موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بقي الكلام في أُمور :

الأوّل : أن غسل ظاهر اللحية أو الشعر في مثل الحاجب والشارب هل هو على سبيل الحتم واللزوم ، بحيث لو غسل ذات البشرة وترك الغسل في ظاهرهما فسد وضوءه ، أو أنه على وجه الرخصة والجواز بمعنى أن غسل ظاهر اللحية أو الشعر مجزئ عن غسل البشرة لا أنه متعيّن على وجه اللزوم؟

الأوّل هو المتعيّن ، وذلك لأن ظاهر قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة : « فليس للعباد أن يغسلوه » إنما هو نفي المشروعية والجواز ، فلا يجوز للمتوضئ أن يغسل نفس البشرة ، هذا على نسخة اللاّم ، وأما على النسخة الأُخرى أعني قوله عليه‌السلام « فليس على العباد أن يغسلوه » فظاهرها وإن كان هو نفي الوجوب والإلزام عن غسل ذات البشرة ، ولا دلالة لها على نفي المشروعية والجواز غير أن نفي الوجوب يكفي في الحكم ببطلان الوضوء فيما إذا غسل نفس البشرة ، وذلك لأنه بعد عدم وجوبه تحتاج مشروعيته وجوازه إلى دليل وهو مفقود.

إن قلت : يكفي في الدلالة على ذلك الروايات المطلقة والآية المباركة الدالتان على وجوب غسل الوجه والبشرة كما تقدّم ، وهما كافيتان في الحكم بمشروعية غسل البشرة وكونه متعلقاً للأمر.

قلت : نعم ، ولكنك قد عرفت بما لا مزيد عليه أن المطلقات مخصصة بما دلّ على لزوم غسل ظاهر الشعر ، فقد رفعنا اليد عن مقتضى تلك الإطلاقات بالأخبار المتقدمة ، ومع التخصيص لا أمر ولا وجوب ، إذن يحتاج جواز غسل البشرة والاكتفاء به في مقام الامتثال عن غسل ظاهر اللحية والشعر كما إذا لصق بلحيته ما يحجب عن وصول الماء إلى ظاهرها إلى دليل وهو مفقود.

الأمر الثاني : لا ينبغي الإشكال في وجوب غسل البشرة وعدم كفاية غسل ظاهر الشعر فيما إذا كانت كل واحدة من الشعرات نابتة منفصلة عن الأُخرى بفاصل ، لعدم صدق الإحاطة بالشعر وقتئذٍ ، كما لا إشكال ولا خلاف في أن الشعر إذا كان كثيفاً بحيث يمنع عن وقوع النظر إلى ذات البشرة وجب غسل ظاهر اللحية والشعر‌

٦١

كالشارب والحاجبين ، ولم يجز الاقتصار بغسل ذات البشرة حسبما تقتضيه الأخبار المتقدِّمة التي قدّمنا الكلام على دلالتها بما لا مزيد عليه.

وأمّا إذا كان الشعر خفيفاً وغير مانع عن وقوع الابصار على نفس الوجه والبشرة ، ففي وجوب غسل الظاهر أو لزوم غسل ذات البشرة خلاف ونزاع ، وكلماتهم في ذلك مضطربة على ما نقلها الأصحاب قدس‌سرهم في كتبهم ، حتى أن بعضهم ادعى الإجماع على وجوب غسل البشرة إذا لم تكن مغطاة بالشعر أبداً ، بل كانت ظاهرة يقع عليها حس البصر ، وذكر أن محل الخلاف والنزاع إنما هو ما إذا كانت البشرة مستورة بالشعر الخفيف ومغطاةً به.

وبعضهم قد عكس الأمر في المسألة فنفى الريب عن الإجماع وعدم الخلاف في عدم لزوم غسل البشرة المستورة بالشعر الخفيف ، وذكر أن الخلاف منحصر بما إذا كانت البشرة ظاهرة وغير مغطاة بوجه ، لا بالشعر الكثيف ولا بالشعر الخفيف ، كما إذا نبت الشعر على الوجه من غير التفاف بعضه ببعض ، بأن كانت كل شعرة قائمة بأصلها مع الفصل بين منابتها بمقدار إصبع أو أكثر أو أقل.

ولا يخفى الفرق الشاسع بين الدعويين ، فان مقتضى الدعوى الاولى أن اللحية الخفيفة أو غيرها من الشعر الخفيف وهو الذي لا يمنع عن وقوع النظر إلى ذات البشرة هي التي وقع فيها النزاع والخلاف واختلفت فيها آراء الفقهاء ، ولا اتفاق على عدم وجوب غسل البشرة وقتئذٍ ، كما أن مقتضى الدعوى الثانية أن الشعر الخفيف كالشعر الكثيف مورد الاتفاق ، على أن معه لا يجب غسل البشرة ، وبين الدعويين بون بعيد. وعن ثالث أن النزاع لفظي في المقام ، هذا.

والذي ينبغي أن يقال : إن الأخبار البيانية الواردة في حكاية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تدع شكاً في أيّ مورد في وجوب غسل البشرة وعدمه ، لأنها دلتنا على أن اللاّزم غسله في محل الكلام إنما هو عبارة عما يصله الماء بطبعه عند إسداله على الوجه ، من دون فرق في ذلك بين ما عليه شعر خفيف وما كان عليه شعر كثيف ، حيث حكت ذلك عن وضوء النبي ، وكان الأئمة عليهم‌السلام أيضاً يكتفون‌

٦٢

به في وضوءاتهم.

ولحاهم عليهم‌السلام وإن لم تكن خفيفة ، إلاّ أن الشعر الخفيف كان موجوداً على وجوههم ، وذلك لأن من الواضح أن وجوههم عليهم‌السلام لم تكن إلاّ متعارفة ، ووجود الشعر الخفيف في الوجه المتعارف أيضاً غير قابل للإنكار ، كالشعر النابت على الخدين ، بل الموجود بين الحاجبين ، لأنه أيضاً خفيف إلاّ في بعض الناس وقد كانوا عليهم‌السلام يكتفون بغسل الظواهر من ذلك بمقدار يصل إليه الماء بحسب الطبع عند إسداله.

