العقائد الإسلاميّة - ج ١

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ١

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-118-4
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٣٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين ، فإنهم ليس يكادون يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه ، بل ربما أعرضوا عنها واستغنوا عن سماعها وإيرادها وقالوا : لا تفسدوا علينا ما علمناه . وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم . فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجُمَل .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ١٤٢

الثاني في بيان معنى الدليل الذي يكفي في حصول المعرفة المحققة للإيمان عند من لا يكتفي بالتقليد في المعرفة .

إعلم أن الدليل بمعنى الدال ، وهو لغة المرشد ، وهو الناصب للدليل كالصانع ، فإنه نصب العالم ، دليلاً عليه ، والذاكر له كالعالم ، فإنه دال بمعنى أنه يذكرون العالم دليلاً على الصانع ، ويقال لما به الإرشاد كالعالم ، لأنه بالنظر فيه يحصل الإرشاد ، أي الإطلاع على الصانع تعالى .

واصطلاحاً : هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وهذا يشمل الإمارة ، لأنها توصل بالنظر فيها إلى الظن بمطلوب خبري ، كالنظر إلى الغيم الرطب في فصل الشتاء ، فإن التأمل فيه يوجب الظن بنزول المطر فيه . وقيل : إنه ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري ، فلا يشمل الإمارة . وهذان التعريفان للأصوليين . وقوله : ما يمكن ، يشمل ما نظر فيه بالفعل وأوجب المطلوب وما لم ينظر فيه بعد ، فالعالم قبل النظر فيه دليل على وجود الصانع عند الأصوليين دون المنطقيين حيث عرفوه بأنه قولان فصاعداً يكون عنهما قول آخر ، وهذا يشمل الإمارة ، وقيل : قولان فصاعداً يلزم عنه لذاته قول آخر ، وهذا لا يشمل الإمارة . فالدليل عندهم إنما يصدق على القضايا المصدق بها حالة النظر فيها أي ترتيبها ، لأنها الحالة التي تكون فيه أو يلزم منها قول آخر . ويمكن أن يقال : على اعتبار اللزوم

٢٢١
 &

لا يصدق الدليل على المقدمات حال ترتيبها ، لأن اللزوم لا يحصل عنده بل بعده . اللهم إلا أن يراد باللزوم اللغوي ، أي الإستتباع .

ثم إن الذي يكفي إعتباره في تحقق الإيمان من هذه التعاريف هو التعريف الثاني للأصوليين لكن بعد النظر فيما يمكن التوصل به ، لا الأول ، لأن ما يفيد الظن بالمعارف الأصولية غير كاف في تحقق الإيمان على المذهب الحق .

ولا يعتبر في تحققه شئ من تعريف المنطقيين ، لأن العلم بترتيب المقدمات وتفصيلها على الوجه المعتبر عندهم غير لازم في حصول الإيمان ، بل اللازم من الدليل فيه ما تطمئن به النفس بحسب استعدادها ويسكن إليه القلب ، بحيث يكون ذلك ثابتاً مانعاً من تطرق الشك والشبهة إلى عقيدة المكلف ، وهذا يتفق كثيراً بملاحظة الدليل إجمالاً ، كما هو الواقع لأكثر الناس .

أقول : يمكن أن يقال أن حصول العلم عن الدليل لا يكون إلا بعد ترتيب المقدمات على الوجه التفصيلي المعتبر في شرائط الإستدلال ، وحصوله في النفس وإن لم يحصل الشعور بذلك الترتيب ، إذ ليس كل ما اتصفت به النفس تشعر به ، إذ العلم بالعلم غير لازم .

والحاصل أن الترتيب المذكور طبيعي لكل نفس ناطقة مركوز فيها . وهذا معنى ما قالوه من أن الشكل الأول بديهي الإنتاج لقربه من الطبع ، فدل على أن في الطبيعة ترتيباً مطبوعاً متى أشرفت عليه النفس حصل به العلم ، وحينئذ فالمعتبر في حصول العلم بالدليل ليس إلا ما ذكره المنطقيون . والخلاف بينهم وبين الأصوليين ليس إلا في التسمية ، لأنهم يطلقون الدليل على نفس المحسوس كالعالم ، وأهل المعقول لا يطلقونه إلا على نفس المعقول كالقضايا المرتبة ، مع أن حصول العلم بالفعل على الإصطلاحين يتوقف على ترتيب القضايا المعقولة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن حصول الإيمان بالفعل أعني التصديق بالمعارف الإلۤهية إنما يكون بعد الترتيب المذكور .

