موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

تكن باطلة بمطلق الزيادة العمدية كالصلاة ، ولم يستلزم الإعادة فوات الموالاة المعتبرة في العبادة.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره إنما يتمّ على مسلكه ، لأن العمل عند قصد الضميمة المحرمة يتصف بالحرمة لا محالة ، حيث إنه هتك أو غيره من المحرمات ، والمحرّم لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب ، وحيث لا فرق عنده قدس‌سره بين الرِّياء في مجموع العبادة والرِّياء في جزئها ولو كان استحبابياً فيتمّ بذلك ما أفاده من الفرق ، وأمّا بناءً على ما قدّمناه من عدم دلالة شي‌ء من الأدلّة على بطلان العمل المركّب بالرِّياء في جزئه وعدم سراية الحرمة والبطلان من الجزء إلى المركّب والكل (١) ، فلا يتمّ ما أفاده قدس‌سره من الفرق ، بل الحرمة والبطلان يختصان بالجزء في كل من الرِّياء والضميمة المحرّمة ، فلو أعاده ولم يكن ذلك مستلزماً لفوات الموالاة المعتبرة ولم تكن الزيادة موجبة لبطلان العمل فلا محالة تقع العبادة صحيحة في كل من الرِّياء والضميمة المحرّمة.

فالصحيح في الفرق بينهما أن يقال : إن قصد الرِّياء إذا كان على وجه التبع بحيث لم يكن له مدخلية في صدور العبادة لا على نحو يكون جزء الداعي ولا على نحو الداعوية المستقلة ولا على نحو التأكيد ، وإنما يسره رؤية الغير لعمله مع صدوره عن الداعي الإلهي المستقل في الداعوية لم يكن ذلك موجباً لبطلان العبادة كما مر ، لعدم كونه رياء في الحقيقة ، وعلى تقدير التنزل قلنا إن مثله ليس بمحرم ولا بمبطل للعمل والنتيجة أن الرِّياء إذا كان تبعياً بالمعنى الذي عرفت لم يكن موجباً لبطلان العمل بوجه.

وهذا بخلاف الضميمة المحرمة لأنها إذا قصدت ولو تبعاً ، كما إذا صلّى عن الداعي الإلهي المستقل في الداعوية ولم يكن هتك الغير جزءاً من داعي العمل ولا داعياً مستقلا ، بل ولا موجباً للتأكد بوجه وإنما قصده على وجه التبعية القهرية ، استتبعت‌

__________________

(١) في ص ١٢.

٤١

[٥٦٨] مسألة ٢٩ : الرِّياء بعد العمل ليس بمبطل (١).

______________________________________________________

بطلان العبادة لا محالة لأنها هتك محرم والمحرّم لا يقع مصداقاً للواجب ، بل وكذلك الأمر فيما إذا لم يكن قاصداً له وإنما التفت إلى أنه هتك لأنه أيضاً يكفي في الحرمة والبطلان.

نعم إذا فرضنا أن المحرّم لم ينطبق على العمل كما في المثال ، بأن كان عمله هذا مقدمة قصد بها التوصّل إلى الحرام ولم يكن عمله محرماً في نفسه فيبتني الحكم بحرمته على ما حررناه في بحث الأُصول من أن مقدّمة الحرام إذا قصد بها التوصل إلى الحرام هل يحكم بحرمتها شرعاً أو لا؟ وقد ذكرنا هناك أن المحرّم إنما هو ذات الحرام والمقدّمة وإن قصد بها التوصّل إلى المحرّم لا تتصف بالحرمة شرعاً وإن كانت طغياناً وتجرياً على المولى (١) ، فإذا لم يكن العمل المقصود به التوصّل إلى الحرام محرماً اندرج بذلك في كبرى الضميمة المباحة لا محالة وأتى فيه التفصيل المتقدم آنفاً ، فإن كان قصد ذلك الأمر المباح جزءاً من داعي العمل ، أو كان داعياً مستقلا مع عدم كون الداعي الإلهي مستقلا في الداعوية يحكم ببطلان العمل ، وهذا لا لأنه محرم حيث قصد به التوصل إلى الحرام ، إذ قدمنا عدم حرمة المقدمة بذلك ، بل لأن العبادة لم تصدر عن داع قربي مستقل في داعويته وإن كان ما قصده مباحاً كما مرّ ، وأما إذا صدرت العبادة عن الداعي الإلهي المستقل ولم يكن ذلك الأمر المباح موجباً للدعوة أصلاً أو كان داعياً مستقلا ، فلا محالة يحكم بصحّة العبادة كما عرفت.

الرِّياء بعد العمل‌

(١) لا يتحقق الرِّياء بعد العمل على وجه الحقيقة ، لأنه بمعنى أدائه العمل للغير ومع انقضاء العبادة وانصرافها كيف يمكن إراءتها للغير ، نعم لا مانع من تحقق ما هو‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٩.

٤٢

[٥٦٩] مسألة ٣٠ : إذا توضأت المرأة في مكان يراها الأجنبي لا يبطل وضوءها (*) وإن كان من قصدها ذلك (١).

______________________________________________________

نتيجة الرِّياء باعلام الغير بالعمل بعده كما إذا نشر عمله في الصحف والمجلات ، إلاّ أنه لا ينبغي الإشكال في عدم كونه موجباً لبطلان العمل ، لأنه بعد ما وقع مطابقاً للأمر وعلى وجه الصحّة والتمام لم ينقلب عمّا وقع عليه ، نعم هو مناف لكمال العبادة حيث ينبغي أن تصدر من غير شائبة الرِّياء ولو متأخراً عن العمل ، بمعنى أن العبادة الراقية بحسب الحدوث والبقاء سواء ، فكما أنها بحسب الحدوث لا بدّ أن لا تقترن بالرِّياء فكذلك بقاء بالمعنى المتقدِّم آنفاً حسبما يستفاد من الروايات ، وذلك لأنّا استفدنا من الأخبار أنّ الله يحبّ العبادة سرّاً في غير الفرائض ، حيث لا مانع من أن يؤتى بها جهراً بمرأى من الناس وحضورهم ، لما ورد في أنها الفارقة بين الكفر والإسلام. وأما غيرها فالأحب منها ما يقع في السر ، فإعلانها لا يبعد أن يكون موجباً لقلّة ثوابها بل لإذهابه وإحباطه ، وعلى هذا يحمل ما ورد من أنه « يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتبت له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء » (٢) ولا يمكن الأخذ بظاهرها من الحكم ببطلان العبادة السابقة بذكرها بعد ذلك لما عرفت ، نعم لا مانع من الالتزام بمحو كتابة السرّ وكتابة العلانية. على أنها مرسلة ولا يمكن الاعتماد عليها في شي‌ء ولو قلنا بانجبار ضعف الرواية بعمل المشهور على طبقها ، لعدم عملهم على طبق المرسلة كما هو ظاهر.

