موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أن العلم الإجمالي إذا تعلق ببطلان إحدى الصلاتين النافلتين ، أو الفريضة والنافلة غير المبتدأة والجامع العمل الإلزامي وغير الإلزامي في مقام الامتثال لا تجري الأُصول في أطرافه بالمعارضة ، أعني قاعدة الفراغ. وجريان الاستصحاب قد مرّ الكلام فيه (١).

وأمّا إذا تعلّق العلم الإجمالي بجامع الحكم الإلزامي وغير الإلزامي في مرحلة الجعل والتشريع ، كما إذا علمنا بوجوب أحد الفعلين أو باستحباب الآخر ، أو بحرمة أحدهما أو بكراهة الآخر أو إباحته أو استحبابه ، والجامع هو الحكم الإلزامي وغير الإلزامي ، فهل حاله حال العلم الإجمالي المتعلق بالحكم الإلزامي وغير الإلزامي في مقام الامتثال فلا تجري الأُصول في أطرافه كالبراءة ، كما لا تجري قاعدة الفراغ في أطراف العلم الإجمالي المتعلق بالحكم في مرحلة الامتثال ، أو أنه لا مانع من جريان البراءة في أطرافه؟

قد يقال بالأوّل وأن العلم الإجمالي المتعلق بالحكم الإلزامي وغيره في مرحلة الجعل والتشريع حاله حال العلم الإجمالي المتعلق بهما في مرحلة الامتثال ، وأنه منجز ومانع عن جريان البراءة الشرعية في أطرافه ، كما أن البراءة العقلية لا تجري في أطرافه لأن العلم الإجمالي بيان مصحح للعقاب هذا. ولكنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، ولا يمكن قياس أحد العلمين الإجماليين بالآخر. وسره أنه لا معنى لوضع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر وحال الجهل والشك فيه إلاّ جعل وجوب الاحتياط وإيجاب التحفظ على الواقع ، كما أنه لا معنى لرفع الحكم الواقعي في تلك المرحلة إلاّ رفع إيجاب الاحتياط والتحفظ على الواقع ، وعليه فالبراءة تجري في ناحية الحكم الإلزامي وتوجب الترخيص في العمل برفع إيجاب الاحتياط والتحفظ حينئذ ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية على خلاف في الشبهات الحكمية التحريمية فقط دون الوجوبية والموضوعية مطلقاً بيننا وبين المحدّثين.

__________________

(١) في ص ٩٢.

١٠١

ولا تعارضها البراءة في ناحية الحكم غير الإلزامي ، لعدم جريانها في الأحكام غير الإلزامية على ما أسلفناه في بحث حديث الرفع وقلنا إنها لا تجري في الأحكام غير الإلزامية ، وذلك لأن إجراءها لأجل رفع إيجاب الاحتياط غير ممكن لعدم كونه مورداً للحديث ، للقطع بارتفاعه بعدم وجوبه في الأحكام غير الإلزامية ولا شك في وجوبه لتجري فيه البراءة ، كما أن إجراءها لأجل رفع استحباب الاحتياط كذلك للقطع بوضعه ، إذ لا شك في حسن الاحتياط حتى يدفع بأصالة البراءة (١). فالبراءة الشرعية في طرف الحكم الإلزامي غير معارضة بجريانها في طرف الحكم غير الإلزامي. وأما البراءة العقلية فالأمر فيها أوضح ، لأنها تجري في ناحية الحكم الإلزامي ، حيث يحتمل في تركه أو في فعله العقاب ، وحيث إنه بلا بيان فيحكم بعدم العقاب فيه ، ولا يكون العلم الإجمالي بجامع الإلزام وغير الإلزام بياناً ، لما قدمناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما يتعلق بالجامع بين الأطراف ولا يتعلق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ، وإنما هي مجهولة ، والجامع بين الإلزام وغير الإلزام مما لا عقاب فيه ، ولا تعارض بجريانها في طرف الحكم غير الإلزامي لأنه لا يحتمل عقاب من ناحيته حتى يدفع بالبراءة.

والنتيجة أن البراءة شرعية كانت أو عقلية تجري في رفع الحكم المحتمل الإلزامي من غير معارض ، ومعه لا يترتب على العلم الإجمالي أثر لما بيّناه في محلِّه من أن العلم الإجمالي إنما ينجز متعلقه فيما إذا جرت الأُصول في أطرافه وتساقطت بالمعارضة (٢) ، وإلاّ فالعلم الإجمالي إنما يتعلّق بالجامع بين الأطراف كالجامع بين الإلزام وغير الإلزام ولا يتعلّق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ، ومعه لا يترتب عليه تنجّز إلاّ بتساقط الأُصول في أطرافه ، وقد عرفت أن الأُصول في مثل محل الكلام غير معارضة ولا ساقطة ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي بالإلزام وغير الإلزام في مرحلة الامتثال ، فإن الأُصول كانت متعارضة في أطرافه ، ومن ثمة حكمنا بتساقط قاعدة الفراغ في كلتا‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٧٠.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٣٤٥ ٣٥٥.

١٠٢

[٥٨٢] مسألة ٤٣ : إذا كان متوضئاً وحدث منه بعده صلاة وحدث ولا يعلم أيهما المقدّم وأن المقدّم هي الصلاة حتى تكون صحيحة أو الحدث حتى تكون باطلة ، الأقوى صحّة الصلاة لقاعدة الفراغ ، خصوصاً إذا كان تأريخ (*) الصلاة معلوماً لجريان استصحاب بقاء الطّهارة أيضاً إلى ما بعد الصلاة (١).

______________________________________________________

الصلاتين وإعادتهما استحباباً أو لزوماً ، إلاّ بناء على جريان الاستصحاب في الصلاة الأُولى ، فإن الإعادة تختص حينئذ بالثانية أيضاً لزوماً أو استحباباً. فالمتحصل أن قياس أحد العلمين الإجماليين بالآخر مما لا وجه له.

