موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

أحاط به الشعر ، قال عليه‌السلام : كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يطلبوه أو أن يغسلوه الحديث (١) ، فلا يمكن الاستدلال به على كفاية غسل الشعر عن غسل البشرة في المقام ، حيث إن قوله : « أرأيت ما أحاط به الشعر » مسبوقة بجملة أو حال معيّن للمراد ، وقد سئل فيها عن شي‌ء ، وهذه الجملة ملحقة به ، وإلاّ فلا معنى للابتداء بتلك الجملة كما لا يخفى ، فهي مسبوقة بشي‌ء قطعاً بمعنى أنها منقطعة الصدر ، لعدم إمكان الابتداء بقوله : أرأيت ... إلخ.

ومن المحتمل قويّاً أن تكون الجملة الساقطة واردة في السؤال عن غسل ما أحاط به الشعر في الوضوء لكثرة الابتلاء به كما في النساء وكذا الرجال ، لأنهم كثيراً ما كانوا ملتحين ولا سيما في الأزمنة القديمة ، ومع هذا الاحتمال لا يمكننا التعدي عنه والأخذ بعمومها وإطلاقها في جميع الموارد حتى في الغسل ، لأن التمسك بالإطلاق يتوقف على جريان مقدّمات الحكمة لا محالة ، ولا مجال لها مع احتمال وجود ما يحتمل قرينته على الاختصاص.

ودعوى أنها عامّة ، لمكان قوله : كل ما ... ، وليست مطلقة تحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، ساقطة ، لأن عمومها بحسب أفراد ما أحاط به الشعر خارج عن محل الكلام وإنما المقصود التمسك بإطلاق نفي وجوب الغسل في قوله : « ليس ... أن يغسلوه » وأنه يختص بموارد الوضوء أو يعمها وموارد الغسل وموارد الطّهارة الخبثية أيضاً هذا. مضافاً إلى ما قدّمناه في مبحث الوضوء من أن الرواية على إطلاقها غير قابلة للتصديق (٢) ، فان لازمها الحكم بكفاية غسل الشعر في طهارة ما أحاط به إذا كان نجساً.

فالمتحصل : أن الواجب إنما هو غسل البشرة ولا يكون غسل الشعر مجزئاً عنه.

وعن الأردبيلي قدس‌سره التأمل في عدم إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة استبعاداً من كفاية إجزاء غرفتين أو ثلاث لغسل الرأس كما نطق به غير واحد من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٣ ، ٢.

(٢) لاحظ شرح العروة ٥ : ٥٩ وما بعدها.

٣٦١

الأخبار ، وذلك لأن غرفتين أو ثلاث لا يصل إلى البشرة في مثل رأس النساء أو غيرهن ممن على رأسه شعر كثير ، وهذا يدلّنا على إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة (١).

ولكن الظاهر أن استبعاده في غير محلّه ، لأنّ ما وقفنا عليه في الأخبار إنما هو غسل الرأس بثلاث غرفات أو حفنات ولم نظفر بما اشتمل على غرفتين ، وإليك بعضها منها : صحيحة زرارة قال « قلت : كيف يغتسل الجنب؟ فقال : إن لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢). ومنها صحيحة ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يفيض الجنب على رأسه الماء ثلاثاً لا يجزئه أقل من ذلك » (٣) ودلالتها على ثلاث أكف بالإطلاق ، لأنّ « ثلاثاً » أعم من الأكف. وفي موثقة سماعة « ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفّيه » (٤) ولا استبعاد في وصول ثلاث أكف إلى البشرة ، فإنّ الشعر ليس كالصوف والقطن مما يجذب الماء ، بل إنما الماء يجري عليه ولا سيما بملاحظة أن الغسل يكفي فيه التدهين وإيصال البلل. على أنّ كفّين من الماء يكفي في الطرف الأيمن أو الأيسر كما عرفته في الأخبار ، فلو كان كفّان من الماء كافياً في غسل أحد الطرفين فكيف لا يكفي ثلاث منها في غسل الرأس وإيصال الماء إلى البشرة به مع أن الرأس لأصغر من أحد الطرفين مرات ، نعم هو مشتمل على الشعر الكثير دون الطرفين هذا.

بل قد ورد في بعض الروايات ما يدلّ على عدم إجزاء غسل الشعر عن غسل البشرة ، وهو ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الحائض ما‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٣٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

٣٦٢

بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها » (١) فانّ كلمة « من » للابتداء ، وإذا صبّ الماء على شعرها وابتدأ منه البلل إلى أن وصل إلى الرأس أجزأها. وأمّا صحيحة زرارة المتقدِّمة من قوله : « أرأيت ما أحاط به الشعر » (٢) المتوهمة دلالتها على كفاية غسل الشعر عن غسل البشرة فقد تقدّم الجواب عنها فلا نعيد.

ويؤيد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تحت كل شعرة جنابة (٣) فإنه يدلّ على لزوم غسل تحت الشعرات لترتفع الجنابة الكائنة تحتها.

وأمّا المقام الثاني وأن غسل الشعر أيضاً واجب أو غير واجب فقد يكون الشعر خفيفاً كما لا يخلو عنه الغالب فيوجد في مواضع غسله أو وضوئه شعور خفيفة ، ولا إشكال في وجوب غسلها حينئذ لأنها من توابع البدن ، فقوله : تغسل من قرنك إلى قدمك ، أو تفيض الماء على جسدك. يشمل الشعور الخفيفة أيضا.

