجودة في التهذيب ، وهو من اشتباه الرّواية بغيرها ، فلا يثبت شي‌ء من الرّوايتين ، لعدم العلم بأن الرّواية هي المروية في نسخة الكافي الموجودة عندنا أو أنّها مروية في النسخة الّتي عثر عليها الشيخ ، ومعه لا يحكم بثبوت شي‌ء من الرّوايتين.

وهذا بلا فرق بين تضعيف أحمد بن محمّد بن يحيى وعدمه ، لأنّ الشيخ كلّ ما يرويه عن العطّار يرويه بطريقين ، فلا بدّ في رواية الشيخ عنه أن تكون الرّواية موجودة في الكافي لا محالة ، ومع تعدّد النسخ لا تثبت الرّواية كما ذكرناه (١).

ولا وجه لدعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور ، حيث لم تثبت رواية حتّى تنجبر بعملهم ، على أنّا لو سلّمنا أنّ رواية الشيخ ثابتة فلا وجه لانجبار ضعفها بعملهم على ما مرّ منّا غير مرّة ، فإنّهم لو كانوا عثروا على قرينة تدلّهم على أنّ الواسطة بين محمّد ابن يحيى وأبان موثقة لنبّهوا على ذلك في كتبهم وذكروا تلكم القرينة مع أنّه لا أثر منها في كلماتهم.

هذا مضافاً إلى ضعف مضمونها ، فإنّ جعل خروج الدم من الجانب الأيسر أمارة على الحيض إمّا من جهة أنّ دم الحيض يخرج من الجانب الأيسر غالباً ، والشارع جعل الغلبة أمارة على الحيضيّة حينئذ ، وإمّا من جهة أنّ القرحة إنّما تتكوّن في الجانب الأيمن ، فيكون خروج الدم من ذلك الجانب أمارة على أنّه دم القرحة. وهاتان الجهتان خلاف الوجدان.

أمّا الجهة الاولى : فلأنّ دم الحيض إنّما يخرج من الرّحم ، وكلا الجانبين بالنسبة إليه على حدّ سواء ، فلا وجه لخروجه من جانب دون جانب ، على أنّه دم بَحراني أي‌

__________________

(١) راجع معجم رجال الحديث ١٩ : ٤٣ / ترجمة محمّد بن يحيى العطّار.

١١٠

كثير كما في الأخبار (١) ومن ثمة جعلت الكثرة أمارة الحيض في الحبلى كما مرّ وخروج الدم الكثير لا يمكن إسناده إلى جانب دون جانب ، لأنّه يستوعب المجرى لا محالة.

كما (٢) أن تكوّن القرحة في الجانب الأيمن على خلاف الوجدان ، لأنّها قد تتكوّن في الطرف الأيسر وقد تتكوّن في الطرف الأيمن ، فما ذهب إليه المشهور ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

إذن ما ذهب إليه المحقّق والمحقّق الأردبيلي والشهيد الثّاني والكاظمي من عدم ثبوت التمييز والاختبار عند اشتباه الحيض بدم القرحة هو الصحيح ، فهو حينئذ دم مردّد بين الحيض وبين غير الاستحاضة ، ولا بدّ في مثله من الرّجوع إلى الأصل إلاّ عند دورانه بين الحيض والعُذرة كما مرّ.

فإن كانت حالتها السابقة هي الطّهارة فتستصحب طهارتها وتجب عليها الصّلاة وإن كانت حالتها السابقة هي الحيض تستصحب حيضها ، وأمّا إذا جهلت الحالة السابقة فمقتضى العلم الإجمالي وإن كان هو الاحتياط إلاّ أنّه غير واجب لاستصحاب عدم كون الدم متصفاً بالحيضيّة ، وهو يقتضي ترتب آثار الطاهرة على المرأة كما مرّ.

