موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بقي في المقام شي‌ء‌

وهو ما نسب إلى السيِّد بحر العلوم قدس‌سره من ذهابه في هذه الصورة أعني ما إذا علم تأريخ الوضوء وكان الحدث مجهول التأريخ إلى الحكم بالحدث دون الطّهارة على عكس الماتن قدس‌سره تمسّكاً بأصالة تأخّر الحادث حيث لا ندري أن الحدث هل تحقق قبل الزوال أم بعده ، فالأصل أنه حدث بعده (١).

ويدفعه أن أصالة تأخر الحادث مما لا أساس له كما نبّه عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) ، حيث إنه إن أُريد منها ما إذا علمنا بوجود شي‌ء فعلاً وشككنا في أنه هل كان متحققاً قبل ذلك أم تحقق في هذا الزمان وكان لعدم تحققه من السابق أثر فهو وإن كان صحيحاً ، لأن ذلك الأمر الموجود بالفعل حادث مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه المتيقن إلى هذا الزمان ونرتب عليه آثاره ، كما إذا علمنا بفسق زيد فعلاً ، وشككنا في أنه هل كان ذلك سابقاً كقبل سنتين أو أكثر حتى نحكم ببطلان الطلاق الذي قد وقع بشهادته ، أو أنه صار كذلك فعلاً ولم يكن فاسقاً سابقاً فالطلاق عنده قد وقع صحيحاً ، فنستصحب عدم فسقه إلى يومنا هذا ونحكم بصحّة الطلاق. إلاّ أن هذا غير مفيد في المقام ، لأنّ الشك في التقدّم والتأخّر بعد العلم بحدوث أمرين.

وإن أُريد منها ما إذا علمنا بحادثين وكان لتأخّر كل منهما أثر كما في المقام ، ففيه أن الحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر بلا مرجح ، فتتعارض أصالة تأخّر الحدث عن الطّهارة مع أصالة تأخّر الطّهارة عن الحدث. وكيف كان ، فلم يقم على حجية الأصالة المذكورة دليل ، لأنّ بناء العقلاء لم يجر على ذلك ، وأدلّة الاستصحاب إنما تشمل استصحاب العدم فيما إذا لم يكن مبتلى بالمعارض. على أنه لا يثبت عنوان الحدوث للآخر كما هو واضح ، نعم لهذا الكلام وجه بناء على حجية الأصل المثبت باستصحاب عدمه إلى زمان العلم بتحقّق الطّهارة الملازم لحدوثه بعدها.

__________________

(١) الدرة النجفية : ٢٣.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٦٦٦.

٨١

[٥٧٧] مسألة ٣٨ : من كان مأموراً بالوضوء من جهة الشك فيه بعد الحدث (١) إذا نسي وصلّى فلا إشكال في بطلان صلاته بحسب الظاهر فيجب عليه الإعادة إن تذكر في الوقت والقضاء إن تذكر بعد الوقت ، وأما إذا كان مأموراً به من جهة الجهل بالحالة السابقة فنسيه وصلّى يمكن أن يُقال (*) بصحّة صلاته من باب قاعدة الفراغ ، لكنه مشكل فالأحوط الإعادة أو القضاء في هذه الصورة أيضاً. وكذا الحال إذا كان من جهة تعاقب الحالتين والشك في المتقدّم منهما (٢).

______________________________________________________

المأمور بالوضوء إذا نسيه وصلّى‌

(١) بأن علم بحدثه سابقاً ثمّ شك في بقائه فحكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء بالاستصحاب ، إلاّ أنه نسي أو غفل فدخل في الصلاة ثمّ بعد الصلاة التفت إلى أنه كان يشك في بقاء حدثه المتيقن قبل الصلاة وقد حكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء بالاستصحاب قبل الصلاة. وهذه الصورة لم يتأمل فيها الماتن في الحكم ببطلان الصلاة فيه ووجوب الإعادة أو القضاء.

(٢) الأمر بالوضوء من جهة الجهل بالحالة السابقة أي من غير جهة الاستصحاب له موردان :

أحدهما : صورة تعاقب الحالتين ، لأن من علم بحدث ووضوء فشك في حدثه أو طهارته من جهة الجهل بالمتقدّم والمتأخر منهما يحكم عليه بوجوب الوضوء بقاعدة الاشتغال دون الاستصحاب ، للجهل بالحالة السابقة.

وثانيهما : ما إذا علم بحدثه أوّل الصبح مثلاً ثمّ علم إجمالاً بأنه إما توضأ أو ترك ركوعاً في صلاته الواجبة بأن كان كلا طرفي العلم ذا أثر ملزم فإنه بعد ذلك يشك طبعاً في حدثه وطهارته ويحكم عليه بوجوب الوضوء أيضاً بقاعدة الاشتغال دون‌

__________________

(*) لكنّه خلاف التحقيق فيه وفيما بعده.

٨٢

الاستصحاب للجهل بحالته السابقة ، حيث إن الاستصحاب لا يجري في حدثه المعلوم في أوّل الصبح لعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي ، ولا في طهارته للجهل بحالته السابقة. فلا تنحصر صورة وجوب الوضوء مع الجهل بالحالة السابقة بمورد تعاقب الحالتين.

بل لو فرضنا الكلام في الغسل لوجدنا له مورداً ثالثاً أيضاً ، وهو ما إذا علم بحدثه الأصغر تفصيلاً ثمّ علم إجمالاً بأنه إما توضأ وإما جامع ، فحصل له العلم التفصيلي بارتفاع حدثه الأصغر أما بالوضوء وإما بالجنابة ووجب عليه الغسل بقاعدة الاشتغال ، فإنه إذا شك في طهارته حينئذ لا يجري في حقه الاستصحاب للجهل بحالته السابقة وأنها هي الوضوء أو الجماع ، فالجامع في جميع الموارد هو الجهل بالحالة السابقة والحكم بالوضوء بقاعدة الاشتغال فهناك صورتان للبحث :

إحداهما : ما إذا حكم عليه بالوضوء بالاستصحاب للعلم بالحالة السابقة وهي الحدث إلاّ أنه نسي أو غفل فصلّى والتفت بعد الصلاة إلى حدثه الاستصحابي قبلها فقد عرفت أن الماتن لم يتأمل فيها في الحكم بوجوب الإعادة أو القضاء.