وقد يكون الشعر كثيفاً كما في شعور النساء أو لحى الرجال فهل يجب غسلها أو لا يجب؟ فلو كان على شعره قير مانع من وصول الماء إلى نفس الشعور ومانع عن غسلها وقد غسل نفس البشرة أفيكفي ذلك في صحّته لأن الشعر غير واجب الغسل؟ المعروف بينهم عدم وجوب غسل الشعر في الغسل وإن قلنا بوجوبه في الوضوء ، لما ورد من تحديد مواضع الغَسل بما بين القصاص والذقن أو من الذراع إلى الأصابع (٤) فإنه يشمل الشعر والجسد ، وأمّا في الغسل فلم يلتزموا بذلك.

وخالفهم فيه صاحب الحدائق قدس‌سره ومالَ إلى أن الشعر كالبشرة ممّا يجب غسله. واستدلّ على ذلك بأن الشعر غير خارج عن الجسد ولو مجازاً فيدلّ على وجوب غسله ما دلّ على وجوب غسل الجسد ، كيف وقد حكموا بوجوب غسل الشعر في الوضوء معللين ذلك تارة بدخوله في محل الفرض وأُخرى بأنه من توابع‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤١ / أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٤ ، ٣١١ / أبواب الحيض ب ٢٠ ح ٢.

(٢) تقدّمت في ص ٣٦٠.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ٤٧٩ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٣. وفيه : ... فبلغ الماء تحتها في أُصول الشعر كلّها ...

(٤) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢ ، ١١. ب ١٧.

٣٦٣

اليد ، وإذا كان الشعر داخلاً في اليد بأحد الوجهين المذكورين واليد داخلة في الجسد كان الشعر داخلاً في الجسد لا محالة. على أنّا لو سلمنا خروجه عن الجسد فهو غير خارج عن الرأس والجانب الأيمن والأيسر ، وقد ورد الأمر بغسل الرأس ثلاثاً وصب الماء على كل من جانبي الأيسر والأيمن مرّتين وهو يشمل الشعر أيضاً هذا كله. مضافاً إلى صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « من ترك شعرة من الجنابة متعمداً فهو في النار » (١) فإن تأويلها بالحمل على إرادة مقدار الشعرة من الجسد خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلاّ بدليل (٢). هذه خلاصة ما أفاده في المقام.

ولكن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب غسل الشعر في الغسل ، ويكفينا في ذلك عدم الدليل على وجوبه. ولا دلالة في شي‌ء مما ذكره في المسألة على وجوبه ، وذلك لأن الشعر خارج عن الجسد وإنما هو أمر ثابت عليه ، نعم لا بأس بإطلاق الجسد وإرادة الأعم منه ومن الشعر النابت عليه مجازاً إلاّ أن إرادته تحتاج إلى قرينة تدلّ عليه ، ولا يمكن حمل الجسد عليه إلاّ بدليل ولا دليل عليه. نعم إطلاق الرأس والطرف الأيمن أو الأيسر يشمل الشعر كما أفاده ، إلاّ أن الأخبار الآمرة بصب الماء على الرأس ثلاثاً والطرفين مرّتين إنما وردت لبيان الترتيب في غسل الأعضاء ولم ترد لبيان أن الغسل واجب في أي شي‌ء ، وإنما يدلّ على وجوبه الأخبار الآمرة بغسل الجسد أو من قرنه إلى قدمه وغيرها مما لا يشمل الشعر كما مر.

وصحيحة حجر بن زائدة أيضاً لا دلالة لها على وجوب غسل الشعر لا بحمل الشعرة على معناها المجازي ، بل مع إبقائها على معناها الحقيقي وأن الشعرة واجبة الغسل لا تدلّ إلاّ على لزوم غسلها من أصلها إلى آخرها ، وأصل الشعر من الجسد فيكون في الأمر بغسلها دلالة على لزوم إيصال الماء إلى الجسد. نعم لو كانت دالّة على وجوب غسل بعض الشعر لا من أصله إلى آخره أمكن الاستدلال بها على مدعاه إلاّ‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥.

(٢) الحدائق ٣ : ٨٨.

٣٦٤

والثقبة التي في الاذن أو الأنف للحلقة إن كانت ضيقة لا يرى باطنها لا يجب غسلها ، وإن كانت واسعة بحيث تعدّ من الظاهر وجب غسلها (١).

______________________________________________________

أنّ الصحيحة لا دلالة لها عليه.

فتحصل : أن وجوب غسل الشعر في الغسل مما لا دليل عليه ، بل الدليل على عدم وجوبه موجود وهو موثقة عمار بن موسى الساباطي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تغتسل وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها كم يجزئها من الماء؟ قال : مثل الذي يشرب شعرها وهو ثلاث حفنات على رأسها » الحديث (١) لأنّ إطلاقها يشمل ما إذا كان شعر المرأة مفتولاً شديداً بحيث لا يدخل الماء جوفه ولا يصل إلى جميع أجزاء الشعر ، فلو كان غسل الشعر أيضاً واجباً لوجب عليها النقض ، والأخبار صريحة الدلالة على عدم وجوبه.

وأجاب عنها في الحدائق بأن عدم نقض الشعر لا يلزمه عدم وجوب غسله لإمكان إضافة الماء وزيادته إلى أن يصل إلى جميع أجزائه (٢). وفيه : أن إيصال الماء إلى جوف الشعور المفتولة وإلى جميع أجزائها وإن كان ممكناً كما أفاده بإضافة الماء حتى يروي ، إلاّ أن الكلام في الملازمة بينهما وأن غسل الشعر ملازم لوصول الماء إلى جوف المفتول منه بحيث يصل إلى تمام أجزائه ، ومن الظاهر أنه لا تلازم بينهما ، نعم قد يكون لإضافة الماء وكثرته وقد لا يكون ، مع ملاحظة ما ورد من كفاية صب ثلاث غرفات في غسل الرأس.

فتحصل : أن غسل الشعر غير واجب كما ذهب إليه المشهور إلاّ إذا كان خفيفاً ومعدوداً من توابع الجسد كما قدّمناه.