نعم ، الاحتياط بالجمع بين أعمال الطّاهرة وتروك الحائض في محلّه ، إلاّ أنّه عند خروج الدم من الجانب الأيسر ، لأنّه الّذي دلّت الرّواية على كونه حيضاً وناقشنا فيها ، دون ما إذا خرج من الجانب الأيمن ، لأنّه محكوم بعدم الحيضيّة حتّى بناءً على ثبوت الرّواية ، حيث تدلّ الرّواية على أنّه دم القرحة ، فما أفاده الماتن من الأمر بالاحتياط بعد الاستشكال في الحكم المشهور لا يتمّ على إطلاقه ، بل لا بدّ من تخصيصه بما إذا كان الدم خارجاً من الجانب الأيسر كما مرّ.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٧٦ / أبواب الحيض ب ٣ ح ٤ ، وورد التعبير بالكثير أيضاً في ص ٣٣١ و ٣٣٤ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٥ و ١٦.

(٢) هذه هي الجهة الثّانية.

١١١

ولو اشتبه بدم آخر حكم عليه بعدم الحيضيّة إلاّ أن تكون الحالة السابقة هي الحيضيّة (١).

[٧٠٦] مسألة ٦ : أقل الحيض ثلاثة أيّام (٢) ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دوران الدم بين الحيض وغير دم القرحة‌

(١) إذا لم يعلم أنّ الدم يخرج من الرّحم أو من عرق آخر فإن كانت حالتها السابقة هي الطّهارة وعدم كونها حائضاً فتستصحب طهارتها ، وإذا كانت هي الحيض وكانت حائضاً فتستصحب كونها كذلك ، وبالاستصحاب يثبت كونها حائضاً أو طاهرة ، لانحلال العلم الإجمالي بجريان الأصل المثبت في طرف والأصل النافي في طرف آخر ، كاستصحاب بقاء حيضها مع استصحاب عدم طهارتها أو بالعكس.

وأمّا إذا جهلت الحالة السابقة ولم تعلم أنّ الحالة المتصلة بخروج الدم هي الطّهر أو الحيض فلا يمكن استصحاب كون المرأة حائضاً أو طاهرة ، لتعارض استصحاب طهارتها باستصحاب كونها حائضاً ، أو لعدم جريانهما في نفسهما كما بنى عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ، وحينئذ فمقتضى العلم الإجمالي بتوجه تكليف إلزامي عليها حيث إنّ لكلّ من الحيض والطّهر أحكاماً إلزاميّة هو الاحتياط ، إلاّ أنّ مقتضى الأصل الجاري في نفس الدم وعدم خروجه من الرّحم وعدم اتصافه بالحيضيّة أعني استصحاب العدم الأزلي عدم ترتيب آثار الحيضيّة من أحكام نفس الحيض أو أحكام من يخرج عنه ، وهذا الاستصحاب لا معارض له كما هو ظاهر.

أقل مدّة الحيض‌

(٢) هذا هو المتسالم عليه بين أصحابنا قدس الله أرواحهم ، بل ادعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد منهم على ما في مفتاح الكرامة (١) ، وقد نقل فيه أنّ أبا يوسف‌

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٤١ / المقصد السادس في الحيض.

١١٢

وأبا حنيفة أيضاً ذهبا إلى ذلك ، وأمّا مالك والشّافعي وابن حنبل فقد ذهبوا إلى أنّ أقلّه أقل من ثلاثة أيّام ، على تفصيل في ذلك فليراجع.

ويدلُّ على ذلك جملة من الأخبار فيها صحاح وموثقة وغيرها ، بل لا يبعد تواترها إجمالاً.

منها : صحيحة معاوية بن عَمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيّام ، وأكثر ما يكون عشرة أيّام » (١).

ومنها : صحيحة صفوان بن يحيى قال : « سألت أبا الحسن الرّضا عليه‌السلام عن أدنى ما يكون من الحيض ، قال : أدناه ثلاثة وأبعده عشرة » (٢) إلى غير ذلك من الأخبار (٣).