٢٢٢
 &

فقولهم إن الدليل الإجمالي كاف في الإيمان لا يخلو عن مسامحة ، لما بينا من أن الترتيب لا بد منه في النظريات ، وكأنهم أرادوا بالإجمال عدم الشعور بذلك الترتيب وعدم العلم بشرائط الإستدلال ، لا عدم حصول ذلك في النفس ، والثاني هو المعتبر في حصول العلم دون الأول . نعم الأول إنما يعتبر في المناظرات ودفع المغالطات ورد الشبهة وإلزام الخصوم .

ويؤيد ما ذكرناه أنك لا تجد في مباحث الدليل وتعريفه إشارة إلى أنه قد يكون تفصيلياً وقد يكون إجمالياً ، وما يوجد في مباحث الإيمان من أنه يكفي فيه الدليل الجملي ، فقد بينا المراد منه .

العجز عن معرفة ذات الله تعالى

ـ الكافي ج ١ ص ٩٢

باب النهي عن الكلام في الكيفية :

ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً . وفي رواية أخرى عن حريز : تكلموا في كل شئ ولا تتكلموا في ذات الله .

ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن سليمان بن خالد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله عز وجل يقول : وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ، فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا .

ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله ، فإذا سمعتم ذلك فقولوا : لا إلۤه إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شئ .

ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن

٢٢٣
 &

الحسين ابن المياح ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من نظر في الله كيف هو ؟ هلك .

ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إياكم والتفكر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه .

ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض ، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق الله ، فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول .

ـ نهج البلاغة ج ٢ ص ٦٧

. . . فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك . هيهات ، إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز . وَمِن تناولِه بحدود المخلوقين أبعد .

ـ نهج البلاغة ج ٢ ص ١١٩

ومن خطبة له عليه‌السلام في التوحيد وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة :

ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مَثَّله ، ولا إياه عني من شَبَّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه .

كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول .

فاعلٌ لا باضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والإبتداء أزله .

بتشعيره المشاعر عُرِفَ أن لا مُشْعِرَ له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عُرِفَ أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة والجمود بالبلل . . . .

٢٢٤
 &

ـ نهج البلاغة ج ١ ص ١٥٨

ومن خطبة له عليه‌السلام : الحمد لله المعروف من غير رؤية ، والخالق من غير رَوِيَّة ، الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج ، ولا ليل داج ، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج . . . .

ـ نهج البلاغة ج ١ ص ١٦٤

. . . وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك ، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين . كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم ، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم . . . .

ـ الكافي ج ١ ص ١٣٧

علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي ابن أبي حمزة ، عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك اسمه ، وتعالى ذكره ، وجل ثناؤه ، سبحانه وتقدس ، وتفرد وتوحد ، ولم يزل ولا يزال ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لأوليته ، رفيعٌ في أعلى علوه ، شامخ الأركان ، رفيع البنيان عظيم السلطان ، منيف الآلاء ، سني العلياء ، الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ، ولا يطيقون حمل معرفة إلۤهيته ، ولا يحدون حدوده ، لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه .

ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد بن المختار ومحمد بن الحسن ، عن عبد الله ابن الحسن العلوي جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : ضمني وأبا الحسن عليه‌السلام الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق ، فسمعته يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع ، فتلطفت الوصول إليه ، فوصلت

٢٢٥
 &

فسلمت عليه ، فرد علي السلام ثم قال : يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق ، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الإحاطة به ، جل عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيَّف الكيف فلا يقال : كيف ؟ وأيَّن الأين فلا يقال : أين ؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونية .

النهي عن الفضولية في معرفة الله تعالى

ـ مستدرك الوسائل ج ١٢ ص ٤٧

محمد بن مسعود العياشي في تفسيره : عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام : إن رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : هل تصف ربنا نزداد له حباً وبه معرفة ؟ فغضب وخطب الناس ، فقال فيما قال :

عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسول من معرفته ، فائتم به ، واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله ، ولا تقدر عظمة الله عليه قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ، وأعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم ، هم الذين أغناهم الله عن الإقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : آمنا به كل من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً .

٢٢٦
 &

أنواع من المعرفة والعارفين

المعرفة الحقيقية والمعرفة الشكلية

ـ الصحيفة السجادية ج ٢ ص ١٠٨

. . . عن ثابت البناني قال : كنت حاجاً وجماعة عباد البصرة مثل أيوب السجستاني ، وصالح المري ، وعتبة الغلام ، وحبيب الفارسي ، ومالك بن دينار ، فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ، ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمنعنا الإجابة . فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ويا ثابت البناني ويا صالح المري ويا عتبة الغلام ويا حبيب الفارسي ويا سعد ويا عمر ويا صالح الأعمى ويا رابعة ويا سعدانة ويا جعفر بن سليمان فقلنا : لبيك وسعديك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟ فقلنا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة ، فقال : أبعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه !

ثم أتى الكعبة فخر ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث . قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب . فقلت : يا فتى من أين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمت أنه يحبني ، فسألته بحبه لي فأجابني . ثم ولى عنا وأنشأ يقول :

مـن عـرف الـرب فلم تُغْنِهِ

معرفة الرب فذاك الشقِي

ما ضر ذو الطاعة ما نـاله

في طاعة الله وما ذا لقِي

ما يـصـنع العبد بغير التقى

والعز كل العز للمتقِي

٢٢٧
 &

فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى ؟ قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . ورواه في مستدرك الوسائل ج ٦ ص ٢٠٩

تحير المتصوفة في دور العقل في المعرفة

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص ٦٣ ـ ٦٧ ( تحقيق د ـ عبد الحليم محمود طبع عيسى الحلبي مصر ١٩٦٠ )

قولهم في معرفة الله تعالى :

أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده ، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في حاجته إلى الدليل لأنه محدث ، والمحدث لا يدل إلا على مثله . وقال رجل للنوري : ما الدليل على الله ؟ قال : الله . قال فما العقل ؟ قال العقل عاجز ، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله !

وقال ابن عطاء : العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية . وقال غيره : العقل يجول حول الكون ، فإذا نظر إلى المكون ذاب . وقال أبو بكر القحطبي : من لحقته العقول فهوت مقهورة إلا من جهة الإثبات ، ولولا أنه تعرف إليها بالألطاف لما أدركته من جهة الإثبات . وأنشدونا لبعض الكبار :

من رامه بالعقل مسترشداً

سرحه في حيرة يلهو

وشاب بالتلبيس أسراره

يقول من حيرته هل هو

وقال بعض الكبار من المشايخ : البادي من المكونات معروف بنفسه لهجوم العقل عليه ، والحق أعز من أن تهجم العقول عليه وإنه عرفنا نفسه أنه ربنا فقال : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ ولم يقل : من أنا ؟ فتهجم العقول عليه حين بدأ معرفاً ، فلذلك انفرد عن العقول ، وتنزه عن التحصل غير الإثبات .

وأجمعوا أنه لا يعرفه إلا ذو عقل ، لأن العقل آلة للعبد يعرف به ما عرف ، وهو بنفسه لا يعرف الله تعالى .

٢٢٨
 &

وقال أبو بكر السباك : لما خلق الله العقل قال له : من أنا ؟ فسكت فكحله بنور الوحدانية ففتح عينيه فقال : أنت الله لا إلۤه إلا أنت . فلم يكن للعقل أن يعرف الله إلا الله .

تحيرهم في الفرق بين العلم والمعرفة

ثم اختلفوا في المعرفة نفسها : ما هي ؟ والفرق بينها وبين العلم .

فقال الجنيد : المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه . قيل له زدنا ، قال : هو العارف وهو المعروف . معناه : إنك جاهل به من حيث أنت ، وإنما عرفته من حيث هو . وهو كما قال سهل : المعرفة هي المعرفة بالجهل .

وقال سهل : العلم يثبت بالمعرفة ، والعقل يثبت بالعلم ، وأما المعرفة فإنها تثبت بذاتها . معناه : إن الله إذا عرف عبداً نفسه فعرف الله تعالى بتعرفه إليه ، أحدث له بعد ذلك علماً ، فادرك العلم بالمعرفة وقام العقل فيه بالعلم الذي أحدثه فيه .

وقال غيره : تبين الأشياء على الظاهر علم ، وتبينها على استكشاف بواطنها معرفة . وقال غيره : أباح العلم للعامة وخص أولياءه بالمعرفة .

