موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

المعبر عنه بقاعدة اليقين ، وحيث إنه قد تيقن بفراغه عن العمل ولو آناً ما ثمّ شك في مطابقة يقينه للواقع وعدمها أي شك في إتيانه بالجزء الأخير وعدمه فهو متيقن من فراغه فتجري في حقه قاعدة الفراغ.

أو يقال بأن ظاهر حال المتيقن مطابقة يقينه للواقع ، فالظن النوعي حاصل بفراغه ومطابقة يقينه بالفراغ للواقع ، فيحكم بتحقق الفراغ من جهة قيام الأمارة عليه ، وهو الظن النوعي بمطابقة يقين المتيقن للواقع.

أو يقال إن المراد بالفراغ المعتبر في جريان القاعدة إنما هو الفراغ الاعتقادي البنائي ، لعدم إمكان إرادة الفراغ الحقيقي منه لعدم إمكان الشك في صحّة العمل وفساده مع تحقق الفراغ الحقيقي عن العمل ، ولا الفراغ الادعائي لأنه يتحقق بالإتيان بمعظم الأجزاء ولا دليل على كفاية الإتيان بمعظم الأجزاء في جريان القاعدة ، بل الدليل على عدم كفايته موجود وهو صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يقم عن وضوئه وإن أتى بمعظم أجزائه ، فيتعيّن إرادة الفراغ الاعتقادي والبنائي ، وهذا لا لحجيّة اليقين بحدوثه ولا للأمارة على تحقق الفراغ بل لقيام الدليل على كفاية الفراغ الاعتقادي في جريان القاعدة كما عرفت ، وحيث إن المكلّف معتقد بفراغه وكان بانياً عليه فتجري القاعدة في حقه لا محالة.

وشي‌ء من هذه الوجوه مما لا يمكن المساعدة عليه. أما الوجه الأوّل فلما أسلفناه في بحث الاستصحاب من أنه لا دلالة لشي‌ء من الأخبار على حجيّة قاعدة اليقين وأنها إنما تدلّ على حجيّة الاستصحاب فحسب (١) ، ولا يعتبر فيه تقدّم اليقين على الشك بل المدار على تقدّم المتيقن على المشكوك كانت صفة اليقين حاصلة قبل الشك أم بعده أم متقارنة معه.

وأمّا الوجه الثاني فلأن الظن النوعي وإن كان حاصلاً بمطابقة يقين المتيقن مع الواقع وهو أمارة على الفراغ إلاّ أن الكلام في الدليل على اعتباره ، ولا دليل على‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٤٥.

١٢١

اعتبار الظن الشخصي بالفراغ والمطابقة فضلاً عن الظن النوعي بالفراغ.

وأمّا الوجه الثالث فلأنه مبني على إرادة الفراغ عن العمل الصحيح والأمر حينئذ كما أُفيد ، إلاّ أنه ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن المراد بالفراغ هو الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي ولكن متعلقه ليس هو العمل الصحيح بل ذات العمل الأعم من الصحيح والفاسد ، إذ لا معنى للشك في الصحّة مع الفراغ عن العمل الصحيح ، وعليه فلا وجه لدعوى اعتبار الفراغ الاعتقادي ، بل المدار على تحقق الفراغ الحقيقي بحسب الصدق العرفي عن ذات العمل الذي لا يدري أنه وقع صحيحاً أم فاسداً.

فكلّما علم بأنه فرغ حقيقة عن ذات العمل ، كما إذا دخل في حالة اخرى غير حالة الوضوء وصدق عليه الفراغ والتجاوز عرفاً ، إما لأنه أتى بالجزء الأخير وشك في الأجزاء السابقة عليه ، لأنّ الإتيان بالجزء الأخير في مثل الوضوء والصلاة وغيرهما موجب لصدق المضي والتجاوز عن العمل ، وإما لعدم إمكان التدارك لفوات الموالاة لأنه أيضاً محقق لصدق المضي والتجاوز والفراغ عرفاً كما مرّ في الصورة الأُولى والثانية ، أمكن التمسّك بالقاعدة.

وأمّا إذا كان التدارك ممكناً لعدم فوات الموالاة ، ولم يحرز الإتيان بالجزء الأخير بل شك في أنه أتى به أم لا ، فلا يمكن إحراز الفراغ ، لأنه حال شكّه لا يدري أنه في حالة اخرى غير حالة الوضوء أو أنه في حالة الوضوء ، حيث إنه إذا لم يكن آتياً بالجزء الأخير فهو في حالة الوضوء لعدم فوات الموالاة وإن أتى به واقعاً فهو في حالة اخرى وقد تحقق الفراغ. ومع الشك في التجاوز والفراغ لا يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ ، لأنه شبهة مصداقية للقاعدة ، ولا يمكن إجراؤها فيها ولو قلنا بجواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، وذلك لأنه إنما هو في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل ، وأما الشبهة المصداقيّة للمخصص المتصل فلم يقل أحد بجواز التمسّك فيها بالعام والأمر في المقام كذلك ، لأن القاعدة مقيّدة بالتجاوز والفراغ من الابتداء وهما مشكوكان على الفرض ومعه لا مجرى للقاعدة كما مر ، بل مقتضى الاستصحاب حينئذ أنه لم ينتقل من حالته الأوليّة إلى غيرها وأنه لم يفرغ من عمله ، ومقتضى ذلك وجوب الاعتناء‌

١٢٢

[٥٨٥] مسألة ٤٦ : لا اعتبار بشكّ كثير الشكّ (*) سواء كان في الأجزاء أو في الشرائط أو الموانع (١).

______________________________________________________

بشكّه ، بل هذا مقتضى قاعدة الاشتغال ومجرد شكّه في أنه أتى بالواجب صحيحاً أو على وجه الفساد.