إذن فالمدار فيما يجب غسله بمقتضى تلك الروايات على المقدار الذي يصل إليه الماء بطبعه عند إسداله من أعلى الوجه من غير تعمق ولا تبطين ، وببركة تلك الأخبار لا يبقى لنا أي مورد نشك فيه في وجوب غسل البشرة وعدمه هذا ، ثم لو أغمضنا عن ذلك فنقول : الشعر النابت على الوجه على ثلاثة أقسام :

أقسام الشعر النابت على الوجه :

الأوّل : ما نقطع بصدق عنوان المحيط عليه ، لغزارته وكثافته المانعتين عن وقوع حس البصر على البشرة ، وهذا مما نعلم باحاطته على الوجه وكونه مشمولاً للأخبار الدالة على أن الوجه المحاط بالشعر لا يجب غسله بل يجزئ غسل ظاهر الشعر عن غسله.

الثاني : ما نقطع بعدم انطباق عنوان المحيط عليه ، إما لخفته أو لأن كل فرد من أفراده قد نبت مستقلا ومنفصلاً عن الآخر ، أي من غير التفاف بعضها ببعض ، بحيث تظهر البشرة الواقعة تحته بوضوح ولا يكون شعرها مانعاً عن رؤيتها ، وهذا أيضاً لا إشكال في حكمه ، فإن غسله لا يجزئ عن غسل البشرة في الوضوء ، لعدم إحاطته بالوجه على الفرض ، فلا مناص من غسل الوجه حينئذٍ.

وهل يجب غسل الشعر أيضاً وإن لم يكن محيطاً أو لا يجب؟ الظاهر هو الوجوب وهذا لا لأن الشعر من توابع الوجه الواجب غسله ، لأن التابع لا دليل على اتحاد‌

٦٣

حكمه مع المتبوع دائماً ، ولا من جهة الأصل العملي بدعوى أن المأمور به وهو الطهارة معلوم للمكلف وإنما يشك في سببه وأنها هل تحصل بغسل الوجه فحسب أو لا بدّ من غسل الشعر أيضاً ، ومع الشك في المحصل والسبب لا بدّ من الاحتياط ، وقاعدة الاشتغال فيه هي المحكمة ، وذلك لما مر من أن الطهارة ليست مسببة عن الوضوء ، بل الطهارة هي نفس الوضوء ، ومعه يرجع الشك إلى الشك في التكليف بالمقدار الزائد ويندرج المقام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويرجع في الزائد على القدر المتيقن إلى البراءة.

بل الوجه فيما ذكرناه صحيحة زرارة المتقدِّمة الآمرة بغسل الوجه من أول القصاص إلى الذقن بما دارت عليه الإصبعان ، أعني الوسطى والإبهام ، وذلك لضرورة أن الشعر النابت على الوجه أيضاً مما تدور عليه الإصبعان ، فإن هذا المقدار من الوجه واجب الغسل في الوضوء ، وهو يشمل الشعر النابت عليه أيضاً وإن لم يكن محيطاً بالوجه.

الثالث : ما نشك في صدق عنوان المحيط عليه ، وهذا إما من جهة الشبهة المفهومية ، كما إذا لم ندر أن المحيط هل هو الشعر الكثيف المانع عن مشاهدة البشرة دائماً ، أو أنه يعم ما إذا كان خفيفاً وغير مانع عن وقوع النظر على البشرة دائماً أو في بعض الأحيان ، كما عند ملاعبة الريح مع اللحية ، وإما من جهة الشبهة المصداقية ، بأن علمنا بالمفهوم وأن المحيط هو الذي يمنع عن وقوع حس البصر على البشرة دائماً ، إلاّ أنّا شككنا في مورد في أنه من المحيط المانع عن الرؤية أو أنه ليس كذلك ، وفي كلتا الشبهتين يجب غسل كل من البشرة والشعر.

أمّا في الشبهة المفهومية ، فلأجل أن مقتضى صحيحة زرارة المتقدمة المحددة لما يجب غسله من الوجه بما دارت عليه الإصبعان ، وغيرها مما دلّ على وجوب غسل الوجه في الوضوء ، أن المعتبر في الوضوء إنما هو غسل البشرة والوجه ، وقد قيدناها بالصحيحة الثانية لزرارة الدالة على أن ما أحاط به الشعر من الوجه لا يجب غسله بل يكفي عنه غسل ظاهر الشعر ، وإذا فرضنا أن المخصّص أو المقيّد مجمل فلا بدّ من‌

٦٤

الأخذ بالمقدار المتيقن منه ، وهو ما يمنع عن وقوع حس البصر على البشرة دائماً ، وأما في غيره فيرجع إلى العموم أو الإطلاق ، ومقتضاهما كما عرفت إنما هو وجوب غسل البشرة ، ففي موارد الشبهة لا بدّ من غسل البشرة حسبما تقتضيه المطلقات ، كما يجب غسل الشعر أيضاً بمقتضى ما قدمناه من الدليل ، وإن لم يكن محيطاً بالوجه.

وأمّا في الشبهات المصداقية ، فلمكان المطلقات ، وهذا لا لأجل التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، بل لأجل استصحاب عدم إحاطة الشعر بالوجه ، ولا سيما بملاحظة أنه من الاستصحاب النعتي دون المحمولي ، أعني استصحاب العدم الأزلي حتى يقال إنه مبني على القول بجريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وذلك لأن شعر كل إنسان حتى بعد إنبات لحيته لا يكون محيطاً بوجهه من الابتداء ، بل هو مسبوق بعدم الإحاطة أوّلاً ، والأصل عند الشك أنه كما كان ، وبعد ذلك تشمله الإطلاقات الدالة على أن الوجه إذا لم يحط به الشعر وجب غسله ، كما يجب غسل الشعر لما تقدم.