وثانيتهما : ما إذا حكم عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال للجهل بالحالة السابقة ولكنه غفل أو نسي فدخل في الصلاة ثمّ بعدها التفت إلى أنه كان محكوماً عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال ، فقد ذكر الماتن في هذه الصورة أنه يمكن أن يقال بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ ، لكنّه مشكل فالأحوط الإعادة أو القضاء في هذه الصورة أيضاً.

فالكلام في أنه في الصورة الثانية هل تجب عليه الإعادة أو القضاء أو يحكم بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ. ولا بدّ في توضيح ذلك من ملاحظة أن حكمهم بوجوب الإعادة أو القضاء في الصورة الأُولى بأي ملاك ، فلقد ذكروا أن الوجه في وجوبها حينئذ أن قاعدة الفراغ إنما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل لأنها واردة في مورده دائماً أو غالباً ، إلاّ أنها غير حاكمة على الاستصحاب الجاري قبل‌

٨٣

العمل بل الاستصحاب حاكم على القاعدة ، لأنه إذا جرى قبل العمل وحكم الشارع على المكلّف بالحدث فلا يبقى شك في بطلان الصلاة والحال هذه حتى تجري قاعدة الفراغ في صحّتها بعد إتمامها ، فالاستصحاب الجاري قبل العمل رافع لموضوع قاعدة الفراغ بعد العمل وهو الشك ، ومن ثمّ إذا علم المكلّف بحدثه قبل الصلاة ثمّ شك في بقائه وجرى الاستصحاب في حقه وحكم الشارع عليه بالحدث ووجوب الوضوء ولكنه نسي أو غفل فدخل في الصلاة والتفت إلى شكّه السابق بعدها يكون الاستصحاب الجاري في حقه قبلها معدماً ورافعاً لموضوع القاعدة تعبداً ، فلا يبقى شك في صحّتها حتى يحكم بصحّتها بقاعدة الفراغ.

فلو كان هذا هو الملاك في الحكم بوجوب الإعادة والقضاء في الصورة الاولى أعني ما إذا حكم بالوضوء في حقه من قبل الاستصحاب إلاّ أنه نسي ودخل في الصلاة ، فمن الظاهر أنه لا يأتي في الصورة الثانية أعني ما إذا حكم عليه بالوضوء بقاعدة الاشتغال لا بالاستصحاب لجهالة الحالة السابقة ، فلو نسيه أو غفل ودخل في الصلاة والتفت إلى شكّه وحكمه السابق بعد الصلاة تجري في حقه قاعدة الفراغ ، لأن الشارع لم يحكم عليه بالحدث ووجوب الوضوء في أي وقت ، وإنما حكمنا عليه بالوضوء قبل الصلاة بقاعدة الاشتغال ، ومع عدم الحكم شرعاً بحدثه ووجوب الوضوء لا مانع من جريان القاعدة بعد العمل ، لوجود موضوعها وهو الشك وجداناً ولا رافع له بوجه فيحكم بها بصحّة الصلاة ، فلا يجب إعادتها فضلاً عن قضائها.

إلاّ أنا ذكرنا قريباً في بحث الاستصحاب أن الاستصحاب لا مجال له في الصورة الأُولى ، لأنه متقوم بموضوعه وهو اليقين والشك الفعليان ، ومع الغفلة والنسيان لا يقين ولا شك ، وارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه من البديهيات فلا مورد للاستصحاب حينئذٍ ، فعدم جريان قاعدة الفراغ غير مستند إلى الاستصحاب الجاري في حقه قبل الصلاة حيث لا استصحاب ، فلا مانع عن القاعدة من هذه الجهة.

نعم لا تجري القاعدة أيضاً من جهة أن الظاهر المستفاد من أخبارها اختصاص‌

٨٤

[٥٧٨] مسألة ٣٩ : إذا كان متوضئاً وتوضأ للتجديد وصلّى ثمّ تيقن بطلان‌

______________________________________________________

جريانها بما إذا كان الشك في صحّة العمل وفساده حادثاً بعد العمل ، والأمر في المقام ليس كذلك ، لأنه كان شاكاً في وضوئه وصحّة صلاته والحال هذه قبل الصلاة ، وإنما غفل عنه ثمّ عاد بعد العمل ، نعم هو مغاير مع الشك الزائل بالغفلة عقلاً ، لأن المعدوم والزائل غير الفرد الحادث بعد العمل وإنما هما متماثلان ولكنه هو هو بعينه بالنظر العرفي ، ومن هنا يقال إنه عاد ، فكأن الشك قد خفي في خزانته ثمّ برز بعد العمل ، فإذا كان الشك بعد العمل هو بعينه الشك قبله لا تجري فيه قاعدة الفراغ (١) هذا.

على أنا ذكرنا في بحث قاعدة الفراغ أن القاعدة إنما تجري فيما إذا شك بعد العمل في كيفيته ، وأنه أتى به ملتفتاً إلى شرائطه وأجزائه ومراعياً لهما أو أتى به فاقداً لبعض ما يعتبر فيه ، وأما إذا علم بغفلته حال العمل وعدم مراعاته الشروط والأجزاء وإنما يحتمل انطباق المأمور به عليه من باب الصدفة والاتفاق فهو ليس بمورد للقاعدة لعدم كونه أذكر حال العمل منه حين يشك ، ولا كان أقرب إلى الحق منه بعده ، وهو الذي عبرنا عنه بانحفاظ صورة العمل (٢) تبعاً لشيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٣) وعليه فالقاعدة لا مجال لها كما أن الاستصحاب لا يجري.

فانحصر الحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة والقضاء في الصورة الأُولى بقاعدة الاشتغال وعدم إحراز الامتثال بإتيان الوظيفة في وقتها فتجب عليه الإعادة والقضاء ، إذن لا فرق بين الصورة الأُولى والثانية في وجوب الإعادة والقضاء ، فإنه في كلتا الصورتين بملاك واحد وهو كونه مأموراً بالامتثال بقاعدة الاشتغال ، ولم يحرز إتيانه بالوظيفة في وقتها فيجب عليه إعادتها في الوقت أو قضاؤها خارجه ، لعدم إتيانه بالوظيفة في وقتها.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٩٣.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٩.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥١.

