العقائد الإسلاميّة - ج ١

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ١

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-118-4
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٣٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ويستحق المؤمن بالإجماع الخلود في الجنة ، ويستحق الكافر الخلود في العقاب . انتهى .

وذكر في الشرح الجديد للتجريد أن الإيمان في الشرع عند الأشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً ، فهو في الشرع تصديق خاص . انتهى .

فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الإيمان هي التصديق فقط ، وإن اختلفوا في المقدار المصدق به . والكلام هاهنا في مقامين :

الأول : في أن التصديق الذي هو الإيمان المراد به اليقين الجازم الثابت ، كما يظهر من كلام من حكينا عنه .

الثاني : في أن الأعمال ليست جزء من حقيقة الإيمان الحقيقي ، بل هي جزء من الإيمان الكمالي . أما الدليل على الأول فآيات بينات :

منها قوله تعالى : إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا . والإيمان حق للنص والإجماع ، فلا يكفي في حصوله وتحققه الظن .

ومنها : إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، فهذه قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن ، والإيمان لا يوبخ من حصل له بالإجماع ، فلا يكون ظناً .

ومنها قوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، فنفى عنهم الريب ، فيكون الثابت هو اليقين .

إن قلت : هذه الآية الكريمة لا تدل على المدعى بل على خلافه ، وهو عدم اعتبار اليقين في الإيمان ، وذلك أنها إنما دلت على حصر الإيمان فيما عدا الشك ، فيصدق الإيمان على الظن .

قلت : الظن في معرض الريب ، لأن النقيض مجوز فيه ويقوى بأدنى تشكيك ،

٢٤١
 &

فصاحبه لا يخلو من ريب حيث أنه دائماً يجوز النقيض ، على أن الريب قد يطلق على ما هو أعم من الشك ، يقال : لا أرتاب في كذا . ويريد أنه منه على يقين ، وهذا شائع ذائع .

ومن السنة المطهرة قوله عليه‌السلام : يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ، فلو لم يكن ثبات القلب شرطاً في الإيمان لما طلبه عليه‌السلام والثبات هو الجزم والمطابقة ، والظن لا ثبات فيه ، إذ يجوز ارتفاعه .

وفيه ، منع كون الثبات شرطاً في تحقيق الإيمان ، ويجوز أن يكون عليه‌السلام طلبه لكونه الفرد الأكمل ، وهو لا نزاع فيه .

ومن جملة الدلائل على ذلك أيضاً الإجماع ، حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الإيمان بها إلا بالدليل إجماعاً من العلماء كافة ، والدليل ما أفاد العلم ، والظن لا يفيده .

وفي صحة دعوى الإجماع بحث ، لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الأصولية ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

واعلم أن جميع ما ذكرناه من الأدلة لا يفيد شئ منه العلم بأن الجزم والثبات معتبر في التصديق الذي هو الإيمان إنما يفيد الظن باعتبارهما ، لأن الآيات قابلة للتأويل وغيرها كذلك ، مع كونها من الآحاد .

ومن الآيات أيضاً قوله تعالى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ . واعترض على هذا الدليل بأنه أخص من المدعى ، فإنه إنما يدل على اعتبار اليقين في بعض المعارف ، وهو التوحيد دون غيره ، والمدعى اعتبار اليقين في كل ما التصديق به شرط في تحقق الإيمان ، كالعدل والنبوة والمعاد وغيرها .

وأجيب بأنه لا قائل بالفرق ، فإن كل من اعتبر اليقين اعتبره في الجميع ، ومن لم يعتبره لم يعتبره في شئ منها . واعلم أن ما ذكرناه على ما تقدم وارد هاهنا أيضاً .

٢٤٢
 &

واعترض أيضاً بأن الآية الكريمة خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي إنما تدل على وجوب العلم عليه وحده دون غيره .

وأجيب بأن ذلك ليس من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإجماع ، وقد دل دليل وجوب التأسي به على وجوب اتباعه ، فيجب على باقي المكلفين تحصيل العلم بالعقائد الأصولية .

وأيضاً أورد أنه إنما يفيد الوجوب لو ثبت أن الأمر للوجوب ، وفيه منع لاحتماله غيره ، وكذا يتوقف على كون المراد من العلم هاهنا القطعي ، وهو غير معلوم ، إذ يحتمل أن يراد به الظن الغالب ، وهو يحصل بالتقليد . وبالجملة فهو دليل ظني .

وأما المقالة الثانية وهو أن الأعمال ليست جزء من الإيمان ولا نفسه فالدليل عليه من الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة ، والإجماع .

أما الكتاب ، فمنه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فإن العطف يقتضي المغايرة ، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه ، فلو كان عمل الصالحات جزء من الإيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكراراً .

وَرُدَّ ذلك بأن الصالحات جمع معرف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون الطاعات جزء من الإيمان يريد بها فعل الواجبات واجتناب المحرمات ، وحينئذ فيصح العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف ، فلم يدخل كله في المعطوف عليه ، نعم ذلك يصلح دليلاً على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلاً في حقيقة الإيمان كالخوارج .

ومنه قوله تعالى : وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، أي حالة إيمانه ، فإن عمل الصالحات في حالة الإيمان يقتضي المغايرة لما أضيف إلى تلك الحالة وقارنه فيها ، وإلا لصار المعنى : ومن يعمل بعض الإيمان حال حصول ذلك البعض ، أو ومن يعمل من الإيمان حال حصوله ، وحينئذ فيلزم تقدم الشئ على نفسه وتحصيل الحاصل .

٢٤٣
 &

إن قلت : الآية الكريمة إنما تدل على المغايرة في الجملة ، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تكون الأعمال جزءاً ، فإن المعنى والله أعلم : ومن يعمل من الصالحات حال إيمانه ، أي تصديقه بالمعارف الإلۤهية ، وحينئذ فيجوز أن يكون الإيمان الشرعي بمجموع الجزئين ، أي عمل الصالحات والتصديق المذكور ، فالمغايرة إنما هي بين جزئي الإيمان ولا محذور فيه ، بل لا بد منه وإلا لما تحقق الكل ، بل لا بد لنفي ذلك من دليل .

قلت : من المعلوم أن الإيمان قد غير عن معناه لغة ، فأما التصديق بالمعارف فقط فيكون تخصيصاً ، أو مع الأعمال فيكون نقلاً ، لكن الأول أولى ، لأن التخصيص خير من النقل .

ووجه الإستدلال بالآية أيضاً بأن ظاهرها كون الإيمان الشرعي شرطاً لصحة الأعمال ، حيث جعل سعيه مقبولاً إذا وقع حال الإيمان ، فلا بد أن يكون الإيمان غير الأعمال ، وإلا لزم إشتراط الشئ بنفسه .

ويرد على هذا ما ورد على الأول بعينه ، نعم اللازم هنا أن يكون أحد جزئي المركب شرطاً لصحة الآخر ولا محذور فيه .

والجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك فتأمل .

ومنه قوله تعالى : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، فإنه أثبت الإيمان لمن ارتكب بعض المعاصي ، فلو كان ترك المنهيات جزء من الإيمان لزم تحقق الإيمان وعدم تحققه في موضع واحد في حالة واحدة وهو محال .

ولهم أن يجيبوا عن ذلك بمنع تحقق الإيمان حالة ارتكاب المنهي ، وكون تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا عليه وخصوصاً على مذهب المعتزلة ، فإنهم لا يشترطون في صدق المشتق على حقيقة بقاء المعنى المشتق منه .

ويمكن دفعه بأن الشارع قد منع من جواز إطلاق المؤمن على من تحقق كفره وعكسه ، والكلام في خطاب الشارع ، فلا نسلم لهم الجواب .

٢٤٤
 &

ومنه قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، فإن أمرهم بالتقوى التي لا تحصل إلا بفعل الطاعات والإنزجار عن المنهيات مع وصفهم بالإيمان ، يدل على عدم حصول التقوى لهم ، وإلا لما أمروا بها مع حصول الإيمان لوصفهم به ، فلا تكون الأعمال نفس الإيمان ولا جزء منه ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل .

ويرد عليه ، جواز أن يراد من الإيمان الذي وصفوا به اللغوي ، ويكون المأمور به هو الشرعي وهو الطاعات ، أو جزؤه عند من يقول بالجزئية . ويجاب عنه بنحو ما أجيب عما أورد على الدليل الثاني ، فليتأمل .

ومنه أيضاً الآيات الدالة على كون القلب محلاً للإيمان من دون ضميمة شئ آخر كقوله تعالى : أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ، أي جمعه وأثبته فيها والله أعلم . ولو كان الإقرار غيره من الأعمال نفس الإيمان أو جزءه ، لما كان القلب محل جمعه ، بل هو مع اللسان وحده ، أو مع بقية الجوارح على اختلاف الآراء .

وقوله تعالى : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ، ولو كان غير القلب من أعمال الجوارح نفس الإيمان أو جزءه ، لما جعل كله محل القلب ، كما هو ظاهر الآية الكريمة .

وقوله تعالى : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فإن اطمئنانه بالإيمان يقتضي تعلقه كله به ، وإلا لكان مطمئناً ببعضه لا كله .

أقول : يرد على الأخير أنه لا يلزم من اطمئنانه بالإيمان كونه محلاً له ، إذ من الجائز كونه عبارة عن الطاعات وحدها ، أو مع شئ آخر واطمئنان القلب لاطلاعه على حصول ذلك ، فإن القلب يطلع على الأعمال .