المتوضئ إذا صلّى وصدر منه حدث وتردّد في المتقدِّم منهما‌

(١) لا وجه لما صنعه قدس‌سره من الجمع في المسألة بين قاعدة الفراغ واستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الصلاة ، لأن القاعدة حاكمة على الاستصحاب كما لا يخفى.

ثمّ إن تفصيل الكلام في هذه المسألة أن مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة الصلاة مطلقاً ، سواء علم تأريخ الصلاة وجهل تأريخ الحدث والطّهارة ، أم انعكس وعلم تأريخهما دون تأريخ الصلاة ، أم جهل تأريخ كل من الطّهارة والحدث والصلاة إلاّ أنها تختص بما إذا احتمل من نفسه إحراز شرط الصلاة قبل الدخول فيها ، دون ما إذا علم أنه كان غافلاً عن طهارته التي هي شرط الصلاة أو قد صلاّها مع التردّد في طهارته ، وذلك لما أشرنا إليه غير مرّة من أنه يعتبر في جريان القاعدة أن يكون المكلّف أذكر حال العمل وأن لا تكون صورة العمل محفوظة عنده حين شكّه ، فإذا احتمل من نفسه إحراز الطّهارة قبل الصلاة فقد عرفت أنها مورد لقاعدة الفراغ في جميع الصور الثلاث ، وأمّا إذا علم بغفلته عن الشرط وكانت صورة العمل محفوظة‌

__________________

(*) لا خصوصية لذلك.

١٠٣

عنده فلا تجري القاعدة حينئذ وتصل النوبة إلى الاستصحاب ، وله صور ثلاث كما مرّ.

الصورة الاولى :

أن يعلم تأريخ الصلاة دون تأريخ حدثه وانقضاء طهارته. مقتضى استصحاب بقاء طهارته إلى زمان الفراغ عن الصلاة الحكم بوقوع الصلاة مع الطّهارة فتصح ، ولا يعارضه استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى زمان انقضاء الطّهارة على مسلك الماتن وصاحب الكفاية قدس‌سرهما (١) لأن تأريخ الصلاة معلوم فلا شك في وقوعها بحسب الأزمنة التفصيلية ، فلا يجري الاستصحاب فيها بحسب عمود الزمان للعلم بتأريخها ، وأما إجراء الاستصحاب فيها بالإضافة إلى الحادث الآخر وهو انقضاء الطّهارة وتحقق الحدث بأن يقال : الأصل عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة فهو أيضاً غير جار ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، لاحتمال تخلل اليقين بالصلاة بين زماني اليقين بعدم تحقق الصلاة مع الطّهارة والشك فيه ، ومن هنا قال الماتن : خصوصاً إذا كان تأريخ الصلاة معلوماً.

وأمّا على ما سلكناه من جريان الاستصحاب في كل من الحادثين معلوم التأريخ منهما ومجهوله فلا مانع من استصحاب عدم تحقق الصلاة إلى آخر زمان انقضاء الطّهارة الذي هو زمان الحدث ، وذلك لأن تأريخ الصلاة وإن كان معلوماً ولا شك فيها بحسب الأزمنة التفصيلية وعمود الزمان ، إلاّ أن العلم بتأريخها في تلك الأزمنة التفصيلية غير مناف للشك في تأريخها بحسب الأزمنة الإجمالية ، وهي ما بين زماني الطّهارة والحدث ، لأنا إذا راجعنا وجداننا مع العلم بتأريخها بحسب الأزمنة التفصيلية نرى أنا نشك في وقوعها فيما بين الطّهارة والحدث ، وحيث إنا كنا على يقين من عدمها في تلك الأزمنة الإجمالية فنستصحبه ونقول : الأصل عدم وقوع الصلاة فيما بينهما أي‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢١‌

١٠٤

إلى زمان انقضاء الطّهارة ، وليس هذا من الشبهة المصداقيّة للاستصحاب بوجه ، لأننا لا نحتمل يقيننا بوقوع الصلاة فيما بين الحدث والطّهارة في شي‌ء من الأزمنة.

وعلى الجملة لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب فيما علم تأريخه ، وهو نظير ما إذا علمنا بحياة شخصين أحدهما مقلدنا في الأحكام ثمّ علمنا بموت أحدهما تفصيلاً فلم نتمكن من إجراء الاستصحاب في حياة ذلك المسجّى للقطع بموته ، فهل يكون هذا مانعاً عن إجراء الاستصحاب في حياة أحدهما المعلومة إجمالاً من حيث تردده بين الميت والحي فلا نتمكن من إجراء الاستصحاب في بقاء حياة مقلدنا مع أنا شاكين في بقائه بالوجدان؟ كلا ثمّ كلا ، فلنا أن نشير إلى مقلدنا الذي لا نميزه ونقول كنا على يقين من حياته فنشك فهو حي بمقتضى الاستصحاب. فتحصل أن العلم بتأريخ أحدهما في الأزمنة التفصيلية غير مانع عن الشك في تأريخها من حيث الأزمنة الإجمالية.

ثمّ إنه إذا بنينا على جريان الاستصحاب فيما علم تأريخه فهل يحكم بتساقط الأصلين ويرجع إلى قاعدة الاشتغال المقتضية لإعادة الصلاة ، أو أن الحكم هو استصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ من الصلاة فلا تجب إعادتها؟

التحقيق هو الثاني ، وذلك لعدم معارضته باستصحاب عدم وقوع الصلاة إلى زمان انقضاء الطّهارة ، وهذا لا لأن الأصل لا يجري فيما علم تأريخه من الحادثين ، لأنه يجري فيه كما يجري في مجهوله ، بل لما أشرنا إليه في بحث استصحاب الزمان وقلنا إن الأفعال المقيّدة بقيود إن أُخذ فيها زائداً على اعتبار وجود هذا ووجود ذاك بأن يكون المقيّد موجوداً في زمان يكون القيد فيه موجوداً أمر آخر بسيط ولو كان هو عنوان الظرفية بأن يعتبر كون القيد ظرفاً للمقيّد ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب في قيده وإحراز الواجب المعتبر بالأصل أو بضمّ الوجدان إليه (١) ، فلو علمنا بطهارتنا ثمّ شككنا في الحدث من غير وجود العلم الإجمالي أصلاً فلا يمكننا استصحابها‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٢٣ ١٢٥.