٨٥

أحد الوضوءين (١) ولم يعلم أيهما ، لا إشكال في صحّة صلاته ، ولا يجب عليه الوضوء للصلاة الآتية أيضاً بناء على ما هو الحق من أن التجديدي إذا صادف الحدث صحّ (٢) ،

______________________________________________________

المتوضئ لو جدّد وضوءه وصلّى ثمّ علم ببطلان أحد الوضوءين‌

(١) أي بطلانه في نفسه لفقده شيئاً من أجزائه أو شرائطه ، لا بانتقاضه بعد علمه بتحقق كل منهما صحيحاً في نفسه.

(٢) وقد تعرض قدس‌سره في هذه المسألة والمسائل الآتية لعدّة فروع يقرب بعضها من بعض.

المسألة الأُولى : ما إذا صلّى ثمّ علم ببطلان أحد وضوءيه من الأوّل والتجديدي بأن ظهر له بطلان أحدهما في نفسه لفقده شيئاً من شرائطه وأجزائه ، لا أنه علم بانتقاضه بعد وقوعه صحيحاً. والوجه فيما أفاده في هذه المسألة بناء على ما هو الحق الصحيح من أن الوضوء التجديدي يرفع الحدث إذا صادفه في الواقع ظاهر وهو العلم بطهارته ووضوئه الرافع للحدث ، وغاية الأمر لا يدري أن سببه هو الوضوء الأوّل أو الثاني وهو غير مضرّ في الحكم بطهارته فتصح صلاته ، كما أن له الدخول بذلك الوضوء في كل أمر مشروط بالطّهارة. ثمّ إنه قدس‌سره لم يتعرض لما هو خلاف الحق والمشهور من عدم كون الوضوء التجديدي رافعاً للحدث على تقدير مصادفته الواقع فهل يحكم حينئذ بصحّة صلاته ووضوئه أو لا يحكم بصحّة شي‌ء منهما أو فيه تفصيل؟.

لا إشكال في أن استصحاب الحدث السابق على كلا الوضوءين جار في نفسه ومقتضاه الحكم ببطلانهما وبطلان الصلاة ، وذلك لليقين به قبلهما ولا يقين بالوجدان بارتفاعه ، لاحتمال أن يكون الباطل الوضوء الأوّل والصحيح هو التجديدي الذي لا يترتب عليه ارتفاع الحدث على تقدير المصادفة فمقتضاه البطلان ، وإنما الكلام في‌

٨٦

أن قاعدة الفراغ هل تجري في الوضوء الأوّل أو الصلاة في نفسها حتى تتقدم على استصحاب الحدث أو أنها لا تجري فللكلام جهتان :

الجهة الاولى : في أن قاعدة الفراغ هل تجري في نفس الصلاة؟ والجهة الثانية : في جريانها في الوضوء الأوّل وعدمه.

أمّا الجهة الأُولى فالتحقيق أن القاعدة غير جارية في نفس الصلاة سواء قلنا بجريانها في الوضوء أم لم نقل. أما إذا قلنا بجريانها في الوضوء فلأجل أنه لا يبقى معه شك في صحّة الصلاة حتى تجري فيها القاعدة ، لأن الشك فيها مسبب عن الشك في الوضوء ومع الحكم بصحّته بالقاعدة لا يبقى شك في صحّة الصلاة ، إذ الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب. وأما إذا لم نقل بجريانها في الوضوء ولو بدعوى أنه طرف للعلم الإجمالي ببطلانه أو بطلان الوضوء التجديدي كما يأتي فلأن قاعدة الفراغ كما ذكرناه غير مرّة إنما تجري فيما إذا كانت صورة العمل غير محفوظة حين الشك في صحّته ، بأن يشك في أنه هل أتى به مطابقاً للمأمور به أم فاقداً لبعض شرائطه أو أجزائه. وأما إذا كانت صورة العمل محفوظة كما إذا علم أنه توضأ من هذا المائع الموجود بين يديه وهو مشكوك الإطلاق والإضافة مثلاً أو صلّى إلى تلك الجهة وهي مشكوك كونها قبلة ولكنه احتمل صحّته لأجل مجرد المصادفة الاتفاقية فهي ليست مورداً للقاعدة ، لاعتبار أن يكون المكلّف أذكر حال العمل منه حينما يشك (١) وأن يكون أقرب إلى الحق منه بعده (٢) كما في رواياتها ، وهو غير متحقق عند كون صورة العمل محفوظة ، والأمر في المقام كذلك ، لأن صلاته هذه إنما وقعت بذلك الوضوء الأوّل الذي يشك في صحّته وفساده ، فالصلاة خارجة عن موارد القاعدة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧. وهي مضمرة بكير بن أعين ، قال : الرجل يشك بعد ما يتوضأ ، قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣. وفيه : وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك.

٨٧

ولا يُقاس هذا بملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي وغيره من موارد الشك السببي والمسببي حيث يجري الأصل فيها في المسبب إذا لم يجر في السبب ، وذلك لأنه وإن كان صحيحاً بكبرويته ، لوضوح أن الأصل إذا لم يجر في السبب لمانع فلا محالة تنتهي النوبة إلى الأصل المسببي ، إلاّ أنه فيما إذا كان الأصل في المسبب جارياً في نفسه لاشتماله على شرائطه ، لا في مثل الصلاة في مفروض الكلام الذي لا تجري فيه القاعدة في نفسها لعدم وجدانها الشرط المعتبر في جريانها.