حكم الثّقبة في الأنف ونحوه‌

(١) قد مرّ وعرفت أن الواجب إنما هو غسل ظواهر البدن دون بواطنه ، فالحكم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٥٧ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ٦.

(٢) الحدائق ٣ : ٨٩.

٣٦٥

وله كيفيتان : الاولى الترتيب (*) وهو أن يغسل الرأس والرقبة أوّلاً ثمّ الطرف الأيمن من البدن ثمّ الطرف الأيسر (١)

______________________________________________________

يدور مدار صدقهما ، ولا مدخلية للثقبة فيه إثباتاً ونفياً ، ولا بدّ حينئذ من ملاحظة أنّ الثقبة من الظاهر أو الباطن ، فإذا كانت وسيعة بحيث يرى باطنها فهي محسوبة من الظاهر ، وإذا كانت ضيقة ولا يرى باطنها فهي من البواطن ولا يجب غسلها.

كيفية الغسل الترتيبي‌

(١) الكلام في ذلك يقع من جهات :

اعتبار غسل الرأس أوّلاً

الجهة الاولى : في أن الغسل ترتيباً يعتبر فيه غسل الرأس قبل غسل البدن بحيث لو غسله بعد غسل البدن أو مقارناً لغسله بطل. ويدلّ عليه مضافاً إلى الشهرة المحققة في المسألة بل الإجماع على اعتبار الترتيب بين الرأس والبدن ، ولا يعتد بما هو ظاهر المحكي من عبارة الصدوقين حيث عطف البدن على الرأس بالواو (٢) ، لأنه نقل عنهما التصريح في آخر المسألة بوجوب إعادة الغسل لو بدأ بغير الرأس ، ومع التصريح بذلك لا يمكن الاعتماد على ظاهر العطف في صدر المسألة الأخبار المعتبرة من الصحيح والحسنة والموثقة وإليك جملة منها :

فمنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن غسل الجنابة أي عن كيفيته بقرينة الجواب ، لا عن حكمه فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثمّ تغسل فرجك ، ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثاً ، ثمّ تصبّ على سائر جسدك‌

__________________

(*) لا يبعد عدم اعتباره بين الجانبين ، والاحتياط لا ينبغي تركه.

(١) الفقيه ١ : ٤٦.

٣٦٦

مرّتين فما جرى عليه الماء فقد طهر » أو ( طهّر ) (١) ، لدلالتها على لزوم تقديم الرأس على البدن في الغسل لكلمة « ثمّ » الظاهرة في التراخي. واشتمالها على بعض المستحبات كغسل الفرج لعدم اعتبار الاستنجاء في صحّة الغسل على ما يأتي في محلِّه (٢) ، وغسل الكفين وكذلك الغسل ثلاثاً أو مرّتين لقيام القرينة الخارجية على عدم وجوبها لا ينافي دلالتها على الوجوب فيما لم يقم على خلاف ظاهره الدليل.

ومنها : صحيحة زرارة قال « قلت : كيف يغتسل الجنب؟ فقال : إن لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صب على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٣). وذلك لوقوع كلمة « ثمّ » عند عطف غسل البدن على غسل الرأس كما في الصحيحة المتقدّمة ، وقد عرفت أن اشتمالها على بعض المستحبات لا ينافي دلالتها على الوجوب فيما لم يقم قرينة على استحبابه.

نعم الرواية مضمرة إلاّ أنا ذكرنا غير مرّة أن مضمرات زرارة كمسنداته ، لأنه لا يسأل من غير الإمام عليه‌السلام ، على أن المحقق رواها في المعتبر عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) ، ولعلّه كما في الحدائق نقلها عن بعض الأُصول القديمة التي كانت عنده (٥).

ومنها : موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه وليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ، ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفّيه ، ثمّ يضرب بكف من ماء على صدره وكفّ بين كتفيه ... » (٦).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٢) في ص ٣٩٩ ٤٠٠.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٤) المعتبر ١ : ١٨٣.

(٥) الحدائق ٣ : ٧٠.

(٦) تقدّم ذكر مصدرها في ص ٣٦٢.

٣٦٧

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثمّ بدا له أن يغسل رأسه لم يجد بداً من إعادة الغسل » (١) نعم لا دلالة لها على بطلانه فيما إذا غسل رأسه مقارناً لغسل بدنه ، لأنها إنما تدلّ على بطلانه فيما إذا غسل بدنه قبل غسل رأسه فحسب. ولكن يمكن أن يقال بدلالتها على بطلانه في صورة المقارنة بعدم القول بالفصل ، لأن من قال بالترتيب بين الرأس والبدن والتزم ببطلانه عند تأخيره عن غسل البدن التزم ببطلانه عند مقارنة غسله لغسله أيضا.

ومنها : ما رواه حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من اغتسل من جنابة ولم يغسل رأسه ثمّ بدا له أن يغسل رأسه لجهله بلزومه مثلاً لم يجد بدّاً من إعادة الغسل » (٢) وهي كسابقتها.

ومنها : صحيحته أي حريز المعبّر عنها بمقطوعة حريز في كلماتهم ، في الوضوء يجف ، قال « قلت : فان جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذي يليه ، قال : جفّ أو لم يجف اغسل ما بقي ، قلت : وكذلك غسل الجنابة ، قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثمّ أفض على سائر جسدك ، قلت : وإن كان بعض يوم ، قال : نعم » (٣) ودلالتها على اعتبار تقديم غسل الرأس على غسل البدن ظاهرة ، وإنما الكلام في أنها مضمرة حيث لم يسندها حريز إلى الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّ إضمار حريز كإضمار زرارة وأضرابه لأنّ حريزاً من أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام وليس من شأنه السؤال عن غير الإمام ودرجه في الأخبار.