فالمتحصِّل أنه في جميع الصور المتصورة في المسألة لا بدّ من غسل كل من الوجه والشعر إلاّ في صورة واحدة ، وهي ما إذا كان الشعر محيطاً بالوجه ، لما عرفت من أن غسل البشرة والوجه غير واجب وقتئذٍ ، هذا.

ثم لا يخفى الفرق الواضح بين ما ذكرناه في المقام وما اعتمد عليه جملة من الأعلام ومنهم المحقق الهمداني قدس‌سره من العلم الإجمالي بوجوب غسل الوجه إذا لم يكن الشعر محيطاً ، أو بوجوب غسل الشعر إذا كان محيطاً ، ومقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحدهما هو الاحتياط وغسل كل من البشرة والشعر (١).

والفارق هو أنّا إذا قلنا بوجوب غسل كل من الوجه والشعر بأصالة الاشتغال لم يجز له أن يتمسح ببلة شي‌ء منهما ، لعدم العلم بكونه بلة الغسل المأمور به ، فان ما وجب غسله على المكلف إنما هو أحدهما لا كلاهما ، فأحدهما الآخر غير واجب الغسل ولا يجوز التمسح ببلته ، وحيث إنه غير معلوم فلا يجوز للمكلف أن يتمسح‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٣٩ السطر ١٩.

٦٥

[٤٩١] مسألة ١ : يجب إدخال شي‌ء من أطراف الحدّ من باب المقدّمة وكذا جزء من باطن الأنف ونحوه (١)

______________________________________________________

ببلة شي‌ء منهما ، وهذا بخلاف ما قررناه ، فإنه عليه يتمكن من المسح ببلة كل منهما لدلالة المطلقات والأدلة على وجوب غسل كل من الوجه والشعر.

هذا على أن ما ذكره المحقق الهمداني قدس‌سره غير تام في نفسه ، لأن تنجيز هذا العلم الإجمالي يتوقف على القول بعدم وجوب غسل الشعر مع الوجه كما إذا لم يكن محيطاً بالوجه وأما إذا قلنا بوجوبه كما اخترناه وعرفت فالعلم الإجمالي منحل لا محالة ، وذلك للقطع بوجوب غسل الشعر على كل تقدير ، سواء أكان محيطاً أم لم يكن ، ونشك في وجوب غسل الوجه وعدمه ، ولا مانع وقتئذٍ من الرجوع إلى أصالة البراءة.

غسل شي‌ء من الأطراف مقدمة :

(١) إذا شككنا في وجوب غسل شي‌ء من الوجه على نحو الشبهة المفهومية أو الموضوعية ، فالرجوع معه إلى الاحتياط أو البراءة يبتني على الخلاف المتقدم ، في أن المأمور به الواجب تحصيله على المكلفين هل هو عنوان بسيط ، أعني الطهارة التي هي معلومة لدى المكلف ، ولكنه يشك فيما يحصّلها ، وما هو سبب لتحققها في الخارج ، أو أن الواجب أمر مركب وهو نفس الغسلتين والمسحتين.

فعلى الأول إذا شككنا في وجوب غسل شي‌ء من الوجه لا بدّ من أن نرجع إلى قاعدة الاشتغال ، كما أنه على الثاني لا بدّ من الرجوع إلى أصالة البراءة ، لأن الشك في أصل توجه التكليف إلى الزائد ، بناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، هذا فيما إذا شككنا فيما يجب غسله من الوجه.

وأمّا إذا علمنا بالمقدار الواجب غسله من الوجه ، وهو ما دارت عليه الإصبعان‌

٦٦

وما لا يظهر من الشّفتين بعد الانطباق من الباطن فلا يجب غسله (١).

______________________________________________________

أعني الوسطى والإبهام عرضاً ، ومن القصاص إلى الذقن طولاً ، ولكن شككنا في أن صب كف من الماء مثلاً من أعلى الوجه وإمرار اليد عليه هل يكفي في حصول غسل ذلك المحدود أو لا يغسل به إلاّ المقدار الأقل منه ، فالأصل الجاري وقتئذٍ ليس إلاّ قاعدة الاشتغال ، وذلك لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فلا بدّ من غسل شي‌ء من أطراف الحد ولو يسيراً حتى يقطع بحصول غسل المحدود ، فإن صبّ الماء من أعلى الوجه وإمرار اليد عليه لا يمكن عادة ولا يتحقّق به غسل المحدود من دون زيادة أو نقيصة ، بل إمّا أن يغسل شيئاً زائداً عليه ولو يسيراً حتى نقطع بالفراغ ، وإما أن يغسل بمقدار يشك في أنه بمقدار المحدود أو أقل ، فالأمر يدور بين الوجهين. وأما غسله بمقدار المحدود على وجه طابق النعل بالنعل من دون أن يزيد أو ينقص فلا يتيسر عادة ، كما هو الحال في جميع التحديدات المكانية ، ومع دوران الأمر بين الوجهين المذكورين يتعيّن الوجه الأول لا محالة ، قضاء لقاعدة الاشتغال كما مرّ.

ومن هنا يظهر أن المراد بوجوب غسل شي‌ء من أطراف الحد من باب المقدّمة كما في المتن ، إنما هو وجوب غسل شي‌ء من أطراف المحدود من باب المقدّمة العلمية لا مقدّمة الوجود ، كما التزموا به في جملة من الموارد ، منها : الطواف الذي يجب الابتداء به من محاذاة الحجر الأسود وينتهي في محاذاته ، فقالوا إنه يبتدئ بالطواف من مقدم الحجر الأسود بشي‌ء يسير من باب المقدمة ، كما أنه في الشوط السابع ينهى شوطه إلى مؤخر الحجر بمقدار يسير أيضاً مقدمة ، هذا كله في الوجه ، وكذلك في مثل الأنف ونحوه فإنه يغسل شيئاً من داخله من باب المقدمة العلمية كما عرفت.

