موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فالمتأخِّر منه لا يبطل العمل (١)

______________________________________________________

نهج البلاغة من أن إعجاب المرء بعمله أو بنفسه دليل على ضعف عقله (١) ، فهو أمر حاصل في النفس من قلّة العقل والجهل وغير قابل لأن يتعلّق به حكم شرعي بوجه.

(١) هذه هي الجهة الرابعة من الكلام في العجب وحاصلها : أن العجب المتأخِّر هل يوجب بطلان العمل وإن قلنا بعدم حرمته ، وذلك لإمكان أن يكون حدوث هذا الأمر والصفة موجباً لبطلان العمل شرعاً ، أو لا يوجبه وإن أوجب حبط ثوابها؟ وهي التي تعرض لها الماتن قدس‌سره وحكم بعدم بطلان العمل بالعجب المتأخر وهذا هو المشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) بل ادعي عليه الإجماع.

إلاّ أن المحقق الهمداني قدس‌سره نقل عن السيِّد المعاصر قدس‌سره والظاهر أنه السيِّد علي في كتابه البرهان بطلان العبادة بالعجب المتأخر فضلاً عن مقارنة مستدلاًّ عليه بظواهر الأخبار الواردة في الباب ، وقد أورد عليه باستحالة الشرط المتأخِّر وأن العمل بعد ما وقع مطابقاً للأمر وبعد ما حكم الشارع عليه بالصحّة يستحيل أن ينقلب عمّا وقع عليه بحدوث ذلك الأمر المتأخِّر ، وأمّا الإجازة في البيع الفضولي فلا نلتزم بكونها شرطاً متأخِّراً وإنما نلتزم هناك بالكشف الحكمي (٢).

هذا ولكنّا ذكرنا في محلِّه أن الشرط المتأخِّر ممّا لا استحالة فيه ولا مانع من اشتراط العمل بأمر متأخِّر ، لأنّ مرجعه إلى تقيد العمل بأن يأتي بعده بأمر كذا فالواجب هو الحصّة الخاصة من العمل وهو الذي يتعقب بالشرط (٣) ، فإذا أتى‌

__________________

(١) رواها الكليني رحمهالله أيضاً في الأُصول [ الكافي ١ : ٢٧ / ٣١ ] بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وفيه : إعجاب المرء بنفسه. الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٦.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١٢١ : السطر ٢٢.

(٣) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٠٨.

٢١

بالعبادة ولم يتحقّق بعدها ذلك الشرط كشف هذا عن أن ما تحقّق لم تكن هي الحصّة الخاصّة المأمور بها فلا محالة تقع باطلة ، فالشرط المتأخر أمر ممكن.

وإنّما الكلام في دلالة الدليل عليه في مقام الإثبات ، والصحيح أنه لا دليل على اشتراط العبادة بعدم العجب المتأخِّر ، لأن أكثر الأخبار الواردة في المقام كما تأتي في الجهة الخامسة إن شاء الله تعالى ضعيفة سنداً. على أنها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بالعجب ، فلا يمكن الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية. على أنا لو فرضناها صحيحة من حيث الدلالة والسند أيضاً لم نكن نلتزم ببطلان العبادة بالعجب المتأخِّر وذلك للقطع بعدم كونه مبطلاً لها ، فلا مناص من تأويل تلك الأخبار وحملها على نفي الثواب ، وذلك لأن العجب ليس بأعظم من الكفر المتأخِّر ، فلو أنّ المكلّف كفر ثمّ أسلم لم تجب عليه إعادة أعماله السابقة فضلاً عن قضائها ، لأنه لا يوجب بطلان الأعمال المتقدِّمة فكيف بالعجب المتأخِّر ، ولا نحتمل أن يجب على من عمره سبعون سنة مثلاً وقد أتاه العجب في ذلك السن قضاء جميع أعماله السابقة شرعاً ، فلا بدّ من تأويل ما دلّ على بطلانها بالعجب لو فرضنا دلالة الأخبار الآتية عليه وتماميتها سنداً ودلالة.

وأمّا ما ورد من أن سيّئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك (١) فمعناه أن السيّئة بعد الندم عليها الذي هو المراد من قوله تسوءك تتبدّل بالحسنة ، لأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له ، والتوبة عبادة موجبة للتقرّب من الله تعالى. وأظن أن قوله تعالى ( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) (٢) إنما فسرت بالتوبة بعد المعصية لأنها عبادة ونتيجتها حسنة ، وهذا بخلاف العبادة التي توجب العجب ، لأنه يذهب بثواب العبادة فلا يبقى فيها حسنة كما يبقى في التوبة بعد السيّئة ، ولا يستلزم‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٢ ، وبمضمونها روايات أُخرى في نفس الباب.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

٢٢

وكذا المقارن (١) وإن كان الأحوط فيه الإعادة.

______________________________________________________

كون السيّئة المتعقبة بالندم خيراً من العبادة المتعقبة بالعجب بطلانَ تلك العبادة بوجه. فالمتحصل أن العجب المتأخر لا يقلب العبادة الواقعة مطابقة للأمر عما وقعت عليه من الصحّة.