وبإزاء هذه الرّوايات موثقتان :

إحداهما : موثقة إسحاق بن عَمّار قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الحُبلى ترى الدم اليوم واليومين ، قال إن كان الدم عبيطاً فلا تصلّ دينك اليومين ، وإن كان صُفرة فلتغتسل عند كلّ صلاتين » (٤).

وثانيتهما : موثقة سَماعة بن مِهران قال « سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض فتقعد في الشهر يومين وفي الشهر ثلاثة أيّام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء ، قال : فلها أن تجلس وتدع الصّلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة ، فإذا اتفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها » (٥).

قد يقال بكونهما معارضتين للأخبار المتقدّمة ، لدلالتهما على أنّ أقل الحيض أقل من ثلاثة أيّام ، فلا بدّ من طرحهما أو حملهما على خلاف ظاهرهما ، بل عن المحقّق‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩٣ / أبواب الحيض ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٩٤ / أبواب الحيض ب ١٠ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٩٣ و ٢٩٩ / أبواب الحيض ب ١٠ و ١٢ و ...

(٤) الوسائل ٢ : ٢٩٦ / أبواب الحيض ب ١٠ ح ١٣.

(٥) الوسائل ٢ : ٣٠٤ / أبواب الحيض ب ١٤ ح ١.

١١٣

الهمداني (١) قدس‌سره العمل بهما في موردهما ، أعني المرأة الحبلى والمبتدئة الّتي ترى الدم في الشهر يومين وفي الشهر ثلاثة أيّام ، تخصيصاً لما دلّ على أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام بالإضافة إلى مورد الرّوايتين.

ولكن الصحيح عدم معارضتهما للأخبار المتقدّمة بوجه ، وذلك لأنّ الموثقة الأُولى لم تدل على أنّها لا تصلّي بعد ذينك اليومين ، وإنّما دلّت على ترتيب آثار الحيض من حين ترى الدم في اليوم واليومين ومقارناً لخروجه ، حيث قال عليه‌السلام « فلا تصلّ ذينك اليومين » لا أنّها لا تصلّي بعدهما ، كما لا دلالة لها على أنّ وظيفتها أيّ شي‌ء إذا انكشف انقطاع الدم قبل ثلاثة أيّام ، وعليه فالرواية بصدد بيان الحكم الظّاهري وأنّ المرأة بمجرّد رؤيتها الدم ترتّب آثار الحيض على نفسها ، ثمّ إنّه إذا انكشف انقطاعه قبل ثلاثة أيّام فيعلم عدم كونه حيضاً بمقتضى الأخبار المتقدّمة الّتي دلّت على أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام.

فالموثقة مسوقة لبيان الحكم الظّاهري والأخبار المتقدّمة مبيّنة للحكم الواقعي ، ولا تعارض بين الحكم الظّاهري والواقعي. نعم لو كانت الموثقة دلّت على أنّ المرأة بعد انقطاع الدم قبل ثلاثة أيّام ترتب أحكام الحائض على نفسها لكانت معارضة مع الأخبار المتقدّمة ، لدلالتها حينئذ على أنّ أقلّ الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام ، ولكن لا دلالة لها على ذلك كما عرفت.

وكذلك الحال في الموثقة الثانية الواردة في وظيفة المبتدئة ، أي الّتي لم تر الحيض قبل ذلك ، حيث دلّت على أنّها ترتب آثار الحيض من حين ترى الدم وهو حكم ظاهري ، ولا دلالة لها على أنّ الدم إذا انقطع قبل ثلاثة أيّام أيضاً تبنى على كونها حائضاً ، حيث إنّها سيقت لبيان أن رؤية الدم شهرين على وجه التساوي يوجب تحقّق العادة للمرأة ، وليس لها نظر إلى وظيفة المرأة عند انقطاع دمها قبل الثلاثة ، وأمّا أنّها تبنى على كونها حائضاً أو لا تبنى عند انقطاع الدم قبل الثلاثة فلا دلالة لها على‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٢٦٢ السطر ٣١.