وقال أبو بكر الوراق : المعرفة معرفة الأشياء بصورها وسماتها ، والعلم علم الأشياء بحقائقها .

وقال أبو سعيد الخراز : المعرفة بالله هي علم الطلب لله من قبل الوجود له ، والعلم بالله هو بعد الوجود ، فالعلم بالله أخفى وأدق من المعرفة بالله .

وقال فارس : المعرفة هي المستوفية في كنه المعروف .

وقال غيره : المعرفة هي حقر الأقدار إلا قدر الله ، وأن لا يشهد مع قدر الله قدراً .

وقيل لذي النون : بم عرفت ربك ؟ قال : ما هممت بمعصية فذكرت جلال الله إلا استحييت منه . جعل معرفته بقرب الله منه دلالة المعرفة له .

وقيل لعليان : كيف حالك مع المولى ؟ قال : ما جفوته منذ عرفته . قيل له : متى

٢٢٩
 &

عرفته ؟ قال : منذ سموني مجنوناً . جعل دلالة معرفة له تعظيم قدره عنده .

قال سهل : سبحان من لم يدرك العباد من معرفته إلا عجزاً عن معرفته .

تصوراتهم عن العارف بالله تعالى

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص ١٣٦ ـ ١٣٨

سئل الحسن بن علي بن يزدانيار : متى يكون العارف بمشهد الحق ؟ قال : إذا بدا الشاهد ، وفني الشواهد ، وذهب الحواس ، واضمحل الإخلاص .

معنى بدا الشاهد : يعني شاهد الحق ، وهو أفعاله بك مما سبق منه إليك من بره لك ، وإكرامه إياك بمعرفته ، وتوحيده ، والإيمان به ، تفنى رؤية ذلك منك رؤية أفعالك وبرك وطاعتك ، فترى كثير ما منك مستغرقاً في قليل ما منه ، وإن كان ما منه ليس بقليل ، وما منك ليس بكثير . وفناء الشواهد : بسقوط رؤية الخلق عنك ، بمعنى الضر والنفع والذم والمدح . وذهاب الحواس هو معنى قوله : فبي ينطق وبي يبصر ، الحديث . ومعنى اضمحل الإخلاص : أن لا يراك مخلصاً ، وما خلص من أفعالك خلص ، ولن يخلص أبداً إذا رأيت صفتك ، فإن أوصافك معلولة مثلك .

سئل ذو النون عن نهاية العارف فقال : إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون معناه : أن يشاهد الله وأفعاله دون شاهده وأفعاله .

قال بعضهم : أعرف الخلق بالله أشدهم تحيراً فيه .

قيل لذي النون : ما أول درجة يرقاها العارف ؟

فقال : التحير ، ثم الإفتقار ، ثم الإتصال ، ثم التحير .

الحيرة الأولى في أفعاله به ونعمه عنده ، فلا يرى شكره يوازي نعمه ، وهو يعلم أنه مطالب بشكرها ، وإن شكر كان شكره نعمة يجب عليه شكرها ، ولا يرى أفعاله أهلاً أن يقابله بها استحقاراً لها ، ويراها واجبة عليه ، لا يجوز له التخلف عنها .

وقيل قام الشبلي يوماً يصلي فبقى طويلاً ثم صلى فلما انفتل عن صلاته قال : يا ويلاه إن صليت جحدت ، وإن لم أصل كفرت .

٢٣٠
 &

أي جحدت عظم النعمة وكمال الفضل حيث قابلت ذلك بفعلي شكراً له مع حقارته . ثم أنشد :

الحمد لله على أنني

كضفدع يسكن في اليم

إن هي فاهت ملأت فمهـا

أو سكتت ماتت من الغم

والحيرة الأخيرة : أن يتحير في متاهات التوحيد ، فيضل فهمه ويخنس عقله في عظم قدرة الله تعالى وهيبته وجلاله . وقد قيل : دون التوحيد متاهات تضل فيها الأفكار .

سأل أبو السوداء بعض الكبار فقال : هل للعارف وقت ؟ قال : لا . فقال : لم ؟ قال : لأن الوقت فرجة تنفس عن الكربة ، والمعرفة أمواج تغط ، وترفع وتحط ، فالعارف وقته أسود مظلم . ثم قال :

شرط المعارف محو الكل منك إذا

بدا المريد بلحظ غير مطلع

قال فارس العارف : من كان علمه حالة ، وكانت حركاته غلبة عليه .