وهذا بناء على ما سلكناه في محلِّه من أن الأجر والثواب ليسا من جهة استحقاق المكلّف أو الأُجرة وإنما هما من باب التفضل ، لأن الامتثال والطاعة التي أتى بها المكلّف من وظائف العبودية ، والإتيان بوظيفة العبودية لا يوجب الثواب لأنه عبد عمل بوظيفته (١) ، فالثواب تفضل منه سبحانه وقد قال عزّ من قائل ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (٢) أمر ظاهر ، لأن التفضّل بالثواب إنما هو فيما إذا لم يتعقب العمل بالعجب الذي هو من الملكات القبيحة والأخلاق السيّئة وإن لم يكن محرماً تكليفا.

(١) هذه هي الجهة الخامسة من الكلام في العجب ، وأن العبادة هل تبطل بالعجب المقارن؟ وحاصل الكلام فيها أنه كالعجب المتأخر غير موجب لبطلان العبادة ، وإن نقل المحقِّق الهمداني عن السيِّد المعاصر قدس‌سره بطلانها بكل من العجب المقارن والمتأخِّر (٣) ، إلاّ أن المشهور عدم البطلان مطلقاً وهو الصحيح ، وذلك لعدم دلالة الدليل على البطلان بالعجب ، نعم العجب يوجب بطلان العبادة في مقام إعطاء الثواب فلا يثاب بها عاملها ، لا في مقام الامتثال حتى تجب إعادتها فضلاً عن قضائها والأخبار الواردة في المقام أيضاً لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب المقارن فضلاً من المتأخِّر ، وهي جملة من الأخبار :

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٩٥.

(٢) النور ٢٤ : ٢١.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١٢١ : السطر ٢١.

٢٣

منها : ما عن الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال إبليس : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أُبال ما عمل ، فإنه غير مقبول منه ، إذا استكثر عمله ، ونسي ذنبه ، ودخله العجب » (١) ، والرواية لا بأس بها سنداً ، لأن والد البرقي وهو محمّد بن خالد وإن كان فيه كلام إلاّ أنا قدمنا وثاقته ، ولكن موردها هو العجب المقارن دون المتأخِّر لأن إبليس إنما لا يبالي بما عمله ابن آدم بعد استمكانه منه لا قبله ، فالأعمال المتقدمة منه السابقة على استمكان اللعين مما يبالي بها لصحّتها وعدم بطلانها بالعجب المتأخر ، وإنما لا يبالي بما عمله بعد استمكانه بتحقّق أحد الأُمور المذكورة في الحديث ، فموردها العجب المقارن لا محالة.

ولكنّها لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب المقارن ، لأن عدم المبالاة إنما يصح إطلاقه في العمل المقتضي للمبالاة في نفسه ، فقوله « لا أُبالي » يدلّ على صحّة العمل المقارن بالعجب ، وإلاّ فلو كانت العبادة باطلة به لما صح إطلاق عدم المبالاة حينئذ لأنها ممّا يسرّ الشيطان حيث إنها إذا كانت باطلة فالإتيان بها يكون محرماً للتشريع وحيث أن همّه إدخال العباد في الجحيم وإبعادهم عن الله جلّت عظمته فيفرح بارتكابهم للمحرم المبعد عنه سبحانه ، ولا معنى لعدم المبالاة إلاّ في العمل الصحيح إلاّ أنه لا يعتني به ولا يتوحّش لطرو العجب المزيل لثوابه والمانع عن حصول التقرب به وإن كان صحيحاً في مقام الامتثال.

ومنها : ما عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الله تعالى : إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده فيجتهد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي ، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظراً مني له وإبقاء عليه فينام حتى يصبح فيقوم وهو ماقت زارئ لنفسه عليها ، ولو اخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك ، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٢ ح ٧.

٢٤

عن نفسه حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حدّ التقصير ، فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرّب إليّ » الحديث (١).

وهي أيضاً مما لا بأس بسندها ، وقد وردت مؤكدة لأحد التفسيرين الواردين في قوله تعالى ( كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) (٢) حيث فسّر تارة بكل جزء من أجزاء الليلة الواحدة ، والمعنى أنه قليل من كل ليلة من الليالي ما يهجعون ويستريحون ، لأنهم يشتغلون في أكثر ساعات الليلة بالعبادة وصلاة الليل ولا ينامون إلاّ قليلاً ، وأُخرى بكل فرد من أفراد الليل بمعنى أنهم في بعض أفراد الليل أي في بعض الليالي ينامون ويهجعون ولا يشغلونها بالعبادة والصلاة. والرواية مؤكدة للتفسير الثاني كما عرفت.

إلاّ أنها كسابقتها في عدم الدلالة على بطلان العبادة بالعجب ، وغاية ما هناك دلالتها على أن العجب من المهلكات والأوصاف القبيحة وقد ينتهي به الأمر إلى أنه يرى نفسه أوّل العابدين ، وبه يناله الحرمان عما يصله لولاه ، وهذا مما لا كلام فيه لما مرّ من أن منشأ العجب الجهل ، وهو قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمن بعمله على الله سبحانه حيث لا يرى استحقاقه في العبادة إلاّ بمقدار الإتيان بالفرائض ، ويعتقد أن المستحبات التي يأتي بها كلها زائدة عن حدّ استحقاقه تعالى فيمنّ بها عليه ، بل قد يفضل نفسه على أكثر العباد والمقربين. وقد حكي عن بعضهم أنه كان يفضل نفسه على العباس ( سلام الله عليه ) لجهله ، وحسبان أنه قد أشغل سنه بالعبادة والبحث وأتعب نفسه خمسين سنة أو أقل أو أكثر في سبيل رضا الله سبحانه ، وهو ( سلام الله عليه ) إنما اشتغل بالحرب ساعتين أو أكثر فيفضل نفسه عليه عليه‌السلام ، وبذلك قد يناله الحرمان عن شفاعة الأئمة الأطهار فيتباعد عن الله سبحانه. إلاّ أن العجب يوجب بطلان العبادة فهو مما لا يستفاد من الرواية بوجه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١.