١١٤

شي‌ء منه.

فالموثقة سيقت لبيان الوظيفة الظاهريّة للمبتدئة ، فإذا انقطع الدم قبل ثلاثة أيّام انكشف عدم كون الدم حيضاً بمقتضى الرّوايات المتقدّمة ، فلا معارضة بينها وبين الأخبار المتقدّمة ، لأنّ الموثقة بصدد بيان الحكم الظاهري والأخبار المتقدّمة تدل على الحكم الواقعي ، ولا تنافي بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة حتّى تطرح الموثقتان أو تحملا على خلاف ظاهرهما ، أو يعمل بهما في موردهما فقط ، أعني المرأة الحبلى أو المبتدئة الّتي ترى الدم في الشهر يومين وفي الشهر ثلاثة.

ثمّ إنّ هذا التحديد حقيقي كسائر التحديدات الشرعيّة ، كتحديد الكرّ بالوزن أو بالمقدار ، وتحديد السفر الموجب للقصر بثمانية فراسخ ، أو وجوب التمام عليه بالتردّد ثلاثين يوماً وهكذا ، فكما أنّها تحديدات حقيقيّة شرعيّة بحيث لو نقص الماء أو المسافة عنهما ولو بأقل قليل لم يترتب عليه الحكم بالكرية ووجوب القصر كذلك الأمر في المقام ، فلو رأت المرأة الدم ثلاثة أيّام إلاّ قليلاً فلا يحكم عليه بالحيض بمقتضى ظهور الأخبار الواردة في تحديد الحيض بأن لا يكون أقل من ثلاثة أيّام.

نعم هناك بحث آخر وهو أنّ الثّلاثة يعتبر فيها التوالي والاستمرار أو لو رأت الدم ثلاثة أيّام متفرقة أيضاً بأن تراه يوماً وانقطع حتّى تراه بعد أيّام يوماً وهكذا إلى ثلاث أيّام يكتفى به في الحكم بالحيضيّة؟ وهذا بحث آخر أجنبي عمّا نحن بصدده يأتي التعرّض إليه عند تعرّض الماتن له (١) ، فلا وجه لابتناء المسألة على استفادة اعتبار التوالي من الأدلّة الدالّة على أنّ أقل الحيض ثلاثة أيّام ، والقول بأن الحكم المذكور واضح بناءً على استفادة اعتبار التوالي من ظهور الأدلّة المشار إليها.

وذلك لأنّا إنّما نعتمد في الحكم بعدم حيضيّة الدم الأقل من ثلاثة أيّام ولو بقليل على ظواهر الأخبار ، لكونها ظاهرة في التحديد الحقيقي ، سواء قلنا باعتبار التوالي في‌

__________________

(١) يأتي في الصفحة ١٢١.

١١٥

الثلاثة أم لم نقل ، فإنّ الثلاثة لا بدّ من أن تتحقّق في الحكم بالحيضيّة متوالية أو متفرِّقة.

ثمّ إنّ ذلك التحديد تحديد شرعي ، والمناط فيه صدق رؤية الدم ثلاثة أيّام ، ولا يدور الحكم بالحيضيّة مدار كثرة الدم أو قلته بحسب السّاعات ، بل المدار على صدق الثّلاثة ، وهي تختلف باختلاف الأزمنة وحالات النِّساء ، فقد تكثر ساعاتها وقد تقلّ ، وذلك لأنّ الظّاهر من كلمة يوم في الأخبار الواردة في المقام هو مقابل اللّيل كما هو الحال في جميع الموارد ، إلاّ أن تقوم قرينة على إرادة الأعم من ليلته ، فاليوم بمعنى بياض النّهار.