١٠٥

والحكم بوقوع صلاتنا مع الطّهارة ، لأن استصحاب وجود الطّهارة لا يثبت وقوع الصلاة فيها أعني عنوان الظرفية إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فلا أثر للاستصحاب في الطّهارة ، كما قلنا إنه عليه لا يمكن إجراء الاستصحاب في وجود الزمان على نحو مفاد كان التامّة لإثبات أن الفعل المقيّد به كالصوم والصلاة وقعا في النهار أعني ظرفية الزمان لهما ، مع أن جريان الاستصحاب في بقاء الطّهارة مورد للنص الصحيح وهو صحيحة زرارة (١).

فمن ذلك وغيره مما ذكرناه في بحث الأُصول نستكشف أن المعتبر في الأفعال المقيّدة بقيود ليس إلاّ وجود هذا في زمان يكون الآخر فيه موجوداً من دون أن يعتبر فيها شي‌ء آخر ولو عنوان الظرفية ، وعليه فلو استصحبنا الزمان كالنهار وأحرزنا الصوم أو الصلاة بالوجدان فنضم الوجدان إلى الأصل وبه نحرز المأمور به وهو وجود المقيّد ووجود قيده ونقطع بتحققه وتسليمه إلى المولى لا محالة. وكذلك الحال في مثل الصلاة والطّهارة ، فإذا أثبتنا وجود الطّهارة بالاستصحاب وعلمنا بوجود الصلاة بالوجدان فقد تحقّق وجود كل منهما في زمان كان الآخر فيه موجوداً والمفروض أنه هو المأمور به ، فبضم الوجدان إلى الأصل أحرزنا تحقّق المأمور به وتسليمه إلى المولى في مقام الامتثال.

ولا يعارض استصحاب الطّهارة حينئذ استصحاب عدم تحقق المركب من الجزأين بأن نقول كنّا على يقين من عدم المركب من الجزأين خارجاً والأصل عدمه ، وذلك لأنه لا وجود للمركب غير وجود أجزائه والمفروض أن أحد جزأيه محرز بالوجدان والآخر محرز بحكم الشارع فلا شك لنا في تحقّق المركّب.

ودعوى أن المتيقن حينئذ إنما هو وجود أصل الصلاة وأما وجودها في زمان الطّهارة فهو مشكوك فيه والأصل عدم تحقّق الصلاة في زمان قيدها ، يدفعها أنه لا أثر لوجود الصلاة في زمان الطّهارة ، لما عرفت من عدم اعتبار الظرفية ولا‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٢ / أبواب النجاسات ب ٤٤ ح ١.

١٠٦

غيرها من العناوين في الأفعال المقيّدة بقيود ، بل المعتبر ليس إلاّ وجود هذا ووجود ذاك والمفروض أنا علمنا بوجود كل منهما ، أحدهما بالوجدان والآخر بالاستصحاب.

فتحصل : أن استصحاب عدم وقوع الصلاة في زمان الطّهارة غير جار لأنه ممّا لا أثر له ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة بلا معارض ومقتضاه الحكم بصحّة الصلاة. هذا كله في الصورة الأُولى.

الصورة الثانية :

ما إذا علم تأريخ انقضاء الطّهارة أي الحدث وجهل تأريخ الصلاة مع عدم جريان قاعدة الفراغ للعلم بغفلته عن الشرط حال الصلاة. فعلى مسلكهما قدس‌سرهما لا مجال للاستصحاب فيما علم تأريخه وهو انقضاء الطّهارة أي الحدث بالإضافة إلى الأزمنة التفصيلية وعمود الزمان بأن يجري الأصل في عدمه ، وأن يقال الأصل عدم انقضاء الطّهارة وعدم الحدث إلى زمان الصلاة ، أو يقال الأصل عدم انقضائها وعدم الحدث في هذه الساعة أو الساعة الثانية أو الثالثة للعلم بتأريخه ، ولا بالإضافة إلى الحادث الآخر وهو الصلاة لعدم إحراز الاتصال ، لاحتمال تخلل اليقين بوجود الحدث فيما بين زماني اليقين من عدمه والشك فيه ، كما لا يجري الأصل فيما جهل تأريخه فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وإعادة الصلاة.

وأما على ما سلكناه فلا مانع من جريان الأصل في كل مما علم تأريخه وما جهل في نفسهما ، إلاّ أنك عرفت أنه في المقام لا يمكن استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة لأنه لا أثر له ، فاستصحاب بقاء الطّهارة إلى زمان الفراغ عن الصلاة بلا معارض وهو يقتضي الحكم بصحّة الصلاة كما في الصورة الأُولى.

١٠٧

[٥٨٣] مسألة ٤٤ : إذا تيقن بعد الفراغ من الوضوء أنه ترك جزءاً منه ولا يدري أنه الجزء الوجوبي أو الجزء الاستحبابي فالظاهر الحكم بصحّة وضوئه لقاعدة الفراغ ولا تعارض بجريانها في الجزء الاستحبابي لأنّه لا أثر لها (*) بالنسبة إليه (١) ، ونظير ذلك ما إذا توضّأ وضوءاً لقراءة القرآن وتوضّأ في وقت آخر‌

______________________________________________________

الصورة الثالثة :

وهي ما إذا جهل تأريخ كل من الصلاة والحدث ولم تجر قاعدة الفراغ للعلم بالغفلة ، فعلى مسلكهما لا يجري شي‌ء من استصحابي عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة وعدم انقضاء الطّهارة إلى زمان الفراغ من الصلاة ، لعدم إحراز اتصال زمان الشكّ باليقين. وأما على ما سلكناه فاستصحاب بقاء الطّهارة وعدم انقضائها إلى زمان الفراغ من الصلاة هو المحكم في المسألة ، ولا يعارضه استصحاب عدم وقوع الصلاة إلى آخر زمان الطّهارة فإنه لا أثر له.