وأمّا الجهة الثانية أعني جريان قاعدة الفراغ في الوضوء الأوّل فالصحيح أنها جارية في الوضوء الأوّل ، للشك في صحّته وفساده وبها يحكم بصحّته وصحّة الصلاة ، ويجوز له أن يدخل في كل ما هو مشروط بالطّهارة. والذي يتوهم أن يكون مانعاً عن جريانها في ذلك الوضوء إنما هو وجود العلم الإجمالي ببطلانه أو بطلان الوضوء التجديدي ، كما إذا علم بأنه قد ترك مسح رأسه في أحد الوضوءين ومعه لا تجري القاعدة في شي‌ء منهما ، لأن جريانها في كليهما تعبد بخلاف المعلوم ، وجريانها في بعض دون بعض ترجيح من غير مرجح. إلاّ أن العلم الإجمالي المفروض غير مانع عن جريان القاعدة في الوضوء الأوّل بوجه ، لأنا إن قلنا بما ربّما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أن تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه متوقف على أن يكون متعلقه حكماً إلزامياً في جميع أطرافه وإذا كان متعلقه في بعضها حكماً غير إلزامي فهو غير منجز للتكليف ، كما إذا علم إجمالاً ببطلان إحدى صلاتية من الفريضة أو النافلة فلا تجب عليه إعادة الفريضة لعدم كون الحكم في طرف النافلة إلزامياً ، فالأمر واضح ، لأن الحكم في أحد طرفي العلم الإجمالي في المقام أيضاً غير إلزامي وهو الوضوء التجديدي لأن إعادته غير واجبة ، فالعلم الإجمالي غير مؤثر في تنجز متعلقه فلا مانع من إجراء القاعدة في كل من الوضوء الأوّل والتجديدي بوجه.

وأمّا إذا قلنا بما قوّيناه أخيراً وقلنا بأن العلم الإجمالي منجز لمتعلقه عند تعارض الأُصول في أطرافه سواء كان متعلقه حكماً إلزامياً في جميعها أم كان حكماً غير‌

٨٨

إلزامي في بعضها وإلزامياً في الآخر ، فأيضاً لا مجال للمنع عن جريان القاعدة في الوضوء الأوّل ، وذلك لعدم المعارض وعدم جريان القاعدة في الوضوء التجديدي بناء على ما اخترناه وفاقاً للماتن قدس‌سره من عدم انحصار استحباب التجديد بالفرد الأوّل ، بل الفرد التجديدي الثاني والثالث والرابع وهكذا أيضاً مستحب.

والسرّ في عدم جريان القاعدة في التجديدي حينئذ هو أن القاعدة إنما تجري فيما أمكن فيه التدارك إما على نحو اللزوم وإما على نحو الاستحباب فبها ترفع كلفة تدارك العمل السابق ، وهذا كما في مثال ما إذا علم ببطلان الفريضة أو النافلة ، حيث إن كلا منهما إذا كانت باطلة يمكن تداركها فيجب إعادتها أو تستحب ، فالقاعدة إذا جرت في شي‌ء منهما تقتضي عدم لزوم تداركها أو عدم استحباب التدارك ، فتتعارض القاعدة في الفريضة معها في النافلة فلا يمكن إجراؤها في كليهما لأنه تعبد بخلاف المعلوم ولا في بعضها دون بعض لأنه بلا مرجح.

وأما إذا لم يمكن التدارك بوجه فلا معنى لجريان قاعدة الفراغ في مثله ، وهذا كما في الصلاة المبتدأة ، لأنه إذا شك بعدها في صحّتها وفسادها لا تجري فيها القاعدة ، لأنها سواء صحّت أم فسدت فقد مضت ولا أثر لبطلانها ، حيث إن الصلاة خير موضوع ومستحبة في جميع الأوقات ، فالصلاة بعد الصلاة التي يشك في صحّتها مستحبة في نفسها صحّت الصلاة السابقة أم فسدت ، فلا أثر لبطلانها أي لا يمكن تداركها حتى تجري فيها القاعدة وبها يحكم بعدم كلفة المكلّف في تداركها وإعادتها لزوماً أو استحباباً. وهذا من غير فرق بين كونها طرفاً للعلم الإجمالي وكونها مشكوكة بالشك البدوي ، لأنها في نفسها ليست مورداً للقاعدة كما مر.

والأمر في المقام بناء على ما اخترناه كذلك حيث لا أثر للوضوء التجديدي صحّة وفساداً ، لأن المفروض أنه لا يرفع الحدث الواقعي على تقدير المصادفة ، حيث إن كلامنا على هذا الفرض ، كما أن بطلانه لا يوجب الإعادة لعدم إمكان تداركه حيث إن الفرد التجديدي الثاني مستحب في نفسه صح الفرد الأوّل أم لم يصح ، كان‌

٨٩

وأمّا إذا صلّى بعد كل من الوضوءين ثمّ تيقّن بطلان أحدهما فالصلاة الثانية صحيحة (١) وأما الاولى فالأحوط (*) إعادتها ، وإن كان لا يبعد جريان قاعدة الفراغ فيها (٢).

______________________________________________________

مورداً وطرفاً للعلم الإجمالي أم كان مشكوكاً بدوياً ، لأن القاعدة غير جارية فيه في نفسه لا من جهة المعارضة ، فإذا لم يترتب على جريان القاعدة في الوضوء التجديدي أثر فلا مانع من جريانها في الوضوء الأوّل ، لأنه مشمول لإطلاق أدلّتها ولقوله عليه‌السلام : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه كما هو (٢).

والعلم الإجمالي بترك المسح في ذلك الوضوء الأوّل أو بتركه في أمر آخر أجنبي لا أثر له لا يورث غير الشك في صحّة الوضوء الأوّل ولا يمنع عن جريان القاعدة لأنه ليس علماً بالنقصان فيه ، فإذا جرت فيه القاعدة نحكم بصحّته كما نحكم بصحّة الصلاة وبجواز دخوله في كل ما يشترط فيه الطّهارة.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في الحكم بصحّة الوضوء والصلاة بين القول بأن الوضوء التجديدي يرفع الحدث على تقدير المصادفة ، والقول بعدم كونه رافعاً فإنهما محكومان بالصحّة على كلا التقديرين.

(١) للعلم بطهارته حين الصلاة الثانية بناء على أن الوضوء التجديدي يرفع الحدث على تقدير المصادفة واقعاً ، وإنما لا يدري سببه وأن الطّهارة حصلت بالوضوء الأوّل أو الثاني.

(٢) وقد اتضح مما بيّناه سابقاً عدم جريان القاعدة في نفس الصلاة ، لما استظهرناه‌

__________________

(*) والأظهر عدم وجوب الإعادة لا لما ذكره بل لجريان قاعدة الفراغ في الوضوء الأوّل بلا معارض.