وقد يُقال : إنّها مقطوعة وتوصف بها ، ولعلّه من جهة إرجاع الضمير في « قال قلت : فان جفّ ... » إلى عبد الله بن المغيرة الذي يروي عن حريز ليكون هو السائل دون حريز ، وإرجاع الضمير في « قال : جف أم لم يجف » إلى حريز ليكون هو المجيب دون الإمام. إلاّ أنه بعيد غايته ، لأن الظاهر أن ابن المغيرة إنما يروي عن حريز ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٥ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٥ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ٢.

٣٦٨

هي مضمرة وقد عرفت أن الإضمار غير مضر من أمثال حريز وزرارة هذا.

على أنّ الصدوق رواها في ( مدينة العلم ) عن حريز مسنداً إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، والراوي عن الصدوق هو الشهيد في الذكرى على ما في الوسائل (١) والشهيد ثقة عدل تُتبع روايته عن كتاب ( مدينة العلم ) وإن كان هذا الكتاب غير موجود في عصرنا لأنه مسروق ولكن الشهيد حسب روايته ينقل عن نفس الكتاب ، وطريقه إلى الكتاب معتبر كما يظهر من المراجعة إلى الطرق والإجازات ، وبه تكون الرواية مسندة وتخرج عن الإضمار والقطع.

ومنها : غير ذلك من الأخبار.

وبإزاء هذه الأخبار أخبار أُخرى تدلّ على عدم لزوم الترتيب بين غسل الرأس والبدن إمّا بإطلاقها وإمّا بتصريحها ونصّها.

أمّا ما دلّ على عدمه بالنص فهو ما ورد في قضية الجارية أعني صحيحة هشام قال : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام فيما بين مكّة والمدينة ومعه أُم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها ، وقال لها : إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك ، ففعلت ذلك فعلمت بذلك أُم إسماعيل فحلقت رأسها ، فلما كان من قابل انتهى أبو عبد الله عليه‌السلام إلى ذلك المكان فقالت له أُم إسماعيل : أي موضع هذا؟ قال لها : هذا الموضع الذي أحبط الله فيه حجّك عام أوّل » (٢).

حيث دلّت على عدم لزوم غسل الرأس قبل غسل البدن. إلاّ أنها ممّا لا يمكن الاعتماد عليه وإن كانت صحيحة السند وصريحة الدلالة على المدعى ، وذلك لأنّ راوي هذا الحديث أعني هشام بن سالم بعينه روى تلك القضية في صحيحة محمّد بن مسلم على عكس ما رواها في هذه الرواية ، حيث روى هشام عن محمّد بن مسلم قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه‌

__________________

(١) المصدر المتقدّم. كذا الذكرى : ٩١ / السطر ١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٦ / أبواب الجنابة ب ٢٨ ح ٤.

٣٦٩

فقال : ادنه هذه أُمّ إسماعيل جاءت وأنا أزعم أن هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجّها عام أوّل ، كنت أردت الإحرام فقلت : ضعوا إليّ الماء في الخباء فذهبت الجارية بالماء فوضعته فاستخففتها فأصبت منها فقلت : اغسلي رأسك وامسحيه مسحاً شديداً لا تعلم به مولاتك ، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئاً فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها وضربتها ، فقلت لها : هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجّك » (١).

وهي على عكس الصحيحة التي رواها هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومن هنا قال الشيخ : هذا الحديث قد وهم الراوي فيه واشتبه عليه فرواه بالعكس ، لأن هشام بن سالم روى ما قلنا بعينه ، يعني لزوم غسل الرأس قبل غسل البدن (٢).

والصحيح ما أفاده قدس‌سره وأنّ الاشتباه إنما هو من راوي الحديث عن هشام ، لأنه بنفسه نقل عكسه كما عرفت.

وأمّا ما دلّ على عدم لزوم الترتيب بإطلاقها فعدة روايات.

منها : صحيحة زرارة المشتملة على قوله : « ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » (٣).

ومنها صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين ( المرفق ) إلى أصابعك وتبول إن قدرت على البول ، ثمّ تدخل يدك في الإناء ثمّ اغسل ما أصابك منه ، ثمّ أفض على رأسك وجسدك ولا وضوء فيه » (٤).

ومنها : صحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٧ / أبواب الجنابة ب ٢٩ ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ١٣٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٦.

٣٧٠

غسل الجنابة فيه وضوء أم لا فيما نزل به جبرئيل؟ قال : الجنب يغتسل يبدأ فيغسل يديه إلى المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء ، ثمّ يغسل ما أصابه من أذى ، ثمّ يصب على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كلّه ، ثمّ قد قضى الغسل ولا وضوء عليه » (١).

والكلام في تقييد المطلقات بالمقيّدات المتقدّمة وعدمه ، وذلك لأن هذه المطلقات ليست بأقوى من سائر المطلقات الواردة في الفقه ، حيث إنّها بناء على كونها في مقام البيان من تلك الجهة أعني جهة الترتيب وإن كان لها ظهور في الإطلاق إلاّ أن ظهور المقيّد في التقييد حاكم على ظهوره ومانع عن حجيّته إذا كان منفصلاً ، ومانع عن أصل انعقاده لو كان متصلا.

