موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ولا يجب البدأة بالأعلى في كل عضو ولا الأعلى فالأعلى (١)

______________________________________________________

لأحد الطرفين ، فهما عضوان مستقلان كبقيّة الأعضاء المستقلة كالأنف وغيره. وهل يجب غسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الأيسر؟ الصحيح عدم وجوب ذلك أيضاً. أمّا بناء على عدم الترتيب بين الجانبين فظاهر ، فإنه يتمكن من غسلهما كيفما اتفق ، وأمّا بناء على القول بالترتيب بين الطرفين فلأنه لم يثبت بدليل لفظي ليحكم بالترتيب في كل عضو ، وإنّما ثبت لو قلنا به بالإجماع كما مر ، وهو دليل لبِّي يقتصر فيه على المقدار المتيقن وهو غير الأعضاء المشتركة من السرة والعورة ، فالمطلقات فيهما محكمة. وله أن يغسلهما كيفما اتفق ، نعم غسلهما بتمامهما مع كل من الجانبين احتياط محض لا بأس به.

عدم وجوب البدأة بالأعلى فالأعلى‌

(١) هذا هو المعروف بينهم ، بل لا خلاف فيه إلاّ ما نسب إلى بعضهم. وما ذهبوا إليه هو الصحيح. وقد يجعل صحيحة زرارة « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (١) وصحيحته الأُخرى « ثمّ صب على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين » (٢) دليلاً على لزوم البدأة بالأعلى فالأعلى.

وفيه : أنّ القرن ليس بمعنى أعلى الرأس وإنما معناه موضع القرن من الحيوانات نعم يكنى به عن الاستغراق ، فالأمر بغسل البدن من القرن إلى القدم معناه وجوب غسل الجسد بتمامه ولا دلالة له على لزوم كون ذلك من الأعلى إلى الأسفل. على أنها إنما وردت لتحديد المغسول وأنه هو ما بين القرن والقدم ، وأمّا أنه كيف يغسل فلا تعرض له في الرواية بوجه كما ذكرنا نظيره في الوضوء ، هذا بالإضافة إلى الصحيحة الأُولى.

وأمّا الصحيحة الثانية فهي أيضاً لا تدلّ على لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

٣٨١

لأنّ الأمر بصب الماء على المنكبين ليس أمراً مولوياً وإنما هو إرشاد إلى إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن ، وذلك للقرينة الخارجية والداخلية.

أمّا الخارجية فهي موثقة سماعة الآمرة بصب كف من الماء على الصدر وكف منه على الكتف (١) فانّ الصدر والكتف ليسا من أعلى البدن فمنه يظهر أن الغرض إيصال الماء إلى أجزاء البدن ، وهذا قد يكون بصب الماء من اليمين واليسار وقد يكون من القدام والخلف ، فليس الأمر بصب الماء من المنكبين إلاّ لذلك لا لأجل لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل.

وأمّا القرينة الداخلية فلقوله عليه‌السلام في ذيلها : « فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » لأنه تفريع على صب الماء من المنكبين ، ومعناه أنّ الصب إنما هو لجريان الماء على البدن ، ومن الواضح أن الجريان إنما يكون بصب الماء من الأعلى والمنكب ولذا أمر به لا لأن الغسل لا بدّ أن يقع من الأعلى إلى الأسفل ، هذا كله.

على أنا لو سلمنا كونه مولوياً فهو متعلق بالصب على المنكبين مقيّداً بالمرّتين وليس أمراً مطلقاً بالصب على المنكبين ، وقد علمنا خارجاً أن القيد مستحب ، إذ لا يعتبر في الصب مرّتان ، فيكون الأمر بالمقيد أمراً استحبابيا.

وتوهّم أنّ العلم بالاستحباب إنما يوجب رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب في القيد وأما ذات المقيّد فالأمر باق على ظهوره فيه ، فأصل الصب على المنكبين واجب مندفع بأن ذلك إنما يتم في العموم والإطلاق ، فإن الأمر إذا تعلق بإكرام عشرة وعلمنا بعدم وجوب إكرام واحد منهم فهو لا يوجب رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب في الجميع ، وإنما نرفع اليد عنه في خصوص الواحد المعلوم استحبابه ، وهذا بخلاف الأمر بالمقيّد لأنّه شي‌ء واحد لا ينحل إلى أمرين أمر بالذات وأمر بالقيد ، فإذا علمنا أنّ القيد مستحب فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور الأمر بالمقيّد من الوجوب.

ويؤيِّد ما ذكرناه من عدم لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل صحيحة زرارة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

٣٨٢

ولا الموالاة العرفية بمعنى التتابع ولا بمعنى عدم الجفاف (١) ، فلو غسل رأسه ورقبته في أوّل النّهار والأيمن في وسطه والأيسر في آخره صح ، وكذا لا يجب الموالاة في أجزاء عضو واحد‌

______________________________________________________

المتقدِّمة الواردة في نسيان بعض الأعضاء (١) ، حيث دلّت على أنه يغسل ذلك الموضع أو يمسح بيده عليه ، فان الغسل من الأعلى إلى الأسفل لو كان واجباً للزم أن يفصّل بين ما إذا كان المنسي أسفل الجزء وما إذا كان من الأجزاء العالية ، فإنه في الصورة الثانية لا بدّ من غسله وما بقي إلى آخر العضو حتى يتحقق الغسل من الأعلى إلى الأسفل. وهي وإن كانت واردة في النسيان إلاّ أنه يدلّنا على عدم لزوم الترتيب بين الأعلى والأسفل بإطلاقها.

عدم اعتبار الموالاة في الغسل‌

(١) وذلك مضافاً إلى المطلقات كقوله في صحيحة زرارة : « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (٢) لعدم تقييدها بكون الغسل متوالياً بل له أن يغسل عضواً أوّل الصبح وعضوه الآخر عند الزوال ، تدلّ عليه جملة من الأخبار.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في قضية الجارية حيث أمر عليه‌السلام الجارية بأن تغسل رأسها وتمسحه مسحاً شديداً وتغسل جسدها عند إرادة الإحرام (٣).