نعم لا مانع من التمسّك بالقاعدة فيما إذا قامت أمارة معتبرة على تحقق الفراغ حينئذ ، وهذا كما إذا قام من عمله ودخل في عمل آخر من صلاة أو مطالعة أو دخل في مكان آخر ونحوهما مما يصدق معه عرفاً أنه فرغ وتجاوز عن الوضوء والعمل. وأما إذا جلس بعد الوضوء طويلاً فإن كان مع فوات الموالاة فأيضاً يصدق معه الفراغ والتجاوز ، لما مرّ من أنه مع فوات الموالاة وعدم إمكان التدارك يصدق أن العمل مضى وتجاوز ، وأما مجرد الجلوس الطويل من غير فوات الموالاة فهو غير موجب لصدق الفراغ والمضي ، ومن هنا قيّدنا عبارة الماتن أو كان بعد ما جلس طويلاً بما إذا كان موجباً لفوات الموالاة.

كثير الشك وأحكامه‌

(١) كما هو المعروف ، وليس الوجه فيه لزوم العسر والحرج من الاعتناء بالشك في كثير الشك ، لأنه إن أُريد به لزوم العسر والحرج الشخصيين فهو مقطوع العدم ، لعدم لزومهما في جميع الموارد والأشخاص فلا وجه للحكم بارتفاع حكم الشك في من لا يلزم عليه عسر أو حرج ، وإن أُريد به لزوم الحرج والعسر النوعيين فهو أيضاً كذلك ، لعدم كون الاعتناء بالشك في كثير الشك موجباً للحرج النوعي ، على أنه لا دليل على ارتفاع الحكم بالحرج النوعي عمن لا يلزم في حقه حرج ، لأن ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج إرادة العسر والحرج الشخصيين دون النوعيين ، كما أن الدليل على‌

__________________

(*) فيه إشكال ، والأظهر اختصاص هذه القاعدة بالصلاة وعدم جريانها في غيرها.

١٢٣

ذلك ليس هو كون الوضوء من توابع الصلاة ولا يعتنى بكثرة الشك في الصلاة ، وذلك لعدم الدليل على اشتراك التابع مع متبوعه في جميع الأحكام ، بل الدليل على ذلك صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ، فإنه يوشك أن يدعك ، إنما هو من الشيطان » (١) لأن الظاهر المستفاد بحسب الفهم العرفي أن الضمير في قوله « هو » يرجع إلى كثرة الشك لا إلى الشك في خصوص الصلاة ، وإن كان موردها هو الصلاة ، إلاّ أن الضمير راجع إلى كثرة الشك ، فالصحيحة تدلّنا على أن كثرة الشك من الشيطان ، وهو صغرى للكبرى المعلومة خارجاً وهي أن إطاعة الشيطان مذمومة قبيحة ولا ينبغي إطاعته ، بل يمضي في عمله ولا يعتني بشكّه.

وصحيحة ابن سنان « ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت : هو رجل عاقل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان ، فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو فإنه يقول لك : من عمل الشيطان » (٢) وهذه الصحيحة ذكر فيها الابتلاء بالوضوء والصلاة ، وقد حملها الأصحاب على الوسوسة التي هي أعلى مراتب كثرة الشك ، بل النسبة بينهما عموم من وجه ، لأن الوسوسة هي الاحتمالات التي يحتملها الوسواسي ولا منشأ عقلائي لها ، فترى مثلاً أنه يدخل الماء ويرتمس ويحتمل أن لا يحيط الماء برأسه ، أو يتوضأ وهو على سطح الطبقة الثانية مثلاً ويحتمل أن قطرة من القطرات الواقعة على الأرض طفرت على بدنه أو لباسه مع أن الفاصل بينهما خمسة أمتار أو أزيد ، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي ليس لها منشأ عقلائي.

وأمّا كثرة الشك فاحتمالات كثير الشك عقلائية إلاّ أنها متكررة وكثيرة ، ومعه لا موجب لحملها على الوسوسة ، لأن الابتلاء بالوضوء والصلاة كما يشمل الوسوسة كذلك يشمل كثرة الشك فيهما وكلاهما من الشيطان ، فإن أدنى ما يستلزمه كثرة الشك‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٦٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٠ ح ١.

١٢٤

[٥٨٦] مسألة ٤٧ : التيمّم الذي هو بدل عن الوضوء لا يلحقه حكمه في الاعتناء بالشكّ إذا كان في الأثناء (١)

______________________________________________________

أن يكون المكلّف مواظباً لعمله لئلاّ ينقص أو يزيد شيئاً ، فيصرف توجهه إلى ذلك ولا يمكنه التوجه إلى عبادته توجهاً واقعياً وهذا من أهمّ ما يشتاق إليه الشيطان لوضوح أنه يمنع عن التوجه إلى العبادة حقيقة ويوجب الاكتفاء منها بظاهرها وحيث إن إطاعة الشيطان مذمومة فلا يلتفت إلى شكّه ذلك.

نعم ورد في خبر الواسطي : « أغسل وجهي ثمّ أغسل يدي فيشككني الشيطان أني لم أغسل ذراعي ويدي ، قال عليه‌السلام : إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد » (١) فإن موردها من أظهر موارد الوسواس ، حيث إن الشيطان سلط عليه على وجه يشككه في غسل يديه مع أنه فرض أنه غسلها فمع علمه بعمله يشككه فيه ، مع أنها دلّت بمفهومها على أنه إذا لم يجد برد الماء على ذراعيه يعيد غسل وجهه ويديه فتكون معارضة للروايات المتقدّمة التي دلّت على عدم الاعتناء بالشك مع الوسوسة أو الكثرة ، إلاّ أنه لا بدّ من حملها على أنه عليه‌السلام بصدد علاج مرض السائل وهو الوسوسة وليس بصدد بيان الحكم الشرعي ، وإنما أراد أن يلفت نظره وتوجهه إلى أنه يجد برد الماء أو لا يجد حتى لا يوسوس ولا يشك ، فإنه لا يمكن أن يقال بوجوب الالتفات إلى الشك في حق الوسواسي بوجه ، على أن الرواية مرسلة ضعيفة غير قابلة للاعتماد عليها.

التيمّم البدل عن الوضوء‌

(١) لأنّ الدليل على لزوم الاعتناء بالشك قبل الفراغ عن المركب مختص بالوضوء ولا يمكننا التعدِّي عنه إلى غيره ، بل لا بدّ من الأخذ بعموم ما دلّ على عدم الاعتناء‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٤.