فلو رأت المرأة الدم قبل طلوع الشّمس بقليل أو قبل طلوع الفجر بناءً على أنّه أوّل الصبح وإن كان الأوّل أصحّ حتّى مضت عليها ثلاثة أيّام فلا محالة يحكم عليه بالحيضيّة لكونه ثلاثة أيّام ، وليس الأمر كذلك فيما إذا رأت الدم من أوّل اللّيل إلى نصف اليوم الثّالث ، حيث لا يحكم عليه بالحيضيّة ، لعدم رؤيتها الدم ثلاثة أيّام بل يومين ونصف يوم ، مع أنّه بحسب الساعات أكثر من الصورة الأُولى ، حيث إنّها في الصّورة الأُولى رأت الدم ثلاثة أيّام وليلتين بينهما فالمجموع ستّون ساعة ، وأمّا في الصّورة الثّانية فقد ترى الدم ستّاً وستّين ساعة إلاّ أنّه لا يحكم عليه بالحيضيّة ، لعدم صدق رؤية الدم ثلاثة أيّام بل يومين ونصف يوم.

وكذا إذا رأت الدم وهي في أيّام الشتاء أوّل النّهار أعني طلوع الشمس أو الفجر إلى ثلاثة أيّام فإنّه محكوم بكونه حيضاً ، وأمّا إذا رأت الدم بعد أوّل النّهار بساعتين وهي في أيّام الصيف إلى آخر اليوم الثّالث فإنّه غير محكوم بالحيضيّة ، لعدم صدق أنّها رأت الدم ثلاثة أيّام بل ثلاثة أيّام إلاّ ساعتين ، مع أنّ رؤيتها الدم بحسب السّاعات أكثر في الصّورة الثّانية من الاولى ، وذلك لأنّ اليوم في الشتاء قصير فلنفرضه عشرة ساعات ، وحيث إنّها رأته ثلاثة أيّام وليلتين فقد ترى الدم ثماني وخمسين ساعة ، وأمّا اليوم في الصيف فطويل فلنفرضه أربع عشرة أو خمس عشرة ساعة الترديد باعتبار أنّ ما بين الطلوعين من اللّيل أو من النهار وبما أنّها ترى‌

١١٦

وأكثره عشرة (١) ، فإذا رأت الدم يوماً أو يومين أو ثلاثة إلاّ ساعة مثلاً لا يكون حيضاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدم ليلتين وثلاثة أيّام إلاّ ساعتين فقد تراه ستين ساعة أو واحدة وستّين ساعة ، إلاّ أنّه لمّا لم يصدق عليه عنوان رؤية الدم ثلاثة أيّام لأنّها رأته ثلاثة أيّام إلاّ ساعتين لم يحكم عليه بالحيضيّة.

وحال المقام حال قصد إقامة العشرة في الحكم بوجوب التمام ، لأنّ المدار فيه أيضاً على صدق قصد المقام عشرة أيّام ، قلّت ساعاتها أم كثرت ، مثلاً إذا قصد المقام في مكان في أيّام الشتاء من أوّل النّهار أعني طلوع الشّمس أو الفجر إلى مضي تسعة أيّام بعد ذلك اليوم فقد تحقّق قصد إقامة العشرة ، ومعه يجب عليه إتمام الصّلاة. وأمّا إذا قصد المقام كذلك بعد ساعة أو ساعتين من النّهار في أيّام الصيف إلى مضي تسعة أيّام بعد ذلك اليوم لم يجب عليه إتمام الصّلاة ، لعدم قصده إقامة عشرة أيّام بل عشرة أيّام إلاّ ساعتين ، وإن كانت إقامته في الصّورة الثانية أكثر بحسب السّاعات من إقامته في الصّورة الأُولى.

فالمتحصل : أنّ المدار على صدق رؤية الدم ثلاثة أيّام وهو تحديد شرعي كما عرفت ، وهذا وإن لم نر من تعرض له إلاّ أنّه لا بدّ من التعرّض له والتنبيه عليه.