الباطن لا يجب غسله :

(١) أما أن الباطن لا يجب غسله فهو مما لا إشكال فيه ، لأن ما يجب غسله من الوجه إنما هو المقدار الذي يصل إليه الماء بطبعه عند إسداله من أعلى الوجه ولو بإمرار اليد عليه ، وهذا لا يكون إلاّ في ظاهر الوجه كما لا يخفى.

٦٧

[٤٩٢] مسألة ٢ : الشعر الخارج عن الحدّ كمسترسل اللِّحية في الطول ، وما هو خارج عن ما بين الإبهام والوسطى في العرض لا يجب غسله (١).

[٤٩٣] مسألة ٣ : إن كانت للمرأة لحية فهي كالرّجل (٢).

______________________________________________________

ويؤيِّده خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة ، إنما عليك أن تغسل ما ظهر » (١).

وأما عدم وجوب الغسل فيما لا يظهر من الشفتين بعد إطباقهما ، فلأجل أن هذا المقدار بعد الانطباق مما لا يصل الماء إليه بطبعه عند إسداله من أعلى الوجه ، وقد عرفت سابقاً أنه المقدار الواجب في غسل الوجه ، وكذلك في داخل العين ونحوها.

الشعر الخارج عن الحد :

(١) وذلك لأن الواجب أوّلاً إنما هو غسل البشرة ، لقوله عزّ من قائل ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) (٢) والأخبار المتقدِّمة قريباً (٣) إلاّ أنّا خرجنا عن مقتضاهما بما دلت عليه الروايات المتعدِّدة من أن غسل الشعر المحيط بالوجه يجزئ عن غسل ذات البشرة بالمعنى المتقدم ، وبها رفعنا اليد عما تقتضيه الآية المباركة والأخبار المتقدمة ، كما استكشفنا بها أن المراد بالغسل الواجب هو غسل الشعر المحيط بالبشرة ، وذلك لحكومتها عليهما.

ومن الظاهر أنها إنما تختص بالشعر المحيط بالمقدار المتعارف ، وأما ما كان خارجاً عن المتعارف في الطول ، أو كان خارجاً عما دارت عليه الإصبعان عرضاً كعريض اللحية ، فلا دليل على كون غسله مجزئاً عن غسل ذات البشرة ، ولعله ظاهر.

(٢) كما قد يتفق في بعض النساء ، والوجه فيما أفاده قدس‌سره أن بعض الروايات الواردة في الباب وإن كان مشتملاً على عنوان الرجل ، كما في صحيحة محمد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٣١ / أبواب الوضوء ب ٢٩ ح ٦.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

(٣) في ص ٣٨.

٦٨

[٤٩٤] مسألة ٤ : لا يجب غسل باطن العين والأنف والفم إلاّ شي‌ء منها من باب المقدّمة (١).

[٤٩٥] مسألة ٥ : فيما أحاط به الشّعر لا يجزئ غسل المحاط عن المحيط (٢).

[٤٩٦] مسألة ٦ : الشّعور الرقاق المعدودة من البشرة يجب غسلها معها (٣).

[٤٩٧] مسألة ٧ : إذا شكّ في أن الشّعر محيط أم لا ، يجب الاحتياط بغسله مع البشرة (٤).

______________________________________________________

ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن الرجل يتوضأ أيبطن لحيته؟ قال : لا » (١) إلاّ أن صحيحة زرارة المتقدمة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له : أرأيت ما كان تحت الشعر؟ قال : كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه ( أن يطلبوه ) ولا يبحثوا عنه ولكن يجرى عليه الماء » (٢) عامّة شاملة لكل من الرجال والنساء.

(١) قد أسلفنا الكلام على ذلك في بعض الفروع المتقدِّمة (٣) وذكرنا أن البواطن لا يجب غسلها إلاّ بمقدار يسير من باب المقدّمة العلمية فلاحظ.

(٢) قد سردنا تفصيل الكلام في ذلك سابقاً (٤) ولا حاجة معه إلى الإعادة فليراجع.

(٣) قد أسلفنا الوجه في ذلك ، وقلنا إن الدليل على وجوب غسل تلك الشعور هو ما دلّ على وجوب غسل الوجه بما دارت عليه الإصبعان ، فإنه يدلنا بوضوح على أن الوجه بهذا المقدار مما لا بدّ من غسله ولو كان فيه شعر خفيف.

الشكّ في أنّ الشّعر محيط :

(٤) سبق أن تكلّمنا على ذلك مفصّلاً ، وقلنا إن الشك في الإحاطة إما أن يكون‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٢.

(٣) في ص ٦٧.

(٤) في ص ٦١.

٦٩

[٤٩٨] مسألة ٨ : إذا بقي مما في الحدّ ما لم يغسل ولو مقدار رأس إبرة لا يصح الوضوء فيجب أن يلاحظ آماقه وأطراف عينه لا يكون عليها شي‌ءٌ من القيح أو الكحل المانع ، وكذا يلاحظ حاجبه لا يكون عليه شي‌ءٌ من الوسخ وأن لا يكون على حاجب المرأة وسمة أو خطاط له جرم مانع (١).

[٤٩٩] مسألة ٩ : إذا تيقّن وجود ما يشكّ في مانعيته يجب تحصيل اليقين (١) بزواله أو وصول الماء إلى البشرة (٢).

______________________________________________________

من جهة الشبهة المفهومية ، وإمّا أن يكون من جهة الشبهة الموضوعية ، وعلى كلا التقديرين لا بدّ من غسل كل من البشرة والشعر ، إلاّ أن الأخبار البيانية الحاكية لوضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تدع أيّ مورد للشك فيه فليراجع (٢).