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦. وإليك نصها « ... كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه ». وورد في موثقة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٩٠

[٥٧٩] مسألة ٤٠ : إذا توضأ وضوءين وصلّى بعدهما ثمّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما (١) يجب الوضوء للصلاة الآتية (٢) لأنه يرجع إلى العلم بوضوء وحدث والشك في المتأخر منهما ، وأما صلاته فيمكن الحكم بصحّتها من باب قاعدة الفراغ بل هو الأظهر.

______________________________________________________

من رواياتها من اختصاصها بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حال الشك في صحّة العمل ، بأن يحتمل كونه حال العمل ملتفتاً إلى جميع أجزائه وشرائطه وآتياً بهما في محلهما ، كما يحتمل غفلته ونسيانه عن بعضهما فقد نقص شيئاً منهما.

وأمّا إذا علم بحاله حال العمل وأنه كان غافلاً أو شاكاً فلا تشمله القاعدة كما مر والأمر في المقام كذلك لعلمه بأنه صلّى مع ذلك الوضوء الذي يحتمل بطلانه فلا مجرى للقاعدة في نفس الصلاة ، نعم لا بأس بإجرائها في الوضوء الأوّل لما مرّ من عدم معارضة القاعدة فيه مع القاعدة في الوضوء التجديدي ، إذ لا أثر بصحّته وفساده لعدم كونه قابلاً للتدارك كما مر ، فإذا جرت القاعدة في الوضوء فبه نحكم بصحّة الصلاة الأُولى كما يجوز له الدخول في كل ما هو مشروط بالطّهارة ، وقد عرفت أن العلم الإجمالي ببطلان أحدهما مما لا أثر له.

إذا توضّأ مرّتين وصلّى بعدهما ثمّ علم بتحقّق حدث بعد أحدهما‌

(١) أي علم بانتقاض أحدهما بعد وقوعهما صحيحين وتامّين ، لا أنه علم ببطلان أحدهما بترك جزء أو شرط منه كما في المسألة المتقدّمة.

(٢) أما وضوءه الأوّل فهو مقطوع الانتقاض سواء وقع الحدث بعده أم بعد الوضوء الثاني ، وأما الوضوء الثاني فهو محتمل الانتقاض لاحتمال أن يكون الحدث واقعاً قبله وبعد الوضوء الأوّل فالوضوء الثاني غير مرتفع ، كما يحتمل ارتفاعه لاحتمال وقوع الحدث بعد الوضوء الثاني. وعليه فهو حينئذ عالم بحدوث حدث وطهارة لا يعلم المتقدّم والمتأخّر منهما فيدخل الوضوء الثاني في الكبرى المتقدِّمة من‌

٩١

[٥٨٠] مسألة ٤١ : إذا توضأ وضوءين وصلّى بعد كل واحد صلاة ثمّ علم حدوث حدث بعد أحدهما يجب الوضوء للصلاة الآتية وإعادة الصلاتين (*) السابقتين إن كانا مختلفتين في العدد (١)

______________________________________________________

العلم بحدوث الطّهارة والحدث والشك في المتقدّم والمتأخّر منهما ، وقد عرفت أن استصحاب الطّهارة غير جار حينئذ ، ولا يمكن الرجوع إلى البراءة ، لأن المورد من موارد الاشتغال فيحكم بوجوب الوضوء عليه لأجل الصلوات الآتية.

وهل يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ بالنسبة إلى ما أتى به من الصلاة؟ الظاهر ذلك وذلك لأنه يحتمل أن يكون حال صلاته قد أحرز طهارته وأنها بعد الحدث فصلّى مع الطّهارة وإنما حصل له التردد في التقدّم والتأخّر بعد الصلاة ، ومع احتمال التفاته إلى وجدان الشرط حال الصلاة يحكم بصحّتها بمقتضى القاعدة ، كما هو الحال فيما إذا شك في أصل وضوئه بعد الصلاة ، لأنه إذا احتمل التفاته إلى شرائطها قبل الصلاة وإحرازها حينئذ يحكم بصحّة صلاته بقاعدة الفراغ.

(١) نظراً إلى أن قاعدة الفراغ في كل من الصلاتين معارضة بجريانها في الآخر فيتساقطان ، ولا يمكن الرجوع إلى البراءة لأن المورد مورد للاشتغال هذا. وهل يمكن التفصيل في هذه المسألة بالحكم بصحّة الصلاة الأُولى دون الثانية؟

التحقيق يقتضي ذلك ، وهذا لأن قاعدة الفراغ في كل من الطرفين وإن كانت معارضة بجريانها في الآخر كما عرفت ، إلاّ أنه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء الطّهارة الاولى إلى زمان الصلاة الأُولى بوجه ، ووجهه أن تأريخ الصلاة الأُولى معلوم وهو ما بين الوضوءين ، والمفروض أنا نقطع بتحقق الطّهارة بالوضوء الأوّل للعلم بوقوعه صحيحاً وإنما نشك في استمرار تلك الطّهارة إلى زمان الصلاة الأُولى أو‌

__________________

(*) بل تجب إعادة الثانية فقط ، لأن استصحاب الطّهارة في الأُولى بلا معارض بخلاف الثانية فإنها مسبوقة بالحالتين ، وبذلك يظهر الحال في المسألة الآتية.

٩٢

إلى زمان الوضوء الثاني وعدمه ، لاحتمال تخلل الحدث بينه وبين الصلاة الأُولى فنستصحب بقاءها إلى زمان الطّهارة الثانية وعدم حدوث الحدث إلى ذلك الزمان وبه يحكم بصحّة الصلاة الاولى لا محالة. ولا يعارضه الاستصحاب في الوضوء الثاني ، لأن لنا في زمان ذلك الوضوء أي الثاني علماً إجمالياً بتحقق حدث ووضوء واستصحاب بقاء الطّهارة الثانية إلى حال الصلاة معارض باستصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان.

وما ذكرناه من الحكم بصحّة الصلاة الاولى في هذه المسألة وإن لم يذهب إليه أحد فيما نعلمه ، لأنهم على ما نسب إليهم تسالموا على وجوب إعادة كلتا الصلاتين ، إلاّ أن من الظاهر أنها ليست من المسائل التعبدية ، وإنما ذهبوا إلى بطلانهما من جهة تطبيق الكبريات على مصاديقها فلا مانع في مثله من الانفراد هذا.