أكثر مدّة الحيض‌

(١) للروايات المتضافرة (١) الّتي لا يبعد تواترها إجمالاً ، وقد دلّت على أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام ، مضافاً إلى تسالمهم في المسألة.

ولتلك الرّوايات دلالتان ، حيث تدل بالمدلول المطابقي على أنّ أكثر أيّام الحيض عشرة ، وتدل بالمدلول الالتزامي على أنّه لا يكون أكثر من العشرة ، وإن شئت قلت‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩٣ / أبواب الحيض ب ١٠ و ...

١١٧

إنّ لها عقدين عقد إيجابي وعقد سلبي ، وهي في العقد الإيجابي أعني مدلولها المطابقي معارضة بصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إنّ أكثر ما يكون من الحيض ثمان ، وأدنى ما يكون منه ثلاثة » (١) حيث دلّت على أنّ أكثر الحيض ثمانية.

إلاّ أنّه لا بدّ من طرحها لمعارضتها للأخبار المتضافرة بل المتواترة إجمالاً ، مضافاً إلى تسالمهم على أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام ، أو تؤوّل على نحو لا تعارض الأخبار المتقدّمة ، بأن تحمل على عدم تحقّق الحيض زائداً على ثمانية أيّام عادة ، لأنّه قيل وإن كان لا بدّ من تحقيقه إنّ المرأة لا يكثر حيضها عن ثمانية أيّام ، وعليه فتحمل الأخبار المتقدّمة على تحديد الحيض من حيث الكثرة شرعاً ، وتحمل هذه الرّواية على تحديد كثرة الحيض بحسب العادة والتحقّق الخارجي ، وهذا تأويل لا بأس به. هذا كلّه بحسب العقد الإيجابي.

وأمّا بحسب العقد السلبي فقد قيل إنّها معارضة بمرسلة يونس الطويلة الّتي رواها عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، حيث ورد فيها « وكذلك لو كان حيضها أكثر من سبع وكانت أيّامها عشراً أو أكثر » (٢) أي كذا يلزم أن يكون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها بالصلاة بعد السبع وهي حائض فيما إذا كانت أيّامها عشرة أو أكثر ، وقد ادّعي دلالتها على أنّ الحيض يزيد على العشرة.

ويدفعه : عدم دلالتها على إمكان تحقّق الحيض زائداً على العشرة ، وإنّما هي بصدد بيان ترتّب اللاّزم الفاسد على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير زيادة الحيض عن عشرة أيّام ، وأمّا أنّه يتحقّق في الخارج فلا ، وذلك لأنّ كلمة « لو » للامتناع ، وتدل على امتناع تحقّقه في الخارج زائداً على العشرة ، نعم على فرض تحقّقه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩٧ / أبواب الحيض ب ١٠ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٨٨ / أبواب الحيض ب ٨ ح ٣ ، والتعبير بالمرسلة على اصطلاح المشهور ، وإلاّ فعند السيِّد الأُستاذ فهي معتبرة ، ويأتي التعرّض لسندها مفصلاً عن قريب إن شاء الله في الصفحة ١٤٩.

١١٨

كما أنّ أقلّ الطّهر عشرة أيّام (١) وليس لأكثره حدّ ، ويكفي الثّلاثة الملفّقة‌

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يلزمه اللاّزم الفاسد من أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحائض بالصلاة ، وعليه فلا معارض للأخبار المتقدِّمة.

أقلّ الطّهر عشرة‌

(١) وتدل عليه جملة من الأخبار كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « لا يكون القرء في أقلّ من عشرة أيّام فما زاد ... » (١) وفي مرسلة يونس « ولا يكون الطّهر أقل من عشرة أيّام » (٢) وغيرهما (٣) ، على أنّ المسألة غير خلافيّة ، وعليه يعتبر بين الحيضتين أن يتخلّل عشرة أيّام ولا تتحقّق الحيضة الثّانية قبل التخلّل بعشرة أيّام ، وهو أي الطّهر موضوع لجملة من الأحكام كوجوب الصّلاة وعدّة الطلاق حيث يعتبر فيها ثلاثة قروء أو قرءان كما في الأمة.