فالمتحصل : أن الاستصحاب المذكور يجري في جميع الصور الثلاث. ومنه يظهر أنه لا خصوصية بصورة العلم بتأريخ الصلاة كما ذكرها في المتن ، بحسبان أنها هي التي يجري فيها الاستصحاب المذكور دون غيرها.

إذا تردّد الجزء المتروك بين الواجب والمستحب‌

(١) فقد تقدّمت كبرى هذه المسألة وقلنا : إن العلم الإجمالي إنما ينجز التكليف فيما إذا جرت الأُصول في كل من أطرافه في نفسه وتساقطت بالمعارضة ، لأنه بعد سقوطها وقتئذ يحتمل التكليف في كل واحد من الأطراف بالوجدان ، وحيث إنه لا مؤمن له فنفس الاحتمال يقتضي الاحتياط لقاعدة الاشتغال ، وهذا معنى تنجيز العلم الإجمالي كما مرّ.

__________________

(*) بل لا موضوع لقاعدة الفراغ ، لأن موضوعها الشك في الصحّة.

١٠٨

وضوءاً للصلاة الواجبة ثمّ علم ببطلان أحد الوضوءين فإن مقتضى قاعدة الفراغ صحّة الصلاة‌

______________________________________________________

وأمّا إذا لم تتعارض الأُصول في أطرافه أو لم يجر في بعضها في نفسه فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً لا محالة ، لأنه إنما يتعلق بالجامع دون الخصوصيات والمفروض جريان الأصل في بعضها وهو مؤمن عن احتمال التكليف فلا موجب للاحتياط. وهذا من غير فرق بين أن تكون الأطراف إلزاميّة أو غير إلزاميّة ، أم كان بعضها إلزاميّاً وبعضها الآخر غير إلزامي ، فلو علم إجمالاً ببطلان أحد واجبين لا أثر لبطلان أحدهما كما إذا علم ببطلان فريضة أو بطلان ردّ السلام لأنه واجب فوري يعتبر فيه الإسماع مثلاً إلاّ أنه أمر غير قابل للإعادة والقضاء ، لأنه يجب ردّاً للتحيّة فإذا مضى زمان الردّ فلا وجوب لتداركه سواء وقع صحيحاً أم على وجه البطلان ، جرت القاعدة بالإضافة إلى الواجب الذي له تدارك دون ما لا يقبل التدارك.

وكذلك الحال في وجوب صلاة الزلزال على قول ، حيث قالوا بأنها فورية ، فإذا لم يأت بها فوراً فلا يمكن تداركها. ومنه وجوب أداء الفطرة لأن وقته إذا خرج لم يجب تداركها بعنوان الفطرة ، وأما ردّها بعنوان الصدقة فهو أمر آخر. ولا تكون قاعدة الفراغ في هذه المقامات في طرف الواجب الذي يمكن تداركه معارضة بجريانها في الواجب غير القابل للتدارك ، وذلك لأن قاعدة الفراغ إنما هي لأجل إسقاط الإعادة والقضاء ، والجامع التدارك ، فإذا كان العمل غير قابل للتدارك فلا معنى للقاعدة والمفروض أن الواجب كذلك ، لأنه مع القطع ببطلانه لا يترتب عليه أثر فضلاً عن صورة الشك فيه ، فإذا كان الأمر في الواجب كما سمعت ففي المستحب بطريق أولى.

فإذا علم أنه ترك جزءاً أو شرطاً في وضوئه ودار أمره بين الواجب والمستحب فلا محالة تجري قاعدة الفراغ في الجزء الوجوبي ، لأن له أثراً وهو وجوب إعادة الوضوء للفريضة لو لم يأت بها ، أو إعادته وإعادة الفريضة ، أو قضائها لو أتى بها بعد الوضوء. ولا تعارضها قاعدة الفراغ في الجزء المستحب ، حيث لا أثر لبطلانه‌

١٠٩

ولا تعارض بجريانها في القراءة (١) أيضاً لعدم أثر لها بالنسبة إليها.

______________________________________________________

وصحّته ولو مع القطع بفساده أو عدم الإتيان به فضلاً عما إذا شك في فساده أو تركه كما إذا ترك المضمضة أو الغسلة الثانية في وضوئه ، وذلك لأنه قد خرج وقته ، وهو إنما يستحب في الوضوء وقد تحقق فلا محل له بعد ذلك ، ولعلّه ظاهر.

(١) وذلك لأنها أمر غير قابل للتدارك سواء وقعت كاملة أم غير كاملة ، والقراءة مع الطّهارة مستحبّة في كل وقت كالنوافل المبتدأة ، لا أن إتيانها مع الطّهارة بعد ذلك إعادة وتدارك للقراءة المشكوكة طهارتها هذا.

ثمّ إن الماتن قدس‌سره قد أجرى القاعدة في نفسي القراءة والصلاة ، وقد اتضح مما أسلفناه سابقاً عدم إمكان المساعدة عليه لأن القاعدة لا تجري في شي‌ء منهما ، أما في القراءة فلمّا مرّ. وأمّا في الصلاة فلمّا تقدّم من أن القاعدة إنما تجري فيما إذا احتمل المكلّف إحرازه الشرائط والأجزاء حال الامتثال كما أنه يحتمل عدم إحرازه ، وأمّا إذا كانت صورة العمل محفوظة عنده بعد العمل وكان عالماً بغفلته حين الإتيان به كما هو الحال في المقام لأنه لا يشك في صلاته إلاّ من جهة وضوئه فهو عالم بأنه صلّى مع ذلك الوضوء المشكوك صحّته وفساده فهو خارج عن مورد قاعدة الفراغ ، وقد عرفت أنها تختص بما إذا كان المكلّف حال العمل أذكر ، نعم لو شك في صلاته من ناحية أُخرى لا مانع من جريانها في الصلاة. وعليه فالصحيح أن تجري القاعدة في الوضوءين.