وقد يورد على ما ذكرناه من جريان استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الوضوء الثاني الموجب للحكم بوقوع الصلاة الاولى مع الطّهارة بأنه لا وجه للحكم بجريان الاستصحاب المذكور ، لأنه معارض باستصحاب بقاء الطّهارة الثانية ، وإن كان له أي لاستصحاب بقاء الطّهارة الثانية إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية معارض آخر وهو استصحاب بقاء الحدث إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية إلاّ أنه قد يكون أصل واحد معارضاً بأصلين ، كما في علمين إجماليين اشتركا في طرف واحد كالعلم الإجمالي بنجاسة الإناء الشرقي أو الغربي لوقوع قطرة دم في أحدهما ثمّ العلم إجمالاً ثانياً بوقوع نجس في الإناء الشرقي أو الشمالي ، لأن أصالة الطّهارة أو استصحابها في الإناء الشرقي حينئذ معارض بأصلين الجاري أحدهما في الشمالي والآخر في الإناء الغربي ، ومع المعارضة يحكم بتساقط الأُصول بأجمعها ، ولا موجب للحكم بسقوط المتعارضين منها أوّلاً والحكم ببقاء الآخر بلا معارض.

والأمر في المقام كذلك ، وهذا لا لوجود علمين إجماليين بل من جهة أن استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية كما مرّ معارض باستصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان. ثمّ إنا لو أغمضنا النظر عن جريان‌

٩٣

استصحاب الحدث إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية أيضاً لا مجال لاستصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية ، وذلك للعلم الإجمالي بانتقاض أحد الوضوءين ووقوع إحدى الصلاتين مع الحدث ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الثانية معارض باستصحاب بقائها إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى.

أذن استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الثانية معارض بأصلين أحدهما استصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان والآخر استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى ، ومعه لا مناص من الحكم بسقوط الجميع ، ولا وجه للحكم بسقوط استصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية مع استصحاب بقاء الحدث إلى ذلك الزمان وإبقاء استصحاب الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الاولى غير معارض ، فلا بدّ من الحكم بإعادة كلتا الصلاتين.

هكذا قيل ، وهو وإن كان وجيهاً بظاهره إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه. وتوضيح الجواب عن ذلك يتوقف على تمهيد مقدّمة ينبغي أن يؤخر ذكرها إلى فروع العلم الإجمالي ، غير أنا ننبّه عليها في المقام دفعاً للمناقشة ولأجل أنها قد تنفع في غير واحد من المقامات والمسائل. وهي أن المانع عن شمول الدليل لمورد قد يكون من الأُمور الداخلية والقرائن المتّصلة وقد يكون من الأُمور الخارجية والقرائن المنفصلة والأوّل يمنع عن أصل انعقاد الظهور للدليل في شموله لمورده من الابتداء ، وهذا نظير تخصيص العموم بالمخصص المتصل المجمل ، كما إذا خصص العام متصلاً بزيد وتردد زيد الخارج بين ابن بكر وابن عمرو ، فإن العام لا ينعقد له ظهور حينئذ في الشمول لشي‌ء من المحتملين من الابتداء. والثاني إنما يمنع عن حجيّة الظهور بعد انقعاده في الدليل ولا يمنع عن أصل انعقاد الظهور ، فإذا تبيّنت ذلك فنقول :

إن عدم جريان الأُصول في المقام ليس بملاك واحد بل بملاكين ، وذلك لأن عدم جريان الاستصحاب في الحدث والطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية إنما هو من جهة القرينة المانعة المتصلة ، وهي استحالة التعبد بالمتناقضين ، حيث إن هناك شكّاً واحداً وهو مسبوق بيقينين متنافيين ، وإجراء الاستصحاب فيهما يستلزم التعبد‌

٩٤

بالمتناقضين ، واستحالة ذلك من القرائن المتّصلة بالكلام ، لأنها من الأُمور البديهية التي يعرفها كل عاقل ، لأنه إذا التفت يرى عدم إمكان التعبد بأمرين يستحيل اجتماعهما ، فعدم شمول أدلّة الاستصحاب لهذين الاستصحابين إنما هو من جهة المانع الداخلي وغير مستند إلى العلم الإجمالي بوجه ، لأنه سواء كان أم لم يكن لا يتردد العاقل في استحالة التعبد بالمتناقضين ، وقد عرف أن المانع إذا كان من قبيل القرائن المتّصلة فهو يمنع عن أصل انعقاد ظهور الدليل في شموله لمورده.

وأمّا عدم جريانه في استصحابي بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى والثانية فهو من جهة القرينة الخارجية ، وهي العلم الإجمالي بانتقاض أحد اليقينين إلاّ أن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأُصول في أطرافه ليست من الأُمور البديهية وإنما هي أمر نظري ، ومن هنا جوّز جماعة جريان الأُصول في كلا طرفي العلم الإجمالي ، بل تكرّر في كلمات صاحب الكفاية أن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الإجمالي (١). ودعوى احتمال مناقضته أي الحكم الظاهري حينئذ مع الحكم الواقعي غير مختصة بأطراف العلم الإجمالي ، لأنها متحققة في جميع الشبهات البدوية وعليه فالمانعية في العلم الإجمالي من قبيل القرائن المنفصلة الخارجية ، وقد عرفت أن المانع المنفصل لا يمنع عن أصل الظهور في الدليل وإنما يمنع عن حجيته ، فإذا كان الأمر كذلك ولم ينعقد لأدلّة حجية الاستصحاب ظهور في شمولها لاستصحابي الحدث والطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الثانية ، والجامع كل شك مسبوق بيقينين متنافيين ، فلا محالة يبقى ظهورها المنعقد في الشمول لمثل استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى بلا مزاحم ولا مانع ، لأن مانعه ورافع حجيّته هو العلم الإجمالي وقد عرفت عدم تأثيره في محل الكلام. فلا يقاس المقام بعلمين إجماليين اشتركا في مورد وطرف واحد ، لأن عدم جريان الأصلين فيهما بملاك واحد لا بملاكين كما في المقام وأنحائه.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٨ ٣٥٩.