١٢٥

وكذا الغسل والتيمم بدله بل المناط فيها التجاوز عن محل المشكوك فيه وعدمه فمع التجاوز تجري قاعدة التجاوز وإن كان في الأثناء (١) مثلاً إذا شكّ بعد الشروع في مسح الجبهة في أنه ضرب بيديه على الأرض أم لا يبني على أنه ضرب بهما ، وكذا إذا شكّ بعد الشروع في الطرف الأيمن في الغسل أنه غسل رأسه أم لا لا يعتني به ، لكن الأحوط إلحاق المذكورات أيضاً بالوضوء.

______________________________________________________

بالشك بعد التجاوز كما يأتي تفصيله ، وكون التيمم بدلاً عن الوضوء لا يدل على تأتّي جميع أحكام الوضوء فيه.

(١) هذا يبتني على عدم اختصاص جريان قاعدة التجاوز بالصلاة وجريانها في كل واجب مركّب ، من الحج والغسل والتيمم وغيرها سوى الوضوء ، وهو الصحيح. إلاّ أن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ذهب إلى اختصاصها بباب الصلاة وأفاد أنّ عدم جريانها في الوضوء على طبق القاعدة (١) ، حتى أنه لولا الأخبار المانعة عن جريان القاعدة في الوضوء أيضاً لم نكن نجريها فيه لعدم المقتضي ، لأن أخبارها واردة في خصوص باب الصلاة. ولكن الصحيح عمومها لجميع المركّبات ، كما أن قاعدة الفراغ المعبّر عنها بأصالة الصحّة في عمل نفس المكلّف كذلك ، وذلك لإطلاق صحيحة زرارة : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » (٢) وعموم صحيحة إسماعيل بن جابر : « كل شي‌ءٍ شكّ فيه ممّا جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٣) وعدم اختصاصهما بالصلاة ظاهر.

وأمّا كلمات الأصحاب فهي مختلفة في المسألة ، فقد ذكر صاحب الجواهر قدس‌سره (٤) أنه لم يجد قائلاً بإلحاق غير الوضوء من الطّهارات بالوضوء غير صاحب‌

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

(٢) ، (٣) تقدّم ذكرهما في مسألة ٤٥ فراجع.

(٤) الجواهر ٢ : ٣٥٥.

١٢٦

[٥٨٧] مسألة ٤٨ : إذا علم بعد الفراغ من الوضوء أنه مسح على الحائل أو مسح في موضع الغسل أو غسل في موضع المسح ولكن شك في أنه هل كان هناك مسوغ لذلك من جبيرة أو ضرورة أو تقيّة أو لا بل فعل ذلك على غير الوجه الشرعي ، الظاهر الصحّة حملاً للفعل على الصحّة لقاعدة الفراغ أو غيرها (١) وكذا لو علم أنه مسح بالماء الجديد ولم يعلم أنه من جهة وجود المسوغ أو لا والأحوط الإعادة في الجميع (*).

______________________________________________________

الرياض ، وذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسائله جملة من الفقهاء أنهم ذهبوا إلى عدم جريان القاعدة في الطّهارات الثلاث من غير اختصاص المنع بالوضوء (٢) ، إلاّ أنا لا يهمنا انعقاد الشهرة على الجريان وعدمه بعد دلالة الإطلاق أو العموم على عدم الاختصاص.

إذا شكّ في المسوغ للعمل بعد الفراغ‌

(١) بل الصحيح عدم جريان القاعدة في شي‌ء من هذه الموارد. الوجه في ذلك أن الشك قد يكون من جهة الشك في أصل أمر المولى كما إذا صلّى فشكّ في أنها وقعت بعد دخول الوقت أم قبله ، والقاعدة غير جارية في هذه الصورة لأن الظاهر المستفاد من قوله عليه‌السلام : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه كما هو (٣) ، جريان القاعدة فيما إذا كان الشك راجعاً إلى فعل نفسه وأنه أتى به ناقصاً أو كاملاً كما في صلاته وطهوره دون ما إذا كان عالماً بفعله وإنما كان شكّه راجعاً إلى فعل المولى‌

__________________

(*) لا يترك ذلك بل وجوب الإعادة هو الأظهر.

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٧١٢.

(٢) وهي موثقة محمّد بن مسلم ، قال « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه ». الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦.

١٢٧

وأمره وأنه أمر به أم لا.

وبإزاء هذه الصورة ما إذا علم بأمر المولى ومتعلقه وشك في صحّة ما أتى به من جهة احتمال أنه نقص أو زاد شيئاً غفلة أو نسياناً ، ولا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة أيضاً للروايات ، بل هي القدر المتيقن من موارد جريان القاعدة.

وبين هاتين متوسط وهو ما إذا علم بأصل أمر المولى ولكن لم يكن شكّه في صحّة عمله مستنداً إلى فعله وأنه زاد أو نقص شيئاً في عمله سهواً أو غفلة ، بل كان مستنداً إلى الشك فيما تعلق به أمر المولى وأنه هل تعلّق بما أتى به أو بشي‌ء آخر ، وهذا كما إذا كان مسافراً فصلّى قصراً وشك في صحّته من أجل احتمال أنه قد قصد الإقامة قبلها فلم يدر أن الأمر بالصلاة هل كان متعلقاً بالتمام أم بالقصر ، أو أنه صلّى قصراً بعد ثمانية فراسخ وشك في أنه هل قصد الثمانية وكان مسافراً أم أنه قصد السير والتفرج إلى أن بلغ إلى ثمانية فراسخ فوظيفته التمام ، أو أنه توضأ بمسح ما يجب غسله أو بغسل ما يجب مسحه أو بغسل الحاجب وشك في أنه هل كان هناك مسوغ من تقيّة أو ضرورة لذلك أم كان الواجب أن يمسح ما يجب مسحه ويغسل ما يجب غسله ، أو أنه توضأ ثمّ شك في صحّته لاحتمال أنه خاف الضرر واحتمله حال الوضوء فكان الواجب عليه هو التيمم دون الوضوء.