سئل الجنيد عن العارف فقال : لون الماء لون الإناء . يعني أنه يكون في كل حال بما هو أولى فتختلف أحواله ، ولذلك قيل : هو ابن وقته .

سئل ذو النون عن العارف فقال : كان هاهنا فذهب . يعني أنك لا تراه في وقتين بحالة واحدة ، لأن مصرفه غيره . وأنشدونا لابن عطاء :

ولو نطـقت في السن الدهر خبرت

بأني في ثوب الصبابة أرفل

وما أن لـهـا علم بقدري وموضعي

وما ذاك موهوم لأني أنقل

وقال سهل بن عبد الله : أول مقام في المعرفة أن يعطى العبد يقيناً في سره تسكن به جوارحه ، وتوكلاً في جوارحه يسلم به في دنياه ، وحياة في قلبه يفوز بها في عقباه .

قلنا : العارف هو الذي بذل مجهوده فيما لله ، وتحقق معرفته بما من الله ، وصح رجوعه من الأشياء إلى الله . قال الله تعالى : تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ .

٢٣١
 &

المؤلفة قلوبهم بالمال لكي يعرفوا

ـ اجتهد الخليفة عمر بن الخطاب في آية المؤلفة قلوبهم فأسقط سهمهم رغم نص الآية عليه ، وقد خالفه في ذلك علي والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام وعدد من الصحابة لأن الآية نصت على ذلك ولا يجوز نسخها بالاجتهاد !

ـ الكافي ج ٢ ص ٤١٢

عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن حسان ، عن موسى بن بكر ، عن رجل قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم ، وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي ما يعرفوا .

ـ مجمع الفائدة والبرهان ج ٤ ص ١٥٨

الرابع : المؤلفة قلوبهم ، قال المصنف في المنتهى : أجمع علمائنا على أن من المشركين قوم مؤلفة يستمالون بالزكاة لمعاونة المسلمين ، ونقل في التهذيب من تفسير علي بن إبراهيم ، عن العالم عليه‌السلام أنه قال : والمؤلفة قلوبهم قال : هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألفهم يعلمهم ويعرفهم كيما يعرفوا ، فجعل لهم نصيباً في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا .

راجع أيضاً : الحدائق الناضرة ج ١٢ ص ١٧٥ وذخيرة المعاد ص ٤٥٤ ومستند الشيعة ج ٢ ص ٤٦ وجواهر الكلام ج ١٥ ص ٣٣٩ وفقه السيد الخوئي ج ٢٣ ص ٢٤٧ ومصباح الفقية ج ٣ ص ٩٥ وغيرها من مصادر الحديث والفقه والتفسير .

دعوة العدو في الجهاد إلى معرفة الله تعالى

ـ الكافي ج ٥ ص ٣٦

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن سفيان بن

٢٣٢
 &

عيينة ، عن الزهري قال : دخل رجال من قريش على علي بن الحسين صلوات الله عليهما فسألوه كيف الدعوة إلى الدين ؟ قال : تقول : بسم الله الرحمن الرحيم أدعوكم إلى الله عز وجل وإلى دينه ، وجماعه أمران : أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه وأن معرفة الله عز وجل أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كل شئ وأنه النافع الضار ، القاهر لكل شئ ، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل ، وما سواه هو الباطل ، فإذا أجابوا ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين .

عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لما وجهني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قال : يا علي لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام ، وأيم الله لأن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه . انتهى . وروى نحو الحديث الأول في تهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٤١

معرفة أهل الآخرة بديهية لا كسبية

ـ رسائل الشريف المرتضى ج ٢ ص ١٣١

قال المرتضى رضي‌الله‌عنه : سألت بيان أحكام أهل الآخرة في معارفهم وأحوالهم وأنا ذاكر من ذلك جملة وجيزة : إعلم أن لأهل الآخرة ثلاث أحوال : حال ثواب ، وحال عقاب ، وحال أخرى للمحاسبة . ويعمهم في هذه الأحوال الثلاث سقوط التكليف عنهم ، وأن معارفهم ضرورية ، وأنهم ملجؤون إلى الإمتناع من القبيح وإن كانوا مختارين لأفعالهم مؤثرين لها ، وهذا هو الصحيح دون ما ذهب إليه من خالف هذه الجملة . . . .