(١) مقتضى إطلاق الآية المباركة والروايات البيانية الواردة في حكاية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجوب غسل الوجه واليدين بجميع أجزائهما ، فإذا بقي منها شي‌ء غير مغسول ولو يسيراً فلا مناص من الحكم بفساد الوضوء ، لأن الواجب ارتباطي ، ومع عدم غسل شي‌ء من الوجه واليدين لم يأت المكلف بالغسل المأمور به شرعاً ، فلا بدّ من ملاحظة آماقه وأطراف عينيه وحاجبيه حتى لا يكون عليها شي‌ء مما يمنع عن وصول الماء إليه ، من قيح أو كحل أو وسخ أو وسمة على الحاجب ونحوها.

صور الشك في المانعية :

(٢) الشك في المانعية على وجهين :

أحدهما : أن يتيقن بوجود شي‌ء ويشك في مانعيته وعدمها ، وهذا هو الشك في مانعية الموجود ، وحاصله الشك في صفة الحاجبية بعد القطع بأصل الوجود.

__________________

(*) الظاهر كفاية الاطمئنان بالزوال أيضاً.

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

٧٠

ثانيهما : الشك في أصل وجود الحاجب ، وهو الشك في الوجود أي وجود المانع.

أمّا الوجه الأوّل فمقتضى قاعدة الاشتغال وجوب تحصيل اليقين بزوال ما قطعنا بوجوده وشككنا في مانعيته أو بوصول الماء إلى البشرة ، وذلك للعلم باشتغال الذمة بوجوب غسل الوجه أو اليدين ، والشك في فراغ الذمة عن ذلك عند عدم العلم بوصول الماء إلى البشرة وعدم إزالة الشي‌ء الموجود.

ولكن قد يقال : إن صحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام تدلنا على خلاف ذلك حيث روى عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام « أنه سأله عن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال : إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ » (١) لدلالتها على أن الفساد والبطلان إنما يخصان صورة العلم بحاجبية الموجود ، وأما إذا لم يعلم بذلك ، سواء علم عدم الحاجبية أو شك فيها فوضوءه محكوم بالصحة ولا يعتني بشكه ، ولا يلزم أن يخرج الخاتم من إصبعه ، وموردها كما ترى هو الشك في حاجبية الموجود.

ويرده : أن علي بن جعفر عليه‌السلام قد سأل أخاه في صدر الرواية « عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها ، لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه » ومع هذا السؤال لم تكن أية حاجة ومحل إلى السؤال عن الخاتم الموجود على الإصبع ، للقطع بعدم الفرق بين الخاتم والسوار والدملج ، ولا بين المرأة وغيرها.

ومن هنا أجابه عليه‌السلام بأن الخاتم إن كان كالسوار والدملج في إمكان إيصال الماء إلى البشرة تحته بتحريكه فحاله حالهما ، في أنه يتخيّر بين تحريكه ونزعه في إحراز وصول الماء إلى البشرة ، وأما إذا كان الخاتم على نحو لا يصل الماء تحته حتى إذا حرّكه ، فلا محالة يتعيّن نزعه تحصيلاً للقطع بوصول الماء إلى البشرة.

إذن قوله عليه‌السلام « إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه » غير ناظر إلى أن في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٧ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ١.

٧١

ولو شكّ في أصل وجوده يجب الفحص أو المبالغة حتى يحصل الاطمئنان بعدمه أو زواله ، أو وصول الماء إلى البشرة على فرض وجوده (١).

______________________________________________________

صورة الشك في الحاجبية لا يجب على المكلف أن يفحص ويخرج الخاتم من إصبعه وإلاّ لكان مناقضاً لصدرها الصريح في وجوب الفحص وإيصال الماء إلى البشرة عند الشك في الحاجبية ، بل هو ناظر إلى ما عرفت من أن الخاتم إذا كان كالسوار والدملج فحاله حالهما في التخيير بين التحريك والنزع ، وأما إذا علم أنه على نحو لا يصل الماء تحته ولو بالتحريك فلا مناص من نزعه وإخراجه ، هذا.

ثم لو سلمنا أن ذيل الصحيحة ناظر إلى عدم وجوب إحراز وصول الماء إلى البشرة لدى الشك في حاجبية الشي‌ء الموجود ، فهو كما عرفت مناف لصدرها وبذلك تصبح الرواية مجملة فتسقط عن صلاحية الاعتماد عليها في مقام الاستدلال ولا بدّ معه من أن نرجع إلى الأصل العملي وقد عرفت أن مقتضى قاعدة الاشتغال هو إحراز وصول الماء إلى البشرة بإزالة الشي‌ء الموجود أو بغيرها مما يوجب الإحراز في مقام الامتثال.

أمّا الوجه الثاني فيأتي عليه الكلام في التعليقة الآتية فلاحظ.

(١) هذا هو الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين للشك في المانعية ، أعني الشك في أصل وجود الحاجب ، والمعروف بين الأصحاب قدس‌سرهم أن الشك في وجود المانع مما لا اعتبار به ، وقد استدلّ عليه بأُمور :

الأوّل : الإجماعات المنقولة على أن الشك في وجود الحاجب غير قابل للاعتناء به. ويدفعه : أن الإجماعات المدّعاة أُمور حدسية ومعلومة المدرك أو محتملته فلا تكون كاشفة عن رأي المعصوم عليه‌السلام ولهذا لا يسعنا الاعتماد على مثلها في استنباط الأحكام الشرعية بوجه.

الثاني : الاستصحاب ، لأن الحاجب قد كنّا على يقين من عدمه ، فإذا شككنا في طروئه بنينا على عدمه بمقتضى الأدلّة الدالّة على حرمة نقض اليقين بالشك.