ففي هذه الصورة لا فائدة في البحث عن جريان القاعدة وعدمه فيما إذا كان هناك أصل يقتضي صحّة ما أتى به وأنه هو المتعلق لأمر المولى ، وهذا كما في مثال الشك في صحّة صلاة القصر من جهة الشك في قصده الإقامة ، لأن الأصل عدم قصده الإقامة فوظيفته القصر. وكذا في مثال الشك في الوضوء من جهة الشك في احتماله خوف الضرر حال الوضوء ، لأن الأصل أنه لم يحتمل الضرر ولم يخف منه فالواجب عليه هو الوضوء. وكذا فيما إذا ذهب ثمانية فراسخ فصلّى تماماً ثمّ شك في صحّته من جهة احتمال أنه قصد السفر وثمانية فراسخ فالواجب في حقه القصر ، لأن الأصل أنه لم يقصد مسافرة ثمانية فراسخ. والجامع ما إذا أتى المكلّف بما هو المأمور به في حقّه بالعنوان الأوّلي وشك في صحّته وفساده من جهة احتمال تبدل أمره إلى فعل آخر‌

١٢٨

بعنوان ثانوي طارئ عليه ، لأن الأصل عدم تبدل تكليفه وعدم طروء العنوان الثانوي عليه ، ففي هذه الموارد يحكم بصحّة المأتي به لقاعدة الفراغ إن كانت جارية وبالاستصحاب إن لم تجر القاعدة ، فلا فائدة في جريان القاعدة وعدمه في هذه الصورة.

وإنما يترتب الأثر لجريانها وعدمه فيما إذا لم يكن هناك هذا الأصل بل كان مقتضاه بطلان المأتي به ، وهذا كما إذا توضأ بغسل الرجلين أو بمسح الحاجب فشك في صحّته وفساده من جهة أنه هل كان هناك مسوغ له من تقيّة أو غيرها أو لا ، لأن الأصل عدم طروء عنوان مسوغ له فهو باطل إلاّ أن تجري فيه القاعدة ويحكم بصحّته. أو أنه تيمم ثمّ شك في صحّته من جهة احتمال عدم كونه مريضاً أو غيره ممّن يضر به الماء ولم يكن تكليفه التيمم ، لأنه مقتضى الأصل وعدم طروء شي‌ء من مسوغات التيمم عليه فهو محكوم بالبطلان إلاّ أن تجري فيه القاعدة. والجامع أن يكون المأتي به غير المأمور به بالعنوان الأوّلي وشك في صحّته من جهة الشك في أنه هل كان هناك مسوغ لعمله ذلك أم لم يكن ، فقد بنى في المتن على جريان القاعدة في هذه الموارد إلاّ أنه احتاط بالإعادة من جهة احتمال عدم جريان القاعدة فيها.

والصحيح عدم جريان القاعدة في شي‌ء من تلك الموارد ، وذلك لأن جملة من روايات القاعدة وإن كانت مطلقة يمكن التمسّك بها في الحكم بصحّة الوضوء وغيره من الموارد المتقدّمة ، كما في قوله : « كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه » (١) وقوله : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو » (٢) لأن مقتضى إطلاقهما جريان القاعدة في الموارد المتقدّمة للشك فيما مضى من طهوره وصلاته ، إلاّ أن في بينها روايتين لا مناص من تقييد المطلقات بهما ، وهما معتبرة بكير المشتملة على قوله : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (٣) ورواية اخرى واردة في الصلاة‌

__________________

(١) تقدّم ذكره في المسألة السابقة.

(٢) تقدّم ذكرها في مسألة ٤٥ ص ١١٥.

(٣) تقدّم ذكرها في مسألة ٤٥ ص ١١٨.

١٢٩

[٥٨٨] مسألة ٤٩ : إذا تيقن أنه دخل في الوضوء وأتى ببعض أفعاله ولكن شك في أنه أتمه على الوجه الصحيح أو لا ، بل عدل عنه اختياراً أو اضطراراً الظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ (١) فيجب الإتيان به ، لأنّ مورد القاعدة ما إذا‌

______________________________________________________

المتضمنة لقوله عليه‌السلام : لأنه حينما يصلّي كان أقرب إلى الحق منه بعدها (١) لدلالتهما على اختصاص القاعدة بما إذا شك المكلّف في صحّة عمله وفساده من جهة احتمال نقصانه أو زيادته غفلة أو نسياناً ، فلا يدري أن ما أتى به كان مطابقاً للمأمور به أو مخالفاً له فتجري القاعدة في حقه ، لأنه بطبعه أذكر حال العمل من حال شكّه وظاهر حاله أنه أتى به مطابقاً للمأمور به.

وأما إذا كانت صورة العمل محفوظة عنده وكان حاله بعد العمل حاله حال العمل بمعنى أنه لا يحتمل البطلان من ناحية عمله لعلمه بما أتى به وإنما كان شكّه من جهة فعل المولى وأمره قبل العمل وبعده ، فلا تجري القاعدة في حقه لأنها مختصة بما إذا احتمل البطلان من جهة غفلته أو نسيانه ، لقوله عليه‌السلام : هو حينما يتوضأ أذكر منه. ولا يأتي في موارد العلم بعدمهما واحتمال البطلان من جهة أمر الشارع وعدمه. وبهاتين الروايتين يقيد الإطلاقات فلا يمكن الحكم بجريان القاعدة في أمثال هذه الموارد. وممّا ذكرناه في هذه المسألة ظهر الحال في المسألة الآتية فلاحظ.

(١) وذلك لما مرّ من اختصاص القاعدة بما إذا احتمل الأذكرية في حقه حال العمل إلاّ أنه يحتمل الغفلة والنسيان أيضاً ، فيدفع احتمالهما بأن مقتضى الطبع الأوّلي كونه أذكر وملتفتاً إلى ما يأتي به فهو غير غافل ولا ناس ، وأما إذا علم بعدم غفلته أو نسيانه إلاّ أنه احتمل ترك شي‌ء من عمله متعمداً اختياراً أو بالاضطرار كما مثل به في المتن فكونه أذكر حال العمل لا يدفع احتمال تركه العمدي ، فلا تجري القاعدة في‌

__________________

(١) وهي رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفيها : « ... وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك ». الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

١٣٠

علم كونه بانياً على إتمام العمل وعازماً عليه إلاّ أنه شاك في إتيان الجزء الفلاني أم لا وفي المفروض لا يعلم ذلك. وبعبارة اخرى مورد القاعدة صورة احتمال عروض النسيان لا احتمال العدول عن القصد.