على أنّه يمكن أن يقال بعدم كونها في مقام بيان أن الواجب في الغسل أي شي‌ء لأنها إنما وردت لبيان آدابه وكيفياته لا لبيان الأُمور الواجبة فيه ، ومن هنا تعرض لجملة من المستحبات ولم يتعرّض لاعتبار الترتيب ، فلو لم يكن الترتيب بين الرأس والبدن واجباً فلا أقل من أنه مستحب ، للأمر به في الأخبار من قوله : « صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين » (٢) ... وقوله : « ثمّ ليصب على رأسه ثلاث مرّات ... » (٣). وقوله : « تبدأ بكفّيك ... » (٤) فإنّ الأمر لو لم يفد الوجوب فلا أقل من إفادته الاستحباب ، وللتأسِّي به عليه‌السلام حيث إنه كما في صحيحة زرارة بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكف ثمّ صب على منكبه الأيمن مرّتين ... (٥) ومع ذلك لم يتعرض لبيانه ولم يدلّ على استحبابه ، وهذا أيضاً قرينة على وجوبه ، وإنما لم يتعرّض له لعدم كونها في مقام البيان من تلك الجهة. فالإنصاف أن المناقشة في دلالة الروايات على اعتبار الترتيب بين الرأس والبدن في غير محلّها. هذا كلّه في الجهة الأُولى.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ١.

(٢) تقدّم ذكرهما في ص ٣٦٧.

(٣) تقدّم ذكرهما في ص ٣٦٧.

(٤) المتقدِّم في ص ٣٦٦.

(٥) تقدّم ذكرها في ص ٣٦٧. ومضمونها ليس فعلاً صادراً منه عليه‌السلام.

٣٧١

هل الرّقبة داخلة في الرأس؟

الجهة الثانية : هل الرقبة داخلة في الرأس فيجب غسلها قبل غسل البدن أو داخلة في البدن ، فان قلنا بالترتيب بين الطرف الأيمن والأيسر فلا بدّ من غسل نصف الرقبة مع الطرف الأيمن ونصفها الآخر مع الطرف الأيسر ، وإن لم نلتزم بالترتيب بينهما فيغسلها مع الطرفين بأية كيفية شاءها؟

المعروف بينهم أنها داخلة في الرأس ، وهذا هو الصحيح لا لدعوى أن الرأس يطلق على الرقبة وما فوقها ليقال إنها غير ثابتة وأن الرأس اسم لما نبت عليه الشعر فوق الأُذنين مع أن إطلاقه وإرادة الرقبة وما فوقها ليس إطلاقاً غريباً ، بل قد يستعمل كذلك فيقال قطع رأسه أو ذبح ولا يراد بذلك أنه قطع عمّا فوق الأُذنين ، نعم ليس إطلاقاً متعارفاً كثيراً بل من جهة أن حكم الرقبة حكم الرأس فيجب غسلها مقدّماً على غسل البدن ، لقيام القرينة على ذلك أي على أن حكمها حكمه. والذي يدلّ على ذلك أمران :

أحدهما : صحيحة زرارة الآمرة بصب ثلاث أكف على رأسه وصبّ الماء مرّتين على منكبه الأيمن ومرّتين على منكبه الأيسر (١) ، فإنّ الرقبة لو لم تغسل مع الرأس وكانت الأكف الثلاث لأجل غسل الرأس فحسب فأين تغسل الرقبة بعد غسله؟ فان صبّ الماء على المنكبين لا يوجب غسل الرقبة لوضوح أنها فوق المنكبين ، ولا أمر بالغسل غير غسل الرأس والمنكبين إلى آخر البدن فتبقى الرقبة غير مغسولة.

وثانيهما : موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام الآمرة بعد صبّ الماء على رأسه ثلاثاً بضرب كف من الماء على صدره وكف بين كتفيه (٢) ، فان ضرب الكف منه على صدره وكف بين كتفيه إما أن يكونا هما تمام الغسل الواجب في الغسل وإما أن يكونا مقدّمة لوصول الماء في الغسل الواجب إلى تمام البدن بسهولة ، لأن الماء في‌

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٦٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

٣٧٢

المبلول سريع الجريان. وعلى كلا التقديرين لو لم تكن الرقبة داخلة تحت الرأس في الغسل لتبقى غير مغسولة ، وذلك لأن صبّ الماء على الصدر والكتف لا يوجب غسل الرقبة لأنها فوقهما هذا.

وقد يقال : إنّ الرقبة داخلة في البدن ، ويستدلّ عليه بصحيحة أبي بصير حيث ورد فيها « وتصب الماء على رأسك ثلاث مرات وتغسل وجهك ... » (١) ، ونظيرها صحيحة يعقوب بن يقطين ، لما ورد فيها من قوله عليه‌السلام : « ثمّ يصب على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كلِّه » (٢) فان غسل الرأس إذا لم يشمل غسل الوجه فلا يشمل غسل الرقبة بطريق أولى. وهذا القول هو الذي نقله في الحدائق عن بعض معاصريه الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قدس‌سره (٣).

وفيه : أنّه إن أُريد بذلك أن الوجه والرقبة خارجان عن مفهوم الرأس لغة لأنه اسم لمنبت الشعر من فوق الاذن فهو مما لا كلام فيه ، وإن أراد أن الرقبة والوجه لا يغسلان مع غسل الرأس مقدّماً على غسل البدن فلا دلالة عليه في شي‌ء من الروايتين ، بل هما يغسلان بغسله ، وإنما أمره بغسل الوجه إما لاستحبابه في نفسه ولو مع غسله بغسل الرأس وإما لأجل الاهتمام به. وقد احتاط الماتن بغسل نصف الرقبة ثانياً مع الجانب الأيسر ونصفها كذلك مع الجانب الأيمن ، وهو احتياط استحبابي لا بأس به.

هل يعتبر الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر؟

الجهة الثالثة : في أن الترتيب كما يعتبر في الرأس والبدن هل يعتبر بين الجانب الأيمن والأيسر؟ المعروف هو اعتباره بينهم مستدلاًّ على ذلك بما ورد في صحيحة زرارة من صبّ الماء على رأسه ثلاثاً ثمّ صبّه على المنكب الأيمن مرّتين وعلى المنكب‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٦ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ١.

(٣) الحدائق ٣ : ٦٥.