ومنها : ما ورد في مضمرة حريز من قوله عليه‌السلام : « وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك ، قلت : وإن كان بعض يوم؟ قال : نعم » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢. وقد تقدّمت في ص ٣٧٧.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٣٨١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ١.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٢.

٣٨٣

ولو تذكر بعد الغسل ترك جزء من أحد الأعضاء رجع وغسل ذلك الجزء فإن كان في الأيسر كفاه ذلك ، وإن كان في الرأس أو الأيمن وجب غسل الباقي على الترتيب (١) ، ولو اشتبه ذلك الجزء وجب غسل تمام المحتملات (*) مع مراعاة الترتيب (٢).

______________________________________________________

ومنها : صحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن عليّاً عليه‌السلام لم ير بأساً أن يغسل الجنب رأسه غدوة ويغسل سائر جسده عند الصلاة » (٢).

(١) ما أفاده قدس‌سره على طبق القاعدة ليحصل الترتيب المعتبر بين الرأس والبدن ، وأمّا بين الجانب الأيمن والأيسر فقد عرفت أنه لا يعتبر الترتيب بينهما ، نعم لو قلنا به لصحّ ما أفاده من وجوب غسل الموضع الباقي في الجانب الأيمن ثمّ إعادة غسل الأيسر ليحصل الترتيب بينهما.

(٢) وذلك للعلم الإجمالي بوجوب غسل موضع من مواضع الغسل ، وحيث إنه غير معيّن فيجب غسل الجميع تحصيلاً للقطع بالفراغ ، ولكن هذا إنما يتم فيما إذا كان الموضع غير المغسول في عضو واحد كما إذا علم بأنه ترك غسل جزء من أجزاء رأسه فيجب غسل جميع الرأس لما مر ، أو علم بأنه ترك غسل جزء من أجزاء بدنه فيجب غسل الجميع بناء على عدم الترتيب بين الجانبين. وأمّا بناء على الترتيب بينهما فكما إذا علم ببقاء جزء من طرفه الأيمن فقط فيغسل جميع ذلك الطرف وهكذا.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال مردّداً بين عضوين مترتبين كما إذا علم بأنه ترك جزءاً من رأسه أو من بدنه بناء على عدم الترتيب بين الجانبين ، وأمّا بناء عليه فكما إذا علم بترك جزء من رأسه أو من جانبه الأيمن ، فمقتضى إطلاق عبارة الماتن أيضاً وجوب الاحتياط حينئذ. إلاّ أن الصحيح أنه لا يجب عليه الجمع بين الأطراف‌

__________________

(*) بل يكتفي بغسل الجزء المحتمل تركه من العضو اللاحق لانحلال العلم الإجمالي ، فتجري قاعدة التجاوز بالإضافة إلى الجزء المحتمل تركه من العضو السابق.

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٨ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٣.

٣٨٤

الثانية : الارتماس وهو غمس تمام البدن في الماء (١)

______________________________________________________

وقتئذ ، وذلك لانحلال العلم الإجمالي إلى القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها بالشك البدوي ، وذلك للقطع حينئذ بفساد غسل البدن أو الطرف الأيمن إما لأنه بقي منه جزء لم يغسله وإما لبطلان غسل الرأس لبقاء جزء منه ، فان مع بطلان غسله يبطل غسل البدن أو الطرف الأيمن للإخلال بالترتيب فلا مناص من إعادة غسله. وأما الرأس فهو مشكوك الغسل وعدمه ومقتضى قاعدة التجاوز صحّته ، إذ بنينا وبنى الماتن قدس‌سره على جريانها في الغسل.

وهكذا الحال فيما إذا علم إجمالاً ببقاء جزء من طرفه الأيمن أو الأيسر بناء على اعتبار الترتيب بينهما ، لأنه يعلم حينئذ ببطلان غسل الأيسر إمّا لعدم غسل شي‌ء من أجزائه وإما لبطلان غسل الأيمن لبقاء جزء من أجزائه ويشكّ في صحّة غسل الجانب الأيمن شكّاً بدويّاً تجري فيه قاعدة التجاوز. وهكذا الحال في كل أمرين مترتبين ، كما إذا علم إجمالاً ببطلان وضوئه أو بنقصان ركوع من صلاته ، فإنّه يعلم ببطلان صلاته تفصيلاً إما لنقصان ركوعها وإما لبطلان الوضوء ، مع أنّ مقتضى إطلاق عبارته قدس‌سره وجوب الاحتياط في هذه الصورة أيضا.

الغسل الارتماسي وكيفيته‌

(١) لا خلاف بين الفقهاء قدس‌سرهم في أن الغسل ترتيباً إنما يجب فيما إذا كان غسل البدن تدريجياً ، وأما إذا كان دفعة فلا يعتبر فيه الترتيب من غير خلاف ، وإن قالوا بعدم تعرض القدماء لذلك إلاّ أنه لعله من جهة وضوحه. ويدلّ على ذلك ما ورد في صحيحة زرارة « ولو أن رجلاً جنباً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده » (١) وفي صحيحة الحلبي قال : « سمعت أبا عبد الله ( عليه‌السلام )

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

٣٨٥

دفعة واحدة عرفيّة (*) (١)

______________________________________________________

يقول : إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله » (٢) وفي موثقة النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك من غسله؟ قال : نعم » (٣).

(١) وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان تدريجياً فهو على قسمين ، لأنه قد يرمس أعضاءه في الماء متدرجاً فيدخل رجله ثمّ يخرجها فيرمس رجله الأُخرى ثمّ يخرجها فيرمس عضوه الآخر إلى أن تنتهي أعضاؤه. ولا إشكال في عدم كفاية ذلك بوجه ، لعدم صدق أن الرجل ارتمس ارتماسة واحدة وإنما يصدق أنه رمس رجله أو عضوه الآخر ، والمعتبر في الغسل هو صدق أن الرجل ارتمس.