[٥٨٩] مسألة ٥٠ : إذا شك في وجود الحاجب وعدمه (١) قبل الوضوء أو في الأثناء وجب الفحص حتى يحصل اليقين أو الظن بعدمه (*) إن لم يكن مسبوقاً بالوجود ، وإلاّ وجب تحصيل اليقين ولا يكفي الظن ،

______________________________________________________

حقِّه ، بل مقتضى الاستصحاب وأصالة الاشتغال وجوب الإعادة.

والعجب من الماتن قدس‌سره أنه كيف صرح بعدم جريان القاعدة في هذه الصورة وصرح بجريانها في المسألة السابقة ، مع أنه لا وجه للمنع عن جريانها في المقام إلاّ اختصاصها بموارد احتمل فيها الترك غفلة أو نسياناً ومعه لا بدّ من المنع في المسألة المتقدّمة أيضاً ، لعدم كون الشك فيها راجعاً إلى عمله غفلة أو نسياناً ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنه قدس‌سره يرى اختصاص القاعدة بموارد احتمال الغفلة والنسيان إلاّ أنه أعم من احتمال نسيان جزء أو شرط أو نسيان الحكم.

الشكّ في وجود الحاجب‌

(١) تقدّمت هذه المسألة مفصّلاً وبيّنا أن الوجه في وجوب تحصيل اليقين أو الاطمئنان بعدم الحاجب هو عدم جريان الاستصحاب في نفي الحاجب وعدمه ، لأنه مما لا أثر شرعي له ، إذ الأثر مرتب على وصول الماء إلى البشرة ، كما أن دعوى السيرة على عدم الاعتناء بالشك في الحاجب غير مسموعة لعدم ثبوت السيرة على ذلك أوّلاً ، وعلى تقدير تسليمها لم نحرز اتصالها بزمانهم عليهم‌السلام لاحتمال أنها‌

__________________

(*) مرّ أنه لا اعتبار بالظن ما لم يصل إلى مرتبة الاطمئنان ، ومعه لا فرق في اعتباره بين كون الشي‌ء مسبوقاً بالوجود وعدمه.

١٣١

نشأت عن فتوى بعض العلماء (١). إلاّ أنه قدس‌سره إنما كرّرها في المقام لما فيها من الخصوصية الزائدة ، وهي أنه فصّل بين ما إذا احتمل وجود الحاجب وكان له حالة سابقة وجودية فحكم حينئذ بوجوب تحصيل اليقين أو الاطمئنان بعدمه ، وما إذا احتمل وجوده ولم تكن له حالة سابقة وجودية كما إذا احتمل أصابه قطرة من القير لمواضع غسله أو وضوئه فحكم حينئذ بكفاية كل من اليقين والاطمئنان بالعدم والظن به.

وهذه التفرقة مبنيّة على دعوى تحقق السيرة المتشرعية على عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب فيما إذا لم يكن مسبوقاً بالوجود وقد ظنّ عدمه ، ولا وجه لها غيرها لأن الاستصحاب غير معتبر عنده قدس‌سره وإلاّ لجرى استصحاب عدمه حتى فيما لم يظن بعدمه ، وحينئذ يتوجه عليه أن السيرة غير محرزة ، وعلى تقدير تسليمها لم نحرز اتصالها بزمان المعصومين عليهم‌السلام فالصورتان سواء فيما ذكرناه.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى الاستصحاب المقتضي للحكم بعدم وصول الماء إلى البشرة وقاعدة الاشتغال الحاكمة بعدم سقوط التكليف بالوضوء صحيحة علي بن جعفر الدالّة على أن المرأة لا بدّ من أن تحرك الدملج وأسوارها حتى تتيقن بوصول الماء تحتهما (٢) وإن كان موردها الشك في حاجبية الموجود دون الشك في وجود الحاجب إلاّ أنك عرفت عدم الفرق بين الصورتين.

وقد بيّنا سابقاً في مسائل الشك في الحاجب أن ما ورد في ذيل الصحيحة من السؤال عن حكم الخاتم الضيّق وقوله عليه‌السلام : إن علم بعدم وصول الماء تحته فلينزعه ، غير معارض لصدرها نظراً إلى أن مفهوم الذيل أنه إذا لم يعلم بالحاجبية وشك فيها لم يجب عليه النزع وتحصيل اليقين بالوصول ، وذلك لأن حكم الشك في الحاجبية قد ظهر من صدر الصحيحة ، حيث دلّ على وجوب تحصيل اليقين بوصول‌

__________________

(١) شرح العروة ٥ : ٧٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٧ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ١. وتقدّم ذكرها في مبحث الشك في الحاجب في مسائل الوضوء ، شرح العروة ٥ : ٧٠.

١٣٢

وإن شكّ بعد الفراغ في أنه كان موجوداً (١) أم لا بنى على عدمه (*) ويصح وضوءه ، وكذا إذا تيقّن أنه كان موجوداً وشكّ في أنه أزاله أو أوصل الماء تحته أم لا (٢) ، نعم الحاجب الذي قد يصل الماء تحته وقد لا يصل إذا علم أنه لم يكن ملتفتاً إليه حين الغسل ولكن شك في أنه وصل الماء تحته من باب الاتفاق أم لا يشكل جريان قاعدة الفراغ فيه ، فلا يترك الاحتياط بالإعادة (**)

______________________________________________________

الماء تحت الدملج والسوار علم حاجبيتهما أم كانت مشكوكة ، ومعه لا بدّ من حمل الذيل على إرادة علم المكلّف بعدم وصول الماء تحت الخاتم مع تحريكه لأنه ضيق كما في الرواية ، وحينئذ حكم بوجوب نزعه حتى يصل الماء تحته ، وذلك لئلا يلزم التكرار في الرواية ، فلا دلالة في ذيلها على عدم وجوب الفحص عند عدم العلم بالحاجبية. هذا كلّه فيما إذا شك في الحاجب في أثناء الوضوء.