ويرد على الأولين أن الإيمان المكتوب والداخل في القلب إنما هو العقائد الأصوليه ، ولا يدل على حصر الإيمان في ذلك ، ونحن لا نمنع ذلك بل نقول باعتبار ذلك في الإيمان إما على طريق الشرطية لصحته ، أو الجزئية له ، إذ من يزعم أنه

٢٤٥
 &

الطاعات فقط لا بد من حصول ذلك التصديق عنده أيضاً لتصح تلك الأعمال ، غاية الأمر أنه شرط للإيمان أو جزؤه لا نفسه ، كما تقدمت الإشارة إليه .

نعم هما يدلان على بطلان مذهب الكرامية ، حيث يكتفون في تحققه بلفظ الشهادتين من غير شئ آخر أصلاً لا شرطاً ولا جزءاً .

قيل : وكذا آيات الطبع والختم تشعر بأن محل الإيمان القلب ، كقوله تعالى : اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون ، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله . وفيه ما تقدم .

وأما السنة المطهرة ، فكقوله عليه‌السلام : يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ، وجه الدلالة فيه أن المراد من الدين هنا الإيمان ، لأن طلب تثبيت القلب عليه يدل على أنه متعلق بالإعتقاد ، وليس هناك شئ آخر غير الإيمان من الإعتقاد يصلح لثبات القلب عليه بحيث يسمى ديناً ، فتعين أن يكون هو الإيمان ، وحيث لم يطلب غيره في حصول الإيمان علم أن الإيمان يتعلق بالقلب لا بغيره .

وكذا ما روي أن جبرئيل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله عن الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر . ومعنى ذلك : أن تصدق بالله ورسله واليوم الآخر ، فلو كان فعل الجوارح أو غيره من الإيمان لذكره له ، حيث سأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عما هو الإيمان المطلوب للشارع .

وإن قيل : ظاهر الحديث فيه مناقشة ، وذلك أن الرسول عليه‌السلام سأله عن حقيقة الإيمان ، فكان من حق الجواب في شرح معناه أن يقال : أن تصدق بالله لا أن تؤمن لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر ، فيصير حاصله الإيمان هو الإيمان بالله ، فيلزم منه تعريف الشئ بنفسه في الجملة ، وذلك لا يليق بنفس الأمر .

والجواب أن المراد من قوله : أن تؤمن بالله ، أن تصدق ، وقد كان التصديق معلوماً له عليه‌السلام لغة ، فلم يكن تعريف الشئ بنفسه ، فهذا إنما يكون بالقياس إلى غيرهما عليهما‌السلام وإلا فالسائل والمسؤول غنيان عن معرفة المعاني من الألفاظ .

٢٤٦
 &

وأما الإجماع ، فهو أن الأمة أجمعت على أن الإيمان شرط لسائر العبادات ، والشئ لا يكون شرطاً لنفسه ، فلا يكون الإيمان هو العبادات .

أقول : على تقدير تسليم دعوى الإجماع ، فللخصوم أن يقولوا : نحن نقول بكون التصديق بمسائل الأصول شرطاً لصحة العبادات التي هي الإيمان ، ولا يلزمنا بذلك أن يكون تلك المسائل هي الإيمان ، فإن سميتموها إيماناً بالمعنى اللغوي فلا مشاحة فِي ذلك ، وإن قلتم بل هي الإيمان الشرعي ، فهو محل النزاع ودليلكم لا يدل عليه .

وأجمعت أيضاً على أن فساد العبادات لا يوجب فساد الإيمان ، وذلك يقتضي كون الإيمان غير أعمال الجوارح .

أقول : إن صح نقل الإجماع ، فلا ريب في دلالته على المدعى ، وسلامته عن المطاعن المتقدمة .

هل يمكن أن يصير المؤمن كافراً

. . . المؤمن هل يجوز أن يكفر بعد إيمانه أم لا ؟ ذهب إلى الأول جماعة من العلماء ، وظاهر القرآن العزيز يدل عليه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولو كان التصديق بالمعارف الأصولية يعتبر فيه الجزم والثبات لما صح ذلك إذ اليقين لا يزول بالأضعف ، ولا ريب أن موجب الكفر أضعف مما يوجب الإيمان .

قلت : لا ريب أن الإيمان من الكيفيات النفسانية ، إذ هو نوع من العلم على ما هو الحق ، فهو عرض ، وقبوله للزوال بعروض ضده أو مثله ، عند من يقول الأعراض لا تبقى زمانين كالأشاعرة ظاهر . وكذا على القول بأن الباقي محتاج إلى المؤثر في بقائه أو غير محتاج مع قطع النظر عن بقاء الأعراض زمانين ، لأن الفاعل مختار ، فيصح منه الإيجاد والإعدام في كل وقت . غاية الأمر أن تبديل الإيمان بالكفر لا يجوز أن

٢٤٧
 &

يكون من فعل الله تعالى على ما تقتضيه قواعد العدلية ، من أن العبد له فعل ، وأن اللطف واجب على الله تعالى ، ولو كان التبديل منه تعالى لنافى اللطف . على أنا نقول : قد يستند الكفر إلى الفعل دون الإعتقاد ، فيجامع الجزم اليقين في المعارف الأصولية ، كما في السجود للصنم وإلقاء المصاحف في القاذورات مع كونه مصدقاً بالمعارف .