٩٥

وإلاّ (١) يكفي صلاة واحدة‌

______________________________________________________

وعليه ففي موارد اختلاف الصلاتين بحسب العدد لا وجه لإعادة كلتيهما وإنما تجب إعادة الثانية فقط هذا. على أنا لو سلمنا عدم جريان قاعدة الفراغ في الطرفين للمعارضة وعدم جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى لوجه لا ندري به ، فلنا أن نرجع إلى البراءة في إحدى الصلاتين ، وذلك فيما إذا خرج وقت إحدى الصلاتين دون الأُخرى ، كما إذا توضأ فأتى بصلاة العصر ثمّ توضأ وأتى بصلاة المغرب وقبل انقضاء وقت صلاة المغرب علم إجمالاً بحدوث حدث بعد أحد الوضوءين ، فلا مانع في مثله من الرجوع إلى البراءة عن وجوب قضاء العصر ، لأنه بأمر جديد ونشك في توجه التكليف بقضائها فندفعه بالبراءة ، وبها ينحل العلم الإجمالي لما ذكرناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما ينجز متعلقه فيما إذا كانت الأُصول الجارية في أطرافه نافية بأجمعها وأمّا إذا كان بعضها مثبتاً للتكليف في أحد الطرفين وكان الجاري في الآخر نافياً فالعلم الإجمالي ينحل لا محالة (١).

والأمر في المقام كذلك لأن الجاري في طرف الصلاة التي لم يخرج وقتها هو أصالة الاشتغال ، للعلم باشتغال الذمّة بها ويشك في سقوطها ، وهذا بخلاف الجاري في ناحية الصلاة الخارج وقتها لأنه هو البراءة حيث إن القضاء بأمر جديد. نعم لو توضّأ وأتى بصلاة قضائية ثمّ توضأ وأتى بصلاة أدائية وبعده علم بحدوث الحدث بعد أحدهما لا بدّ من إعادة كلتا الصلاتين ، لعدم خروج الوقت في شي‌ء منهما والمفروض تعارض قاعدة الفراغ في الطرفين وعدم جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى ، هذا كلّه فيما إذا كانت الصلاتان مختلفتين من حيث العدد.

(١) أي وإن لم تكن الصلاتان مختلفتين في العدد بأن كانتا متحدتين بحسبه كما إذا توضّأ وأتى بصلاة الظهر ثمّ توضّأ وأتى بصلاة العصر أو العشاء.

__________________

(١) أشار إلى ذلك في مصباح الأُصول ٢ : ٣٥٦.

٩٦

بقصد ما في الذِّمّة جهراً إذا كانتا جهريتين وإخفاتاً إذا كانتا إخفاتيتين (١) ومخيّراً بين الجهر والإخفات إذا كانتا مختلفتين (٢) ، والأحوط في هذه الصورة إعادة كلتيهما‌

______________________________________________________

(١) كما إذا توضأ وأتى بصلاة الظهر ثمّ توضأ وأتى بصلاة العصر ، لأنه إذا أتى بصلاة رباعية واحدة إخفاتاً فقد علم بحصول الواجب لأنه إنما علم ببطلان إحدى الصلاتين لا كلتيهما ، هذا بناء على مسلك المشهور. وأما على ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى فالأمر ظاهر ، لأنه إنما يأتي بالصلاة الثانية فحسب.

(٢) كما إذا توضأ وأتى بصلاة العصر ثمّ توضأ وأتى بصلاة العشاء ، فعلى ما بيّناه لا بدّ من إعادة خصوص الثانية جهراً إن كانت جهرية كما في المثال ، وإخفاتية إذا كانت إخفاتية. وأما على مسلك المشهور فقد ذكروا بأن المكلّف متخير بين أن يأتي بصلاة واحدة جهرية أو إخفاتية. والكلام في هذا التخيير وأنه لماذا لم يجب عليه الاحتياط بتكرار الصلاة جهراً تارة وإخفاتاً اخرى عملاً بمقتضى العلم الإجمالي بوجوب إحداهما ، ولم يجب مراعاتهما مع أنهما من أحد الأُمور المعتبرة في الصلاة فنقول :

إن مقتضى قانون العلم الإجمالي وجوب تكرار الصلاة جهراً مرّة وإخفاتاً اخرى تحصيلاً للعلم بوجود شرط الصلاة ، إلاّ أن الأصحاب قدس‌سرهم اختلفوا في ذلك فذهب جماعة منهم إلى ذلك ، ولكن المشهور منهم ذهبوا إلى عدم وجوب تكرار الصلاة ، بل المكلّف يأتي بها مرّة واحدة مخيّراً بين الإجهار والإخفات ، مستندين في ذلك إلى الأخبار الواردة في من فاتته فريضة لا يدري أيتها ، وهي روايات ثلاث :

ثنتان منها رواهما الشيخ قدس‌سره بسندين عن علي بن أسباط من أنه يصلّي ثلاثية ورباعية وثنائية (١) نظراً إلى أنه عليه‌السلام لم يوجب التكرار في الرباعية‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٥ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١ ح ١. رواها الشيخ قدس‌سره بسندين : أحدهما بسنده عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن علي الوشاء عن علي ابن أسباط عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من نسي من

٩٧

مع احتمال أن تكون الفائتة جهرية وأن تكون إخفاتية ، وهو معنى التخيير عند دوران الأمر بينهما. والروايتان معتبرتان من حيث السند وإن عبروا عنهما بالمرسلة في كلماتهم ، ولكنا ذكرنا غير مرّة أن المراد بالمرسلة ما إذا كان الراوي غير المذكور في السند واحداً أو اثنين ، وأما إذا روى الراوي عن غير واحد فهو كاشف عن كون الرواية معروفة متواترة أو ما يقرب منها عند الرواة ، كما أن هذا التعبير بعينه دارج اليوم فتراهم أن القضيّة إذا كانت معروفة يقولون إنها مما نقله غير واحد ، فمثله خارج عن الإرسال ، فالروايتان لا بأس بهما من حيث سنديهما ، لأن علي بن أسباط ينقلهما عن غير واحد عن الصادق عليه‌السلام ، نعم هما من حيث الدلالة قابلتان للمناقشة ، لاختصاصهما بمورد فوات الفريضة المرددة بين الثلاث فلا يمكن التعدي عنها إلى غيره كأمثال المقام.