الشكّ في الحاجب بعد الفراغ‌

(١) بنى على عدمه لقاعدة الفراغ فيما إذا احتمل من نفسه التفاته إلى شرائط الوضوء التي منها عدم الحاجب في أثناء وضوئه وإحرازه.

الشكّ في إزالة الحاجب‌

(٢) أيضاً لقاعدة الفراغ إذا احتمل من نفسه الالتفات وإحراز الشروط بلا فرق في ذلك بين كونه معلوم الحاجبية على تقدير عدم إزالته وكونه محتمل الحاجبية ، وأما إذا علم بغفلته عن اشتراط عدم الحاجب في الوضوء فجريان القاعدة حينئذ وعدمه مبنيان على النزاع في أن معتبرة بكير بن أعين المشتملة على قوله عليه‌السلام : لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك (٣) وما ورد في الصلاة من أنه حينما يصلّي كان أقرب‌

__________________

(*) هذا مع احتمال الالتفات حال العمل وإلاّ فلا تجري القاعدة.

(**) بل الظاهر وجوبها فيه وفي نظائره الآتية.

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

١٣٣

إلى الحق منه بعده (١) هل هما تعليلان ومقيّدتان لإطلاقات الأخبار حتى يختص جريان القاعدة بما إذا احتمل من نفسه الذكر والالتفات إلى الشرائط والأجزاء حال الوضوء ولكنه يشك ويحتمل غفلته عن بعضها أو نسيانها ، فلا تجري مع العلم بالغفلة حال الامتثال وانحفاظ صورة العمل عنده وإنما يحتمل صحّة عمله من باب المصادفة الاتفاقية.

أو أنهما كالحكمة للقاعدة نظير سائر الحِكَم المذكورة في الروايات ، نظير التحفّظ على عدم اختلاط المياه في تشريع العدّة مع أنها واجبة في مورد العلم بعدم اختلاط المياه ، وكنظافة البدن التي هي حكمة في استحباب غسل الجمعة مع ثبوت استحبابه حتى مع نظافة البدن. وعليه فيصح التمسّك بإطلاق الروايات في جميع موارد الشك في الصحّة حتى الشك في متعلق الأمر ولو مع العلم بالغفلة حال العمل إلاّ في صورة الشكّ في وجود الأمر كما إذا شك في دخول الوقت بعد الصلاة ، إذ مع عدم إحراز الأمر لا معنى للصحّة والفساد لأنهما عبارتان عن مطابقة المأتي به للمأمور به ومخالفته إذن الإطلاقات باقية بحالها فتجري القاعدة مع العلم بالغفلة أيضاً كما ذهب إليه بعضهم. وقد ذكرنا في محلِّه أنهما تعليلان ولا مناص من تقييدهما للمطلقات (٢) ، ومعه تختص القاعدة بما إذا احتمل الالتفات حال العمل.

وأمّا موثقة الحسين بن أبي العلاء المشتملة على أمره عليه‌السلام بتحويل الخاتم في الغسل وبإدارته في الوضوء وقوله عليه‌السلام : « فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة » (٣) حيث يقال كما قيل من أنها تدل على جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة والنسيان في حال العمل ، لقوله عليه‌السلام : فإن نسيت أي التحويل أو الإدارة في الغسل والوضوء لا آمرك بإعادة الصلاة. فيدفعه أن الاستدلال بالموثقة مبني على أن تكون ناظرة إلى صورة الشك في وصول الماء تحت‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٦.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٨ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ٢.

١٣٤

وكذا إذا علم بوجود الحاجب المعلوم أو المشكوك حجبه وشكّ في كونه موجوداً حال الوضوء أو طرأ بعده (١) فإنه يبني على الصحّة إلاّ إذا علم أنه في حال الوضوء لم يكن ملتفتاً إليه فإن الأحوط الإعادة حينئذ.

______________________________________________________

الخاتم في الغسل والوضوء. وليس في الرواية سؤالاً وجواباً ما يدلّ على كونها ناظرة إلى ذلك بوجه ، فإن الظاهر أنها بصدد بيان استحباب تحويل الخاتم في الغسل وإدارته في الوضوء حتى مع العلم بوصول الماء تحته. ويدلّ عليه اختلاف البيان في الغسل والوضوء ، حيث أمر بالتحويل في الأوّل وبالإدارة في الثاني ، فلو لم يكن لشي‌ء منهما خصوصية بل كان الغرض مجرّد وصول الماء إلى البشرة وتحت الخاتم لم يكن للتعدد والاختلاف في البيان وجه صحيح ، بل كان يقول ( حوّله ) في كليهما أو ( تديره ) فيهما ولم يكن ينبغي التكلّم به للإمام عليه‌السلام ، فمنه يظهر أن لهما خصوصية وهي لا تكون إلاّ على وجه الاستحباب.

ويؤيد ما ذكرناه ما عن المحقق في المعتبر من أن مذهب فقهائنا استحباب تحويل الخاتم في الغسل والإدارة في الوضوء (١) ، وذلك للاطمئنان بأنهم استندوا إلى هذه الموثقة ، وإلاّ فأي دليل دلّهم على استحباب التحويل في أحدهما والإدارة في الآخر. فالموثقة إما ظاهرة فيما ادعيناه وإما أنها مجملة فلا ظهور لها في إرادة الشك في وصول الماء تحت الخاتم بوجه. فالصحيح كما هو ظاهر الروايتين أن الجملتين تعليلان وبهما يتقيد المطلقات ويختص جريان القاعدة بموارد احتمال الذكر والالتفات.

(١) بأن كان تأريخ وضوئه معلوماً وكان تأريخ الحاجب مجهولاً وشك في أنه هل طرأ الحاجب قبله أم بعده ، فإن احتمل الالتفات إلى ذلك حال وضوئه تجري القاعدة في وضوئه ويحكم بصحّته ، وأما إذا علم بغفلته فجريان القاعدة وعدمه مبنيان على الخلاف المتقدِّم آنفا.

__________________

(١) لاحظ المعتبر ١ : ١٦١.