وللعلم الإجمالي ببطلان أحدهما صورتان :

إحداهما : ما إذا توضأ وضوءاً للصلاة الواجبة ثمّ قبل خروج وقت الصلاة توضأ وضوءاً آخر للقراءة ، ثمّ بعد ذلك أحدث وبعد الحدث علم إجمالاً بفساد أحد الوضوءين وأنه إما أفسد وضوءه للفريضة أو أبطل وضوءه للقراءة ، وحينئذ تجري قاعدة الفراغ في وضوء الصلاة ، حيث إن لصحّته وفساده أثراً ظاهراً وهو وجوب‌

١١٠

[٥٨٤] مسألة ٤٥ : إذا تيقّن ترك جزء أو شرط من أجزاء أو شرائط الوضوء (١) فإن لم تفت الموالاة رجع وتدارك وأتى بما بعده وأمّا إن شكّ في ذلك‌

______________________________________________________

الإتيان به ثانياً ، بل وإعادة الفريضة إذا كان قد أتى بها بعد الوضوء. ولا تعارضها القاعدة في وضوء القراءة لأن صحّته وفساده مما لا أثر له ، فإن القراءة مع الطّهارة مستحبّة في كل وقت ، لا أنها مع الوضوء بعد ذلك تدارك للقراءة السابقة مع الحدث.

ومن ذلك يظهر أنه لا يفرق فيما ذكرناه بين فرض وقوع حدث بين الوضوءين وعدمه ، لأن القاعدة في الصورة التي ذكرناها غير جارية في وضوء القراءة كما عرفت ، أحدث بين الوضوءين أم لم يحدث.

والصورة الثانية : ما إذا توضأ مرّة للصلاة الواجبة ثمّ قبل أن يخرج وقتها توضأ مرّة أُخرى للقراءة ولم يحدث بعده ، فحصل له علم إجمالي ببطلان أحد الوضوءين. ففي هذه الصورة تكون قاعدة الفراغ في وضوء الفريضة معارضة بقاعدة الفراغ في وضوء القراءة ، لأن صحّته وفساده في مفروض المسألة مما يترتب له أثر ، حيث إنه لو صحّ لم يستحب الوضوء للقراءة بعد ذلك لأنه مع الطّهارة ، وإن كان باطلاً يستحب له الوضوء وتحصيل الطّهارة للقراءة لاستحباب القراءة مع الطّهارة ، وقد مرّ أن الأُصول إذا تعارضت في أطراف العلم الإجمالي وتساقطت كان احتمال التكليف بنفسه في كل من الطرفين موجباً للاحتياط لقاعدة الاشتغال ، لأنه من غير مؤمن لتساقط الأُصول ، سواء كان الحكم في أطرافه إلزامياً أم غير إلزامي. ولعل هذه الصورة خارجة عن إطلاق كلام الماتن وإلاّ فإطلاق عبارته مورد للمناقشة.

(١) فإن فاتت الموالاة يحكم ببطلان وضوئه لفقده شرطاً من شروط صحّته وهو الموالاة ، وأما إذا لم تفت فيعود إلى الجزء المتروك ويأتي به وببقيّة أجزائه تحصيلاً للترتيب المعتبر بأدلّته. هذا على أن المسألة منصوصة كما في صحيحة زرارة الآتية « وإن تيقنت أنك لم تتم وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً حتى تأتي على الوضوء » (١).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

١١١

فإمّا أن يكون بعد الفراغ أو في الأثناء فإن كان في الأثناء رجع وأتى به وبما بعده (١) وإن كان الشكّ قبل مسح الرِّجل اليسرى في غسل الوجه مثلاً أو في جزء منه.

______________________________________________________

(١) وذلك للنص ، وهو صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شي‌ء عليك فيه » الحديث (١) حيث دلّت على وجوب العود إلى الجزء المشكوك فيه في الوضوء ما دام لم يفرغ عنه. ولعل هذه الصحيحة هي مستند المجمعين في المقام ، وذلك لأن المسألة وإن كانت اتفاقية ولم ينقل فيها خلاف إلاّ أنا نطمئن أو نظن قويّاً ولا أقل أنا نحتمل ولو في جملة منهم أنهم قد اعتمدوا على هذه الصحيحة في المقام ، ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً بوجه. وهذا كله ظاهر لا كلام فيه.

وإنما الكلام في معارضة هذه الصحيحة بموثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » (٢) حيث قالوا بدلالتها على أنه إذا شك في جزء من الوضوء وقد دخل في غيره من الأجزاء فليس شكه بشي‌ء ، وعليه فتتعارض هذه الموثقة مع الصحيحة المتقدِّمة ، ومقتضى الجمع العرفي حمل الصحيحة على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢. وهذه الرواية معتبرة وإن كان في سندها أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وهو من الذين لم يرد فيهم توثيق في كتب الرِّجال ، وذلك لأن للشيخ أبي جعفر الطوسي قدس‌سره [ في الفهرست : ١٥٦ ] طريقاً صحيحاً آخر إلى جميع روايات محمّد بن الحسن بن الوليد والد أحمد ، فكل ما يروي الشيخ قدس‌سره عن ابن الوليد بواسطة ابنه أحمد تصبح معتبرة.

١١٢

استحباب العود والإتيان بالمشكوك فيه إلاّ أن الإجماع المتقدِّم ذكره مانع عن ذلك ولأجله تحمل الموثقة على التجاوز عن الوضوء أو على محمل آخر ، فالأخذ بالصحيحة إنما هو لأجل الإجماع لا لأنها على طبق القاعدة هذا.

ولكن هذا الكلام مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن الإجماع المتقدّم ذكره إجماع مدركي وليس إجماعاً تعبديّاً كما مر ، والصحيحة وردت على طبق القاعدة لا على خلافها ، بيان ذلك : أن الضمير في الموثقة في قوله عليه‌السلام : « في غيره » إما ظاهر في الرجوع إلى الوضوء وإما أنه مجمل ، لأن الوضوء أقرب إلى الضمير من كلمة « شي‌ء » ، ومعناه أنه إذا شككت في أمر من أُمور الوضوء بعد ما خرجت عن الوضوء ودخلت في غيره من الصلاة أو غيرها فشكك ليس بشي‌ء. فالموثقة غير منافية للصحيحة ولم تدل على عدم الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء.