إن قلت : فعلى هذا يلزم جواز اجتماع الإيمان والكفر في محل واحد وزمان واحد ، وهو محال ، لأن الكفر عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون مؤمناً .

قلت : الإيمان هو التصديق بالأصول المذكورة بشرط عدم السجود وغيره مما يوجب فعله الكفر بدلالة الشارع عليه ، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط .

ثانيها يلزم أن يكون الظان ولو في أحد من الأصول الخمسة كافراً وإن كان عالماً بالباقي ، لأن الظن من أضداد اليقين فلا يجامعه . فيلزم ( القول ) بكفر مستضعفي المسلمين بل كثير من عوامهم ، لعدم التصديق في الأول والثبات في الثاني ، كما نشاهد من تشككهم عند التشكيك ، مع أن الشارع حكم بإسلامهم وأجرى عليهم أحكامه . ومن هاهنا اكتفى بعض العلماء في الإيمان بالتقليد ، كما تقدمت الإشارة إليه .

ويمكن الجواب عن ذلك : بأن من يشترط اليقين يلتزم الحكم بكفرهم لو علم كون اعتقادهم بالمعارف عن ظن ، لكن هذا الإلتزام في المستضعف في غاية البعد والضعف . وأما إجراء الأحكام الشرعية فإنما هو للإكتفاء بالظاهر إذ هو المدار في إجراء الأحكام الشرعية فهو لا ينافي كون المجرى عليه كذلك كافراً في نفس الأمر . وبالجملة ، فالكلام إنما هو في بيان ما يتحقق به كون المكلف مؤمناً عند الله سبحانه ، وأما عندنا فيكفي ما يفيد الظن حصول ذلك له ، كإقراره بالمعارف الأصولية مختاراً غير مستهزئ ، لتعذر العلم علينا غالباً بحصول ذلك له .

ثالثها : أنه إذا كان الإيمان هو التصديق الجازم الثابت ، فلا يمكن الحكم بإيمان

٢٤٨
 &

أحد حتى نعلم يقيناً أن تصديقه بما ذكر يقيني ، وأنى لنا بذلك ، ولا يطلع على الضمائر إلا خالق السرائر .

والجواب عن هذا هو الجواب عن الثاني .

رابعها : انتقاض حد الإيمان والكفر جمعاً ومنعاً بحالة النوم والغفلة وكذا بالصبي لأنه إن كان مصدقاً فهو مؤمن وإلا فكافر ، لعدم الواسطة ، مع أن الشارع لم يحكم عليه بشئ منهما حقيقة بل تبعاً .

وأجيب عن الأولين بأن التصديق باق لم يزل ، والذهول والغفلة إنما هو عن حصوله واتصاف النفس به ، إذ العلم بالعلم وبصفات النفس غير لازم ، ولا عدمه ينافي حصولهما .

على أن الشارع جعل الأمر المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده ويزيله في حكم الباقي ، فسمى من اتصف بالإيمان مؤمناً ، سواء كان مستشعراً بإيمان نفسه ، أو غافلاً عن ذلك مع اتصاف نفسه به .

وعن الثالث بأن الكلام في الإيمان الشرعي فهو من أفراد التكليف ، فلا يوصف الصبي بشئ منها حقيقة ، لعدم دخوله في المكلف ، نعم يوصف تبعاً .

هل تزول المعرفة والإيمان بإنكار الضروري ؟

ـ نهاية الأفكار ج ٢ ص ١٩٠

وحيث انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف الكلام إلى بيان أن كفر منكر الضروري هل هو لمحض إنكاره أو أنه من جهة استتباعه لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتظهر الثمرة فيما لو كان منشأ الإنكار الإعتقاد بعدم صدور ما أنكره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو اشتباه الأمر عليه فإنه على الأول يحكم عليه بالكفر ويرتب عليه آثاره بمحض إنكاره ، بخلاف الثاني حيث لا يحكم عليه بالكفر في الفرض المزبور .