١٣٥

[٥٩٠] مسألة ٥١ : إذا علم بوجود مانع وعلم زمان حدوثه وشكّ في أنّ الوضوء كان قبل حدوثه أو بعده (١) يبني على الصحّة لقاعدة الفراغ إلاّ إذا علم عدم الالتفات إليه حين الوضوء فالأحوط الإعادة حينئذ.

[٥٩١] مسألة ٥٢ : إذا كان محل وضوئه من بدنه نجساً فتوضأ وشك بعده في أنّه طهّره ثمّ توضأ أم لا بنى على بقاء النجاسة فيجب غسله لما يأتي من الأعمال ، وأما وضوءه فمحكوم بالصحّة عملاً بقاعدة الفراغ إلاّ مع علمه بعدم التفاته حين الوضوء إلى الطّهارة والنجاسة ، وكذا لو كان عالماً بنجاسة الماء الذي توضأ منه سابقاً على الوضوء ويشك في أنه طهّره بالاتصال بالكر أو بالمطر أم لا فإن وضوءه محكوم بالصحّة والماء محكوم بالنجاسة ويجب عليه غسل كل ما لاقاه ، وكذا في الفرض الأوّل يجب غسل جميع ما وصل إليه الماء حين التوضؤ أو لاقى محلّ الوضوء مع الرّطوبة (٢).

______________________________________________________

إذا شكّ في تقدّم الوضوء على حدوث الحاجب‌

(١) عكس المسألة المتقدّمة فقد علم بتأريخ المانع كالقير الذي علم بالتصاقه ببعض أعضائه أوّل الزوال وشك في أن وضوءه هل كان قبله أم بعده ، وحكمه حكم المسألة السابقة بعينها.

إذا توضّأ فشكَّ في أنّه هل طهّر المحل قبله؟

(٢) إذا احتمل الالتفات إلى اشتراط طهارة البدن أو الماء في صحّة الوضوء وإحرازها حال الوضوء فهل تثبت بها لوازماتها فيحكم بطهارة بدنه أو الماء وطهارة كل ما لاقاهما ، أو لا يثبت بالقاعدة إلاّ صحّة الوضوء فحسب ، وأما البدن والماء فهما باقيان على نجاستهما بالاستصحاب كما أن ملاقيهما ملاقي النجس؟

قد يقال : إن هذا النزاع مبني على أن القاعدة أمارة حتى تثبت بها لوازمها أو أنها‌

١٣٦

[٥٩٢] مسألة ٥٣ : إذا شك بعد الصلاة في الوضوء لها وعدمه بنى على صحّتها (١) لكنّه محكوم ببقاء حدثه (٢) فيجب عليه الوضوء للصلاة الآتية ، ولو كان الشكّ في أثناء الصلاة وجب الاستئناف بعد الوضوء (٣)

______________________________________________________

أصل فلا تكون حجّة في مثبتاتها. إلاّ أنا تعرضنا لذلك في بحث الأُصول وقلنا إن ذلك ممّا لا أساس له ، لأن الأصل والأمارة سيان في عدم حجيتهما في لوازماتهما إلاّ في خصوص الأمارات اللفظيّة وما يرجع إلى مقولة الحكاية والإخبار كما في الإقرار والبيّنة والخبر ، فإنها كما تكون حجّة في مداليلها المطابقية كذلك تكون حجّة في مداليلها الالتزامية ، التفت المخبر إلى الملازمة أم لم يلتفت ، كان مقراً بها أم منكراً للملازمة رأساً (١). وعليه فلا تثبت بقاعدة الفراغ في المقام غير صحّة الوضوء ، ومقتضى الاستصحاب بقاء البدن والماء على نجاستهما فيحكم بنجاسة كل ما لاقاهما.

الشك في الوضوء بعد الصلاة أو في أثنائها‌

(١) لقاعدة الفراغ في الصلاة.

(٢) لأن القاعدة لا تثبت لوازمها كالحكم بطهارة المكلّف في مفروض المسألة. وهل تجري قاعدة التجاوز في نفس الوضوء أو لا تجري؟ يظهر الحال في ذلك مما يأتي في المسألة الآتية إن شاء الله.

(٣) لأن مقتضى قاعدة الفراغ وإن كان هو الحكم بصحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة لأنها ممّا قد تجاوز عنه وهي قد مضت ، إلاّ أنها لا تثبت الطّهارة حتى تصحّ الأجزاء الواقعة بعد شكّه ، فلا بدّ من أن يحصل الطّهارة لتلك الأجزاء الآتية وللكون الذي شكّ فيه في الطّهارة ، فإن الطّهارة كما أنها شرط في أجزاء الصلاة كذلك شرط في الأكوان المتخلّلة بين أجزائها ، وبما أن ذلك الكون مما لا يمكن تحصيل الطّهارة فيه‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٦٧.

١٣٧

والأحوط الإتمام مع تلك الحالة ثمّ الإعادة بعد الوضوء (١).

______________________________________________________

يحكم ببطلان صلاته واستئنافها بعد تحصيل الطّهارة ، ولا يمكن إحرازها بالقاعدة لعدم تحقق التجاوز على الفرض.

(١) ومنشأه احتمال جريان قاعدة التجاوز في نفس الوضوء ومعه يجب إتمام الفريضة فيحرم قطعها. والكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في أن هذا الاحتياط هل له منشأ صحيح؟

وثانيهما : في أن قاعدة التجاوز هل تجري في نفس الوضوء أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالصحيح أنه لا منشأ صحيح لهذا الاحتياط ، لأن الدليل على حرمة قطع الفريضة لو كان فإنما هو الإجماع لو تمّ ، ومورده ما إذا كانت الفريضة مما يأتي به المكلّف في مقام الامتثال مكتفياً بها من غير إعادتها ، ففي مثله يمكن القول بحرمة القطع على تقدير تمامية الإجماع ، وأما إذا لم يكن المكلّف مكتفياً بها في مقام الامتثال بل بنى على استئنافها فأي دليل دلّ على لزوم إتمامها بعد عدم تحقق الإجماع إلاّ في العبادة المأتي بها في مقام الامتثال؟ فهذا الاحتياط لا منشأ له.