(٢) الذاريات ٥١ : ١٧.

٢٥

ومنها : ما عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثمّ يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العجب به ، فقال : هو في حاله الاولى وهو خائف أحسن حالاً منه في حال عجبه » (١) وربّما يتوهم أن في سند الرواية إشكالاً ، لأن فيه محمّد بن عيسى عن يونس ، وقد تكلّم بعضهم فيما رواها محمّد هذا عن يونس ، وهو توهم فاسد ، وقد ذكرنا في محلِّه أنّ الرّجل في نفسه ممّا لا كلام عليه كما أن روايته عن يونس كذلك (٢) فليراجع.

وأما دلالتها فهي أيضاً قاصرة حيث لم يقل عليه‌السلام : إن عمله الأوّل أي القبيح الذي يستكشف بقرينة المقابلة أحسن من عبادته التي فيها عجب ، بل قال : إن حالته في ذلك العمل أعني الخوف الذي هو عبادة أُخرى عند الندم والتوبة لأن حقيقتها الخوف والندم أحسن من حالته الثانية وهي العجب وهو مما لا كلام فيه وإنما البحث في بطلان العبادة بالعجب وهو لا يكاد يستفاد من الحديث.

ومنها : ما عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال موسى بن عمران عليه‌السلام لإبليس : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ، قال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه. وقال قال الله عزّ وجلّ لداود : يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين ، قال : كيف أُبشر المذنبين وأُنذر الصديقين؟ قال : يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب ، وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلاّ هلك » (٣).

وهي ضعيفة السند بالإرسال ، وعادمة الدلالة على بطلان العمل بالإعجاب ، لأن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢.

(٢) معجم رجال الحديث ١٨ : ٩١.

(٣) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٣.

٢٦

البشارة إنّما هي لقبول التوبة بعد الذنب ، لا للذنب في مقابل العبادة التي فيها عجب والرواية إنّما تدل على ما قدمناه من أن الثواب والأجر تفضل منه سبحانه وليس باستحقاق منهم للثواب ، كيف وقال سبحانه ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (١) لأنه إذا أعجبته عبادته فحاسبه الله سبحانه على أعماله لم يخلص أحد من حسابه جلت عظمته وهلك ، فان الإعجاب قد يبلغ بالإنسان إلى تلك المرتبة فيمنّ بعمله على الله ويحاسبه الله سبحانه على ما عمل وتصبح نتيجته الخسران والهلاكة.

ومنها : ما عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ثلاث قاصمات الظهر رجل استكثر عمله ، ونسي ذنوبه ، وأعجب برأيه » (٢) وهي على تقدير تمامية سندها أجنبية عما نحن بصدده رأساً ، لأن الكلام في إعجاب المرء بعمله ، وأما الإعجاب برأيه وعقله وحسبان إنه أعقل الناس فهو أمر آخر لا كلام لنا فيه ، ولا إشكال في أنه من المهلكات لأنه إذا رأى نفسه أعقل الناس وترك مشاورتهم واستقلّ في أعماله برأيه فلا محالة يقع في المهلكة والخسران. ثمّ على تقدير إرادة العمل من الرأي لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب ، لأنها إنما دلّت على أن العجب قاصم للظهر لما يترتب عليه من المفاسد والمخاطر من تحقير عمل غيره والغرور والكبر ، بل وتحقير الله سبحانه بالمن بعبادته ، وأما أنه يوجب بطلان العمل المقارن به أيضاً فلا يستفاد منها بوجه.

ومنها : ما عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلإن يكون على حاله تلك خير له ممّا دخل فيه » (٣) ، ولا بأس بها سنداً ، وأما من حيث الدلالة فلا يستفاد منها بطلان العبادة بالعجب ، وأما كون حالة التندم خيراً من‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ٩٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٢ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ٩٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٤.

٢٧

حالة العجب والسرور فهو من جهة أنه بالتندم تتبدل السيّئة حسنة ، حيث وردت الآية المباركة ( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) (١) في حق التائبين من الذنوب ، وهذا بخلاف العجب بالعبادة لأنه يذهب بثوابها كما مرّ غير مرّة.