فنقول : إن ظاهر إطلاق كلماتهم في كفر منكر الضروري وإن كان يقتضي الوجه

٢٤٩
 &

الأول ، ولكن النظر الدقيق فيها يقتضي خلافه ، وذلك لما هو المعلوم من انصراف إطلاق كلماتهم إلى المنكر المنتحل للإسلام المعاشر للمسلمين . ومن الواضح ظهور إنكار مثل هذا الشخص في تكذيبه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع هذا الإنصراف لا مجال للأخذ بإطلاق كلامهم في الحكم بكفر منكر الضروري حتى مع العلم بعدم رجوع إنكاره إلى تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد عدم دليل في البين على ثبوت الكفر بمحض الإنكار أمكن الإلتزام بعدم الكفر فيمن يحتمل في حقه الشبهة وخفاء الأمر عليه بحسب ظهور حاله كما فيمن هو قريب عهد بالإسلام عاش في البوادي ولم يختلط بالمسلمين حيث أن إنكار مثله لا يكون له ظهور في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك يندفع ما قد يتوهم من اقتضاء البيان المزبور عدم الحكم بالكفر حتى في من نشأ في الإسلام وعاشر المسلمين مع احتمال الشبهة في حقه خصوصاً مع دعواه عدم اعتقاده بصدور ما أنكره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه من الموضوعات . إذ نقول إنه كذلك لولا ظهور حال مثله في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم خفاء شئ عليه من أساس الدين وضرورياته ، حيث أن العادة قاضية بأن من عاشر المسلمين مدة مديدة من عمره لا يخفى عليه شئ من أساس الدين وضرورياته فضلاً عمن كان مسلماً وكان نشوؤه من صغره بين المسلمين ، فإنكار مثل هذا الشخص يكشف لا محالة بمقتضى ظهور حاله عن تكذيب النبي بحيث لو ادعى جهله بذلك أو اعتقاده بعدم صدور ما أنكره عن النبي لا يسمع منه بل يحكم بكفره .

وهذا بخلاف غيره ممن كان نشوه في البوادي أو البلاد التي لا يوجد فيها المسلم فإن ظهور حاله ربما يكون على العكس ، ومن ذلك لا نحكم بكفره بمجرد انكاره لشئ من ضروريات الدين خصوصاً مع دعواه عدم علمه بكون ما أنكره صادراً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

بل ولعل في جعل مدار الكفر على إنكار الضروري دلالة على ما ذكرنا من طريقية الإنكار للتكذيب بلحاظ بعد خفاء ما هو أساس الدين وضرورياته على المنتحل

٢٥٠
 &

للإسلام المعاشر مع المسلمين بخلاف غير الضروري حيث لا بعد في خفائه وإلا فلا فرق في استلزام الإنكار للتكذيب بين الضروري وغيره ، وحينئذ فيمكن الجمع بين إطلاق كلامهم في كفر منكر الضروري وبين ما هو الظاهر من طريقية الإنكار للتكذيب بحمل الإطلاقات على المنكر المنتحل للإسلام المعاشر مع المسلمين برهة من عمره .

وقد يستدل على استتباع مجرد الإنكار للكفر بما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام من قوله : لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ، ولكن يدفعه ظهور الرواية في الإنكار الناشي عن العناد إذ الجحد ليس إلا عبارة عن ذلك ومن المعلوم عدم صلاحية مثله للدلالة على ثبوت الكفر بمحض الإنكار ، ومجرد كون الإنكار العنادي موجباً للكفر لا يقتضي تسرية الحكم إلى مطلق الإنكار ، ومن ذلك نقول أن الإنكار العنادي موجب للكفر مطلقاً ولو في غير الضروري .

هذا كله في صورة التمكن من تحصيل العلم والإعتقاد الجزمي ، ولقد عرفت وجوبه عليه فيما يرجع إلى الله جل شأنه وما يرجع إلى أنبيائه ورسله وحججه وأنه مع الإخلال به يكون معاقباً لا محالة .

نعم يبقى الكلام حينئذ في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وغيرها مع الإخلال بتحصيل المعرفة ، فنقول :

أما مع عدم إظهاره للشهادتين فلا إشكال في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وعدم الإرث والمناكحة . وأما مع إظهار الشهادتين ففيه إشكال ينشأ من كفاية مجرد إظهار الشهادتين مع عدم الإنكار في الحكم بالإسلام ، ومن عدم كفايته ولزوم الإعتقاد في الباطن أيضاً .

ولكنه لا ينبغي التأمل في عدم كفايته فإن حقيقة الإسلام عبارة عن الإعتقاد بالواجب تعالى والتصديق بالنبي عليه‌السلام بكونه رسولاً من عند الله سبحانه وأن الإكتفاء بإظهار الشهادتين من جهة كونه أمارة على الإعتقاد في الباطن كما يظهر ذلك أيضاً

٢٥١
 &

من النصوص الكثيرة . ولا ينافي ذلك ما يترائى في صدر الإسلام من معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع المنافقين معاملة الإسلام بمجرد إظهارهم الشهادتين مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم كونهم مؤمنين بالله ولا مصدقين برسوله واقعاً وأن إظهارهم الشهادتين كان لمحض الصورة إما لأجل خوفهم من القتل وإما لبعض المصالح المنظورة لهم كالوصول إلى مقام الرياسة والآمال الدنيوية لما سمعوا وعلموا من الكهنة بارتقاء الإسلام وتفوقه على سائر المذاهب والأديان ، مع أنهم لم يؤمنوا بالله طرفة عين كما نطقت به الأخبار والآثار المروية عن الأئمة الأطهار . إذ نقول إن في معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي مع هؤلاء المنافقين في الصدر الأول معاملة الإسلام بمحض إظهارهم الشهادتين وجوها ومصالح شتى .