وأمّا المقام الثاني : فإن قلنا إن الشرط في الصلاة إنما هو الوضوء بحسب البقاء والاستمرار ، حيث قدمنا أن الطّهارة هي عين الوضوء وأن له بقاء واستمراراً في نظر الشارع واعتباره ، ومن هنا يسند إليه النقض في الروايات كما ورد في أن الوضوء لا ينقضه إلاّ ما خرج من طرفيك (١) وأنه مما لا ينتقض إلاّ بالنوم وغيره من النواقض بل قد صرّح ببقائه في بعض الأخبار كما في صحيحة زرارة حيث ورد أن الرجل ينام وهو على وضوء (٢). أو قلنا إن الشرط فيها الطّهارة المسببة عن الوضوء كما هو المعروف عندهم حيث يعدّون الطّهارة من مقارنات الصلاة كالاستقبال ، فلا ينبغي‌

__________________

(١) كما في صحيحة زرارة ، الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

١٣٨

الإشكال في عدم جريان القاعدة في الوضوء لا في هذه المسألة وهي الشك فيه في أثناء الصلاة ولا في المسألة السابقة وهي ما إذا شك فيه بعد الصلاة.

وذلك لأن الشرط وهو الوضوء أو الطّهارة المقارنة للصلاة لم يتجاوز عنه المكلّف إذ التجاوز إما أن يكون تجاوزاً عن نفس الشي‌ء وهو إنما يعقل بعد إحراز وجوده ومع الشك في وجود الشي‌ء لا معنى للتجاوز عن نفسه ، وإما أن يكون التجاوز عن محلِّه وهو المعتبر في جريان القاعدة التجاوز ومحل الشرط المقارن إنما هو مجموع الصلاة ، فإذا شكّ فيه في أثنائها فلا يحكم بتجاوز محل الشرط فلا تجري فيه القاعدة كما لا تجري بالإضافة إلى الصلوات الآتية إذا شكّ في الوضوء بعد الصلاة كما في المسألة المتقدّمة ، لوضوح عدم تجاوز محل الشرط المقارن قبل الشروع فيه أو حينه.

وأما إذا قلنا إن شرط الصلاة هو الوضوء الحدوثي بشرط عدم تعقبه بالحدث ، فهل تجري قاعدة التجاوز في الوضوء حينئذ عند الشك فيه في أثناء الصلاة أو بعدها باعتبار أنه من الشرط المتقدّم وهو مما قد تجاوز محله أو لا تجري؟

التحقيق هو الثاني ، وذلك لأن الأمر الشرعي لا يتعلق بالشرط أبداً وإنما يتعلق بذات المشروط المتقيّد بالشرط كالصلاة المتقيّدة بالوضوء ولا يتعلق بنفسه ، وعليه فلا محل شرعي للشرط حتى يقال إن محله قد مضى. نعم للصلاة المقيّدة بالشرط محل شرعي دون شرطها ، لأنه ليس كالأجزاء المتعلّقة للأمر شرعاً كالركوع إذا شكّ فيه وهو ساجد مثلاً حتى يقال إن محله قد مضى وتجاوز ، نعم يجب إيجاد الوضوء قبل الصلاة عقلاً لتحصيل التقيد المأمور به في الصلاة إلاّ أنه لا محل شرعي له حتى لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب ، لأن الوجوب المقدمي لا أثر له وليس كالوجوب الضمني المتعلق بالأجزاء.

وهذا نظير ما ذكرناه في الشك في الإتيان بصلاة الظهر وهو في صلاة العصر ، حيث منعنا عن جريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لأنها مما لا محل له شرعاً ، نعم تجب أن تكون صلاة العصر بعد صلاة الظهر وأما أن صلاة الظهر تجب أن تكون قبل‌

١٣٩

[٥٩٣] مسألة ٥٤ : إذا تيقن بعد الوضوء أنه ترك منه جزءاً أو شرطاً أو أوجد مانعاً ثمّ تبدل يقينه بالشك يبني على الصحّة عملاً بقاعدة الفراغ (١) ولا يضرّها اليقين بالبطلان بعد تبدّله بالشك ، ولو تيقّن بالصحّة ثمّ شكّ فيها فأولى بجريان القاعدة (٢).

______________________________________________________

العصر بأن يكون محلها قبل صلاة العصر فلا ، ومن هنا لو صلّى الظهر ولم يأت بصلاة العصر أصلاً وقعت الظهر صحيحة وإن لم تقع قبل العصر ، إذ لا عصر على الفرض (١). ونظير الدخول في التعقيبات المستحبّة ، حيث إن الدخول في المستحب إذا كان كافياً في صدق تجاوز المحل لا نلتزم بجريان القاعدة في الصلاة فيما إذا شكّ فيها وهو في التعقيبات ، وذلك لأن التعقيب وإن كان محله الشرعي بعد الصلاة إلاّ أن الصلاة ليس محلها قبل التعقيب حتى يقال إن محلها مما مضى وتجاوز حتى تجري القاعدة في الصلاة.

فتحصل أن قاعدة التجاوز لا مجرى لها في الوضوء قلنا بأنه شرط مقارن للصلاة أم أنه شرط متقدّم مشروطاً بأن لا يتعقبه حدث ، فعلى ما ذكرناه يرفع اليد عما بيده من الصلاة ويحصّل الوضوء ثمّ يستأنف الصلاة.

إذا تيقّن بالخلل بعد الوضوء ثمّ تبدّل يقينه بالشكّ‌

(١) للشكّ فعلاً في صحّة عمله الماضي وفساده وعدم اليقين بفساده بالفعل ، ولا دليل على حجيّة اليقين بحدوثه إذ لم يثبت اعتبار قاعدة اليقين ، ولا يقين بالفساد بحسب البقاء لتبدّله بالشك على الفرض.

(٢) ولعلّه أراد الأولوية بحسب مقام الثبوت ، لأن القاعدة لو جرت مع القطع بالفساد سابقاً لجرت مع القطع بالصحّة سابقاً بطريق أولى. وأما الأولوية بحسب مقام الإثبات فلا ، لأن شمول القاعدة لكلتا الصورتين بالإطلاق.

__________________

(١) يأتي في المسألة [٢٠٢٥] ، كذا ذكره في مصباح الأُصول ٣ : ٣١٦.

١٤٠