٧٢

وفيه : أن وجود الحاجب وعدمه مما لا أثر له ، وإنما الأثر الشرعي مترتب على وصول الماء إلى البشرة وعدمه ، واستصحاب عدم الحاجب لإثبات وصول الماء إلى البشرة من الأُصول المثبتة التي لا نقول باعتبارها ، فان وصول الماء إليها من اللوازم العقلية لعدم طروء الحاجب.

ودعوى أن الواسطة خفية ومعه يكون المثبت حجة مما لا يصغي إليه ، لما ذكرناه في المباحث الأُصولية (١) من أنه لا أثر لخفاء الواسطة وجلائها ، والأُصول المثبتة غير معتبرة بإطلاقها ، فإن الاعتبار في موارد الاستصحاب إنما هو بالمتيقن والمشكوك فيه ولا اعتبار بغيرهما من اللوازم والملزومات ، بل اللّوازم بأنفسها مورد لاستصحاب العدم ، فيقال مثلاً إن وصول الماء إلى البشرة اللاّزم لعدم طروء الحاجب في محل الكلام لم يكن متحققاً قبل ذلك قطعاً ، فاذا شككنا في تبدله إلى الوجود نبني على عدم وصوله إليها في زمان الشك أيضاً.

الثالث : وهو العمدة ، دعوى سيرة المتدينين المتصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام الجارية على عدم الاعتناء بالشك في وجود الحاجب ، لأن الإنسان في أكثر الفصول لا يخلو عن البق والبرغوث وغيرهما من الحيوانات المؤذية الصغار ، ويتسبّب بمصِّها أو قتلها وهي على جسم الإنسان وقوع قطرة أو قطرتين من الدم على اللباس أو على أعضاء الغسل أو الوضوء ، وهي مانعة عن وصول الماء إلى البشرة غالباً ، كيف وربما يصعب إزالتها بعد الجفاف.

مع أنّا لم نسمع ولم نر أحداً من المتدينين يفحص عن ذلك في بدنه عند اغتساله أو توضئه بل ينسبون المتفحص عن ذلك إلى الوسواس ، مع وجود الاحتمال ، إذ قد يحصل القطع للمكلف بخلو بدنه من دم القمل والبق وقذى البراغيث.

وهذه السيرة قد ادّعاها جمع من المحقِّقين ، ومنهم صاحب الجواهر (٢) والمحقّق‌

__________________

(١) في مصباح الأُصول ٣ : ١٥٨.

(٢) الجواهر ٢ : ٢٨٨.

٧٣

الهمداني قدس‌سرهما (١) وهي إن ثبتت وتمت فلا كلام ، ولكن الخطب كل الخطب في ثبوتها ، فلا بدّ من ملاحظة أنها ثابتة أو غير ثابتة ، وملاحظة ذلك هي العمدة في المقام.

والظاهر أن السيرة غير ثابتة ، وذلك لأن الناس في عدم اعتنائهم باحتمال الحاجب مختلفون ، فجملة منهم لا يعتنون باحتماله من جهة غفلتهم عن أن في أبدانهم حاجباً ومع الغفلة لا احتمال ولا شك حتى نعتني به أو لا نعتني به ، إذن فعدم اعتنائهم بالشك من باب السالبة بانتفاء موضوعها ، ومن الظاهر أن هذا القسم خارج عن محل الكلام ، لأن الدليل إنما هو جريان سيرتهم على عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب عند الشك والاحتمال لا عند الغفلة وعدم الاحتمال.

وجملة منهم لا يعتنون باحتماله من جهة الاطمئنان بعدم طروء الحاجب على أبدانهم أو مواضع وضوئهم ، فلا يشكون في وجود الحاجب ولا يحتملونه احتمالاً عقلائياً حتى يعتنى به ، وإن كان الاحتمال الضعيف موجوداً ، وهذا أيضاً أجنبي عمّا نحن بصدده.

وجملة ثالثة لا يطمئنون بعدمه ولا يغفلون عنه ، بل يشكون ويحتملون وجوده ، ولم يثبت لنا أن المتدينين من هذا القسم الثالث لا يعتنون باحتمالهم وشكهم ، هذا والسيرة دليل لبي لا بدّ من اليقين به ولا علم لنا بثبوت السيرة في هذه الصورة.

ومن هنا ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره أنه لو ثبتت سيرتهم على عدم الاعتناء بالشك في وجود الحاجب للزم أن لا يعتنوا باحتمال مثل وجود القلنسوة على رؤوسهم أو ثوب على أعضائهم أو جورب في أرجلهم ، مع أنه مما لا يمكن التفوّه به (٢)

فالمتحصل أن السيرة من أهل النظر وغير المقلدة على عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب غير ثابتة ، وأما المقلدة فلا يمكن الركون على عملهم وسيرتهم ، لاحتمال تقليدهم وتبعيتهم في ذلك لمن يرى تمامية السيرة كصاحب الجواهر والمحقق‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٨٣ السطر ٣.

(٢) كتاب الطهارة : ١٤١ السطر ٢٢.

٧٤

[٥٠٠] مسألة ١٠ : الثقبة في الأنف موضع الحلقة أو الخزامة لا يجب غسل باطنها بل يكفي ظاهرها سواء كانت الحلقة فيها أو لا (١).

الثاني : غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع (٢).

______________________________________________________

الهمداني وغيرهما من الأعلام ( قدس الله أسرارهم ) ومعه لا بدّ من الرجوع إلى الأصل وهو كما عرفت يقتضي عدم وصول الماء إلى البشرة ، فلا بدّ من التدقيق وإحراز أن الماء قد وصل الى البشرة.

(١) لما تقدّم من أن ما يجب غسله على المكلّف في الوجه فإنما هو المقدار الذي يصله الماء بطبعه عند إسداله من القصاص ، والبواطن ومنها باطن الثقبة في الأنف ليس كذلك ، لأن الماء لا يصل إليه بطبعه عند إسداله من القصاص ، فلا يجب غسلها.