منها تكثير جمعية المسلمين وازديادهم في قبال الكفار وعبدة الأوثان الموجب لازدياد صولة المسلمين في أنظار المشركين .

ومنها حفظ من في أصلابهم من المؤمنين الذين يوجدون بعد ذلك .

ومنها تعليم الأمة في الأخذ بما يقتضيه ظاهر القول بالشهادتين في الكشف عن الإعتقاد في الباطن ، فإنه لو فتح مثل هذا الباب في الصدر الأول لقتل كل أحد صاحبه لأجل ما كان بينهم من العداوة في الجاهلية بدعوى أن اعتقاده على خلاف ما يظهره باللسان وأن إظهار الشهادتين كان لأجل الخوف من القتل أو الطمع في الشركة في أخذ الغنيمه ومثله لا يزيد المسلمين وشوكتهم إلا ضعفاً كما يشهد لذلك الآية الشريفة : وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ، وقضية أسامة بن زيد في ذلك معروفة .

ومنها غير ذلك من المصالح التي لاحظها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع علمه بكونهم حقيقة غير مؤمنين على ما نطق به الكتاب المبين في مواضع عديدة في قوله سبحانه : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ، وقوله : وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ . . . . الخ . وغير ذلك من الآيات الكثيرة .

٢٥٢
 &

وأين ذلك وزماننا هذا الذي قد كثر فيه المسلمون كثرة عظيمة ، وحينئذ فلا يمكن الإلتزام بترتيب آثار الإسلام على مجرد إظهار الشهادتين مع العلم بعدم كون إظهارها إلا صورياً محضاً خصوصاً مع ظهور اعتبار القول في كونه لأجل الحكاية والطريقية عن الإعتقاد في الباطن ، بل لا بد من ترتيب آثار الكفر عليه في الفرض المزبور .

هل أن الكافر يعرف الله تعالى ؟

ـ مسالك الأفهام ج ٢ ص ٧٥

النية معتبرة في الكفارة لأنها عبادة تقع على وجوه مختلفة فلا يتميز المقصد منها بالنية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما الأعمال بالنيات ويعتبر فيها نية القربة لقوله تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وهذا هو القدر المتفق عليه منها . . . .

إذا تقرر ذلك فقد فرع المصنف على اعتبار نية القربة به أنه لا يصح من الكافر كتابياً كان أم غيره ، محتجاً بتعذر نية القربة في حقه ، وفيه نظر ، لأنه إن أراد بنية القربة المتعذرة منه نية إيقاع الفعل طلباً للتقرب إلى الله بواسطة نيل الثواب أو ما جرى مجرى ذلك سواء حصل له ما نواه أم لا ، منعنا من تعذر نية القربة من مطلق الكافر ، لأن من اعترف منهم بالله تعالى وكان كفره بجحد نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو غيره من الأنبياء أو بعض شرايع الإسلام يمكن منه هذا النوع من التقرب ، وإنما يمتنع من الكافر المعطل الذي لا يعترف بوجود الله تعالى كالدهري وبعض عبدة الأصنام ، وإن أراد بها إيقاعه على وجه التقرب إلى الله تعالى بحيث يستحق بها الثواب طالبناه بدليل على اشتراط مثل ذلك وعارضناه بعبارة المخالف من المسلمين وعتقه فإنه لا يستتبع الثواب عنده مع صحة عتقه ، وفي صحة عبادات غيره بحث فُرِد في محله .

وبالجملة فكلامهم في هذا الباب مختلف غير منقح ، لأنهم تارة يحكمون ببطلان عبادة الكافر مطلقاً استناداً إلى تعذر نية القربة منه ، ومقتضى ذلك إرادة المعنى

٢٥٣
 &

الثاني لأن ذلك هو المتعذر منه لا الأول ، وتارة يجوزون منه بعض العبادات كالعتق وسيأتي تجويز جماعة من الأصحاب له منه ، مع اشتراط القربة فيه نظراً إلى ما ذكرناه من الوجه في الأول .