توضّؤ المرأة في موضع يراها الأجنبي‌

(١) وذلك لأن الوضوء عبارة عن الغسلتين والمسحتين ، وهو ليس مقدّمة لرؤية‌

__________________

(*) لكن إذا انحصر مكان الوضوء به تعين التيمم في مكان لا يراها الأجنبي ، نعم إذا توضأت والحال هذه صحّ وضوءها.

(١) المروية في الوسائل ١ : ٧٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٤ ح ٢.

٤٣

[٥٧٠] مسألة ٣١ : لا إشكال في إمكان اجتماع الغايات المتعدِّدة للوضوء كما إذا كان بعد الوقت وعليه القضاء أيضاً وكان ناذراً لمس المصحف وأراد قراءة القرآن وزيارة المشاهد ، كما لا إشكال في أنه إذا نوى الجميع وتوضأ وضوءاً واحداً لها كفى وحصل امتثال الأمر بالنسبة إلى الجميع (١)

______________________________________________________

الأجنبي حتى يدخل بذلك في الكبرى المتقدّمة ، أعني المقدّمة التي قصد بها التوصل إلى الحرام ، حيث يجب على المرأة أن تتحفظ على نفسها ولا تري وجهها أو يديها أو غيرهما من أعضائها إلى الرجال الأجانب ، بل المقدّمة هي وقوفها في هذا المكان. وعليه فوضوءها محكوم بالصحّة لا محالة ، نعم إذا انحصر المكان بما إذا أرادت أن تتوضأ فيه وقع عليها نظر الأجنبي فلا إشكال في تبدّل وظيفتها إلى التيمّم ، لعدم أمرها بالوضوء وقتئذ ، لأنه يستلزم الحرام فيجب عليها التيمم لا محالة ، إلاّ أنها إذا عصت وتركت التيمّم وتوضّأت في ذلك المكان أمكن الحكم بصحّة وضوئها أيضاً بالترتّب على ما مرّ الكلام عليه في بعض الأبحاث المتقدِّمة (١).

نيّة جميع الغايات المترتبة على الوضوء‌

(١) إذا نوى جميع الغايات المترتبة على الوضوء ، فقد تكون كل واحدة من تلك الغايات داعية مستقلّة نحو الوضوء بحيث لو كانت وحدها لأتى المكلّف لأجلها بالوضوء ، ولا إشكال حينئذ في أنه يقع امتثالاً للجميع.

وأُخرى لا تكون كل واحدة منها داعياً باستقلاله ، بل الداعي المستقل إحداها المعيّنة وغيرها تبع ، فحينئذ يقع الوضوء امتثالاً لهذه الغاية المعيّنة لا لغيرها وإن جاز أن يأتي بسائر الغايات المتوقفة على الطّهارة لوضوئه ذلك أيضاً ، لعدم مدخلية‌

__________________

(١) تقدّم ذلك عند التكلّم على التوضّؤ من الماء الموجود في أواني الذهب والفضة أو الآنية المغصوبة مع فرض الانحصار فليلاحظ شرح العروة ٤ : ٣٠٢ ، ٢٦٥.

٤٤

قصد تلك الغايات في صحّته.

وثالثة يكون كل واحدة من الغايات جزءاً من الداعي للوضوء ، بحيث لا استقلال في الداعوية لشي‌ء منها في نفسها ، وإنما الداعي له هو مجموع هذه الغايات الواجبة أو المستحبّة على نحو الاجتماع ، فهل يقع الوضوء حينئذ امتثالاً للجميع في نفسها؟ قد يستشكل في ذلك نظراً إلى أن مجموع هذه الغايات المتكثرة ليس متعلقاً للأمر بالوضوء ، إذ لا وجود خارجي له حقيقة وإنما هو أمر ينتزع عن وجود كل واحدة منها في الخارج ، وحيث إن الأمر المتعلق بكل واحدة منها بالخصوص لم يكن داعياً للمكلف على الفرض لأنه لم يأت بالوضوء بداعي التوصل إلى غاية معيّنة ، فلم يأت به المكلّف بداعي الأمر الشرعي المتعلق به ومعه لا مناص من الحكم ببطلانه.

إلاّ أن الصحيح أن الوضوء في مفروض المسألة يقع امتثالاً للجميع ، وذلك لأن عبادية الوضوء غير ناشئة عن الأمر الغيري المتعلق به ولا من جهة قصد شي‌ء من غاياته ، بل إنما عباديته تنشأ عن الأمر النفسي المترتب عليه نظير بقيّة العبادات فهو عبادة وقعت مقدّمة لعبادة اخرى ، وعليه فلا يعتبر في صحّته قصد أمره الغيري ولا قصد شي‌ء من غاياته ، نعم لا يعتبر في صحّته أيضاً أن يؤتى به بقصد الأمر النفسي المتعلق به ، بل إن أكثر العوام لا يلتفت إلى أن له أمراً نفسياً بوجه ، بل يقع صحيحاً فيما إذا أتى به مضافاً إلى الله سبحانه نحو إضافة ، وهذا يتحقق بقصد التوصل به إلى شي‌ء من غاياته ، لأنه أيضاً نحو إضافة له إلى الله سبحانه ، فعلى هذا إذا أتى بالوضوء بداعي مجموع غاياته حكم بصحّته ، لأنه أتى بذات العمل وأضافه إلى الله تعالى حيث قصد به التوصل إلى مجموع الغايات المترتبة عليه وهو نحو إضافة له إلى الله فلا محالة يحكم بصحّته.

ولا يقاس المقام بالضمائم الراجحة ، حيث قدّمنا أنّ العبادة إذا صدرت بداعي مجموع الأمر الإلهي والضميمة الراجحة ولم يكن كل واحد منهما أو خصوص الأمر الإلهي داعياً مستقلا في دعوته وقعت باطلة ، من جهة عدم صدورها عن الداعي‌

٤٥

وأنّه إذا نوى واحداً منها أيضاً كفى عن الجميع (١) وكان أداء بالنسبة إليها وإن‌

______________________________________________________

الإلهي المستقل في داعويته ، وانضمام الضميمة الراجحة إليه غير كاف في القربية.