وقد يرتمس الرجل ولكنه متدرجاً كما إذا فرضنا حوضاً له درج متعددة فدخل الدرجة الأُولى وصبر مقداراً ثمّ دخل الثانية فصبر عشرة دقائق ، وهكذا إلى أن أحاط الماء بدنه ، مقتضى ما أفاده الماتن قدس‌سره بطلان ذلك لعدم انغماس البدن في الماء دفعة واحدة عرفية هذا ، ولكنه قدس‌سره ذكر في المسألة الرابعة الآتية أن الغسل الارتماسي يتصور على وجهين :

أحدهما : أن ينوي الغسل حين إحاطة الماء بدنه لا عند دخوله في الماء ، وحينئذ يكون الغسل آنياً ومتحققاً دفعة واحدة حقيقية ، ودخول الماء والتدرّج في المقدّمات لا فيه نفسه.

وثانيهما : ما إذا نوى الغسل من أوّل دخوله الماء ليكون غسله تدريجياً ومستمراً إلى أن يدخل تمام بدنه الماء. وعلى الأوّل لا يتصور وقوع الحدث في أثناء الغسل لأنه آني وهذا بخلاف الثاني ، وعليه فيعتبر في الارتماس الدفعة الواحدة الحقيقية دون‌

__________________

(*) هذا بالإضافة إلى الغسل الارتماسي التدريجي ، وأما الدفعي منه فتعتبر فيه الوحدة الحقيقية.

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٢ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٣.

٣٨٦

واللاّزم أن يكون تمام البدن تحت الماء (١) في آن واحد وإن كان غمسه على التدريج ، فلو خرج بعض بدنه قبل أن ينغمس البعض الآخر لم يكف (٢) ، كما إذا خرجت رجله أو دخلت في الطين قبل أن يدخل رأسه في الماء ، أو بالعكس بأن خرج رأسه من الماء قبل أن تدخل رجله.

______________________________________________________

العرفية كما ذكره في المقام ، ولعل نظره في ذلك إلى الصورة الثانية التي يحصل الغسل فيه متدرجاً ، فان الدفعة فيها لا بدّ وأن تكون دفعة عرفية كما أفاده قدس‌سره وهو ظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس ارتماسة واحدة فقد أجزأه ». وأما في الصورة الأُولى فقد عرفت أن الغسل الارتماسي فيه آني وتعتبر فيه الوحدة العقلية لا محالة.

اعتبار كون البدن بتمامه تحت الماء‌

(١) وذلك لأن الأخبار الواردة في أجزاء الارتماسة الواحدة إنما ناظرة إلى إلغاء اعتبار الترتيب في الغسل الترتيبي حيث يعتبر فيه غسل الرأس أوّلاً ثمّ البدن ، ولكن في الارتماس يكفي الغسل من طرف الرجل ، فهو مجزئ عن الغسل الواجب بهذا الاعتبار. وأما أن المغسول في الارتماس أقل منه في الترتيبي فلا دلالة لها على ذلك بوجه ، بل مقدار الغسل على حاله وإنما ألغت الأخبار كيفية الترتيب فحسب. وعلى الجملة لا اختلاف بينهما بحسب الكميّة وإنما يفترقان في الكيفية ، وحيث إن الدليل دلّ على وجوب غسل جميع أجزاء البدن في الغسل ترتيباً بحيث لو تعمد في إبقاء مقدار شعرة واحدة فيه دخل النار وأبطل عبادته كذلك الحال في الارتماس ، ومن هنا يأتي في كلامه أن وصول الماء إلى البدن لو احتاج إلى تخليل الشعر وجب.

(٢) لأن الارتماس عبارة عن إحاطة الماء لتمام أجزاء البدن دفعة على ما يأتي تفصيله في ذيل المسألة الرابعة إن شاء الله ، فإذا خرج بعض أعضائه عن الماء عند دخول الجزء الآخر فيه فهو رمس للجزء لا رمس للبدن تحت الماء ، وعليه يتفرّع بطلان الارتماس فيما إذا دخلت رجله في الطين أو خرجت عن الماء قبل أن يدخل‌

٣٨٧

ولا يلزم أن يكون تمام بدنه أو معظمه خارج الماء بل لو كان بعضه خارجاً فارتمس كفى (١) ، بل لو كان تمام بدنه تحت الماء فنوى الغسل وحرك بدنه كفى (*) على الأقوى (٢)

______________________________________________________

رأسه في الماء أو بالعكس ، كما إذا دخل الماء كالسمك بأن يدخل فيه برأسه حتى يخرج رأسه من الماء قبل أن تدخل رجله.

(١) لأن المأمور به هو الارتماس في الماء وهو يتحقق بإحاطة الماء للبدن دفعة ، بلا فرق في ذلك بين كون مقدار من بدنه في الماء أم لم يكن ، بل المتعارف في الارتماس في البحار والأنهار وأمثالهما هو الأوّل ، حيث يرتمس بعد كون نصف بدنه أو الأزيد من النصف في الماء. وأما الخروج عنه والطفرة في الارتماس فهما إنما يناسبان اللعب والعبث وغير معتبرين في تحققه بوجه.

نيّة الغسل وتحريك البدن تحت الماء‌

(٢) بناء على كفاية الارتماس بقاء في الامتثال ، وأما بناء على ما أسلفناه من أن الأوامر ظاهرة في الإحداث مطلقاً ما دام لم تقم قرينة على كفاية الإبقاء فلا. ومن هنا لو كان في السجدة فتليت عليه آية التلاوة فبقي في السجدة مقداراً بداعي امتثال الأمر بالسجدة لم يكف ذلك في الامتثال ، لأن ظاهر الأمر طلب الإيجاد والإحداث ، فلا دليل إذن على كفاية قصد الغسل وتحريك بدنه وهو تحت الماء لأنه ارتماس بقائي فلا بدّ من أن يكون شي‌ء من بدنه خارج الماء ويقصد الغسل بإدخاله حتى يكون ارتماس بدنه بتمامه ارتماساً إحداثيّاً. نعم لا يعتبر في ذلك أن يكون رأسه خارج الماء بل الرأس وغيره من أعضاء بدنه على حد سواء ، فان المدار على عدم كون بدنه بتمامه تحت الماء ليصدق إحداث الارتماس بإدخاله ، فما عن المستند من اعتبار كون رأسه‌

__________________

(*) فيه إشكال والاحتياط لا يترك ، وكذا الحال في تحريك الأعضاء تحت الماء في الغسل الترتيبي.