ومنها : ما عن علي بن سويد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال : العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناً كما يتفق ذلك لكثير فيفتخر العامل بعمله القبيح ، وأني شربت الخمر أو ضربت فلاناً أو سببته أو أهنته ، حيث يرى عمله القبيح حسناً ويفتخر به فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً ، ومنها أن يؤمن العبد بربّه فيمن على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المن » (٢) حيث دلّت على أن فساد العمل بالعجب كان مفروغاً عنه عنده ، وقد سأله عن أنه أي شي‌ء. وفي سندها علي بن سويد ، وقد يتوهم أنه مردد بين الموثق وغيره فلا يمكن الاعتماد على روايته ، والصحيح أنه هو علي بن سويد السائي الذي هو من أصحاب الرضا عليه‌السلام ويروي عنه أحمد بن عمر الحلال وهو ثقة وقد نقل في جامع الرواة أيضاً هذه الرواية عنه (٣) ، ولكن دلالتها قاصرة ، لأن إفساد العبادة بالعجب وكونه مبطلاً لها إن لوحظ بالإضافة إلى نفس ذلك العمل السوء الذي يحسبه حسناً ، ففيه أن المفروض فساد العمل بنفسه ولا معنى لفساده بالعجب المقارن له ، وإن لوحظ بالإضافة إلى الأعمال المتقدِّمة فقد عرفت أن مجرد العجب المتأخر لا يوجب انقلاب الأعمال المتقدمة عما وقعت عليه من الصحّة والتمام ، كما أن العجب في إيمانه لا معنى لكونه مبطلاً للإيمان ، حيث إن الإيمان غير قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، فلا بدّ من توجيه الرواية بأن للعجب درجات ، والدرجة الكاملة منه وهي التي توجب حسبان العمل السوء حسناً أو ما يقتضي الامتنان على الله تعالى مع أنه له سبحانه المنّة عليه ، كما ورد في الآية المباركة ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٥.

(٣) جامع الرّواة ١ : ٥٨٥.

٢٨

عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ) (١) توجب فساد الأعمال المتقدِّمة ، والالتزام بذلك ممّا لا يضرنا فيما نحن بصدده ، لأنه أخص من المدعى وهو بطلان العمل بمطلق العجب. على أنّ الإفساد يمكن أن يكون بمعنى إذهاب الثواب ، لا بمعنى جعل العمل باطلاً يجب إعادته أو قضاؤه.

ومنها : ما عن ميمون بن علي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله » (٢) ، وهي مضافاً إلى ضعف سندها أجنبية عن بطلان العبادة بالعجب ، وإنّما تدل على أنّ المعجب قليل العقل.

ومنها : ما عن علي بن أسباط عن رجل يرفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولو لا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً » (٣) وهي مرفوعة كالمرسلة من حيث السند ، ولا دلالة لها على المدعى أيضاً لأنها لو دلّت فإنما تدلّ على أن العجب محرم من حيث مقدمته أو من حيث إزالته كالذنب ، وأما بطلان العمل به فلا يستفاد منه بوجه. على أنها لا تدلّ على حرمته أيضاً وإلاّ لم يكن لجعله في مقابل الذنب وجه ، بل لا بدّ أن يقول إن هذا الذنب خير من ذلك الذنب.

ومع الإغماض عن جميع ذلك أيضاً لا دلالة لها على البطلان ، لأن وجه كون الذنب خيراً أن المكلّف غالباً يدور أمره بين العجب بعمله ، كما إذا عمل طيلة حياته بأعمال حسنة ولم يصدر منه ذنب لأنه حينئذ يعجب بنفسه حيث يرى صدور المعاصي عن غيره وهو لم يعمل إلاّ خيراً ، وبين أن يذنب ذنباً ويعقبه الندم لأن مفروض كلامه عليه‌السلام هو المؤمن ، ومن الظاهر أن الذنب المتعقب بالندامة‌

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٧.

٢٩

والتوبة خير من العبادة الموجبة للعجب ، لأن العجب يذهب بآثار العبادة ، بل قد يبلغ الإنسان مرتبة يمقتها الربّ الجليل لمنَّته على الله سبحانه وتحقيره ، وأما الذنب المتعقب بالندامة فهو يتبدل إلى الحسنة ، لأن التائب عن ذنب كمن لا ذنب له ، وقد عرفت أن الآية المباركة واردة في حق التائبين ، وأما أن العبادة مع العجب باطلة فهو مما لا يستفاد منها بوجه.

ومنها : ما عن أبي عامر عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من دخله العجب هلك » (١). وهي مضافاً إلى إرسالها لا تدل على بطلان العبادة بالعجب ، وكونه موجباً للهلاك من جهة أنه قد يستلزم الكفر وتحقير الله سبحانه والمنّة عليه وغير ذلك من المهالك.

ومنها : ما عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أتى عالم عابداً فقال له : كيف صلاتك؟ فقال : مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ قال : فكيف بكاؤك؟ فقال : أبكي حتى تجري دموعي ، فقال له العالم : فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مُدِلّ ، إن المدِلّ لا يصعد من عمله شي‌ء » (٢).

وهي ضعيفة سنداً بوجهين : من جهة محمّد بن سنان لعدم ثبوت وثاقته ، ومن جهة نظر بن قرواش لأنه مجهول. وكذلك دلالة لأن عدم صعود العمل أعم من البطلان ، وإلاّ للزم الحكم ببطلان عبادة عاق الوالدين وآكل الرِّبا ونحوهما ممّا ورد أن العمل معه لا يصعد.

ومنها : ما عن أحمد بن أبي داود عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق ، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق ، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مُدِلاًّ بعبادته ، يُدِلّ بها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٩.

٣٠

فتكون فكرته في ذلك ؛ وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عزّ وجلّ مما صنع من الذنوب » (١).