والذي يشهد لما ذكرناه أنه لو أتى بالعبادة بداعي الضميمة الراجحة فقط بأن تكون مستقلّة في داعويتها لم يمكن القول بوقوع العبادة امتثالاً لأمرها وإن كانت واقعة امتثالاً لتلك الضميمة الراجحة كتعليم الوضوء أو الصلاة للغير ، لأنها أيضاً عبادة مستحبة إلاّ أنها لا توجب وقوع العبادة امتثالاً لأمرها ، فإذا لم تكن الضميمة الراجحة مقرّبة من ناحية الأمر المتعلق بالعبادة في نفسها فلا يكون المجموع منها ومن الأمر المتعلق بالعبادة مقرباً أيضاً ، لأن المركب من غير المقرب والمقرب لا يكون مقرّباً ، وهذا بخلاف المقام وذلك لأنه لو كان قصد بوضوئه ذلك التوصل إلى أية غاية من غاياته كفى ذلك في مقربية الوضوء ووقوعه امتثالاً لأمره ، لما مرّ من أن عبادية الوضوء لم تنشأ عن الأمر الغيري المتعلق به ، ولا عن قصد شي‌ء من غاياته حتى يقال إن المكلّف في مفروض الكلام لما لم يقصد التوصّل إلى خصوص غاية من غاياته ولا قصد بذلك امتثال أمره الغيري وقع باطلاً لا محالة ، بل عباديته ناشئة عن الأمر النفسي المتعلق به ، فهو عبادة في نفسه والعبادة يكفي في صحّتها الإتيان بذاتها مضافة بها إلى الله سبحانه نحو إضافة ، والإضافة تحصل بقصد التوصّل به إلى شي‌ء من غاياته أو إلى مجموع تلك الغايات فلا محالة يقع صحيحاً وامتثالاً للجميع ، ويمكن إدخال ذلك تحت عبارة الماتن قدس‌سره في قوله : كما لا إشكال في أنه إذا نوى الجميع وتوضّأ وضوءاً واحداً لها كفى وحصل امتثال الأمر بالنسبة إلى الجميع.

إذا نوى واحداً من الغايات‌

(١) وذلك لتحقق الوضوء بإتيانه بقصد غاية معيّنة من غاياته حيث لا يعتبر في صحّته ووقوعه قصد بقيّة الغايات أيضاً ، ومع تحققه له أن يدخل في أية غاية متوقفة على الطهارة سواء قلنا إن الطّهارة هي نفس الوضوء أعني الغسلتين والمسحتين كما‌

٤٦

لم يكن امتثالاً إلاّ بالنسبة إلى ما نواه ، ولا ينبغي (*) الإشكال في أن الأمر متعدِّد حينئذ وإن قيل إنه لا يتعدّد وإنما المتعدِّد جهاته ، وإنما الإشكال في أنه هل يكون المأمور به متعدِّداً أيضاً وأن كفاية الوضوء الواحد من باب التداخل أو لا بل يتعدّد (**) ذهب بعض العلماء إلى الأوّل وقال : إنه حينئذ يجب عليه أن يعيّن أحدها وإلاّ بطل ، لأن التعيين شرط عند تعدّد المأمور به. وذهب بعضهم إلى الثاني وأن التعدّد إنما هو في الأمر أو في جهاته.

______________________________________________________

قوّيناه ، أم قلنا إن الطّهارة أمر يترتب على تلك الأفعال ، وذلك لتحقق الطّهارة على الفرض. نعم يقع حينئذ امتثالاً من جهة الأمر المتوجه إلى ما قصده من الغايات وأداء بالإضافة إلى بقيّة غاياته التي لم يقصد التوصل به إليها هذا.

ثمّ إن في هذه المسألة جهة أُخرى للكلام ، وهي أنه إذا توضأ بنيّة شي‌ء من غايات الوضوء وبعد ذلك بدا له وأراد أن يأتي بغاية أُخرى أيضاً من غاياته فقد عرفت أنه لا يجب عليه حينئذ أن يتوضأ ثانياً ، بل الوضوء الذي أتى به للتوصل به إلى صلاة الفريضة مثلاً كاف في صحّة بقيّة غاياته ، إلاّ أن الكلام في أن هذا من باب التداخل أو من جهة وحدة المأمور به.

والكلام في ذلك تارة في تعدّد الأمر وأُخرى في تعدّد المأمور به ، وقد نفى الماتن‌

__________________

(*) التحقيق أنه إذا بنينا على عدم اتصاف المقدّمة بالوجوب أو الاستحباب الغيري كما قوّيناه في محله فلا موضوع لهذا البحث من جهة تعدّد الغايات ، ولو قلنا باتصافها به فان لم نعتبر الإيصال في اتصاف المقدّمة بالمطلوبية فلا إشكال في وحدة الأمر والمأمور به وأن التعدّد إنما هو في الجهات ، والوجه فيه ظاهر ، وإن اعتبرنا الإيصال فيه فالظاهر أن كلاًّ من الأمر والمأمور به متعدِّد وأن الاكتفاء بالوضوء الواحد من باب التداخل في المسببات ، وأما الوضوء الواجب بالنذر فتعدّد المأمور به فيه يتوقف على جعل الناذر وقصده ، فان قصد التعدّد تعدّد ، وإلاّ فلا.

(**) الظاهر أن جملة ( بل يتعدد ) زائدة وهي من سهو القلم.

٤٧

الإشكال في تعدّد الأمر حينئذ وذكر أن الإشكال في أن المأمور به أيضاً متعدِّد أو أن التعدّد في جهاته ، ونسب إلى بعض العلماء القول بتعدّد المأمور به كالأمر وفرع عليه لزوم تعيين أحدها ، لأنه لو لم يعيّن المأمور به عند تعدّده بطل ، وقد اختار هو قدس‌سره عدم تعدّد المأمور به ، ثمّ تعرض إلى مسألة النّذر وقال : إنه يتعدّد المأمور به فيها تارة ولا يتعدّد اخرى.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : أنه إذا قلنا بأن المقدّمة لا تتصف بالأمر الغيري المقدمي لا بالوجوب ولا بالاستحباب كما قوّيناه في محلِّه وقلنا إنّ الوجوب أو الاستحباب لا يتعدّى ولا يسري من ذي المقدّمة إلى مقدّماته ، نعم هي واجبة عقلاً (١) فلا يبقى مجال للبحث في هذه المسألة ، حيث لا أمر غيري في الوضوء حينئذ ليقال إنه واحد أو متعدِّد وأن المأمور به أيضاً متعدِّد أو واحد. فالنزاع يبتني على القول باتصاف المقدّمة بالأمر الغيري المترشح من ذيها شرعا.