٣٨٨

خارج الماء (١) فممّا لا دليل عليه في المقام ، نعم له خصوصية في المفطرية في شهر رمضان فإن الإفطار إنما يتحقّق بإدخال رأسه ورمسه للدليل ، وأمّا في تحقّق الارتماس فلا خصوصية لإدخال رأسه بوجه حال كون سائر بدنه في الماء هذا.

ثمّ لو أغمضنا عن ذلك ولم نعتبر الأحداث في الارتماس نظراً إلى أن الإبقاء أيضاً فعل اختياري له وهو كاف في صحّة الغسل ، فلا موجب لاعتبار تحريك البدن تحت الماء ، فإن إحاطة الماء بدنه بقاءً غسل ارتماسي فما الموجب لاعتبار تحريك البدن تحته؟

ودعوى أنه لأجل جريان الماء على بدنه لقوله عليه‌السلام : « كل ما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢) أو « ما جرى عليه الماء فقط طهر » (٣) مندفعة بأن الجريان معتبر في الغسل الترتيبي دون الارتماسي ، إذ لا يعتبر فيه إلاّ إحاطة الماء للبدن هذا.

بل لو لم نعتبر الأحداث في ذلك وقلنا بكفاية الإبقاء في الامتثال للزم الالتزام في الغسل الترتيبي أيضاً ، كما إذا صبّ الماء على رأسه بداع من الدواعي وقصد الغسل بالرطوبات الباقية على بدنه ، لأنه غسل بقائي إذ لا يعتبر فيه جريان الماء على البدن فلو وضع إناء الماء على صدره فلصق الماء على بدنه وهكذا إلى آخر أجزاء بدنه كفى ذلك في تحقق الغسل المأمور به وإن لم يكن للماء جريان. ودعوى أن الجريان معتبر في الغسل لقوله عليه‌السلام : « كل ما جرى عليه الماء فقد أجزأه » مندفعة بأن قوله هذا إذا لوحظ مع قوله : « كل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته » (٤) لا مناص من حمله على مجرّد كفاية وصول الماء وإن لم يكن فيه جريان. مع أنّ كفاية الرطوبات الباقية على البدن في الغسل ممّا لا نحتمل التزامهم به بوجه إلاّ بعض من عاصرناهم ( قدس الله أسرارهم ) فإنه كان ملتزماً بذلك.

__________________

(١) المستند ٢ : ٣٣٣.

(٢) ، (٣) الواردين في ذيل صحيحتي زرارة ومحمّد بن مسلم. الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٤) المذكور في ذيل صحيحة زرارة الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

٣٨٩

ولو تيقّن بعد الغسل عدم انغسال جزء من بدنه وجبت الإعادة (١) ولا يكفي غسل ذلك الجزء فقط.

______________________________________________________

وجوب الإعادة عند العلم بعدم انغسال جزء‌

(١) فقد يقال كما عن العلاّمة في القواعد (١) وصاحب المستند (٢) قدس‌سرهما بكفاية غسل ذلك الموضع الباقي فحسب من دون حاجة إلى إعادة تمام الغسل ، أخذاً بصحيحة زرارة المتقدِّمة الدالّة على كفاية غسل الموضع الباقي فقط عند يقينه ببقاء جزء من بدنه (٣) بدعوى أنّ الغسل الارتماسي كالترتيبي حيث لم تقيد الصحيحة الحكم بالترتيبي هذا.

ويدفعه : أن هذه الجملة من صحيحة زرارة المشار إليها ليست رواية مستقلّة وإنما وردت في ذيل صحيحته الواردة في الوضوء ، حيث روى عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء ، إلى أن قال قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ، فقال : إذا شك وكانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وإن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلّة ، فإن دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، وإن استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ... » (٤) ومقتضى صدرها أن المراد بالغسل هو الترتيبي كما هو الحال في الوضوء لأن الغسل فيه أيضاً ترتيبي ، فكأنه سئل عن حكم الغسل المتحقق في كل من الوضوء والغسل وأنه إذا لم يستوعب الأعضاء حكمه أي‌

__________________

(١) القواعد ١ : ٢١١.

(٢) المستند ٢ : ٣٣٤.

(٣) تقدّم ذكرها في ص ٣٧٧.

(٤) ذكر صاحب الوسائل صدرها في الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١ وذيلها في ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢.

٣٩٠

شي‌ء. ومع قرينية صدر الصحيحة على إرادة الغسل الترتيبي كيف يبقى لذيلها إطلاق حتى يشمل الارتماسي أيضاً ، هذا أوّلا.

وثانياً : لو سلمنا أن صدرها ليس قرينة على الذيل أيضاً لا يمكننا الاستدلال بها على ذلك المدعى ، حيث إنها ناظرة إلى السؤال عن الموالاة وأنه إذا غسل مقداراً من بدنه ولم يغسل بعضه نسياناً أو غفلة هل يصح غسله أو لا يصح ، حيث إنه لو غسله بعد التفاته إليه تخلل في غسل أجزائه زمان لا محالة فأجابه عليه‌السلام بأنّ الموالاة غير معتبرة في الغسل. ومن الظاهر أن الموالاة إنما تعتبر أو لا تعتبر في الغسل الترتيبي ، وأما الارتماسي فهو أمر وحداني إما أن يوجد وإما أن لا يوجد ، لأن المراد به إحاطة الماء للبدن وأمره يدور بين الوجود والعدم ، ولا معنى فيه لغسل شي‌ء من البدن تارة وغسل بعضه اخرى ليعتبر بينهما الموالاة أو لا تعتبر. وعليه فالصحيحة مختصّة بالغسل الترتيبي ولا تعم الارتماسي بوجه.