وضعف سندها بالإرسال ظاهر. وأما دلالتها فهي أيضاً كذلك ، لأن صيرورة العابد فاسقاً من جهة العجب لا دلالة له على إبطاله لأعماله ، وإنما وجهه أن العجب قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمنّ بعمله على الله ويحقره ، أو يعتقد أنه في مرتبة الإمامة والنبوّة وينتظر نزول جبرئيل ، وقد يبكي ويتعجّب من تأخير نزوله وغير ذلك ممّا يوجب فسقه بل كفره. وأما صيرورة الفاسق صدّيقاً فهو من جهة تندمه وتوبته ، وقد عرفت أن بالتوبة تتبدل السيّئة حسنة.

ومنها : ما رواه البرقي في المحاسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إن الله فوّض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق سبع سماوات وسبع أرضين ، فلما أن رأى أن الأشياء قد انقادت له قال : من مثلي؟ فأرسل الله إليه نويرة من النار ، قلت : وما النويرة؟ قال : نار مثل الأنملة ، فاستقبلها بجميع ما خلق ، فتخيّل لذلك حتى وصلت إلى نفسه لما دخله العجب » (٢). وهي ضعيفة من جهة جهالة خالد الصيقل الواقع في سندها ، بل بابن سنان أيضاً ، لأنه وإن ذكر في سندها مطلقاً إلاّ أن رواية الصدوق مثلها في عقاب الأعمال عن محمّد بن سنان عن العلاء عن أبي خالد الصيقل (٣) ، قرينة على أن المراد به هو محمّد بن سنان دون عبد الله بن سنان. على أنه لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ، بل تدلّ على أن العجب صفة مذمومة موجبة للهلاكة.

ومنها : ما عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله أو علي بن الحسين عليهما‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : ثلاث مهلكات شحّ مطاع وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه » (٤) وقد عرفت في نظائرها أن إهلاك العجب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١١. المحاسن ١ : ٢١٤ / ٣٩١.

(٣) عقاب الأعمال : ٢٩٩ / ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٠٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٢.

٣١

بمعنى استلزامه لمثل التحقير لعبادة الغير أو التكبّر أو تحقير الله سبحانه أو غيرها ، ولا دلالة لها على إبطاله العمل والعبادة.

ومثلها رواية سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) مضافاً إلى ضعف سندها بأبي جميلة مفضل بن صالح.

ومنها : ما عن السري بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « لا مال أعود من العقل ، ولا وحدة أوحش من العجب » (٢). وهي مضافاً إلى ضعف سندها أجنبية عن المدعى. والوجه في كون العجب أوحش من الوحدة أن العجب بنفسه أو بعمله يوجب تحقير الناس أو التكبر ونحوهما مما يوجب الرغبة عنه فيبقى وحيدا.

ومنها : ما عن أنس بن محمّد عن أبيه جميعاً عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام قال : « يا علي ثلاث مهلكات شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه » (٣) وهي مضافاً إلى ضعف سندها قد تقدّم الكلام في نظيرها فليراجع.

ومنها : ما عن أبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : « وإن كان الممر على الصراط حقاً فالعجب لماذا » (٤)؟ ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ولا على حرمته بوجه ، لأنها نظير ما ورد من أن الموت إذا كان حقاً فالحرص على جمع المال لماذا ، أو ما هو بمضمونه. وظاهر أن الحرص على جمع المال لا حرمة فيه وإنما تدلّ على أن الحساب إذا كان حقاً ووصول كل أحد إلى ما عمله وقدمه حقاً فالعجب أي أثر له.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٣. لكن ورد فيها : « ثلاث موبقات » بدل « ثلاث مهلكات ».

(٢) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٥. والسند في الوسائل هكذا : بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمّد عن أبيه جميعاً ....

(٤) الوسائل ١ : ١٠٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٦.

٣٢

ومنها : ما عن العلل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل في حديث قال « قال الله تبارك وتعالى : ما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله العجب فيفسده » (١). ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ، لأنه أُسند الإفساد إلى نفس العامل بمعنى هلاكه لا إلى العمل والعبادة. مضافاً إلى أنها مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق لا يمكن الاعتماد عليه.

ومنها : ما عن عبد العظيم الحسني عن علي بن محمّد الهادي عن آبائه عليهم‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من دخله العجب هلك » (٢). وقصورها من حيث الدلالة نظير ما تقدمها ، حيث أُسند الهلاك إلى المعجب من حيث تعقبه بمثل الكبر والتحقير والكفر ونحوها ، مضافاً إلى ضعف سندها بمحمّد بن هارون وعلي بن أحمد بن موسى.

ومنها : ما عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب ما خلا الله بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً » (٣). وقد تقدّم الكلام في نظيرها (٤) فلا نعيد.

ومنها : ما عن الثمالي عن أحدهما عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله تعالى يقول : إنّ من عبادي لمن يسألني الشي‌ء من طاعتي لأُحبه ، فأصرف ذلك عنه كيلا يعجبه عمله » (٥). وقد مرّ الكلام في نظائرها فليراجع.

ومنها : ما عن الثمالي أيضاً عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاث منجيات خوف الله في السرّ والعلانية ، والعدل في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٧. علل الشرائع ١٢ : ٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٤ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ١٩.

(٤) في ص ٢٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٠.

٣٣

الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وثلاث مهلكات هوى متبع ، وشحّ مطاع وإعجاب المرء بنفسه » (١) ، وقد عرفت الحال في نظائرها.