٣٧٣

الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه (١) ، بدعوى أن الظاهر منها ومن غيرها ممّا هو بهذا المضمون أن الغسل ثلاثة أجزاء غسل الرأس وغسل الجانب الأيمن وغسل الجانب الأيسر ، فلو لم يعتبر الترتيب بين الجانبين لما كان له أجزاء ثلاثة ، بل كان له جزءان غسل الرأس وغسل البدن. وعلى ما ببالي أنّ الفرّاء يرى مجي‌ء واو العاطفة للترتيب الذكري (٢) ، ومعه يكون عطف الجانب الأيسر على الأيمن بكلمة « واو » دالاًّ على لزوم الترتيب بينهما. وللإجماع على اعتبار الترتيب بين الجانبين كما يعتبر بين الرأس والبدن.

ولكن الصحيح عدم اعتبار ذلك ، لأن الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام غير حاصل في المسألة مع ذهاب جملة من أكابر الفقهاء كالبهائي (٣) والأردبيلي (٤) وصاحب المدارك (٥) والذخيرة (٦) إلى عدم الاعتبار ، وأما أن واو العاطفة تدلّ على الترتيب فهو خلاف المتسالم عليه بين الأُدباء لأنها إنما تدلّ على مطلق الجمع دون الترتيب.

وأمّا الصحيحة وغيرها ممّا هو بمضمونها فيدفعه أنه لا دلالة لها على أنّ الغسل له أجزاء ثلاثة بل له جزءان ، وإنما عبّر بغسل الرأس ثمّ الجانب الأيمن والجانب الأيسر لأن الماء في مفروض الروايات هو الماء القليل ، والكيفية المتعارفة العاديّة في غسل البدن بالماء القليل إنما هو غسل الرأس ثمّ أحد الجانبين ثمّ الجانب الآخر ، وليس ذكره كذلك لكونه واجباً معتبراً في الغسل.

بل يمكن القول بدلالتها على عدم لزوم الترتيب بين الجانبين ، وذلك لأنّ معنى الترتيب أنّ النصف الأيمن لا بدّ أن يغسل بتمامه قبل النصف الأيسر ، والروايات دلّت‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

(٢) مغني اللّبيب : ٤٦٤.

(٣) حبل المتين : ٤١.

(٤) لم نعثر على رأيه.

(٥) المدارك ١ : ٢٩٥.

(٦) الذخيرة : ٥٦ / السطر ١٨.

٣٧٤

على أنه بعد صبّ الماء حفنتين على أحد الجانبين يصب الماء حفنتين على الجانب الآخر ، وهل يمكن أن يغسل بحفنتين من الماء تمام الجانب الأيمن حتى تكون الكفّان بعد ذلك لغسل النصف الأيسر؟ بل يستحيل ذلك عادة.

ثمّ لو فرضنا أنّ كفين من الماء يكفي في غسل تمام النصف أو أخذنا بما دلّ على صبّ الماء على الجانبين مرّتين ولو بمقدار يكفي في غسل الطرفين ، إلاّ أن في صبّ الماء مرّتين على النصف الأيمن لا محالة يغسل شي‌ء من النصف الأيسر أيضاً ، إذ لم يجعل خط فاصل بين نصفي البدن نصفاً حقيقياً يمنع عن وصول الماء من جانب إلى جانب ، فإذا غسل شي‌ء من الجانب الأيسر بغسل الجانب الأيمن فهو كاف في غسل الجانب الأيسر ولا يلزم غسل ذلك المقدار منه ثانياً ، بدلالة الصحيحة نفسها على أن ما جرى عليه الماء فقد أجزأه ، فهي بنفسها دالّة على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين. هذا كلّه فيما استدلّ به على اعتبار الترتيب بين الطرفين أوّلا.

واستدلّ على اعتباره ثانياً بما يتألف من مقدمتين :

إحداهما : ما ورد في جملة من الأخبار (١) فيها المعتبرة وغير المعتبرة من اعتبار الترتيب بين غسل الجانب الأيمن والجانب الأيسر في غسل الميت ، وأنه يغسل رأسه أوّلاً ثمّ يغسل طرفه الأيمن ثمّ الأيسر.

وثانيتهما : ما ورد من أن غسل الميت كغسل الجنابة (٢) ، حيث استفيد منها أنهما على حدّ سواء. وحيث أنّ المقدّمة الأُولى تثبت اعتبار الترتيب في غسل الميت فلا محالة يعتبر ذلك في غسل الجنابة أيضاً بحكم المقدّمة الثانية.

ويدفعه : أنّ الترتيب وإن كان معتبراً في غسل الميت إلاّ أن المقدّمة الثانية ممنوعة وذلك لأن الرواية لم تشتمل على أن غسل الجنابة كغسل الميت حتى يدلّ على أنّ ما يعتبر في المشبه به يعتبر في المشبّه لا محالة ، وإنّما اشتملت على أنّ غسل الميت كغسل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٧٩ / أبواب غسل الميت ب ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٨٦ / أبواب غسل الميت ب ٣ ح ١ ، وهي صحيحة محمّد بن مسلم.

٣٧٥

الجنابة ، ولا دلالة له على أن ما يعتبر في غسل الميت يعتبر في غسل الجنابة ، وإلاّ فيعتبر في غسل الميت تعدد الغسلات والمزج بشي‌ء من السدر والكافور ولا يعتبر شي‌ء من ذلك في غسل الجنابة ، وإنما شبّه بغسل الجنابة فيما يعتبر فيه ، أعني لزوم إصابة الماء ووصوله إلى تمام البدن بحيث لا تبقى منه ولو بمقدار شعرة واحدة ، فهو يعتبر في غسل الميت أيضاً بهذه الرواية.