وحينئذ إن قلنا بما سلكه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أن الأمر الغيري إنما يتعلّق بذات المقدّمة كالغسلتين والمسحتين لا بهما مقيّداً بعنوان المقدمية أو الإيصال لأن المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية ، فالصلاة واجبة لعلة ما فيها من المصلحة ومقدماتها واجبة لعلة كونها مقدّمة لها فالمتصف بالأمر الغيري هو ذات المقدّمة لا هي بوصف كونها مقدّمة أو مع قيد الإيصال ، فلا مناص من الالتزام بوحدة الأمر لأن طبيعي الوضوء وذاته شي‌ء واحد لا يعقل الحكم بوجوبه أو باستحبابه مرتين لوضوح أنه من أظهر أنحاء اجتماع المثلين أو الأمثال وهو أمر مستحيل حتى بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، فلا بدّ من الالتزام بوحدة وجوبه غاية الأمر أنه متأكد وهو آكد من بقيّة أفراد الوجوبات الغيرية المتعدِّدة متعلقاتها.

وأمّا إذا قلنا حينئذ أي على تقدير الالتزام باتصاف المقدّمة بالأمر الغيري بأن‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

(٢) كفاية الأُصول : ١١٤.

٤٨

متعلقه ليس هو طبيعي المقدّمة ، بل هو حصّة خاصّة منه وهي التي تقع في سلسلة علّة ذي المقدّمة أعني المقدّمة الموصلة في الخارج إلى ذيها كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره (١) وقوّيناه في محلِّه (٢) وقلنا أن المقدّمة على تقدير الالتزام بوجوبها أو باستحبابها الغيريين لا موجب للالتزام بوجوب طبيعي المقدّمة أو استحبابها وإن لم توصل إلى ذيها خارجاً ، فلا مناص وقتئذ من الالتزام بتعدد الأمر وذلك لأن هناك حينئذ حصصاً كثيرة متعدِّدة ، فالوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة الفريضة واجب بوجوب ناشئ من وجوب الفريضة ، والوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى قراءة القرآن مستحب باستحباب القراءة ، كما أن الوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة القضاء واجب بوجوب ناشئ من وجوب القضاء وهكذا ، ولا يمكن أن يقال حينئذ إن الوضوء المقيّد بكونه موصلاً إلى صلاة القضاء مستحب باستحباب القراءة أو واجب بوجوب صلاة الفريضة وهكذا ، وعليه فكما يتعدد الأمر كذلك يتعدّد المأمور به كما عرفت.

فمن هنا يظهر أن ما أفاده الماتن من نفي الإشكال في تعدّد الأمر وجعل الإشكال في تعدّد المأمور به ممّا لا وجه له ولا نعرف له وجهاً صحيحاً ، لأن الجهتين متلازمتان ، ففي كل مورد التزمنا بوحدة الأمر كما بناء على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره فلا مناص من الالتزام بوحدة المأمور به أيضاً ، كما أنه إذا قلنا بتعدد الأمر كما على المختار لا بدّ من الالتزام بتعدّد المأمور به كما مرّ ، وعليه فاذا جمع تلك الحصص في مورد واحد بأن توضأ بقصد التوصّل إلى غاية واحدة أو مجموعها وكان موصلاً إلى المجموع خارجاً ، فيكون عدم الحاجة إلى الوضوء مرّة ثانية للغاية الأُخرى من جهة التداخل لا محالة.

وعلى الجملة قد عرفت أن هذه المسألة تبتني على ما هو المعروف بينهم من‌

__________________

(١) الفصول : ٨٦ / ١٢.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٢٠.

٤٩

اتصاف المقدّمة بالأمر الغيري شرعاً ، كما أن تعدّد المأمور به أو وحدته يبتنيان على ما هو الصحيح من اختصاص الأمر الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لأن الحصص حينئذ متعدِّدة فإن الوضوء الموصل إلى الفريضة حصّة منه واجبة بوجوب الفريضة ، والوضوء الموصل إلى النافلة حصّة أُخرى منه مستحبة باستحباب ناشئ من استحباب النافلة أو القراءة أو غيرهما ، فالحصص متعدِّدة كما أن الأمر متعدِّد ، إلاّ أن هذه الحصص قد تجتمع في مورد واحد وتوجد بوجود فأرد ، كما إذا أوصل وضوءه إلى جميع غاياته الواجبة والمستحبة ، وعليه فعدم لزوم التعدّد في الوضوء وكفاية الوضوء مرّة واحدة يكون من باب التداخل لا محالة ، ولعل هذا كله ظاهر ولا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما فرعه ورتبه على هذا القول من لزوم تعيين أحد الواجبات أعني المأمور به المتعدِّد فيحكم ببطلانه عند عدم تعيينه مع تعدّده لعدم الترجيح من غير مرجح.

الصحيح عدم اعتبار التعيين حينئذ ، وذلك لما مرّ غير مرّة من أن عبادية الوضوء لم تنشأ عن الأمر الغيري المتعلق به ، لأنا نلتزم بعباديته حتى على القول بعدم وجوب المقدّمة وإنكار الأمر الغيري رأساً ، وإنما عباديته نشأت عن الأمر النفسي المتعلق به وعليه فلو أتى بالوضوء قاصداً به أمره النفسي فقد وقع وضوءه صحيحاً مقرّباً ويصح معه الدخول في غاياته وإن لم يقصد أمره الغيري أصلاً أو قصده على وجه الترديد ، بأن لم يدر أنه يصلّي بعد وضوئه هذا أو يقرأ القرآن أو يزور الإمام عليه‌السلام لأن الترديد حينئذ إنما هو في قصد أمره الغيري ولا ترديد في قصد أمره النفسي ، وقد ذكرنا أن الأمر الغيري لا يعتبر قصده في عبادية الوضوء. ولا يقاس المقام بسائر العبادات النفسية كصلاتي القضاء والأداء حيث يجب تعيين أحدهما في صلاته وإلاّ بطلت صلاته لا محالة ، لأن عباديتها إنما هي من جهة أمرها النفسي فلا مناص من قصد أمرها النفسي في وقوعها صحيحة ، فإما أن يقصد الأمر بالأداء أو الأمر بالقضاء ، وأما في المقام فقد عرفت أنه قصد أمره النفسي ولم يقصد أمره الغيري‌

٥٠

وقد مرّ أن قصد الأمر الغيري غير معتبر في صحّة الوضوء ، لعدم استناد عباديته إلى الأمر الغيري هذا.