ومنها : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة قال : « سيّئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك » (٢) وقد أسلفنا الكلام فيها وقلنا : إن خيرية السيّئة المتعقبة بالتوبة من جهة تبدلها إلى الحسنة ، بخلاف العبادة مع العجب لأنه يذهب بثوابها ولا تتبدّل إلى حسنة ، ولا دلالة لها على إبطال العجب للعمل (٣).

ومنها : ما عنه عليه‌السلام في النهج : « الإعجاب يمنع الازدياد » (٤). لأنّ المعجب لا يرى حاجة إلى تكثير العبادة والعمل.

ومنها : ما عنه عليه‌السلام أيضاً : « عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله » (٥). ولا دلالة في شي‌ء منها على حرمة العجب ولا على إبطاله العبادة.

ومنها : ما عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام عن علي عليه‌السلام قال : « الملوك حكام على الناس ، والعلم حاكم عليهم ، وحسبك من العلم أن تخشى الله ، وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك » (٦) وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا دلالة لها على فساد العمل بالعجب ، وإنما تدل على أنه ناشئ عن الجهل كما مرّ.

فالمتحصل أنه لا دلالة في شي‌ء من تلك الأخبار على حرمة العجب بالمعنى المتقدِّم من حيث مقدمته أو إزالته ، ولا على بطلان العمل به مقارناً كان أو متأخِّراً ، وإنما تدلّ على أنه من الصفات الخبيثة المهلكة البالغة بالإنسان إلى ما لا يرضى به الله سبحانه كما أسلفنا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٢. نهج البلاغة : ٤٧٧ / ٤٦.

(٣) في ص ٢٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٣. نهج البلاغة ٥٠٠ : ١٦٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٤. نهج البلاغة : ٥٠٧ / ٢١٢.

(٦) الوسائل ١ : ١٠٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٣ ح ٢٥.

٣٤

بقي من الأخبار رواية واحدة وهي ما رواه يونس بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال « قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب فقال إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » (١) حيث قد يتوهم دلالتها على بطلان العبادة بالعجب المقارن إذا كان في أوّلها ، لقوله عليه‌السلام : « إذا كان أوّل صلاته » إلاّ أنها كسابقتها قاصرة الدلالة.

أمّا من حيث سندها فربّما يتوهم أن علي بن إبراهيم إنما يروي عن محمّد بن عيسى بواسطة أبيه إبراهيم بن هاشم كما في جامع الرواة (٢) وغيره ولم تثبت روايته عن محمّد بن عيسى بلا واسطة ، والواسطة لم تذكر في السند ، مضافاً إلى أن في نفس محمّد ابن عيسى كلاماً ، وفي روايته عن يونس كلاماً آخر ، على أنها ضعيفة بيونس بن عمار لعدم توثيقه في الرجال. ويدفعه ما قرّرناه في محلِّه من رواية علي بن إبراهيم عن الرّجل بلا واسطة ، وأن محمّد بن عيسى في نفسه قابل للاعتماد عليه ، كما لا بأس برواياته عن يونس فلاحظ (٣). نعم يونس بن عمار لم يوثق في الرجال ولكنّه حيث وقع في أسانيد كامل الزيارات فلا بدّ من الحكم بوثاقته.

وأما من حيث دلالتها فلأنه لا بدّ من حمل الرواية على معنى آخر ، لعدم إمكان حملها على ظاهرها من جهة القرينة العقلية واللفظية. أما العقلية فللقطع بأن العجب لو كان مبطلاً للعمل فلا يفرق فيه بين تحققه أوّل العبادة وبين حدوثه في أثنائها أو في آخرها. وأما القرينة اللفظية فهي قوله عليه‌السلام : « وليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » حيث إن العجب إذا تحقق وقلنا بكونه مبطلاً للعمل فلا معنى للمضي فيه لإخساء الشيطان ، لأنه باطل على الفرض ، وعليه فلا بدّ من حملها على الوسوسة الطارئة على الإنسان بعد دخوله في العبادة ، لأن الشيطان عدو عجيب للإنسان ، فقد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٢٤ ح ٣.

(٢) لم نعثر على ذلك فيه.

(٣) معجم رجال الحديث ١٨ : ١٠٣ ١١٣.

٣٥

وأمّا السمعة (١) فإن كانت داعية على العمل أو كانت جزءاً من الداعي بطل وإلاّ فلا كما في الرِّياء ، فإذا كان الداعي له على العمل هو القربة إلاّ أنه يفرح إذا‌

______________________________________________________

يجي‌ء من قبل الوسوسة في أن العمل مقرون بالعجب فهو باطل أو لا ثواب له ، وقد أمر عليه‌السلام بالمضي في العمل وعدم الاعتناء به ليخسأ الشيطان. هذا كله في العجب.

الكلام في السّمعة‌

(١) فلئن قلنا إنها مغايرة للرِّياء بحسب الموضوع والمعنى لأنه من الرؤية وهي غير السماع ، فلا إشكال في دخولها فيه بحسب حكمه ، وذلك لأن ما دلّ من الأخبار المعتبرة على حرمة الرِّياء وإبطاله العبادة بعينه تدلّ على إبطال السمعة لها ، كما ورد أن من عمل لي ولغيري فقد جعلته لغيري ، أو هو كمن عمل لغيري ، أو ما يشبهه من الألفاظ على ما تقدّم في رواية البرقي (١). هذا مضافاً إلى ورود السمعة في روايتين معطوفة على الرِّياء :

إحداهما : رواية محمّد بن عرفة قال « قال لي الرضا عليه‌السلام : ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ، ويحك ما عمل أحد عملاً إلاّ رداه الله به إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً » (٢) لكن هذه الرواية ضعيفة.