ودعوى ان كلمة « شي‌ء » أصل و « من الوضوء » تابع لأنه جار ومجرور والضمير يرجع إلى الأصل والمتبوع لا إلى التابع ، ممّا لا أساس له في شي‌ء من قواعد اللغة العربية ، لأن المعتبر هو الظهور العرفي ، ولا ينبغي الإشكال في أن رجوعه إلى الأقرب أظهر ولو كان تابعاً ، وعليه فلا موجب لحمل الصحيحة على الاستحباب وإنما هي على طبق القاعدة.

وأما إذا تنازلنا عنه ولم ندع ظهور الضمير في رجوعه إلى الوضوء فلا أقل من إجماله ، ومعه أيضاً لا موجب لرفع اليد عن ظهور الصحيحة لأنه حجّة ، والحجّة لا يرفع اليد عنها إلاّ بما هو أظهر منها لا بالمجمل كما لا يخفى ، بل ظهور تلك الصحيحة يرفع الإبهام والإجمال عن مرجع الضمير في الموثقة ، لما قدمناه في مباحث العموم والخصوص من أن العام إذا خصص بمنفصل مجمل ودار الأمر بين التخصيص والتخصّص كان العام بظهوره مفسِّراً لإجمال الدليل المنفصل وموجباً لحملة على التخصّص (١) ، كما إذا ورد « أكرم العلماء » ثمّ ورد منفصلاً « لا تكرم زيداً » ودار الأمر‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٢٤٢.

١١٣

فيه بين زيد العالم وزيد الجاهل ، فإن ظهور العام في العموم لما كان حجّة ولم تقم على خلافه حجّة أقوى يكون متبعاً ، ولازمه حمل الدليل المنفصل على التخصيص « لزيد الجاهل » لأن الأدلّة اللفظية كما أنها تعتبر في مداليلها المطابقية كذلك تعتبر في مداليلها الالتزامية لا محالة.

وعليه فظهور الصحيحة في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشكّ في أثناء الوضوء حيث لم يزاحمه مانع أقوى يتبع ، ولازمه رجوع الضمير في قوله عليه‌السلام : « في غيره » في الموثقة إلى الوضوء لا إلى كلمة « شي‌ء » هذا كله. على أن في نفس الموثقة قرينة على رجوع الضمير إلى الوضوء ، وهو ذيلها أعني قوله عليه‌السلام : « وإنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » فإن هذا التعبير أعني الكون في شي‌ء وعدم التجاوز عنه حين الشك فيه إنما يصح إطلاقه فيما إذا كان شي‌ء مركب قد شك في جزء منه ولم يتجاوز عن ذلك المركب وهو ظاهره العرفي ، نعم لو كان عبر بقوله : إنما الشك في شي‌ء لم يجزه ، لم يكن له هذا الظهور ، ولكن تعبيره بالكون في شي‌ء مع عدم التجاوز عنه مع الشك مما لا إشكال في ظهوره في إرادة الشي‌ء المركب من عدّة أجزاء قد شك في جزء منه قبل الفراغ عن المركب.

فالمتحصل : أن مقتضى القرينة الخارجية أعني كون ظهور العام مفسراً للإجمال في الدليل المنفصل عنه والقرينة الداخلية وهي أقربية الوضوء إلى الضمير من كلمة « شي‌ء » وذيل الموثقة يقتضيان رجوع الضمير إلى الوضوء ، ومعه لا موجب لحمل الصحيحة على خلاف ظاهرها لعدم التنافي بينها وبين الموثقة ، كما أن الصحيحة واردة على طبق القاعدة لا أن العمل بها على خلاف القاعدة وإنما ثبت بالإجماع.

بقي هنا شي‌ء‌

وهو أنّا إن خصّصنا جريان قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة دون غيرها من المركّبات ، فلا إشكال حينئذ في الأخذ بإطلاق ذيل الموثقة الذي دلّ على عدم جريان قاعدة التجاوز مع عدم التجاوز عن المركب ، حيث قال : « وإنما الشك في شي‌ء لم‌

١١٤

تجزه » فمع التجاوز عنه لا يعتني بالشك لا قبل التجاوز عن المركب ، إلاّ أنا خرجنا عنه في مورد واحد وهو باب الصلاة لما ورد فيها من أنه لا يعتني بالشك في التكبيرة أو القراءة بعد ما دخل في الركوع ، ولا فيه بعد ما دخل في السجود وهكذا (١) فإطلاق الموثقة متبع في غير باب الصلاة.

وأمّا إذا عمّمنا القاعدة لجميع المركبات صلاة كانت أو غيرها لمثل قوله عليه‌السلام في بعض رواياتها : « إذا خرجت من شي‌ء ودخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » (٢) وكل شي‌ء ممّا قد مضى وشككت فيه فأمضه كما هو (٣) فيشكل الأمر في إطلاق ذيل الموثقة وأنه ما معنى لقوله عليه‌السلام : وإنما الشك في شي‌ء لم تجزه. مع الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في جميع الموارد عند الشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر ، لأنه لا مورد له حينئذ إلاّ الوضوء فلا معنى لإطلاق الذيل بلحاظ مورد واحد وهو الوضوء ، وأما في غيره فتتعارض الموثقة مع ما دل على جريان القاعدة في غير الوضوء.