٢٣٣
 &

وأما الذي يدل على أن أهل الآخرة لا بد أن يكونوا عارفين بالله تعالى وأحواله ، فهو أن المثاب متى لم يعرفه تعالى ، لم يصح منه معرفة كون الثواب ثواباً وواصلاً إليه على الوجه الذي يستحقه ، وأنه دائم غير منقطع ، وإذا كانت هذه المعارف واجبة فما لا يتم هذه المعرفة إلا به ـ من معرفة الله تعالى وإكمال العقل وغيرهما ـ لا بد من حصوله .

بحث للشيخ الطوسي في تعريف الإيمان والكفر

ـ الإقتصاد ص ١٤٠

الإيمان هو التصديق بالقلب ، ولا اعتبار بما يجرى على اللسان ، وكل من كان عارفاً بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقراً بذلك مصدقاً به فهو مؤمن . والكفر نقيض ذلك ، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به ، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير .

وفي المرجئة من قال : الإيمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر هو الجحود باللسان ، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى معصيته ، سواء كان صغيراً أو كبيراً . وفيهم من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، والكفر هو الجحود بهما .

وفي أصحابنا من قال : الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح ، وعليه دلت كثير من الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام .

وقالت المعتزلة : الإيمان إسم للطاعات ، ومنهم من جعل النوافل والفرائض من الإيمان ، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الإيمان . والإسلام والدين عندهم شئ واحد ، والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب ، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقاً . والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم ،

٢٣٤
 &

وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة ، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق .

وقالت الخوارج قريباً من قول المعتزلة إلا أنهم لا يسمون الكبائر كلها كفراً ، وفيهم من يسميها شركاً .

والفضيلية منهم تسمي كل معصية كفراً صغيرة كانت أو كبيرة .

والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة ، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة .

والذي يدل على ما قلناه : أولاً ، هو أن الإيمان في اللغة هو التصديق ، ولا يسمون أفعال الجوارح إيماناً ، ولا خلاف بينهم فيه .

ويدل عليه أيضاً قولهم : فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا . وقال تعالى : يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وقال : وما أنت بمؤمن لنا ، أي بمصدق ، وإذا كان فائدة هذه اللفظة في اللغة ما قلناه وجب إطلاق ذلك عليها إلا أن يمنع مانع ، ومن ادعى الإنتقال فعليه الدلالة ، وقد قال الله تعالى : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ . وقال : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ . وقال : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا . وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة . وليس إذا كان هاهنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الألفاظ بذلك ، وإنما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك . وإن كان في المرجئة من قال ليس هاهنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك .

ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا لأنا إنما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه . والإجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمناً ، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة ، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ الدابة ببهيمة مخصوصة ، وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة ، ويكون ذلك تخصيصاً لا نقلاً . فعلى موجب هذا ، يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه .

٢٣٥
 &

وليس لأحد أن يقول : إن العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول ، فكيف حملتموه على ما يختص القلب ؟

قلنا : العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب ، لأنهم يصفون الأخرس بأنه مؤمن وكذلك الساكت ، ويقولون : فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق ، ويريدون ما يرجع إلى القلب ، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة .

وإنما منعنا إطلاقه في المصدق باللسان لأنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالإيمان وإن علم جحوده بالقلب ، والإجماع مانع من ذلك .

. . . وأما الكفر فقد قلنا إنه عند المرجئة من أفعال القلوب ، وهو جحد ما أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك ، وأما في اللغة فهو الستر والجحود ، وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير ، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح .

والعلم بكون المعصية كفراً طريقه السمع لا مجال للعقل فيه ، لأن مقادير العقاب لا تعلم عقلاً ، وقد أجمعت الأمة على أن الإخلال بمعرفة الله تعالى وتوحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر ، لا يخالف فيه إلا أصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم .

ولا فرق بين أن يكون شاكاً في هذه الأشياء أو يكون معتقداً لما يقدح في حصولها ، لأن الإخلال بالواجب يعم الكل .

فعلى هذا ، المجبرة والمشبهة كفار ، وكذلك من قال بالصفات القديمة لأن اعتقادهم الفاسد في هذه الأشياء ينافي الإعتقاد الصحيح من المعرفة بالله تعالى وعدله وحكمته .