ثانيتهما : معتبرة ابن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال « قال علي عليه‌السلام : اخشوا الله خشية ليست بتعذير ، واعملوا لله في غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة » (٣). فالمتحصل : أن السمعة‌

__________________

(١) ص ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٦٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٦٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٠.

٣٦

اطّلع عليه الناس من غير أن يكون داخلاً في قصده لا يكون باطلاً (١) لكن ينبغي للإنسان أن يكون ملتفتاً فإن الشيطان غرور وعدو مبين. وأمّا سائر الضمائم (٢) فإن كانت راجحة كما إذا كان قصده في الوضوء القربة وتعليم الغير ، فإن كان‌

______________________________________________________

كالرِّياء موجبة لبطلان العبادة.

(١) نعم إذا كان آتياً بالعمل بداعي الأمر والقربة إلاّ أنه يسره سماع الغير عمله من غير أن يكون ذلك دخيلاً في عبادته ولو على نحو التأكيد بل مجرد التبعية القهرية غير أنه يفرح به ويدخله السرور بذلك ، فهو غير موجب لبطلان العبادة ، لأنها صدرت عن داع إلهي على الفرض وهو مستقل في داعويته ، وسماع الغير أو رؤيته إنما هو على نحو التبع ، وإن كان هذا أيضاً منافياً للعبادة أخلاقاً ، لأن الإنسان ينبغي أن يكون قاصداً بعمله لله من غير أن يكون نظره إلى غير الداعي الإلهي ولو على وجه التبع.

الضّمائم وأقسامها وأحكامها‌

(٢) الضميمة ثلاثة أقسام ، لأنها تارة مباحة بالمعنى الأعم من الكراهة والإباحة المصطلح عليها ، وأُخرى راجحة بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب ، وثالثة محرمة غير الرِّياء ، كما إذا قصد بصلاته في مكانٍ الإيذاء والهتك لإمام الجماعة خلفه أو غيره.

أما إذا كانت مباحة أو راجحة فهي على أقسام أربعة : لأن الداعي للعبادة تارة يكون هو الداعي الإلهي القربي المستقل في دعوته وتكون الضميمة المباحة كالتبريد أو الراجحة كتعليم الغير الوضوء أو الصلاة تبعاً ، بمعنى عدم كونها دخيلة في العبادة ولو على وجه التأكيد ، فكما أنها غير مستقلّة في الداعوية كذلك ليست بجزء من الداعي ولا مؤكد له وإنما العبادة نشأت عن داع إلهي مستقل في الداعوية والضميمة مقصودة بالتبع ، ولا إشكال في صحّة العبادة في هذه الصورة لصدور العبادة عن‌

٣٧

داعي القربة مستقلا والضميمة تبعاً أو كانا مستقلين صحّ ، وإن كانت القربة تبعاً أو كان الداعي هو المجموع منهما بطل ، وإن كانت مباحة فالأقوى أنها أيضاً كذلك كضم التبرّد إلى القربة ، لكن الأحوط في صورة استقلالهما أيضاً الإعادة.

______________________________________________________

الداعي المستقل في داعويته ، والضميمة المباحة أو الراجحة تبع ولا دخالة لها في صدور العبادة بوجه.

وأُخرى : ينعكس الأمر ويكون الداعي إلى العبادة هو الضميمة الأعم من المباحة والراجحة ولا يكون للداعي القربي مدخلية في صدورها إلاّ تبعاً. وهذه الصورة أيضاً مما لا إشكال في حكمها وهو بطلان العبادة ، لفقدها القربة المستقلة في الداعوية المعتبرة في صحّة العمل.

وثالثة : يكون الداعي هو المجموع المركب من القربة والضميمة بحيث لو كانت إحداهما وحدها لم يأت بالعبادة وإنما أتى بها لاجتماعهما. والحكم في هذه الصورة هو البطلان ، لما قدمناه من أن العبادة يعتبر أن تكون صادرة عن داع قربي إلهي مستقل في داعويته وهو غير متحقق في المقام فالعبادة باطلة.

ورابعة : يكون كل من القربة والضميمة داعياً مستقلا في دعوته بحيث لو كانت هذه وحدها لأتى بالعبادة ، ولو كان الآخر وحده أيضاً لأتى بها ولكنهما اجتمعا معاً فالمتأخرون فصّلوا في هذه الصورة بين كون الضميمة راجحة كتعليم الوضوء أو الصلاة للغير فحكموا بصحّة العبادة حينئذ ، وبين كونها مباحة كما إذا قصد التبريد بالوضوء فذهبوا إلى بطلانها. ولا نرى نحن للتفرقة بينهما وجهاً محصلاً ، بل الصحيح صحّة العبادة في كلتا الصورتين بلا فرق في ذلك بين رجحان الضميمة وإباحتها.