بل لو قلنا بأن عبادية الوضوء نشأت من أمره الغيري أيضاً لا يجب تعيين المأمور به عند اجتماع غايات متعدِّدة ، وذلك لأن تعيين المأمور به لم يدل على اعتباره دليل وإنما نقول باعتباره في الموارد التي لا يتعيّن المأمور به ولا يتحقق إلاّ بتعيينه وقصده وهذا كما إذا صلّى ركعتين بعد طلوع الفجر ، لأنه لا بدّ من تعيين أنهما فريضة أو نافلة فلو لم يعين إحداهما بطلت ، لتقوم كل من الفريضة والنافلة بقصدها وبتعيينها.

وهذا بخلاف المقام ، لأن الواجب متعيّن في نفسه ولا حاجة فيه إلى التعيين ، وذلك لأن الحصّة الموصلة من الوضوء إلى صلاة الفريضة ممتازة عن الحصّة الموصلة إلى قراءة القرآن ، وهي غير الحصّة الموصلة منه إلى زيارة الإمام عليه‌السلام فالحصص في أنفسها ممتازة كما أن ما يأتي به متعين في علم الله ، لعلمه تعالى بأنه موصل للقراءة أو للزيارة ، فبناء على أن عبادية الوضوء ناشئة عن أمره الغيري لا مناص من قصد أمره الغيري في صحّة الوضوء ، إلاّ أنه لا يجب عليه تعيين ذلك الأمر الغيري وأنه يأتي بالوضوء بغاية كذا ، بل لو أتى به للتوصل به إلى شي‌ء من غاياته من دون علمه بأنه يأتي بالفريضة بعد ذلك أو بالزيارة أو بغيرهما صح ، لأنه أتى به وأضافه إلى الله سبحانه بقصد أمره الغيري وهو متعيّن في علم الله سبحانه ، لعلمه تعالى بأن هذا الوضوء هو الذي يوصله إلى الفريضة أو إلى النافلة أو إلى الزيارة وإن لم يعلم به المتوضي ، لأنه إنما يعلم به بعد الإتيان بالغاية. ومع تعيّن المأمور به في نفسه وفي علم الله سبحانه لا حاجة إلى تعيينه في مقام الامتثال ، لأنه مما لم يدلّ دليل على اعتباره في الواجبات وإنما نعتبره فيما إذا توقف تحقق الواجب وتعيينه إلى التعيين كما في مثل النافلة والفريضة أو القضاء والأداء ، هذا كله في غير النّذر.

٥١

وبعضهم إلى أنه يتعدّد بالنذر ولا يتعدّد بغيره (١) وفي النّذر أيضاً لا مطلقاً بل في بعض الصور (٢) مثلاً إذا نذر أن يتوضأ لقراءة القرآن ونذر أن يتوضأ لدخول المسجد فحينئذ يتعدّد ولا يغني أحدهما عن الآخر ، فإذا لم ينو شيئاً منهما لم يقع امتثال لأحدهما ولا أداؤه ، وإن نوى أحدهما المعيّن حصل امتثاله وأداؤه ولا يكفي عن الآخر ، وعلى أي حال وضوءه صحيح بمعنى أنه موجب لرفع الحدث

______________________________________________________

مسألة النّذر‌

(١) الذي يظهر من عبارة الماتن قدس‌سره أن هذا تفصيل في المسألة بمعنى أن الأمر متعدِّد والمأمور به واحد إلاّ في موارد النّذر ، لأن المأمور به قد يتعدّد فيها وقد لا يتعدّد ، إلاّ أنه من قصور العبارة ، لأن النّذر خارج عن محل الكلام رأساً حيث إن تعدّد الوضوء ووحدته فيه تابعان لقصد الناذر ونيّته وهو مما لا كلام فيه ، وإنما البحث فيما إذا كان المأمور به متعدِّداً في نفسه لا من ناحية النّذر.

(٢) وتفصيل الكلام في نذر الوضوء أن الناذر قد ينذر قراءة القرآن مثلاً متوضئاً وأيضاً ينذر زيارة الإمام عليه‌السلام متوضئاً وهكذا. ولا إشكال في عدم وجوب الوضوء متعدِّداً في هذه الصورة ، لأنه لم ينذر الوضوء متعدِّداً وإنما نذر القراءة أو الزيارة ونحوهما ، فإذا توضأ لأي غاية كان ثمّ قرأ القرآن وزار الإمام عليه‌السلام صحّ وضوءه وحصل الوفاء به ، لأنه أتى بهما في حال كونه متطهراً فضلاً عمّا إذا توضأ للقراءة ثمّ أتى بالزيارة أو بالعكس وهذا ظاهر.

وأُخرى ينذر الوضوء للقراءة وأيضاً ينذر الوضوء للزيارة إلاّ أنه لم ينذر تعدّد وجودهما ، بمعنى أنه نذر الإتيان بالطبيعي الموصل من الوضوء إلى القراءة وأيضاً نذر الإتيان بطبيعة أُخرى منه موصلة إلى الزيارة ، وأما أن يكون وجود كل من هاتين الطبيعتين منحازاً عن الآخر فلم ينذره ، فحينئذ يحكم بتخيره بين أن يتوضأ وضوءاً واحداً ويوجد الطبيعتين في مصداق واحد ، وبين أن يوجد كل واحد منهما بوجود‌

٥٢

وإذا نذر أن يقرأ القرآن متوضئاً ونذر أيضاً أن يدخل المسجد متوضئاً فلا يتعدّد حينئذ ويجزئ وضوء واحد عنهما وإن لم ينو شيئاً منهما ولم يمتثل أحدهما ، ولو نوى الوضوء لأحدهما كان امتثالاً بالنسبة إليه وأداء بالنسبة إلى الآخر ، وهذا القول قريب.

______________________________________________________

مستقل ، وهذا كما إذا نذر إكرام عالم ونذر أيضاً إكرام هاشمي من غير أن ينذر تغايرهما في الوجود ، فإنه إذا أكرم عالماً هاشمياً فقد وفى بنذره ، وهذا مما لا إشكال فيه.