الثاني من واجبات الوضوء :

(٢) لا إشكال ولا كلام في وجوب غسل اليدين في الوضوء بحسب الكتاب والسنّة ، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، بل لعله من ضروريات الدين ، وإنما الكلام في جهات :

الاولى : وجوب غسل المرفقين مع اليدين ، ذكر الشيخ الطوسي قدس‌سره في محكي خلافه أن الفقهاء بأجمعهم التزموا بوجوب غسل المرفقين مع اليدين إلاّ زفر وهو ممن لا يعبأ بمخالفته وقد ثبت عن الأئمة عليهم‌السلام أن « إلى » في الآية بمعنى مع (١)

والأمر كما أفاده قدس‌سره فإن الأخبار البيانية الواردة في حكاية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحة الدلالة على وجوب غسل المرفقين مع اليدين ، إذن فكلمة « إلى » في الآية المباركة بمعنى مع. وهذا لا بمعنى أن كلمة « إلى » مستعملة بمعنى مع ، بل بمعنى أن الغاية داخلة في المغيى على ما يوافيك تفصيله قريباً إن شاء الله.

__________________

(١) الخلاف ١ : ٧٨ / ٢٦.

٧٥

فوجوب غسل المرفقين مع اليدين مما لا إشكال فيه ، إنما المهم بيان معنى المرفق.

بيان معنى المرفق :

والمتحصل ممّا ذكروه في تفسير المرفق معان ثلاثة :

الأوّل : أنّ المرفق هو الخط الموهومي الفاصل بين عظم الذراع المحاط بعظمي العضد المحيطين ، فان من وضع يده على مفصل العضد والذراع يرى أن في العضد عظمان محيطان بعظم الذراع.

وعلى هذا لا معنى للنزاع في أن الغاية أي المرفق داخلة في المغيى أعني ما يجب غسله ، وذلك لأنه لا معنى لغسل الخط الموهوم ، فانّ الغسل إنما يقع على الأجسام الخارجية دون الأُمور الوهمية. نعم يجب غسل كل من عظمي العضد وعظم الذراع لوقوعها تحت ذلك الخط الوهمي وهو المرفق على الفرض ، وأما نفس ذلك الخط والمرفق فقد عرفت أنه لا معنى لغسله.

الثاني : أن المرفق هو عظم الذراع المتداخل في عظمي العضد ، وهو المعبّر عنه بطرف الساعد الداخل في العضد ، على ما نسب إلى ظاهر العلاّمة في المنتهي (١) ومحتمل كلامه في النهاية (٢) ، وعلى هذا لا مانع من النزاع في أن المرفق أعني عظم الذراع داخل في المغيى أم خارج عنه ، لأنه بمعنى أن عظم الذراع أيضاً مما يجب غسله مع اليدين أو لا يجب.

الثالث : أن المرفق هو مجموع العظام الثلاثة المتركبة من عظم الذراع المحاط وعظمي العضد المحيطين بعظم الذراع كما هو مختار الماتن قدس‌سره.

ولا يستفاد شي‌ء من هذه المعاني من الآية المباركة ولا من الأخبار المشتملة على ما اشتملت عليه الآية المباركة من تحديد اليد إلى المرفق ، ولا يدلّنا شي‌ء من ذلك على أن المرفق هو الخط الوهمي ، حتى لا يبقى معه مجال للنزاع في أنه داخل في المغيى‌

__________________

(١) حكاه عنه في المستمسك ٢ : ٣٤٥ ولاحظ المنتهي ٢ : ٣٧.

(٢) نهاية الأحكام ١ : ٣٨.

٧٦

أو خارج عنه ، أو أن المرفق بمعنى عظم الذراع أو مجموع العظام ، كما لا يمكن أن يستفاد من شي‌ء منها في نفسها أن المرفق داخل في المغيى أو خارج عنه ، إذ الغاية عند أهل المحاورة قد تكون داخلة في المغيى وقد تكون خارجة عنه ، غير أن التسالم القطعي والإجماعات المدعاة والأخبار البيانية دلتنا على أن المرفق واجب الغسل مع اليدين ، فوجوب غسله معهما مما لا كلام فيه ، وإن لم يعلم أنه بأيّ معنى من المعنيين الأخيرين ، فإنه على المعنى الأول لا معنى لغسله كما مرّ ، إذن فتلك الأُمور قرينة على أن كلمة « إلى » إنما هي بمعنى حتى أو مع في الآية المباركة ، وأن الغاية داخلة في المغيى كما أشرنا إليه. وقد تقدّم أنّ هذا لا بمعنى أن كلمة « إلى » مستعملة بمعنى حتى أو مع حتى يقال إنه لم يعهد استعمالها بهذا المعنى ، بل الكلمة مستعملة في معناها الموضوع له لكن المراد الجدي منها هو معنى حتى أو مع ، وعليه فلا يبقى إشكال في دخول الغاية في المغيى.

إذن لا بدّ من تعيين ما هو الداخل في وجوب الغسل وأنه أيّ عظم ، وهل هو خصوص عظم الذراع كما نسب إلى العلاّمة قدس‌سره (١) أو مجموع العظام في المفصل؟

الثاني هو الظاهر ، وذلك لأن تفسير المرفق بعظم الذراع مضافاً إلى أنه على خلاف معنى المرفق لغة لأنه من الرفق والالتئام ، والملتئم في المفصل مجموع العظام الثلاثة فلا موجب لتخصيصه بأحدها وهو عظم الذراع دون عظمي العضد مخالف لصريح الصحيحة الواردة في المقام ، وهي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل قطعت يده من المرفق كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ما بقي من عضده » (٢) لأن الظاهر من اليد التي قطعت في مقابل العضد هو الذراع ، والظاهر أيضاً أن الذراع قد قطع بتمامه وانفصل عن عظمي العضد ، بحيث لم يبق من عظم الذراع شي‌ء ، فلو كان المرفق بمعنى عظم الذراع فما معنى وجوب غسل‌

__________________

(١) لاحظ التذكرة ١ : ١٥٩ ، نهاية الأحكام ١ : ٣٨.