على أنّ القاعدة أيضاً تقتضي تشبيه غسل الميت بغسل الجنابة دون العكس ، وذلك لأنّ الجنابة أمر تعمّ به البلوى ويبتلى به عامّة الناس إلاّ نادراً فحكمها أمر يعرفه الجميع وهذا بخلاف غسل الميت ، لأنه لعله مما لا يبتلي به واحد في المائة فيشبه بغسل الجنابة تشبيهاً للمجهول بالمعلوم والضعيف بالقوي فهذا الاستدلال غير تام.

وأمّا ما ورد من أنّ غسل الميت بعينه غسل الجنابة ، لأنّ الميت يجنب حال موته بخروج النطفة التي خلق منها فغسل الميت بعينه غسل الجنابة ، فيندفع بأن أكثرها ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها في الاستدلال. على أن منها ما اشتمل على أن النطفة إنما تخرج منه من ثقبة في بدنه كعينه أو أنفه وأُذنيه ، ولا إشكال في أن خروج النطفة من غير الموضع المعيّن لا يوجب الجنابة فلا يكون الميت جنباً بذلك ولا يكون غسله غسل الجنابة. ثمّ لو سلمنا أنه يجنب بذلك لدلالة الدليل مثلاً على أن الميت يجنب بذلك فلا دليل على أن غسل الجنابة في الأحياء يعتبر فيه ما يعتبر في غسل الجنابة في الأموات.

ثمّ إنّ ممّا يدلّنا على عدم الترتيب بين الطرفين ما ورد في ذيل صحيحة محمّد بن مسلم « فما جرى عليه الماء فقد طهر » (١) وفي ذيل صحيحة زرارة « فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٢) لما مرّ من أن صب الماء على أحد الطرفين لا يمكن عادة أن يغسل به أحدهما من دون أن يصل منه الماء إلى شي‌ء من الطرف الآخر وهو أمر ظاهر ، فإنه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٢٩ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٢) تقدّم ذكرها في ص ٣٧٣.

٣٧٦

يجري الماء منه إلى شي‌ء من الجانب الأيسر لا محالة ، والذيلان المتقدّمان يدلاّن على كفاية ذلك في الغسل وعدم وجوب غسله ثانياً مع أن غسل ذلك المقدار من الجانب الأيسر وقع قبل غسل تمام الطرف الأيمن ، فهما تدلاّن على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين.

ويدلّ على ذلك من الأخبار الخاصّة مضافاً إلى المطلقات المتقدّمة ما ورد في ذيل صحيحة زرارة الواردة في من شك في غسل بعض جسده في الغسل ، حيث قال : « فان دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، وإن استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ... » (١) حيث فصّلت بين صورتي الشك واليقين ، ودلّت على وجوب إعادة الماء على الموضع غير المغسول أو مسحه بالبلة الموجودة في بدنه وعلى إعادة الصلاة في صورة اليقين وهذا إنما يتمّ بناء على عدم الترتيب بين الجانبين ، لأن الترتيب لو كان معتبراً بينهما لوجب التفصيل بين ما إذا كان المحل المنسي غسله في الطرف الأيسر فيعود عليه بالماء أو يمسحه بالرطوبة الموجودة في بدنه كما في الرواية ، وبين ما إذا كان في الطرف الأيمن فإنه يعود عليه الماء أو يمسحه ويعيد غسل طرفه الأيسر ليحصل به الترتيب المأمور به ، فكونها ساكتة عن التفصيل بين الصورتين مع أنها في مقام البيان يدلّنا على عدم اعتبار الترتيب بين الجانبين.

ومنها : موثقة سماعة المتقدِّمة حيث ورد فيها « ثمّ يضرب بكف من ماء على صدره وكف بين كتفيه ... » (٢) فان الظاهر أن الصبتين بنفسهما الغسل المأمور به لا أنهما مقدّمتان للغسل بأن يبلل بهما البدن ويصل الماء في الغسل إلى جميع أطرافه بسرعة. وهي كما ترى تدلّ على لزوم غسل الصدر والكتف من دون تقديم أحد الجانبين على الآخر ، إذ لو اعتبر الترتيب بينهما للزم الأمر بصبهما على الجانب الأيمن من الصدر والكتف أوّلاً ثمّ صبهما على الجانب الأيسر منهما.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٠ / أبواب الجنابة ب ٤١ ح ٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

٣٧٧

ومنها : صحيحة حكم بن حكيم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها ثمّ اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثمّ اغسل فرجك وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل ، فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك أن لا تغسل رجليك ، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك » (١).

حيث إنه عليه‌السلام فرّع على صب الماء على الرأس والجسد بقوله : « فإن كنت ... » إلخ أنه إن كان في مكان نظيف فالماء الذي صبه على الرأس والجسد يكفي في غسل رجليه فلا يجب غسلهما بعد ذلك ، وأما إذا كان المكان قذراً وتنجس به رجلاه فيجب أن يغسلهما بعد صبه الماء على رأسه وجسده إتماماً للغسل ، وهذا لا يتم إلاّ بناء على عدم اعتبار الترتيب بين الطرفين ، إذ لو كان معتبراً لوجب أن يأمره بغسل رجله اليمنى أوّلاً ثمّ غسل رجله اليسرى وجميع طرفه الأيسر ثانياً تحصيلاً للترتيب المعتبر بين الجانبين.