فهذه قرينة على رجوع الضمير في قوله : « دخلت في غيره » إلى الشي‌ء لا إلى الوضوء ، ومقتضاه جريان القاعدة في الوضوء أيضاً ، فإن المراد بالشي‌ء هو الجزء ويصح إطلاق الذيل إلاّ أن الموثقة حينئذ معارضة مع صحيحة زرارة المتقدّمة ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل الصحيحة على الاستحباب ، إلاّ أنا ارتكبنا خلاف القاعدة بحمل الصحيحة على الوجوب بقرينة الإجماع.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٢) الواردة في صحيحة زرارة قال في ذيلها : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٣) وهي موثقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣. ونحوها صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، إلى أن قال : كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». الوسائل ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

١١٥

ولكن هذه الشبهة تندفع بان الذيل إما لا إطلاق له أصلاً وإما أن إطلاقه مقيّد وتوضيح ذلك : أن الرواية إنما سيقت لبيان عدم اعتبار الشك في الوضوء بعد الدخول في غير الوضوء على ما بيّناه آنفاً ، ومفهومه وإن كان هو لزوم الاعتناء بالشك إذا كان قبل التجاوز والفراغ عن الوضوء إلاّ أنه خارج عن محطّ نظره عليه‌السلام لأنها سيقت لبيان عدم الاعتناء بالشك بعد الوضوء ، والذيل تصريح بالمفهوم المستفاد من الصدر ، وقد ذكرنا أن المفهوم ممّا ليس الإمام عليه‌السلام بصدد بيانه ، فالتصريح به أيضاً خارج عما هو عليه‌السلام بصدد بيانه فلا إطلاق له ، لعدم كون المتكلم بصدد البيان من تلك الجهة ، وعليه فالذيل كالصدر مختص بالوضوء ولا منافاة في البين.

ثمّ على تقدير تسليم أن الإمام عليه‌السلام كما أنه بصدد البيان من ناحية منطوق الرواية وهو عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ عن الوضوء ، كذلك بصدد البيان من ناحية المفهوم المصرح به في الذيل وهو لزوم الاعتناء به أي بالشك إذا كان قبل التجاوز عن الشي‌ء فلا مناص من تقييده ، وهذا لأن مقتضى هذا الإطلاق لزوم الاعتناء بالشك ما دام لم يتجاوز عن المشكوك فيه ، سواء تجاوز عن محل المشكوك بالدخول في غيره أم لم يتجاوز عن محله ولم يدخل في شي‌ء آخر ، حيث إن التجاوز قد يكون تجاوزاً عن الشي‌ء كالوضوء الذي يشك في جزئه أو شرطه من غير الدخول في غيره أي مع بقاء محله ، وأُخرى يتحقق التجاوز بالدخول في الغير أي بتجاوز محله وحينئذ يقيّد إطلاق الذيل بما دلّ على اعتبار الدخول في الغير في عدم الاعتناء بالشك في غير الوضوء من المقامات ، كما في صدر الموثقة وغيره ، وبهذا ترتفع المعارضة بين قوله عليه‌السلام : « وإنما الشك » إلخ ، وبين ما دلّ على جريان القاعدة في غير الوضوء.

والنتيجة أن الشك إذا كان بعد الفراغ عن العمل فلا كلام في عدم الاعتناء به ، وأما إذا شك في أثناء العمل فيعتنى به في الوضوء مطلقاً بمقتضى صحيحة زرارة وغيرها وأما في غير الوضوء فأيضاً يعتنى به إذا لم يتحقق التجاوز بالدخول في الغير بمقتضى ذيل الموثقة ، وأما إذا تجاوز عن محله بالدخول في غيره فلا يعتنى به أيضاً بمقتضى ما‌

١١٦

وإن كان بعد الفراغ في غير الجزء الأخير بنى على الصحّة لقاعدة الفراغ ، وكذا إن كان الشك في الجزء الأخير إن كان بعد الدخول في عمل آخر أو كان بعد ما جلس طويلاً (*) أو كان بعد القيام عن محل الوضوء ، وإن كان قبل ذلك أتى به إن لم تفت الموالاة وإلاّ استأنف (**) (١).

______________________________________________________

دلّ على عدم لزوم الاعتناء بالشك بعد المضي عنه. وعلى الجملة يختص الذيل بما إذا شك في شي‌ء وتجاوز عنه.

الشكّ في الفراغ وصوره‌

(١) صور الشك بعد الفراغ ثلاث :

الصورة الأُولى :

ما إذا شك بعد الفراغ في صحّة عمله وفساده مع عدم إمكان التدارك لفوات الموالاة.

والصحيح جريان القاعدة حينئذ لتحقق الفراغ الحقيقي المعتبر في جريانها ، حيث إن المراد من الفراغ أو المضي أو التجاوز عن العمل ليس هو الفراغ أو التجاوز أو المضي عن العمل الصحيح ، إذ مع إحراز صحّة العمل المفروغ عنه لا يعقل الشك في صحّته ، فالمراد من تلك العناوين المضي عن ذات العمل الجامع بين الصحيح والفاسد أو الفراغ أو التجاوز عنه ، وحيث إن المفروض أنه فرغ عن العمل ومضى ذلك العمل وقد تجاوز عنه لعدم إمكان التدارك وهو موجب لتحقق الفراغ بحسب الصدق العرفي ويشك في صحّته وفساده فلا محالة تجري فيه القاعدة. ومقتضاها الحكم‌

__________________

(*) بمقدار تفوت به الموالاة فيه وفيما قبله وبعده إلاّ إذا دخل في عمل مترتب عليه كالصلاة ونحوها.

(**) لا يبعد عدم وجوبه.

١١٧

بصحّته ، والأخبار الواردة في اعتبارها مطبقة الانطباق على المقام ، لما عرفته من أن المراد بالتجاوز والمضي والفراغ وغيرها من العناوين الواردة في الروايات إنما هو التجاوز والمضي والفراغ عن ذات العمل لا عن العمل الصحيح ، وحيث إنه لا يتمكن من تداركه فيصدق أنه في حالة اخرى غير حالة الوضوء وأنه شك بعد ما يتوضأ وأنه شك بعد التجاوز عن المركّب وهكذا ، وهو المورد المتيقن من موارد قاعدة الفراغ لأنه يشكّ في صحّة ما مضى من عمله لفرض عدم إمكان تدارك الجزء المشكوك فيه لفوات الموالاة.