أما إذا كانت الضميمة راجحة فلأنا أن أخذنا اعتبار قصد التقرب في العبادة من الأدلّة الشرعيّة فهي لا دلالة لها على أزيد من اعتبار صدور العبادة عن الداعي القربي المستقل في داعويته ، والمفروض تحققه في المقام ، ولا يستفاد منها عدم اقترانه‌

٣٨

بداع آخر مباح أو راجح. وإن أخذنا اعتباره من بناء العقلاء فالأمر أوضح وذلك لأن العقلاء إنما بنوا على أن يكون العمل صادراً بتحريك أمر المولى وإطاعته ولا بناء منهم على أن لا يكون معه أمر آخر يوجب الدعوة والبعث نحو العمل ، فلو أمر المولى عبده بأن يأتي له بالماء والعبد أتى به بدعوة من أمر سيِّده وكان له داع آخر مستقل أيضاً في هذا العمل وهو رفع وجع رأس المولى لعلمه بأنه لو شرب الماء ارتفع وجعه ، فهل ترى أن العقلاء يحكمون ببطلان طاعته ، ويمنعونه عن أن يضم إلى داعي إطاعته داعياً آخر وهو رفع الوجع مع أنه أيضاً أمر محبوب للمولى وقد صدرت إطاعته عن أمره الأوّل بالاستقلال.

وأمّا إذا كانت الضميمة مباحة فلعين ما قدمناه ، من أن اعتبار قصد التقرب في العبادة إن كان من جهة أخذه من الأدلّة الشرعية فلا يستفاد منها إلاّ اعتبار أن يكون أمر المولى مستقلا في داعويته نحو العمل ، ولا يستفاد منها اعتبار عدم انضمامه إلى أمر آخر مما له أيضاً داعوية مستقلّة نحو العمل. وكذا الحال فيما إذا أخذنا اعتباره من بناء العقلاء حيث لم يتحقق منهم البناء على أزيد من صدور العمل عن الداعي القربي المستقل في داعويته ، ولا بناء منهم على عدم حصول القربة فيما إذا انضمّ إليه أمر آخر مباح أيضاً مستقل في داعويته ، كما إذا قصد العبد في إطاعته لأمر المولى بإتيانه بالماء تقوية بدنه من جهة أن الحركة مقوّية لعضلاته ، فعليه لا فرق في صحّة العبادة عند صدورها عن الداعي القربي المستقل في داعويته بين أن ينضم إليه داع آخر مستقل في داعويته راجح أم مباح ، وإنما يعتبر فيها أن تكون صادرة عن الداعي القربي المستقل وهو مفروض التحقق في المقام هذا.

بل ذكرنا عدم تحقق جملة من العبادات الشرعية من الأشخاص المتعارفين غير الأوحدي منهم إلاّ مقترنة بداع آخر مباح أو راجح أيضاً مستقل في داعويته فترى أن المكلّف يصوم ولا يفطر في الشوارع والأسواق لداعي الأمر الإلهي الذي له استقلال في داعويته ، ومن هنا يترك الإفطار عند الخلوة ونزوله إلى السرداب أو دخوله داره مثلاً ، إلاّ أن لتركه الإفطار في تلك الأمكنة داعياً آخر أيضاً مستقلا في‌

٣٩

وإن كانت محرّمة غير الرِّياء والسمعة فهي في الإبطال مثل الرِّياء ، لأنّ الفعل يصير محرّماً (*) فيكون باطلاً ، نعم الفرق بينها وبين الرِّياء أنه لو لم يكن داعيه في ابتداء العمل إلاّ القربة لكن حصل له في الأثناء في جزء من الأجزاء يختص البطلان بذلك الجزء ، فلو عدل عن قصده وأعاده من دون فوات الموالاة صحّ ، وكذا لو كان ذلك الجزء مستحباً وإن لم يتداركه ، بخلاف الرِّياء على ما عرفت (**) ، فإن حاله حال الحدث في الإبطال (١).

______________________________________________________

دعوته وهو الخوف من الناس ، حيث قد يترتّب عليه الضرب أو الإهانة والهتك أو سقوطه عن أنظارهم ، فلو اشترطنا في صحّة العبادة عدم انضمام الداعي الآخر المستقل في دعوته إلى الداعي القربي الإلهي الذي هو أيضاً مستقل في داعويته للزم الحكم ببطلان أكثر العبادات الصادرة عن الأشخاص المتعارفة وهو مما لا يمكن الالتزام به. هذا تمام الكلام في الضميمة المباحة والراجحة.

الضّميمة المحرّمة‌

(١) قد ذهب الماتن قدس‌سره إلى أن الضميمة المحرمة غير الرِّياء والسمعة في الإبطال كالرياء ، وإنما الفرق بينهما هو أن الرِّياء إذا تحقق في العبادة ولو في جزئها بل ولو كان جزءاً استحبابياً لاقتضى بطلانها ، حيث إنه كالحدث ، ولا ينفع معه إعادة الجزء بداعي القربة ، لأنه إذا تحقق في جزء من العمل لأبطل الكل والمركب كما هو الحال في الحدث ، وهذا بخلاف الضميمة المحرمة كالهتك على ما مثلنا به لأنها إذا تحققت في جزء من العبادة اختص البطلان بذلك الجزء فحسب ، فلو عدل عن قصده للضميمة المحرّمة وأتى به ثانياً بقصد القربة والامتثال وقعت العبادة صحيحة فيما إذا لم‌

__________________

(*) ليس هذا على إطلاقه بل يختلف باختلاف الموارد.

(**) قد عرفت ما فيه.

٤٠