وممّا يدلّنا على ما ادعيناه ولعله أظهر ما في الباب من الروايات ما رواه الصدوق في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تغتسل وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها كم يجزئها من الماء؟ قال : مثل الذي يشرب شعرها وهو ثلاث حفنات على رأسها وحفنتان على اليمين وحفنتان على اليسار ثمّ تمرّ يدها على جسدها كلِّه » (٢) وهي صريحة في المدعى ، فان قوله عليه‌السلام : « ثمّ تمرّ يدها » تدلّ على تراخي إمرار اليد عن صبّ الحفنتين على اليمين واليسار ، ولا وجه للإمرار بعد ذلك إلاّ عدم وصول الحفنتين في كل من الطرفين إلى جميع البدن ، وإلاّ الإمرار مما لا وجه له ، ولم تدلّ الموثقة على أنها تمر بيدها على الجانب الأيمن أوّلاً ثمّ تصب الحفنتين على الأيسر وتمرّ يدها عليه ، بل هي مطلقة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٧ ، ٢٣٣ / ب ٢٧ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٥٧ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ٦. الفقيه ١ : ٥٥ / ٢٠٨.

٣٧٨

فقد يكون الموضع الذي لم يصله الماء في الطرف الأيمن مع أنها قد صبت الحفنتين على الأيسر فإنها دلّت على أنها لو مسحت بيدها ذلك الموضع كفى في غسلها ، ولا يتم هذا إلاّ مع عدم لزوم الترتيب بين الجانبين. فالموثقة ظاهرة بل كادت أن تكون صريحة في عدم اعتبار الترتيب بينهما.

وممّا يشهد على ذلك بل يعادل جميع ما أسلفناه أن غسل الجنابة مسألة كثيرة الابتلاء لكل أحد إلاّ ما ندر ، والحكم في مثلها لو كان لشاع بين الرواة ولم يخف على أحد مع أنه لم يرد اعتبار الترتيب بين الطرفين ولا في رواية ، إذ لو كان معتبراً لورد في الأخبار وانتشر بين الرّواة ، فإنه قد ذكر الترتيب بين الرأس والبدن كما ذكر اعتباره بين الجانبين أيضاً في غسل الميت مع قلّة الابتلاء به فلو كان معتبراً في غسل الجنابة أيضاً لورد في الروايات ، فنفس عدم الاشتهار في مثله يدلّنا على العدم ، فإن الأعراب لا يمكنهم فهم اعتبار الترتيب بين الجانبين من قوله : « ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين وعلى منكبه الأيسر مرّتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » فلو كان معتبراً لوجب عليه التنبيه والبيان.

فتحصل : أن الترتيب بين الجانبين مما لا دليل عليه سوى الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة ، والشهرة لا نقول بحجيتها وكذا الإجماعات المنقولة ، لأنها إخبارات حدسية لا تشملها أدلّة اعتبار الخبر الواحد ، ومع القول بذلك في الأُصول لا وجه للاعتماد عليها في الفروع حتى يشمله ما قاله بعض العلماء على ما نقله الشيخ قدس‌سره في بحث الإجماع المنقول من أنهم إذا وردوا الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول (١). والإجماع المحصل غير حاصل لنا ولا سيما مع مخالفة الصدوقين حيث راجعنا عبارته ولم نرها دالّة على اعتبار الترتيب بين الطرفين (٢). فالصحيح عدم اعتباره بين الجانبين ولكن الاحتياط مع ذلك في محلِّه.

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٩٣.

(٢) الفقيه ١ : ٤٦ ٤٩.

٣٧٩

والأحوط أن يغسل النصف الأيمن من الرقبة (١) ثانياً مع الأيمن والنصف الأيسر مع الأيسر ، والسرة والعورة (٢) يغسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الأيسر ، والأولى أن يغسل تمامهما مع كل من الطرفين. والترتيب المذكور شرط واقعي ، فلو عكس ولو جهلاً أو سهواً بطل.

______________________________________________________

حكم الأجزاء المشتركة‌

(١) الكلام في الأجزاء المشتركة. منها الرقبة : قدمنا أن الرقبة داخلة في الرأس لا من جهة أن الرأس بمفهومه يشمل الرقبة ، بل من جهة أن الرقبة كالرأس في الغسل ولا بدّ أن تغسل قبل غسل البدن ، ولكن الحد المشترك بينها وبين الجسد لا بدّ من غسله مع الرقبة تارة ومع البدن اخرى لقاعدة الاشتغال ، حتى يحصل القطع بغسل الرقبة بتمامها قبل البدن وغسل البدن بعد الرقبة ، كما هو الحال في الوضوء حيث لا بدّ من إدخال مقدار من الأطراف في الغسل تحصيلاً للقطع بتحقق الغسل الواجب. ثمّ إن قلنا بالترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر وجب غسل النصف الأيمن من الحدّ الفاصل من الرقبة مع الجانب الأيمن ثانياً ونصفها الأيسر مع الجانب الأيسر ثانياً ، وأما إذا أنكرنا الترتيب بينهما فلا بدّ من غسله مع البدن كيفما اتفق. ومنها السرة والعورة.

(٢) هل يجب غسلهما مع الأيمن فقط ، أو يجب غسلهما مع الأيسر كذلك ، أو ينصفان فيغسل نصفهما الأيمن مع الأيمن ونصفهما الأيسر مع الجانب الأيسر ، أو لا بدّ من غسلهما بتمامهما مع الجانب الأيمن تارة ومع الجانب الأيسر اخرى؟ وهذا الأخير هو الذي جعله الماتن أولى.

والظاهر أنه لا أولوية ملزمة لذلك ، وذلك لأنه مبني على احتمال أن تكون السرة والعورة تابعتين للأيمن أو للأيسر ومن هنا تغسلان بتمامهما مع كل من الطرفين عملاً بكلا الاحتمالين ، ولكنّه احتمال لا منشأ له ، إذ لا وجه لتبعيتهما للأيمن أو الأيسر ، لأن نسبتهما إلى كل من الجانبين على حد سواء بحيث لو نصفتا وقع نصفهما في أحد الجانبين ونصفهما الآخر مع الآخر ، ومع تساوي النسبتين لا موجب لاحتمال تبعيتهما‌

٣٨٠