وهذا من غير فرق بين أن يشك في شي‌ء من الأجزاء السابقة على الجزء الأخير وبين أن يشك في إتيانه بالعمل الصحيح من جهة الشك في جزئه الأخير ، لأن المدار إنما هو على صدق الفراغ وقد عرفت تحققه بعد عدم إمكان التدارك بفوات الموالاة ، وإن ذكر في المتن أنه إذا شك في الجزء الأخير وفاتت الموالاة استأنف العمل ، وذكرنا في التعليقة أن عدم وجوب الاستئناف غير بعيد ، إلاّ أنه إنما هو بلحاظ المتن ، وأما الظاهر المستفاد من أخبار القاعدة فهو جريانها في المقام كما مر.

الصورة الثانية :

ما إذا شك بعد العمل في شي‌ء من أجزائه غير الجزء الأخير مع عدم فوات الموالاة وإمكان التدارك ، فالمعروف المشهور بين أصحابنا جريان القاعدة في هذه الصورة أيضاً.

والظاهر أنه هو الصحيح ، وذلك لمعتبرة بكير بن أعين الدالّة على عدم اعتبار شكّه فيما إذا شك بعد ما يتوضأ ، لأنه حينما يتوضأ أذكر منه حينما يشك (١) حيث إن « يتوضّأ » فعل مضارع ، وظاهر المضارع هو الاشتغال والتلبس بالفعل ما دام لم يدخل عليه « سين » أو « سوف » وعليه فظاهر المعتبرة أنه إذا شك بعد ما يتوضّأ أي‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

١١٨

بعد اشتغاله بالوضوء وبعد فراغه عنه لم يعتن بشكه ، والمفروض في هذه الصورة أنه يشك بعد ما يتوضأ أي بعد فراغه واشتغاله فهو مورد للقاعدة وذلك لتحقق الفراغ المعتبر في جريانها. وهذا لا لمجرّد البناء على الفراغ كما ربّما يتوهم في المقام ، بل لتحقق الفراغ بالنظر العرفي كما تقدّم ، فإن الإتيان بالجزء الأخير محقّق عرفي لصدق التجاوز والفراغ ومعه لا مجال للتأمّل في جريان القاعدة كما لا يخفى.

وأمّا ما ورد في صدر موثقة ابن أبي يعفور من قوله عليه‌السلام : « وقد دخلت في غيره » (١) فظاهره وإن كان هو اعتبار الدخول في غير الوضوء في جريان القاعدة لأنّا ذكرنا أن الضمير في « غيره » يرجع إلى الوضوء إلاّ أنه غير مناف للمعتبرة المتقدّمة الدالّة على جريان القاعدة إذا شك بعد ما يتوضأ من دون اعتبار الدخول في الغير.

والوجه في عدم منافاتهما أن المراد من غيره في هذه الموثقة بقرينة معتبرة بكير هو اعتبار الفراغ عن الوضوء وكون شكّه بعد ما يتوضأ بأن يدخل في حالة هي غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لا أن المراد به هو الغير المترتب على الوضوء شرعاً ، وذلك فإن الغير الذي يعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في الوضوء ليس هو الغير الذي اعتبر الدخول فيه في جريان القاعدة في باب الصلاة ، لأن المراد به في باب الصلاة هناك هو الغير المرتب على المشكوك فيه شرعاً كما مثل به هو عليه‌السلام من الشك في الركوع بعد ما سجد وهكذا.

وأمّا في المقام فالمراد به هو الدخول في حالة اخرى غير حالة الوضوء ، فإن به تحقّق عنوان التجاوز ويصدق عنوان الشك بعد ما يتوضأ ، وذلك لمعتبرة بكير والقطع الخارجي بعدم اعتبار الدخول في مثل الصلاة في جريان القاعدة في الوضوء ، لأنها تجري فيما إذا شك في وضوئه بعد الفراغ منه ولو كان داخلاً في عمل آخر من الكتابة والأكل ونحوهما هذا كلّه. مضافاً إلى ما صرح به عليه‌السلام في ذيل موثقة ابن‌

__________________

(١) تقدّمت في صدر المسألة ص ١١٢.

١١٩

أبي يعفور من حصره الشك المعتبر بما إذا كان في شي‌ء لم تجزه ، وقد أسلفنا أن ظاهره إرادة الشك في شي‌ء من المركب قبل إتمامه والخروج عنه ، فإذا خرج عنه فلا يعتني بشكه بمقتضى الحصر ، فإن الظاهر أن هذه الجملة لم ترد لبيان حكم جديد وإنما وردت لبيان المراد بالجملة الأُولى المذكورة في صدر الموثقة ، أعني قوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره ... » فالمتحصل منها أن الشك لا يعتبر بعد الخروج عن الاشتغال بالعمل وعدم صدق أنه يتوضأ ، فالموثقة غير منافية لمعتبرة بكير.

وأما ما ورد في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها ... » (١) فهو أيضاً كالموثقة غير مناف للمعتبرة ، لأن الظاهر أن تلك الجملة إنما وردت لبيان المفهوم المستفاد من صدر الصحيحة ومعناها أنه ما دام مشتغلاً بالوضوء يعتني بشكّه وإذا صدق أنه شكّ بعد ما يتوضأ تجري فيه قاعدة الفراغ ، فقد ادي معنى واحد بعبارات مختلفة فتارة عبر عنه بالدخول في غيره ، وثانياً بالقيام منه ، وثالثاً بالدخول في صلاة ونحوها. والجامع أن يدخل في حالة اخرى غير حالة الاشتغال بالوضوء ، لأنه المحقق لصدق عنوان الشك بعد ما يتوضأ ، فلا تنافي بين الأخبار.

الصورة الثالثة :

ما إذا شك في صحّة وضوئه وفساده من جهة الشك في أنه أتى بالجزء الأخير أم لم يأت به مع إمكان التدارك وعدم فوات الموالاة. والتحقيق أنه يعتني بالشك حينئذ ولا تجري فيها قاعدة الفراغ ، وذلك لأن جريان القاعدة في هذه الصور يبتني على أحد أُمور ثلاثة :

فإمّا أن يقال بأن اليقين بالفراغ حجّة بحدوثه وإن ارتفع بعد ذلك بالشك وهو‌

__________________

(١) تقدّمت في صدر المسألة ص ١١٢.

١٢٠