نعم هناك شي‌ء وهو أن الغسل الارتماسي هل هو أمر أجنبي عن الغسل رأساً إلاّ أنه يوجب سقوطه ، كما في عدلي الواجب التخييري ، حيث إن كل واحد منهما أمر مغاير للآخر بحسب الطبيعة إلاّ أنه مسقط للآخر ، وكما في الإتمام حيث ذكروا أنه مسقط للواجب من غير أن يكون عدلاً للواجب التخييري أصلاً. أو أن الارتماسي أيضاً غسل ولكنّه طبيعة والترتيبي طبيعة أُخرى من الغسل فهما طبيعتان متغايرتان أو لا هذا ولا ذاك بل هما طبيعة واحدة ولها كيفيّتان ، فقد يؤتى بكيفية الارتماس وأُخرى بكيفية الترتيب ، نظير ما ذكرناه في صلاتي القصر والتمام حيث قلنا إنهما طبيعة واحدة لها كيفيتان وفردان ، فقد تجب كيفية القصر وأُخرى تجب الإتمام وثالثة يتخير بينهما كما في مواضع التخيير؟

أمّا احتمال أن يكون الارتماسي أمراً أجنبياً مغايراً مع الغسل الترتيبي ومسقطاً له فيدفعه ظهور قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك » (١) فان ظاهره أن الارتماس من طبيعة الغسل وهو مجزئ عن الترتيبي لا أنه‌

__________________

(١) تقدّم ذكرها في ص ٣٨٥ ٣٨٦.

٣٩١

ويجب تخليل الشّعر إذا شكّ في وصول الماء إلى البشرة التي تحته (١).

______________________________________________________

أمر أجنبي عنه ومجزئ ، كما أن ظاهره أن الارتماس هي الطبيعة المأمور بها وغاية الأمر أن المتعيّن الأوّلي كيفية اخرى وتلك الكيفية مجزية عن الواجب لا أنه طبيعة أُخرى مغايرة للطبيعة الواجبة ، وعليه فالمتعين أنهما طبيعة واحدة وإنما تختلفان بحسب الكيفية.

ويترتب على ذلك أنّ المكلّف إذا نوى الترتيبي فغسل رأسه ولكنه عند غسل بدنه بدا له وأراد الارتماس فارتمس ثمّ انكشف بقاء لمعة على بدنه لم يصلها الماء ، فعلى الاحتمالين الأوّلين لا بدّ من أن يرجع ويغتسل من الابتداء ، لأنه في غسل بدنه لم يقصد الترتيب حتى يتحقق بغسل الموضع غير المغسول بعد غسله ، وإنما قصد الارتماس وهو لم يتحقق لبقاء شي‌ء من بدنه فيبطل ، وهذا بخلاف الاحتمال الثالث ، لأن الواجب حينئذ ليس إلاّ غسل الجنابة ولا يجب على المكلّف أن ينوي الترتيبي أو غيره ، وحيث إنه نوى غسل الجنابة وصب الماء على بدنه ولم يحطه الماء فلا محالة يكون هذا ترتيبياً وإن لم يقصده ، إلاّ أنّ الترتيبي والارتماسي لما كانا طبيعة واحدة كان قصد أحدهما قصداً للآخر لا محالة ، بل كفى قصد غسل الجنابة في صحّته وإن لم يقصد الترتيب أو الارتماس ، وبما أنّ الماء لم يصل تمام بدنه فهو يكون ترتيبياً لا محالة فان لم نقل بالترتيب بين الجانبين فيغسل ذلك الموضع فقط سواء كان في الجانب الأيمن أو الأيسر ، وأمّا بناء على الترتيب بينهما فان كان الموضع في الجانب الأيسر فأيضاً يغسله فقط ، وأما إذا كان في الجانب الأيمن فيغسل ذلك الموضع منه ويعود إلى غسل الجانب الأيسر من الابتداء تحصيلاً للترتيب المعتبر بينهما.

وجوب تخليل الشعر لو شك في مانعيته‌

(١) لما مرّ من أن المستفاد من قوله عليه‌السلام : « إذا ارتمس ارتماسة » أن الارتماس مأمور به ومجزئ عن الواجب ، وهو والترتيبي طبيعة واحدة لا أنه أمر أجنبي مسقط للواجب ، كما في الإتمام حيث ذكروا أنه مسقط للمأمور به ، وعليه فكل‌

٣٩٢

ولا فرق في كيفية الغسل بأحد النحوين بين غسل الجنابة وغيره (١) من سائر الأغسال (*) الواجبة والمندوبة‌

______________________________________________________

ما يعتبر في الترتيبي يعتبر في الارتماسي أيضاً ، فكما أنه لا بدّ من إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن في الترتيبي فلو ترك بمقدار شعرة واحدة متعمداً دخل النار ، على ما في الخبر (٢) كذلك الحال في الارتماسي بعينه ، لأنه هو هو بعينه سوى أنه لا يعتبر فيه الترتيب. وعليه فلو كان شعره كثيفاً مانعاً عن وصول الماء تحته أو احتمل مانعيته يجب تخليله وإزالة المانع عن وصول الماء إلى البشرة كبقية الموانع ، وذلك تحصيلاً للقطع بالامتثال أو لحكم العقل بإفراغ الذمة عما اشتغلت به.