نعم ذهب صاحب الحدائق قدس‌سره إلى إمكان تخلّل أقل من عشرة أيّام بين حيضة واحدة (٤) ، إلاّ أنّه أمر آخر يأتي التعرّض إليه إن شاء الله (٥) ، وهو خارج عن محل الكلام ، لأنّ البحث إنّما هو في الطّهر الواقع بين حيضتين ، وقد عرفت أنّه لا يمكن أن يكون بأقل من عشرة أيّام ، وهذا بخلاف الطّهر المتخلّل في أثناء الحيضة الواحدة.

نعم قد ورد في روايتين أنّ المرأة ترى الحيض خمسة أيّام أو أقل ، ثمّ ترى الطّهر مثل ذلك ، ثمّ ترى الحيض ثلاثة أيّام أو أربعة أو أكثر ، ثمّ ينقطع وهكذا إلى آخر الشهر ، وحكم عليه‌السلام بوجوب الصّلاة عليها عند طهرها ، وبإمساكها عنها‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩٧ / أبواب الحيض ب ١١ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٩٨ / أبواب الحيض ب ١١ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٩٨ / أبواب الحيض ب ١١ ح ٣ و ٥.

(٤) الحدائق ٣ : ١٦٠ / في غسل الحيض.

(٥) في المسألة الآتية.

١١٩

حينما ترى الدم (١).

وهما معارضتان مع الأخبار الدالّة على أنّ أقل الطّهر عشرة أيّام ، ولكن الجزم باعتبار تخلّل أقلّ الطّهر بين الحيضتين يوجب التصرّف في الرّوايتين ، ومن هنا حملهما المحقّق (٢) قدس‌سره على المرأة المتغيّرة عادتها بحيث لم يتميّز أيّام حيضها عن غيرها ، فالإمام عليه‌السلام حكم بوجوب الصّلاة عند نقائها ، وبالإمساك عن الصّلاة عند رؤيتها الدم من باب الاحتياط هذا.

ولكن الصحيح حملهما على المرأة المبتدئة الّتي لم تستقر لها عادة ، حيث لم يفرض فيهما سبق عادة على المرأة ، فإن المبتدئة يجب عليها ترتيب آثار الحائض عند رؤيتها الدم المتصف بأوصاف الحيض ، وبما أنّه متّصف بأوصافه فأمرها عليه‌السلام بالإمساك عن الصّلاة عند رؤيتها للدم إلى أن ينتهي الشهر ، فإن استقرّت لها العادة فهو ، وإلاّ فهي مستمرة الدم ومحكومة بأحكام المستحاضة.

وعليه فهو حكم ظاهري تقطع المرأة بعد انقضاء الشهر أنّ بعضاً من الأيّام الّتي كانت ترى فيها الدم لم تكن حائضاً وكان عملها مخالفاً للواقع ، ولا دلالة لها على أنّ الدّم الّذي تراه حيض ، كيف فإنّه مستلزم لكون الحيض أكثر من عشرة أيّام كما إذا رأت الدم أربعة أيّام فانقطع ثمّ رأته أربعة أيّام وانقطع وهكذا إلى أربع مرّات ، فإن مجموعة حينئذ يبلغ ستّة عشر يوماً مع أنّ الحيض لا يكون أكثر من عشرة ، وكيف كان فالحكم الظاهري لا ينافي الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ أقل الطّهر لا يكون أقل من عشرة أيّام.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٥ و ٢٨٦ / أبواب الحيض ب ٦ ح ٢ و ٣.

(٢) المعتبر ١ : ٢٠٧ / فروع غسل الحيض.

١٢٠