وقد وقع الخلاف بينهم في وقفه وصدقته وعتقه المتبرع به ونحو ذلك من التصرفات المالية المعتبر فيها القربة ، واتفقوا على عدم صحة العبادات البدنية منه نظراً إلى أن المال يراعي فيه جانب المدفوع إليه ولو بفك الرقبة من الرق فيرجح فيه جانب القربات بخلاف العبادات البدنية ، ومن ثم ذهب بعض العامة إلى عدم اشتراط النية في العتق والإطعام واعتبرها في الصيام ، إلا أن هذا الإعتبار غير منضبط عند الأصحاب كما أشرنا إليه ، وسيأتي له في العتق زيادة بحث .

ثم عد إلى العبارة واعلم أن قوله ذمياً كان الكافر أو حربياً أو مرتداً لا يظهر للتسوية بين هذه الفرق مزية ، لأن الكافر المقر بالله تعالى لا يفرق فيه بين الذمي والحربي ، وإن افترقا في الإقرار بالجزية فإن ذلك أمر خارج عن هذا المطلق ، وإنما حق التسوية بين أصناف الكفار أن يقول سواء كان مقراً بالله كالكتابي أم جاحداً له كالوثني ، لأن ذلك هو موضع الإشكال ومحل الخلاف .

وأما ما قاله بعضهم من أن الكافر مطلقاً لا يعرف الله تعالى على الوجه المعتبر ولو عرفه لأقر بجميع رسله ودين الإسلام فهو كلام بعيد عن التحقيق جداً ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا ملازمة بين معرفة المسلم لله تعالى ومعرفة دين الحق من فرق الإسلام ، وكل حزب بما لديهم فرحون .

ـ مسالك الأفهام ج ٢ ص ١٥٣

قوله : ويصح اليمين من الكافر . . إلخ . إذا حلف الكافر بالله تعالى على شئ سواء كان مقراً بالله كاليهودي والنصراني أو من كفر بجحد فريضة من المسلمين ، أو غير مقر به كالوثني ، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها الأول ، وهو الذي اختاره المصنف والشيخ في المبسوط وأتباعه وأكثر المتأخرين لوجود المقتضي وهو حلفه بالله تعالى

٢٥٤
 &

مع باقي الشرايط وانتفاء المانع إذ ليس هناك إلا كفره وهو غير مانع لتناول الأدلة الدالة على انعقاد اليمين له من الآيات والأخبار ، ولأن الكفار مخاطبون بفروع الشرايع فيدخلون تحت عموم قوله تعالى : وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ، وغيره .

وقال الشيخ في الخلاف وابن ادريس لا ينعقد مطلقاً لأن شرط صحتها الحلف بالله والكافر لا يعرف الله ، وفي إطلاق القولين معاً منع ظاهر .

وفصل العلامة جيداً في المختلف فقال إن كان كفره باعتبار جهله بالله وعدم علمه به لم ينعقد يمينه لأنه يحلف بغير الله ، ولو عبر به فعبارته لغو لعدم اعتقاده ما يقتضي تعظيمه بالحلف به ، وإن كان جحده باعتبار جحد نبوة أو فريضة انعقدت يمينه ، لوجود المقتضي وهو الحلف بالله تعالى من عارف به إلى آخر ما اعتبر . وتوقف فعل المحلوف عليه لو كان طاعة والتكفير على تقدير الحنث على الإسلام لا يمنع أصل الإنعقاد ، لأنه مشروط بشرط زايد على أصل اليمين فلا ملازمة بينهما .

وفائدة الصحة تظهر في بقاء اليمين لو أسلم في المطلقة أو قبل خروج وقت الموقتة ، وفي العقاب على متعلقها لو مات على كفره ولما يفعله لا في تدارك الكفارة ولو سبق الحنث الإسلام ، لأنها تسقط به عنه .

قوله : وفي صحة التكفير . . إلخ . إذا قلنا بصحة يمين الكافر على بعض الوجوه وحنث في يمينه وجبت عليه الكفارة مطلقاً ، ومذهب الأصحاب عدم صحتها منه حال الكفر لأنها من العبادات المشروطة بنية القربة ، وهي متعذرة في حقه سواء عرف الله أم لا ، لأن المراد من القربة ما يترتب عليه الثواب وهو منتف في حقه .

والمصنف رحمه‌الله تردد في ذلك ووجه التردد ما ذكر ومن احتمال أن يراد بالقربة قصد التقرب إلى الله تعالى سواء حصل له القرب والثواب أم لا كما سبق تحقيقه في عتق الكافر ، ومن حيث أن بعض خصال الكفارة قد يشك في اعتبار نية القربة فيها كالإطعام والكسوة كما يقوله العامة فإنهم لا يعتبرون النية إلا في الصوم من خصالها

٢٥٥
 &

ويجوزون الإطعام ونحوه بدونها ، ولكن مذهب الأصحاب اعتبار نية القربة في جميع خصالها ، وظاهرهم اختيار المعنى الأول من معاني القربة ، ومن ثم أبطلوا عبادات الكافر ، ومن اختار منهم صحة يمينه منع من صحة التكفير منه ما دام على كفره ، فما تردد المصنف رحمه‌الله فيه لا يظهر فيه خلاف معتد به .