(١) هذا بناء على ما قدمناه من أن الارتماسي والترتيبي طبيعة واحدة وإنما يختلفان بحسب الكيفية فقط ، فإن سائر الأغسال وإن لم ترد كيفيتها في رواية إلاّ أن العرف يستفيد مما ورد في كيفية غسل الجنابة أن الكيفية الواردة فيه غير مختصّة به ، لأن الأغسال طبيعة واحدة وإنما الاختلاف في أسبابها. وإنما تصدوا عليهم‌السلام لبيان الكيفية في الجنابة دون غيرها لأن الابتلاء بها أكثر من الابتلاء بغيرها من الأسباب فتصدوا لبيان كيفيته حتى يظهر الحال في غيرها من ذلك البيان ، فبما أن غسل الجنابة له فردان من طبيعة واحدة أعني الترتيبي والارتماسي وهما يكفيان عنه فلا محالة يكفيان عن بقية الأغسال الواجبة أيضا.

ويؤيِّد ما ذكرناه ما رواه في الفقيه من أنّ غسل الحيض والجنابة سواء (٣) ، وما ورد في أنّ الجنب إذا ابتلي بالحيض لا يغتسل بل يصبر إلى أن تنقضي أيام حيضها وبعده تغتسل غسلاً واحداً عن الجميع (٤) ، وما دلّ على أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الحقوق المتعدِّدة (٥) حيث تدلّ على أن الأغسال طبيعة واحدة وإنما الاختلاف في الأسباب.

__________________

(*) هذا في غير غسل الميت ، حيث لا يشرع فيه الارتماس.

(١) وهي صحيحة حجر بن زائدة. الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٥ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٩ ، الفقيه ١ : ٤٤ / ١٧٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٥ ، ٦ وغيرهما.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

٣٩٣

نعم في غسل الجنابة لا يجب الوضوء بل لا يشرع (١) بخلاف سائر الأغسال (٢) كما سيأتي (*) إن شاء الله.

______________________________________________________

وأمّا إذا قلنا بأن الارتماسي أمر أجنبي مسقط عن المأمور به فلا وجه للحكم بكفايته في بقية الأغسال ، لأنّ مورد الأخبار الدالّة على إجزائه وكفايته إنما هو غسل الجنابة ، ولا دليل على كفايته عن بقيّة الأغسال ، كما نسب إلى العلاّمة التوقف في ذلك في بعض كتبه.

لا يشرع الوضوء مع غسل الجنابة‌

(١) وذلك لقوله سبحانه ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) إلى قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (٢) فإن التفصيل قاطع للشركة فيستفاد من الآية المباركة أن وظيفة غير الجنب هي غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، وأما وظيفة الجنب فهي الاغتسال ، فكما أن غير الجنب لا يشرع في حقه الاغتسال فكذلك الجنب لا يشرع في حقه الوضوء. وقد ورد في الأخبار أن غسل الجنابة ليس قبله ولا بعده وضوء (٣) فالكتاب والسنّة متطابقان على عدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة.

(٢) أي يشرع فيها الوضوء ، وذلك لإطلاقات الأمر به وعدم دلالة دليل على نفي مشروعيته كما في غسل الجنابة. نعم هناك بحث آخر يتعرض له الماتن بعد الأغسال وهو وجوب الوضوء مع بقيّة الأغسال وعدم وجوبه ، حيث ورد أنه « أي وضوء أنقى من الغسل » (٤) وغيره مما يدلّ على عدم وجوبه ، ونحن أيضاً لنتعرّض له هناك. وهما‌

__________________

(*) ويأتي الكلام على ذلك [ في المسألة ١٠٥٥ ].

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٧ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ٤.

٣٩٤

[٦٦٢] مسألة ١ : الغسل الترتيبي أفضل من الارتماسي (١).

[٦٦٣] مسألة ٢ : قد يتعين الارتماسي كما إذا ضاق الوقت عن الترتيبي وقد يتعيّن الترتيبي كما في يوم الصوم الواجب (*) وحال الإحرام (٢) وكذا إذا كان الماء للغير ولم يرض بالارتماس فيه.

______________________________________________________

بحثان ، لا بدّ للتعرض إلى مشروعية الوضوء مع بقيّة الأغسال في المقام وإلى وجوبه أو جوازه في البحث الآتي في محلِّه إن شاء الله تعالى (٢) ، فإنّ القول بعدم وجوبه معها لا تستلزم نفي مشروعية الوضوء كما لا يخفى.

أفضليّة الترتيبي من الارتماسي‌

(١) لأنّ الأخبار الواردة في المقام (٣) إنما أمرت بالغسل ترتيباً وأنه يغسل رأسه أوّلاً ثمّ بدنه ويصب الماء على رأسه ثلاثاً ثمّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فلو كنا نحن وهذه الأخبار لقلنا بتعين الترتيبي لا محالة ولكنّه ورد أن الارتماسي مجزئ عن ذلك الواجب الأوّلى (٤) ، فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر ينتج أن المأمور به هو الترتيبي وإن كان يمكنه الاكتفاء بالارتماس ، ومعه يكون الترتيبي هو الأفضل لأنه المأمور به الأوّلي. وهذا نظير ما إذا أمره المولى بشي‌ء ثمّ قال : لو أتيت بشي‌ء آخر كذا أيضاً أجزأك وكفاك ، فإنّ الإتيان بالشي‌ء الأوّل أفضل حينئذ لأنه المأمور به.

تعين كل من الكيفيتين بالخصوص أحيانا‌

(٢) لحرمة تغطية الرأس على المحرم ولو بالماء ، ولأنّ الارتماس من المفطرات في‌

__________________

(*) أي ما لا يجوز إبطال الصوم فيه.

(١) في المسألة [٧٦٨].

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٥.

٣٩٥

[٦٦٤] مسألة ٣ : يجوز في الترتيبي أن يغسل كل عضو من أعضائه الثلاثة بنحو الارتماس بل لو ارتمس في الماء ثلاث مرات : مرّة بقصد غسل الرأس ومرّة بقصد غسل الأيمن ومرّة بقصد الأيسر كفى (١) وكذا لو حرّك بدنه تحت الماء (*)

______________________________________________________

الصوم ، نعم لو كان الصوم مستحباً أو واجباً موسعاً غير مضيق جاز الارتماس ، لجواز إبطال الصوم غير الواجب ، ومعه يبقى التخيير بحاله بخلاف الصوم الواجب كصوم شهر رمضان أو المضيق والمعيّن كقضائه بناء على المضايقة أو نذر صوم يوم معيّن.