بحث للشهيد الثاني في تعريف الإيمان والكفر

ـ رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ٥٠

في تعريف الإيمان لغة وشرعاً ، فاعلم أن الإيمان لغةً : التصديق ، كما نص عليه

٢٣٦
 &

أهلها ، وهو إفعال من الأمن ، بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها ، وحينئذ فكان حقيقة آمن به سكنت نفسه واطمأنت بسبب قبول قوله وامتثال أمره ، فتكون الباء للسببية . ويحتمل أن يكون بمعنى آمنه التكذيب والمخالفة ، كما ذكره بعضهم فتكون الباء فيه زائدة ، والأول أولى كما لا يخفى وأوفق لمعنى التصديق ، وهو يتعدى باللام كقوله تعالى : وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ، فأمن له لوط . وبالباء كقوله تعالى : آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ .

وأما التصديق : فقد قيل أنه القبول والإذعان بالقلب ، كما ذكره أهل الميزان .

ويمكن أن يقال : معناه قبول الخبر أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان ، ويدل عليه قوله تعالى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ، فأخبروا عن أنفسهم بالإيمان وهم من أهل اللسان ، مع أن الواقع منهم هو الإعتراف باللسان دون الجنان ، لنفيه عنهم بقوله تعالى : قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا . وإثبات الإعتراف بقوله تعالى : وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ، الدال على كونه إقراراً بالشهادتين ، وقد سموه إيماناً بحسب عرفهم ، والذي نفاه الله عنهم إنما هو الإيمان في عرف الشرع .

إن قلت : يحتمل أن يكون ما ادعوه من الإيمان هو الشرعي ، حيث سمعوا الشارع كلفهم بالإيمان ، فيكون المنفي عنهم هو ما ادعوا ثبوته لهم ، فلم يبق في الآية دلالة على أنهم أرادوا اللغوي .

قلت : الظاهر أنه في ذلك الوقت لم تكن الحقائق الشرعية متقررة عندهم ، لبعدهم عن مدارك الشرعيات ، فلا يكون المخبر عنه إلا ما يسمونه إيماناً عندهم .

وقوله تعالى : آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ، وقوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ .

وجه الدلالة في هذه الآيات أن الإيمان في اللغة التصديق ، وقد وقع في الإخبار عنهم أنهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فيلزم صحة إطلاق التصديق على الإقرار باللسان وإن لم يوافقه الجنان . وعلى هذا فيكون المنفي هو الإيمان الشرعي أعني

٢٣٧
 &

القلبي ، جمعاً بين صحة النفي والإثبات في هذه الآيات .

لا يقال : هذا الإطلاق مجاز ، وإلا لزم الإشتراك ، والمجاز خير منه .

لأنا نقول : هو من قبيل المشترك المعنوي لا اللفظي ، ومعناه قبول الخبر أعم من أن يكون باللسان أو بالجنان ، واستعمال اللفظ الكلي في أحد أفراد معناه باعتبار تحقق الكلي في ضمنه حقيقة لا مجازاً ، كما هو المقرر في بحث الألفاظ .

فإن قلت : إن المتبادر من معنى الإيمان هو التصديق القلبي عند الإطلاق ، وأيضاً يصح سلب الإيمان عمن أنكر بقلبه وإن أقر بلسانه ، والأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز .

قلت : الجواب عن الأول أن التبادر لا يدل على أكثر من كون المتبادر هو الحقيقي لا المجازي ، لكن لا يدل على كون الحقيقة لغوية أو عرفية ، وحينئذ فلا يتعين أن اللغوي هو التصديق القلبي ، فلعله العرفي الشرعي .

إن قلت : الأصل عدم النقل ، فيتعين اللغوي .

قلت : لا ريب أن المعنى اللغوي الذي هو مطلق التصديق لم يبق على إطلاقه بل أخرج عنه إما بالتخصيص عند بعض أو النقل عند آخرين . ومما يدل على ذلك أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله ، وبنبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما علم بالضرورة مجيئه به لا ما وقع فيه الخلاف وعلى هذا أكثر المسلمين . وزاد الإمامية التصديق بإمامة إمام الزمان ، لأنه من ضروريات مذهبهم ، أيضاً أنه مما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد عرفت أن الإيمان في اللغة التصديق مطلقاً ، وهذا أخص منه .