(٢) الوسائل ١ : ٤٧٩ / أبواب الوضوء ب ٩ ، ح ٢.

٧٧

مقدماً لليمنى على اليسرى (١).

______________________________________________________

العضد حينئذ ، لأنه أمر آخر غير المرفق والذراع.

فهذا يدلنا على أن العضد بعظميه من المرفق ، وحيث أُخرج وانفصل بعضه أي المرفق وجب غسل الباقي منه ، وقوله عليه‌السلام « يغسل ما بقي ... » أيضاً شاهد على هذا المدعى ، وبه نستكشف أن العضد هو باقي المرفق.

إذن يصح ما اختاره الماتن قدس‌سره من أن المرفق هو المؤتلف من مجموع العظام الثلاثة وهو المشهور أيضاً بين الأصحاب قدس‌سرهم بحيث لو فرضنا أن اليد قد قطعت وجب غسل الباقي من المرفق وهو العضد ، وسيتعرّض له الماتن قدس‌سره فيما يأتي من الفروع إن شاء الله (١).

تقديم اليمنى على اليسرى :

(١) هذه هي الجهة الثانية التي لا بدّ من أن يتكلم عنها في المقام ، وهي مسألة تقديم اليد اليمنى على اليسرى في غسلها ، وهذه المسألة وإن كان يأتي عليها الكلام عند التكلم على شرائط الوضوء إن شاء الله (٢) غير أنّا نتعرّض لها في المقام تبعاً للماتن قدس‌سره فنقول : إن المسألة متسالَم عليها بين الأصحاب قدس‌سرهم والعمدة فيها هي الروايات الكثيرة الواردة في الأمر بإعادة غسل اليد اليسرى وغيره من أفعال الوضوء ، فيما إذا غسلها قبل أن يغسل اليد اليمنى.

فمنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه ، فذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه » (٣).

__________________

(١) في ص ٨٦.

(٢) في ص ٣٨٣.

(٣) الوسائل ١ : ٤٥٢ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٩.

٧٨

ويجب الابتداء بالمرفق ، والغسل منه إلى الأسفل عرفاً ، فلا يجزئ النكس (١).

______________________________________________________

ومنها : موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن نسيت غسل وجهك فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد على غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ... » (١).

ومنها : صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين ، قال : يغسل اليمين ويعيد اليسار » (٢).

ويبدو من بعض الروايات الواردة في المقام ، أن المسألة من المسائل المسلمة عند الرواة حيث سئل عليه‌السلام « عمن بدأ بالمروة قبل الصفا ، قال : يعيد ، ألا ترى أنه لو بدأ بشماله قبل يمينه في الوضوء أراه أن يعيد الوضوء » (٣) ونظيرها ما ورد في حديث تقديم السعي على الطواف قال : « ألا ترى أنك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد على شمالك » (٤) فان ظاهرهما أن وجوب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى في الوضوء كان من المسلمات المفروغ عنها عندهم.

ومنها : غير ذلك من الروايات.

لزوم البدأة بالمرفق :

(١) هذه هي الجهة الثالثة من الجهات التي نتكلم عنها في المقام ، وهي وجوب غسل اليدين من المرفق إلى طرف الأصابع وعدم كفاية النكس ، ويدلّنا على ذلك جميع ما قدّمناه (٥) في وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل وعدم جواز النكس ، من التسالم والإجماع القطعيين والروايات البيانية الحاكية عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويزيد المقام على غسل الوجه بموافقة ابن سعيد لأنه‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٤٥٢ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ، ح ٦.

(٥) في ص ٤٩.

٧٩

( قدس‌سره ) قد قال بجواز النكس في الوجه ، ولكنه التزم في اليدين بعدم الجواز (١) وكذلك السيد المرتضى قدس‌سره في أحد قوليه (٢) وكيف كان فالكل متسالم على عدم جواز غسل اليدين منكوساً.

أضف إلى ذلك صحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر عليه‌السلام عند حكاية فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ... ثم غمس كفه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق ، ثم غمس كفه اليمنى » (٣) فان اهتمامهما بحكاية عدم رد الباقر عليه‌السلام يده إلى المرفق أقوى دليل على أن ذلك من الخصوصيات المعتبرة في الوضوء ، قد أراد عليه‌السلام أن يعرِّفها ويبيِّنها في تلك الروايات.

وفي بعض الأخبار : « قلت له : يرد الشعر؟ قال : إذا كان عنده آخر فعل ، وإلاّ فلا » (٤) لأن الظاهر أن رد الشعر عبارة عن الغسل منكوساً ، كما أن المراد بقوله : « إذا كان عنده آخر » أنه إذا كان عنده شخص آخر يتقي منه لا مانع من أن يغسل يده منكوساً. وفي صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام « ... ولا ترد الشعر في غسل اليدين ... » (٥).

ويؤيد ما ذكرناه عدة روايات قد وردت في أن كلمة « إلى » في الآية بمعنى من ، وهذا لا بمعنى أنها مستعملة فيه ، لأنه استعمال غير معهود ، بل بمعنى أن المراد الجدي منها هو ذلك كما مر ، كرواية الهيثم بن عروة التميمي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فقلت هكذا؟ ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق ، فقال : ليس هكذا تنزيلها ، إنما هي ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )

__________________

(١) الجامع للشرائع : ٣٥.

(٢) الانتصار : ٩٩.

(٣) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

(٤) المستدرك ١ : ٣١١ / أبواب الوضوء ب ١٨ ح ٢.

(٥) الفقيه ١ : ٢٨ / ٨٨ وقد روى صدرها في الوسائل ١ : ٤٠٣ / أبواب الوضوء ب ١٧ ح ١.

٨٠