وثالثة ينذر أن يوجد وضوءاً يوصله إلى القراءة ، وينذر أيضاً أن يوجد وضوءاً ثانياً يوصله إلى الزيارة ، وحينئذ لا مناص من التعدّد في الوضوء ، وهذا لا من جهة تعدّد الوضوء في نفسه من قبل غاياته ، بل قد عرفت أن الوضوء لا يحتاج إلى التعدّد من ناحيتها ، فإن له أن يتوضأ بوضوء واحد ويأتي بجميع غاياته ، وإنما التعدّد من جهة نذره التعدّد بحيث لو أتى به مرّة واحدة يجوز له أن يدخل معه في الصلاة ويأتي بغيرها من غاياته ، إلاّ أنه لا يكون وفاء لنذره لأنه قد نذر التعدّد هذا.

وقد يقال في هذه الصورة إنّ نذر التعدّد حينئذ لا يخلو عن إشكال ، لأن الوضوء من قبل غاياته إذا لم يكن متعدِّداً في الشريعة المقدّسة لكفاية الوضوء الواحد في الإتيان بجميع غاياته ، فإن الطبيعة واحدة ولا يتعدّد من قبل غاياتها ، فكيف يكون النّذر موجباً للتعدّد؟ لأن النّذر لا يصلح أن يكون مشرعاً للتعدّد فيما لا تعدّد فيه شرعاً ، لوجوب مشروعيّة المنذور مع قطع النظر عن النّذر.

ولكن الصحيح أنه لا مانع من نذر التعدّد ، وذلك لأن كلامنا في أن المأمور به متعدِّد أو واحد في قول الماتن : ( إنه لا إشكال في تعدّد الأمر ، وإنما الكلام في تعدّد المأمور به وعدمه ) إنما هو في أن المأمور به طبيعة واحدة ولا يتعدّد من قبل غاياتها أو أنها طبائع متعدِّدة بتعدّد غايات الوضوء ، كما قالوا بذلك في الغسل من ناحية‌

٥٣

[٥٧١] مسألة ٣٢ : إذا شرع في الوضوء قبل دخول الوقت وفي أثنائه دخل لا إشكال في صحّته (١) وأنّه متّصف بالوجوب (*) باعتبار ما كان بعد الوقت من‌

______________________________________________________

أسبابه لا من ناحية غاياته ، حيث قالوا إن الغسل من جهة الحيض طبيعة ومن ناحية الجنابة طبيعة أُخرى وهكذا ، وإن كانت هذه الطبائع تتداخل فيما إذا أتى بالغسل الواحد ناوياً للجميع ، وقد ذكرنا أن التعدّد في طبيعة الوضوء من حيث الغايات لم يثبت فقلنا بكونه طبيعة واحدة وماهيّة فأرده ، فتعدّد الماهية والطبيعة غير مشروع إلاّ أن النّذر إنما تعلق بالفرد لا بالماهية والطبيعة ، فقد نذر أن يأتي بفرد من الوضوء لغاية كذا ، وأيضاً نذر أن يأتي بفرد آخر منه لغاية أُخرى ، والتعدّد في الفرد أمر سائغ شرعاً لبداهة أنه يجوز للمكلّف أن يتوضأ لصلاة الفريضة ثمّ يأتي بوضوء آخر لها ثانياً ، فان التجديد للفريضة مستحب حيث إن الوضوء على الوضوء نور على نور فلا مانع من نذر التعدّد في الوضوء هذا أوّلاً.

وثانياً : أنا لو سلمنا فرضاً عدم مشروعية تجديد الوضوء للفريضة أيضاً ، أو قلنا بأن التجديد إنما يسوغ فيما إذا أتى به ثانياً بعنوان التجديد لا بعنوان كونه مقدّمة لغاية أُخرى أيضاً ، لا مانع من صحّة نذر التعدّد في الوضوء ، وذلك لأنه متمكن من أن يأتي بفرد من الوضوء أوّلاً ثمّ ينقضه ثانياً بالحدث ثمّ يأتي بفرد آخر من الوضوء وفاء لنذره ، فإنه مع التمكن من إبطال وضوئه الأوّل لا مانع من أن ينذر التعدّد ، لأنه لم ينذر أن يأتي بوضوءين متعاقبين بل له أن يحدث بينهما ، ومعه لا إشكال في مشروعية الفرد الثاني من الوضوء ، فنذر التعدّد في الوضوء مما لا إشكال فيه.

إذا دخل الوقت في أثناء الوضوء‌

(١) نسب إلى العلاّمة قدس‌سره الحكم ببطلان الوضوء حينئذ والحكم‌

__________________

(*) هذا مبني على اتصاف المقدّمة بالوجوب الغيري ، وقد مرّ ما فيه.

٥٤

أجزائه وبالاستحباب بالنسبة إلى ما كان قبل الوقت ، فلو أراد نيّة الوجوب والندب نوى الأوّل بعد الوقت والثاني قبله.

______________________________________________________

بالاستئناف ، نظراً إلى أن ما قصده المكلّف قبل دخول الوقت من الاستحباب لا واقع له ، لعدم تمكنه في الواقع من إتيان العمل المستحب وإنهائه لفرض دخول الوقت في أثنائه وتبدّل استحبابه بالوجوب. ولا يتمكّن من قصد الوجوب إذ لا وجوب قبل دخول الوقت فلا محالة يبطل وضوءه ويجب استئنافه (١) هذا.

ولكن الصحيح وفاقاً للماتن صحّة هذا الوضوء وعدم وجوب الاستئناف فيه. والوجه في حكمنا بصحّته أنه لا يتوجه إشكال في صحّة الوضوء على جميع المحتملات في المسألة ، حيث إن فيها احتمالات : لأنا إن قلنا بعدم اتصاف المقدّمة بالوجوب الغيري أصلاً كما بنينا عليه وقلنا إنه الصحيح (٢) فلا إشكال في المسألة ، لأن الوضوء حينئذ باق على استحبابه بعد الوقت أيضاً ولم يتبدل ولم ينقلب إلى الوجوب فهو متمكن من إتيان العمل المستحب من أوّله إلى آخره.

وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة وخصصنا وجوبها بالمقدّمة الموصلة كما هو المختار على تقدير القول بالوجوب الغيري في المقدّمة فكذلك لا إشكال في المسألة فيما إذا لم يوصله هذا الوضوء إلى الفريضة ، كما إذا قرأ القرآن بعد ذلك ثمّ أحدث ثمّ توضأ للفريضة. وكذلك الحال فيما إذا خصصنا وجوبها بما إذا قصد به التوصل إلى ذيها كما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) إذا لم يقصد المكلّف من وضوئه هذا التوصّل إلى الفريضة ، فإن الوضوء حينئذ باق على استحبابه بعد الوقت ولم يتبدل إلى الوجوب ، فالمكلف يتمكن من إتيان العمل المستحب الذي قصده قبل دخول الوقت من مبدئه إلى منتهاه.