والرواية الثالثة ما رواه البرقي في محاسنه « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي صلاة من الصلوات لا يدري أيتها هي ، قال عليه‌السلام : يصلّي ثلاثاً وأربعاً وركعتين فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلّى أربعاً ، وإن كانت المغرب أو الغداة فقد صلّى » (١) وهي بعينها الروايتان المتقدمتان إلاّ أنها مشتملة على ذيل وهو قوله عليه‌السلام : « فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلّى أربعاً » وكأن الذيل تعليل فتعدوا به عن مورد الرواية وهو فوات الفريضة المردّدة بين الصلوات الثلاث إلى كل مورد دار أمر الفريضة فيه بين الجهر والإخفات مع الاتحاد في العدد ، فإنه يأتي بها مخيّراً بين الإجهار والإخفات لأنه عليه‌السلام لم يوجب التكرار مع الإجهار والإخفات.

__________________

صلاة يومه واحدة ولم يدر أي صلاة هي صلّى ركعتين وثلاثاً وأربعاً ». ثانيهما : رواها بسنده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب عن علي بن أسباط مثله.

(١) الوسائل ٨ : ٢٧٦ / أبواب قضاء الصلوات ب ١١ ح ٢. ورواها البرقي [ المحاسن ٢ : ٤٧ / ١١٣٩ ] في الصحيح عن الحسين بن سعيد ، يرفع الحديث قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام إلخ.

٩٨

[٥٨١] مسألة ٤٢ : إذا صلّى بعد كل من الوضوءين نافلة (١) ثمّ علم حدوث‌

______________________________________________________

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة عليه بوجه ، لأن الرواية واردة في خصوص من فاتته فريضة ودارت بين الصلوات الثلاث ، فكيف يمكننا التعدِّي عنه إلى أمثال المقام ممّا قد لا يكون فيه قضاء أصلاً ، كما إذا حصل له العلم الإجمالي بالحدث قبل خروج وقت الصلاتين ، والذيل لا عليّة له وإنما هو بيان لذلك الحكم الخاص الوارد في مورده.

فالصحيح في الحكم بالتخيير في المقام أن يقال : إن أدلّة اعتبار الإجهار والإخفات قاصرة الشمول في نفسها للمقام ، لأنها مختصّة بموارد العلم والتعمد ولا وجوب لشي‌ء منهما مع الجهل والنسيان والغفلة ، وهذا لصحيحة زرارة المصرحة بأن الإجهار والإخفات إنما هما مع الالتفات والعمد لا مع الجهل والنسيان والغفلة ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال : أي ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شي‌ء عليه وقد تمّت صلاته » (١) وحيث إن المكلّف جاهل بوجوبها في المقام لأنه لا يدري أن الباطل من صلاته أيهما وأنها هي الجهرية أو الإخفاتية فلا يجب عليه شي‌ء من الجهر والإخفات أصلاً ، لا أنهما واجبان عليه ولكنه مخيّر بينهما في أمثال المقام ، فإذا لم يجب عليه شي‌ء منهما فلا محالة يتخيّر بين الإجهار في صلاته وبين الإخفات فيها ، وهذا هو معنى تخيّره بينهما.

النافلة كالفريضة في محل الكلام‌

(١) وتوضيح الكلام في هذه المسألة أن النافلتين إن كانتا مبتدأتين فلا تجري قاعدة الفراغ في شي‌ء منهما ، لما مرّ وعرفت من أن القاعدة إنما تجري لرفع وجوب‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.

٩٩

حدث بعد أحدهما فالحال على منوال الواجبين ، لكن هنا يستحب الإعادة إذ الفرض كونهما نافلة ، وأما إذا كان في الصورة المفروضة إحدى الصلاتين واجبة والأُخرى نافلة فيمكن أن يقال بجريان قاعدة الفراغ في الواجبة وعدم معارضتها بجريانها في النافلة أيضاً ، لأنه لا يلزم من إجرائهما فيهما طرح تكليف منجز ، إلاّ أن الأقوى عدم جريانها للعلم الإجمالي فيجب إعادة الواجبة ويستحبّ إعادة النافلة.

______________________________________________________

إعادة العمل وتداركه ، ومع فرض أن العمل غير قابل للتدارك والإعادة سواء صح أم بطل وإن كانت النافلة بنفسها مستحبة في كل وقت لا معنى لجريان القاعدة في مثله ، فلا تجري فيهما القاعدة في نفسها ، لا أنها تجري وتتعارض ، كما لا يستحب إعادتهما. وأما إذا كانتا غير مبتدأتين كما في نافلة الليل أو الصبح ونحوهما تجري القاعدة في كل من الصلاتين وتتساقط بالمعارضة ، لأن جريانها في كلتيهما يستلزم المخالفة القطعيّة وإن لم تكن محرّمة ، وهو قبيح لأن مآله إلى التعبد على خلاف المعلوم بالوجدان ، لفرض العلم ببطلان إحداهما ومعه كيف يتعبد بصحّة كل منهما ، فلا محالة تتعارض القاعدة في كل منهما بجريانها في الأُخرى فلا بدّ من إعادتهما على وجه الاستحباب ، نعم لو تمّ ما سلكناه من جريان الاستصحاب أعني استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة الأُولى يحكم بصحّة النافلة الاولى ويستحب إعادة خصوص الثانية.

ومنه يظهر الحال فيما إذا كانت إحداهما فريضة والأُخرى نافلة غير مبتدأة ، لأن القاعدة تتعارض فيهما ، لأن جريانها فيهما معاً يستلزم التعبد بخلاف المعلوم بالوجدان فلا بدّ من إعادتهما معاً. وأما إذا كانت إحداهما نافلة غير مبتدأة أو فريضة والأُخرى مبتدأة فالقاعدة تجري في غير المبتدأة أو الفريضة لعدم معارضتها بجريانها في النافلة المبتدأة فلا إعادة لشي‌ء من الصلاتين حينئذ.

١٠٠