ثمّ إن هناك فرقاً بين تعين الارتماسي لضيق الوقت عن الترتيبي وبين تعين الترتيبي لحرمة الارتماسي ، فان في الثاني قد تعلّق النهي بالارتماس ومعه تكون العبادة باطلة لأنّ المحرّم لا يكون مصداقاً للواجب ولا يمكن التقرب به وهذا بخلاف الأوّل ، فإن الترتيبي لم يتعلّق به النهي حينئذ ، وإنما تعين الارتماس لجهة واجب آخر مقدّمة للصلاة في وقتها ، فلو عصى ولم يأت بالصلاة أداء وأتى بالغسل الترتيبي صح غسله ولا دليل على بطلانه حينئذ. نعم فيما إذا تعيّن الارتماسي لأن مالك الماء لم يرض بالترتيبي لاستلزامه صرف الماء زائداً مثلاً كان الترتيبي محرماً في نفسه وغير مجزئ وإن عصى ولم يأت بالصلاة.

غسل كل عضو بالارتماس في الترتيبي‌

(١) لأن الصب الوارد في الأخبار إنما هو مقدّمة لجريان الماء على البدن كما ورد في ذيل بعضها (٢) ، ولا خصوصية له ، فلو جرى الماء على بدنه بغير الصب كالارتماس أيضاً كفى في صحّته.

__________________

(*) مرّ الكلام فيه [ في صدر هذا الفصل الكيفية الثانية للغسل ].

(١) كما في صحيحتي محمّد بن مسلم وزرارة. الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١ ، ٢.

٣٩٦

ثلاث مرّات (١) ، أو قصد بالارتماس غسل الرأس وحرك بدنه تحت الماء بقصد الأيمن وخرج بقصد الأيسر ، ويجوز غسل واحد من الأعضاء بالارتماس والبقيّة بالترتيب ، بل يجوز غسل بعض كل عضو بالارتماس وبعضه الآخر بإمرار اليد.

[٦٦٥] مسألة ٤ : الغسل الارتماسي يتصور على وجهين (١) أحدهما : أن يقصد الغسل بأوّل جزء دخل في الماء (٢) وهكذا إلى الآخر فيكون حاصلاً على وجه التدريج. والثاني : أن يقصد الغسل حين استيعاب الماء تمام بدنه (٣) وحينئذ يكون آنياً ، وكلاهما صحيح ، ويختلف باعتبار القصد‌

______________________________________________________

(١) قد مرّ أن ظواهر الأوامر هي طلب الإيجاد والإحداث ، والوجود البقائي خارج عن المأمور به ومعه لا يكفي تحريك بدنه تحت الماء بدلاً عن الغسل المأمور به.

للارتماسي صورتان‌

(٢) ليكون الغسل الارتماسي تدريجياً يشرع فيه من أوّل دخوله في الماء إلى أن يحيط الماء بتمام بدنه ، وهو حينئذ نظير الصلاة وغيرها من المركبات ، فكما أنه يشرع في الصلاة من حين دخوله فيها إلى أن ينتهي إلى آخرها كذلك الحال في الغسل الارتماسي حينئذ ، ومعه يمكن أن يتحقق الحدث في أثنائه كما يمكن أن يتحقق في أثناء الترتيبي على ما يأتي حكمه إن شاء الله تعالى (٢).

(٣) فيكون الغسل الارتماسي أمراً وحدانياً دفعي الحصول ولا يعقل تخلل الحدث في أثنائه. ولا يخفى أن الجمع بين القسمين المذكورين في الارتماسي والقول بأنه قد يتحقق بهذا وقد يتحقق بذاك أمر غير صحيح ، بل الصحيح أن يقال : إن الارتماسي إما أن يتحقق على نحو التدريج فحسب وإما أنه دفعي ووحداني ، فهو من قبيل أحدهما لا أنه قد يكون تدريجياً وقد يكون دفعيا.

__________________

(*) الأحوط الاقتصار على الوجه الثاني ، وأحوط منه قصد ما في الذمّة بلا تعيين.

(١) في المسألة [٦٩١].

٣٩٧

بيان ذلك : أن الأخبار الواردة في الغسل الارتماسي على قسمين : فقسم اشتمل على لفظة الارتماس وأنه إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه ، وهذا أي الارتماس ورد في روايتين معتبرتين (١). والارتماس معناه الستر والتغطية ، فيقال رمس خبره أي كتمه وستره ورمسه في التراب أي غطاه به. وقسم اشتمل على لفظة الاغتماس كما ورد في مرسلة الفقيه (٢) ، وهو أيضاً بمعنى الارتماس ، وإن قيل إن بينهما فرقاً وهو أن التستر والتغطي بالماء إذا كان كثيراً بأن مكث تحته فهو اغتماس ، وأما إذا لم يمكث تحته فهو ارتماس ، إلاّ أنه لم يثبت. وكيف كان ، فسواء ثبت أم لم يثبت فهما بمعنى واحد ، ومن الظاهر أن التغطي والتستر بالماء لا يتحقق إلاّ بإحاطة الماء تمام البدن بحيث لو بقي منه شي‌ء خارج الماء لم يصدق الاغتماس والتغطي.