__________________

(١) النهاية ١ : ٣٣.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

(٣) مطارح الأنظار : ٧٢ / ٨.

٥٥

وأمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً ، أو خصصناه بالموصلة مع فرض كون الوضوء موصلاً له إلى الواجب ، أو خصصناه بما قصد به التوصل إلى ذيها وفرضنا أن المكلّف قصد به التوصل إليه ، فأيضاً لا إشكال في المسألة فيما إذا قلنا إن متعلق الأمر الغيري ليس هو متعلق الأمر الاستحبابي ليكونا في عرض واحد ، وإنما متعلق الأمر الغيري هو إتيان العمل امتثالاً لأمره الاستحبابي لا ذات العمل فهما طوليان ، نظير ما إذا نذر صلاة الليل أو استؤجر للصلاة عن الغير أو حلف بإتيان الفريضة ، حيث إن متعلق الأمر النّذري أو الحلفي أو الإجاري ليس هو ذات العمل كالغسلتين والمسحتين في الوضوء حتى يكون في عرض الأمر المتعلق به نفساً ، وذلك لأن ذات العمل غير مفيدة في حق الحي والميت وإنما المفيد هو الإتيان بالذات امتثالاً لأمرها وهو متعلق للأمر النّذري وشقيقيه. وعليه أيضاً لا إشكال في المسألة لعدم ارتفاع الاستحباب عن الوضوء بعد دخول وقته ، بل هو باق على استحبابه وغاية الأمر طرأ عليه الأمر الغيري بعد الوقت ، فالمكلّف متمكن من إتيان العمل المستحب من مبدئه إلى منتهاه.

وأما إذا قلنا إن متعلق الأمر الغيري هو الذات وأنه مع الأمر الاستحبابي في عرض واحد فعليه أيضاً لا إشكال في المسألة ، لأن المرتفع حينئذ بعد دخول الوقت هو حدّ الاستحباب ومرتبته لا ملاكه وذاته لأنه باق على محبوبيّته ، وغاية الأمر قد تأكد طلبه فصار الاستحباب بحدّه مندكاً في الوجوب ، وأما بذاته وملاكه فهو باق فهو متمكن من إتيان العمل المستحب بذاته لا بحدّه فلا إشكال في المسألة. هذا كلّه على أنه لا محذور في اتصاف عمل واحد بالاستحباب بحسب الحدوث وبالوجوب بحسب البقاء حتى في الوجوب النفسي فضلاً عن الوجوب الغيري. ولقد وقع ذلك في غير مورد في الشريعة المقدّسة وهذا كما في الحج المندوب ، لأنه بعد الدخول والشروع فيه يجب إتمامه ، وكذا في نذر إتمام المستحب بعد الدخول فيه ، وفي عبادات الصبي إذا بلغ في أثنائها ، لأنها حين دخوله فيها مستحبة وفي الأثناء تتصف بالوجوب ، فهل يمكن الإشكال في صحّة هذه الأُمور حينئذ؟ كلاّ.

٥٦

[٥٧٢] مسألة ٣٣ : إذا كان عليه صلاة واجبة أداء أو قضاء ولم يكن عازماً على إتيانها فعلاً فتوضّأ لقراءة القرآن فهذا الوضوء متّصف بالوجوب (*) (١) وإن‌

______________________________________________________

والسرّ في ذلك أن الاستحباب والوجوب بعد اتحاد الطبيعة المتعلقة بهما لضرورة أن الوضوء الذي يؤتى به لقراءة القرآن أو قبل الوقت هو الذي يؤتى به للفريضة أو بعد دخول وقتها إما أن يكونا مرتبتين من الطلب ، فالاستحباب مرتبة ضعيفة منه والوجوب مرتبة قويّة ، وعليه فالطلب الداعي للمكلف إلى الإتيان بالوضوء قبل الوقت طلب واحد شخصي باق إلى المنتهي ، لأن الاختلاف في المرتبة لا ينافي التشخص والوحدة ، كالبياض الضعيف والقوي لأنه شي‌ء واحد لا متعدِّد. وإما أنهما اعتبار واحد وإنما يختلفان بانضمام الترخيص إليه وعدمه فإن انضم إليه الترخيص في الترك فيعبر عنه بالاستحباب ، وإن لم ينضم يعبر عنه بالوجوب ، وعليه فالأمر أوضح لأنهما شي‌ء واحد وقد أتى المكلّف العمل بداعي هذا الاعتبار وإن انضم إليه الترخيص في الترك قبل دخول الوقت ولم ينضم إليه بعده ، نعم لا بدّ من فرض وحدة الطبيعة وعدم تعدّدها كما بيّناه.

فإذا كان هذا حال الاستحباب والوجوب النفسي فما ظنّك بالاستحباب والوجوب الغيري الذي لا نقول به أوّلاً ، وعلى تقدير القول به نخصصه بالموصلة أو بقصد التوصل ، وعلى تقدير التعميم أو فرض كونه موصلاً أو مقصوداً به التوصل نرى أن متعلقه هو الوضوء المأتي به امتثالاً لأمره الاستحبابي ، وعلى تقدير أن متعلقه هو الذات لا نراه منافياً لذات الاستحباب وملاكه وإن كان منافياً لحدّه ومرتبته. فكيف كان ، لا إشكال في المسألة.

(١) بناء على وجوب مقدّمة الواجب مطلقا.

__________________

(*) هذا مبني على عدم اعتبار الإيصال في اتصاف المقدّمة بالمطلوبية الغيرية على القول به ، وهو خلاف التحقيق.

٥٧

لم يكن الداعي عليه الأمر الوجوبي ، فلو أراد قصد الوجوب والندب لا بدّ أن يقصد الوجوب الوصفي والندب الغائي بأن يقول : أتوضأ الوضوء الواجب امتثالاً للأمر به لقراءة القرآن (١) ، هذا ولكن الأقوى أن هذا الوضوء متصف بالوجوب والاستحباب معاً ولا مانع من اجتماعهما (٢).

______________________________________________________

(١) ولا يتمكن من أن يقصد الاستحباب الوصفي ، لعدم كون الوضوء مستحباً حيث فرضنا أن مقدّمة الواجب واجبة.