ويؤيد ذلك قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أخبر عنهم تعالى بالإيمان ، ثم أمرهم بإنشائه فلا بد أن يكون الثاني غير الأول ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل . وإذا حصلت المغايرة كان الثاني المأمور به هو الشرعي ، حيث لم يكن حاصلاً لهم ، إذ لا محتمل غيره إلا التأكيد ، والتأسيس خير منه . وعن الثاني بالمنع من كون ما صح سلبه هو الإيمان اللغوي بل الشرعي ، وليس النزاع فيه .

٢٣٨
 &

إن قلت : ما ذكرته معارض بما ذكره أهل الميزان في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق ، من أن المراد بالتصديق الإذعان القلبي ، فيكون في اللغة كذلك لأن الأصل عدم النقل .

قلت : قد بينا سابقاً أن الخروج عن هذا الأصل ولو سلم فلا دلالة في ذلك على حصر معنى التصديق مطلقاً في الإذعان القلبي ، بل التصديق الذي هو قسم من العلم وليس محل النزاع .

على أنا نقول : لو سلمنا صحة الإطلاق مجازاً ثبت مطلوبنا أيضاً ، لانا لم ندع إلا أن معناه قبول الخبر مطلقاً ، ولا ريب أن الألفاظ المستعملة لغة في معنى من المعاني حقيقة أو مجازاً تعد من اللغة ، وهذا ظاهر .

واما الإيمان الشرعي : فقد اختلفت في بيان حقيقته العبارات بحسب اختلاف الإعتبارات . وبيان ذلك : إن الإيمان شرعاً : إما أن يكون من أفعال القلوب فقط ، أو من أفعال الجوارح فقط أو منهما معاً . فإن كان الأول فهو التصديق بالقلب فقط ، وهو مذهب الأشاعرة وجمع من متقدمي الإمامية ومتأخريهم ، ومنهم المحقق الطوسي رحمه‌الله في فصوله ، لكن اختلفوا في معنى التصديق فقال أصحابنا : هو العلم . وقال الأشعرية : هو التصديق النفساني ، وعنوا به أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر ، فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق ، ولذا يثاب عليه بخلاف العلم والمعرفة ، فإنها ربما تحصل بلا كسب ، كما في الضروريات .

وقد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين ، فقال : التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق للمخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقاً وإن كان معرفة ، وسنبين إن شاء الله تعالى [ قصور ] ذلك .

وإن كان الثاني ، فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط ، وهو مذهب الكرامية . أو عن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضاً ونفلاً ، وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والغلاة والقاضي عبد الجبار . أو عن جميعها من الواجبات

٢٣٩
 &

وترك المحظورات دون النوافل ، وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه هاشم وأكثر معتزلة البصرة .

وإن كان الثالث ، فهو إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات ، وهو قول المحدثين وجمع من السلف كابن مجاهد وغيره فإنهم قالوا : إن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان .

وإما أن يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة ، ونسب إلى طائفة منهم أبو حنيفة .

أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الإقرار باللسان ، وهو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي رحمه‌الله في تجريده ، فهذه سبعة مذاهب ذكرت في الشرح الجديد للتجريد وغيره .

واعلم أن مفهوم الإيمان على المذهب الأول يكون تخصيصاً للمعنى اللغوي ، وأما على المذاهب الباقية فهو منقول ، والتخصيص خير من النقل .

وهنا بحث وهو أن القائلين بأن الإيمان عبارة عن فعل الطاعات ، كقدماء المعتزلة والعلاف والخوارج ، لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الأصول ، وحينئذ فما الفرق بينهم وبين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب والجوارح ؟

ويمكن الجواب ، بأن اعتقاد المعارف شرط عند الأولين وشطر عند الآخرين . . . .

إعلم أن المحقق الطوسي رحمه‌الله ذكر في قواعد العقائد أن أصول الإيمان عند الشيعة ثلاثة : التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته تعالى ، والعدل في أفعاله ، والتصديق بنبوة الأنبياء عليهم‌السلام والتصديق بإمامة الأئمة المعصومين من بعد الأنبياء عليهم‌السلام .

وقال أهل السنة : إن الإيمان هو التصديق بالله تعالى وبكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صادقاً ، والتصديق بالأحكام التي يعلم يقيناً أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم بها دون ما فيه اختلاف واشتباه .

والكفر يقابل الإيمان ، والذنب يقابل العمل الصالح ، وينقسم إلى كبائر وصغائر .

٢٤٠