وعليه فالارتماس أمر وحداني دفعي لا أنه تدريجي ، إذ ليس هو بمعنى إحاطة الماء ليقال إنه أمر تدريجي الحصول ، بل معناه التستر والتغطي وهما أمران دفعيان وعلى هذا فلا بدّ من أن يقال إن الارتماس إن كان بمعنى إحاطة الماء للبدن فهو أمر تدريجي لا بدّ من أن ينوي الغسل من أوّل جزء دخل في الماء ، وإذا كان معناه التغطِّي والتستّر فهو دفعي وحداني لا بدّ أن يقصد الغسل حين استيعاب الماء تمام بدنه. فهو إمّا هذا أو ذاك لا أنه قد يتحقق بهذا وقد يتحقق بذاك ، وبما أن اللغة قد فسرته بالتستّر والتغطِّي وبيّنت موارد استعمالاته فهي أصدق شاهد على أنه بمعنى الستر والتغطي فهو أمر دفعي وحداني ومعه ينوي الغسل حال استيعاب الماء تمام بدنه. والأحوط أن لا ينوي شيئاً لاحتمال أن يكون الارتماس بمعنى إحاطة الماء وهو تدريجي ، والأولى من ذلك أن يقصد ما في الذمّة لأنه مبرئ على كل حال.

__________________

(١) وهما صحيحة زرارة وصحيحة الحلبي. الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢. وكذلك ورد لفظ الارتماس في موثقة السكوني ، نفس الباب ح ١٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٥. الفقيه ١ : ٤٨ / ١٩١.

٣٩٨

ولو لم يقصد أحد الوجهين صحّ أيضاً وانصرف إلى التدريجي (١).

[٦٦٦] مسألة ٥ : يشترط في كل عضو أن يكون طاهراً حين غسله فلو كان نجساً طهره أوّلاً ، ولا يكفي غسل واحد (*) لرفع الخبث والحدث كما مرّ في الوضوء ، ولا يلزم طهارة جميع الأعضاء قبل الشروع في الغسل وإن كان أحوط (٢).

______________________________________________________

(١) لأنه أسبق في الوجود من الاستيعاب التام.

اشتراط الطّهارة في كل عضو حين غسله‌

(٢) في المقام بحثان : أحدهما : أنه هل يعتبر في صحّة الغسل طهارة جميع الأعضاء قبله بحيث لو كانت رجله مثلاً متنجسة لم يصح غسل رأسه أو لا يعتبر ذلك في صحّة الغسل ، فان قلنا باشتراط الطّهارة في جميع الأعضاء قبل الغسل فلا تصل النوبة إلى البحث الثاني ، وأما إذا لم نقل بهذا الاشتراط فيقع الكلام في أن الغسل يشترط فيه طهارة كل عضو قبل غسله وإن لم تعتبر طهارة المجموع قبل الغسل أو يكفي صبّ الماء مرّة واحدة لإزالة الخبث والحدث معاً ، وهذا هو البحث الثاني في المقام. وهذا بخلاف الوضوء فان البحث السابق لا يأتي فيه ، إذ لم يقل أحد باعتبار طهارة مجموع أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه ، بل يكفي تطهير كل عضو قبل غسله وإن كانت الأعضاء الباقية نجسة.

أمّا المقام الأوّل فقد ذهب جماعة إلى اشتراط طهارة مجموع الأعضاء قبل الغسل في صحّته مستدلين عليه بالأخبار المتضمنة للأمر بغسل الفرج قبل صبّ الماء على الرأس والبدن (٢) وبما دلّ على غسل ما في البدن من الأذى أي النجاسة قبل غسل‌

__________________

(*) الأظهر كفايته على تفصيل مرّ في باب الوضوء [ فصل شرائط الوضوء الشرط الثاني ].

(١) راجع الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦.

٣٩٩

الرأس والبدن (١) بدعوى أنها ظاهرة في شرطية تطهير البدن قبل الغسل في صحّته.

ولكن الصحيح عدم دلالتها على الاشتراط ، وذلك لأنا وإن قلنا إن ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي وأن هذا الظهور الأوّلي انقلب إلى ظهور ثانوي في المركبات والمقيّدات ، حيث إن ظهور الأمر فيهما في الإرشاد إلى الشرطية أو الجزئية كما أن النهي فيهما ظاهر في الإرشاد إلى المانعية إلاّ أن هذا إنما هو فيما إذا كان المولى بصدد المولوية ، بأن يكون الأمر مولوياً ، فان الإرشاد إلى الشرطية والجزئية أو المانعية أيضاً من وظائف المولى. وأما إذا لم يكن المولى بهذا الصدد وإنما كان بصدد بيان أمر عادي طبيعي فلا ظهور لأمره في الإرشاد إلى أي شي‌ء ، والأمر في المقام كذلك ، لأن الغالب نجاسة الفرج بالمني في موارد غسل الجنابة ، والمني ليس كالبول ليزول بصب الماء عليه لأنه ماء كما في الخبر (٢) والمني لزج في نفسه وتحتاج إزالته إلى دلك أو صابون وإعمال عناية ، وهذا بحسب الطبع والمتعارف إنما يتحقق في الكنيف أو موضع آخر ثمّ يغتسل في موضع آخر لا أنه يزال في أثناء الغسل ، لأن غسله في أثناء الغسل صعب حيث إن الماء عند صبه على الرأس يصيبه لا محالة وهو نجس فيتنجس ما يلاقيه ، كما تتنجس الأرض حيث يقطر منه الماء على الأرض ويحتاج إلى تطهير ذلك كلّه ، والإمام عليه‌السلام بأمره بانقاء الفرج ناظر إلى بيان أمر طبيعي عادي ومعه لا ينعقد له ظهور في الإرشاد إلى الشرطية بوجه.

ويدلّ على ما ذكرناه صحيحة حكم بن حكيم المتقدّمة (٣) الآمرة بغسل الرجلين بعد غسل الرأس والبدن إذا كان الموضع قذراً ، لتنجسهما بوصول الماء إليهما ومعه لم يحكم ببطلان غسل رأسه وبدنه ، بل أمره بغسلهما بعد ذلك حتى يطهرا ويصح غسلهما‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٣٤٣ / أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦ ح ٣. ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٤ ، ٧.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٧ ح ١ وورد صدرها في ٢٣٠ / ب ٢٦ ح ٧. وقد تقدّم ذكرها في ص ٣٧٨.

٤٠٠