(٢) ما أفاده في هذه المسألة من أوّلها إلى آخرها يبتني على أُمور :

الأوّل : أن نقول بوجوب مقدّمة الواجب ، إذ لو أنكرنا وجوبها فالوضوء مستحب لا وجوب فيه حتى يأتي به بوصف كونه واجباً ويجتمع مع الاستحباب أو لا يجتمع.

الثاني : أن نعمم وجوب المقدّمة إلى مطلقها ولا نخصصها بالموصلة أو بما قصد منه التوصل به إلى الواجب ، وإلاّ لم يكن الوضوء واجباً في مفروض الكلام لعدم كونه موصلاً إلى الواجب ، لأنه يأتي بعده بغاية مندوبة على الفرض ولا يأتي بغاية واجبة كما أنه قصد به التوصل إلى الغاية المندوبة لا إلى الواجبة.

الثالث : أن يكون المقام من صغريات كبرى جواز اجتماع الأمر والنهي ، لأن الماتن قدس‌سره إنما نفى المانع من اجتماع الوجوب والاستحباب في المسألة بحسبان أنها من تلك الكبرى التي ألف فيها رسالة مستقلّة وهي مطبوعة وبنى على جواز اجتماعهما ، حيث إن الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) وإن عنونوها بعنوان اجتماع الأمر والنهي إلاّ أن المصرح به في محله عدم خصوصية للوجوب والحرمة في ذلك ، بل المبحوث عنه هناك هو جواز اجتماع كل حكمين متنافيين في شي‌ء واحد بعنوانين كالكراهة والوجوب ، أو الاستحباب والكراهة وهكذا (١) ، وإنما عنونوها بذلك العنوان‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٣٠٦.

٥٨

[٥٧٣] مسألة ٣٤ : إذا كان استعمال الماء بأقل ما يجزئ من الغسل غير مضر واستعمال الأزيد مضراً يجب عليه الوضوء كذلك ولو زاد عليه بطل (*) (١) إلاّ أن يكون استعمال الزيادة بعد تحقّق الغسل بأقل المجزي ، وإذا زاد عليه جهلاً أو‌

______________________________________________________

لشدّة التضاد بين الحرمة والوجوب ، وحيث إن للوضوء في المقام عنوانين فلا مانع من أن يحكم باستحبابه بعنوان وبوجوبه بعنوان آخر.

هذا ولكنك قد عرفت سابقاً أن المقدّمة لا تتصف بالأمر الغيري بوجه ، ثمّ على تقدير التنزل فالواجب إنما هو حصّة خاصّة وهي التي تقع في سلسلة علّة ذي المقدّمة أعني المقدّمة الموصلة ، ثمّ على تقدير الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة لا يمكن المساعدة على إدراج المقام في كبرى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنه يعتبر في تلك المسألة أن يكون العنوانان والجهتان من العناوين التقييدية ، بأن يكون مركز اجتماعهما أمران وموجودان مستقلان وكان التركب منهما تركباً انضمامياً ، فقد قال بعضهم فيه بالجواز ، واختار آخر الامتناع ، وأما إذا كانت الجهة أو العنوان تعليلية وواسطة في الثبوت وكان المتعلق شيئاً واحداً والتركب اتحادياً فهو خارج عن تلك المسألة رأساً لاستحالة اجتماع حكمين متنافيين في مورد ولو بعلتين.

وحيث إن المقام من هذا القبيل ، لأن الأمر الغيري من الوجوب والاستحباب إنما يتعلق بذات المقدّمة ، وعنوان المقدمية عنوان تعليلي ومن الواسطة في الثبوت فيقال إن الوضوء واجب لأنه مقدّمة للواجب ، وأنه مستحب لأنه مقدّمة للمستحب فلا محالة كان خارجاً عن كبرى مسألة الاجتماع ، ولا مناص في مثله من الالتزام بالاندكاك أعني اندكاك الاستحباب في الوجوب والحكم بوجوب الوضوء فحسب ، ولا مجال للحكم باستحبابه ووجوبه معا.

استعمال الماء بأزيد ممّا يجزئ عند الضرر‌

(١) في هذه المسألة عدّة فروع :

__________________

(*) في إطلاقه نظر كما مر.

٥٩

نسياناً لم يبطل (*) بخلاف ما لو كان أصل الاستعمال مضرّاً وتوضأ جهلاً أو نسياناً فإنّه يمكن الحكم ببطلانه (**) (١)

______________________________________________________

منها : أن استعمال الماء زائداً على أقل ما يجزئ من الغسل في الوضوء إذا كان مضراً في حق المكلّف ، وقد توضأ على نحو تعدّد الوجود بأن غسل كلا من مواضع الوضوء أوّلاً بأقل ما يجزئ في غسله ، وبعده صب عليه الماء زائداً وهو الذي فرضناه مضرّاً في حقِّه فلا إشكال في صحّة وضوئه ، لأن الاستعمال المضر إنما هو خارج عن المأمور به فلا يكون موجباً لبطلانه ، بلا فرق في ذلك بين علمه وجهله ونسيانه.

ومنها : ما إذا توضأ والحال هذه على نحو وحدة الوجود ، بأن صبّ الماء مرّة واحدة زائداً على أقل ما يجزئ في وضوئه ، والحكم ببطلان الوضوء في هذه الصورة يبتني على القول بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً ، لأنه حينئذ محرم ومبغوض للشارع والمبغوض لا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب ومقرباً للمولى بوجه. وأما إذا أنكرنا حرمته على وجه الإطلاق وإن كان بعض مراتبه محرماً بلا كلام فلا يبقى موجب للحكم ببطلان الوضوء ، لأنه مأمور بالوضوء على الفرض لتمكّنه من الوضوء بأقل ما يجزئ وهو غير مضر في حقه ، فإذا لم يكن الفرد محرماً فلا محالة تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ويكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال ، بلا فرق حينئذ بين علمه بالضرر وبين جهله ونسيانه.

ومنها : ما إذا توضأ بصب الماء مرّة واحدة زائداً على أقل ما يجزئ في غسله ومع فرض الضرر من القسم المحرّم أو مع البناء على حرمة مطلق الإضرار ، ولا بدّ من التفصيل حينئذ بين صورة العلم بالضرر وصورة نسيانه.

(١) أمّا إذا كان عالماً بالحال فلا إشكال في الحكم ببطلان ذلك الوضوء ، لأنه محرم‌

__________________

(*) الظاهر عدم الفارق بين صورتي الجهل والعلم.

(**) لا يمكن ذلك في فرض النسيان ، ويختص البطلان في فرض الجهل بما إذا كان الضرر مما يحرم إيجاده.

٦٠