بحث في معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس

ـ تفسير الميزان للطباطبائي ج ٦ ص ١٦٩ وما بعدها

في الغرر والدرر للآمدي عن علي عليه‌السلام قال : من عرف نفسه عرف ربه .

أقول ورواه الفريقان عن النبي أيضاً وهو حديث مشهور ، وقد ذكر بعض العلماء أنه من تعليق المحال ، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه . ورد أولاً ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية أخرى : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وثانياً ، بأن الحديث في معنى عكس النقيض ، لقوله تعالى : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ .

وفيه عنه عليه‌السلام : قال الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله .

أقول : تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص وتفرعه على الإشتغال بمعرفة النفس .

وفيه عنه عليه‌السلام : قال المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين .

أقول : الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية ، قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . حم السجدة ـ ٥٣ ، وقال تعالى : وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . الذاريات ـ ٢١ .

وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادةً من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية ، وذلك أن كون معرفة

٢٥٦
 &

الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ككونه تعالى حياً لا يعرضه موت ، وقادراً لا يشوبه ، عجز وعالماً لا يخالطه جهل ، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ ، والمالك لكل شئ ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا بالحسنى .

وهذه وأمثالها معارف حقة ، إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية .

وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين ، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث أنه يقدر لنفسه نوعاً من الحياة أي نوع كان ، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة ، وهذا من الوضوح بمكان .

فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها ، وهو السنة أو الدين .

فتلخص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهتدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلۤهية ، من جهه تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك ، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة .

وهذه الهداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معاً ، أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس ، فهما نافعان جميعاً ، غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من

٢٥٧
 &

الإعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها ، والملكات الفاضلة أو الرذيلة والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها .

واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب ، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والإلتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه إن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها وتحليتها بالفضائل الروحية ، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .

وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس ، وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها ، فإنه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان وهو باق ما دام الإنسان متوجهاً إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الإختلاف .

وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه وشاهد فقرها إلى ربها وحاجتها في جميع أطوار وجودها وجد أمراً عجيباً ، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها ، بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال .

وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها ، ولا مخرج لها من نفسها ، ولا شغل لها إلا السير الإضطراري في مسير نفسها ، وإنها منقطعة عن كل شئ كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها ، المحيط بباطنها وظاهرها وكل

٢٥٨
 &

شئ دونها ، فوجدت أنها دائماً في خلأ مع ربها وإن كانت في ملأ من الناس .

وعند ذلك تنصرف عن كل شیء وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شئ ، وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ، ولا تستتر عنه بستر ، وهو حق المعرفة الذي قدر للانسان .

وهذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله . . . .

وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك ، فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، وجل الإلۤه أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علما .

وقد روى في الإرشاد والإحتجاج على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له : إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ . وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه‌السلام في كلام له : ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إلۤه إلا هو الكبير المتعال . وفي التوحيد مسنداً عن عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام في حديث : ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال ، فهو مشرك ، لأن الحجاب والصورة والمثال غيره ، وإنما هو واحد موحد ، فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره ! إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنما يعرف غيره . . الحديث . والأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جداً لعل الله يوفقنا لإيرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف .

فقد تحصل أن النظر في آيات الأنفس أنفس وأغلى قيمةً ، وأنه هو المنتج لحقيقه المعرفة فحسب ، وعلى هذا فعده عليه‌السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي وهو النظر الشائع بين المؤمنين . فالطريقان نافعان جميعاً ، لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر .

٢٥٩
 &

وفي الدرر والغرر عن علي عليه‌السلام قال : العارف من عرف نفسه فاعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها . أقول : أي أعتقها عن إسارة الهوى وَرِقِّية الشهوات .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه . أقول : وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به ، وقد قال الله سبحانه : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : أفضل العقل معرفة المرء بنفسه ، فمن عرف نفسه عقل ومن جهلها ضل .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه . أقول : وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : كيف يعرف غيره من يجهل نفسه .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : كفى بالمرء معرفةً أن يعرف نفسه ، وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من عرف نفسه تجرد . أقول : أي تجرد عن علائق الدنيا ، أو تجرد عن الناس بالإعتزال عنهم ، أو تجرد عن كل شئ بالإخلاص لله .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من عرف نفسه جاهدها ، ومن جهل نفسه أهملها .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من عرف نفسه جل أمره .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من عرف نفسه كان لغيره أعرف ، ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم .

وفيه عنه عليه‌السلام قال : من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات .

٢٦٠