موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وأمّا الصدغان فان فسرناهما بآخر الجبين المعبر عنه في كلماتهم بما بين العين والأُذن فهما مندرجان في الوجه فيجب غسله على كلا التفسيرين ، كما أنهما إذا كانا بمعنى الشعر المتدلِّي من الرأس أيضاً دخل مقدار منهما في المحدود وخرج مقدار آخر ، فما أورده قدس‌سره على تفسير المشهور غير وارد.

وأمّا قوله : « ما دارت » ، فهو ليس بمعنى الدائرة الهندسية كما تخيل ، بل بمعنى التحريك والإطافة ، كما أن قوله عليه‌السلام « وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديراً » بمعنى تحريك الإصبعين على وجه الدائرة ، وهذا بلحاظ أن الجهة العالية من الوجه أوسع من الجهة السافلة منه ، لأنها أضيق كما هو ظاهر ، فاذا وضع المتوضئ إصبعيه على القصاص كان الفصل بينهما أكثر وأوسع ، وكلما حركهما نحو الذقن تضيقت الدائرة بذلك إلى أن يتصلا إلى الذقن ، كما أنه إذا وضعناهما على الذقن كان الفصل بينهما أقل وأضيق ، وكلما حركناهما نحو القصاص اتسعت الدائرة بذلك لا محالة ، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بالدائرة لشباهته إياها.

وأما ما فسّر به الرواية من وجوب غسل الدائرة المتشكلة من وضع إحدى الإصبعين على القصاص والأُخرى على الذقن ، فتتوجه عليه المناقشة من جهات :

المناقشة مع البهائي قدس‌سره من جهات :

الاولى : أنّا لو سلمنا تمامية ما أفاده قدس‌سره فلا ينبغي التردد في أنه على خلاف الظاهر والمتفاهم العرفي من الرواية ، ومن هنا لم يخطر هذا المعنى ببال أحد من لدن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان الصادقين عليهما‌السلام والفقهاء قدس‌سرهم أيضاً لم يفسروها بذلك إلى زمان شيخنا البهائي قدس‌سره.

الثانية : أن القسمة المتوسطة من الجبين إنما هي على شكل الخط المستقيم ، ومعه لا يمكن أن يراد من الرواية ما ذكره قدس‌سره لأن لازم وضع الإصبع على القصاص وإدارته على الوجه بشكل الدائرة أن يمر الإصبع على الجبين ، على نحو‌

٤١

يكون المقدار الواقع منه بين الخطين الحادثين من إمرار الإصبعين عليه بشكل القوس للدائرة ، لا بشكل الخط المستقيم ، لأن جزء الدائرة لا مناص من أن يكون قوساً لها ولا يعقل أن يكون خطاً مستقيماً أبداً ، ومع فرض إمرارهما على الجبين على هذا النحو ، بحيث يكون المقدار الواقع من الجبين بينهما بشكل القوس كما إذا أمرّهما مما يلي طرف عينيه بشكل الدائرة يبقى مقدار من طرفي الجبين في خارج الدائرة ولا بدّ من الحكم بعدم وجوب غسله ، مع وضوح أن الجبين واجب الغسل بتمامه حتى عند شيخنا البهائي قدس‌سره فما ذهب إليه مما لا يمكن الالتزام به.

الثالثة : أن مقتضى صريح الرواية أن المبدأ للوضع في كل من الإصبعين شي‌ء واحد ، كما أن المنتهي كذلك ، فمبدؤهما القصاص ومنتهاهما الذقن ، فيوضعان على القصاص ويحركان وينتهي كل منهما إلى الآخر في الذقن ، وهذا إنما يتم على ما ذكره المشهور ، وأما على ما أفاده قدس‌سره فلا محالة يكون مبدأ الوضع ومنتهاه في كل من الإصبعين غير المبدأ والمنتهى في الإصبع الآخر ، فالمبدأ لوضع أحدهما هو القصاص والمنتهى هو الذقن ، كما أن المبدأ لوضع الإصبع الآخر هو الذقن والمنتهى هو القصاص ، بأن يوضع أحد الإصبعين على القصاص فيحرك إلى طرف الذقن وينتهي إليه ، كما يوضع الآخر على الذقن ويحرك إلى طرف القصاص وينتهي إليه ، وهذا لعله خلاف صريح الرواية كما مرّ.

الرابعة : أن المشاهدة الخارجية قاضية بعدم تساوي البعد والفصل الحاصلين بين الإصبعين مع البعد الموجود بين الذقن والقصاص غالباً ، فان كل شخص إذا وضع إحدى إصبعيه على القصاص والأُخرى على ذقنه ليرى بالعيان أن ما بين الإصبعين أطول من وجهه. وعليه فاذا وضع إحداهما على القصاص تجاوز الأُخرى عن الذقن ووصل إلى تحت الذقن بمقدار ، كما أنه إذا وضع إحداهما على الذقن تجاوز الأُخرى عن القصاص ووصل إلى مقدار من الرأس ، فعلى ما فسره قدس‌سره لا بدّ من التزام وجوب الغسل في شي‌ء من تحت الذقن أو فوق الجبين ، وهذا مما لا يلتزم به هو ولا غيره من الفقهاء قدس‌سرهم فالصحيح إذن هو ما ذهب إليه المشهور من‌

٤٢

المتعارف يرجع كل منهم إلى المتعارف ، فيلاحظ أن اليد المتعارفة (*) في الوجه المتعارف إلى أيّ موضع تصل وأنّ الوجه المتعارف أين قصاصه ، فيغسل ذلك المقدار (١).

______________________________________________________

وجوب غسل الوجه من القصاص إلى الذقن بالمقدار الذي تدور عليه الوسطى والإبهام.

وظيفة الأنزع والأغم ونحوهما :

(١) والوجه في رجوعهما إلى المتعارف ، أن الوجه محدود بحدود لا يتسع بعدم إنبات الشعر على القصاص ، كما لا يتضيق بإنباته على الجبهة ، فلا يقال في الأنزع أن وجهه طويل ، بل يقال لا شعر على ناصيته ، كما لا يقال في الأغم أن وجهه قصير ، بل يقال نبت الشعر على جبهته ، إذن فمثل الأنزع والأغم لا بدّ من أن يرجع في المقدار المغسول من الوجه إلى الأشخاص المتعارفين في وجوههم وقصاصهم ، وهذا مما لا كلام فيه.

وإنما الكلام في أن الأشخاص المتعارفين أيضاً مختلفون في أنفسهم ، فقد يكون وجه بعضهم أطول من غيره بمقدار لا يخرجه عن الوجه المتعارف لدى العرف ، فيقع الكلام في أن المدار هل هو على الأطول أو الأقصر بحسب الوجه؟

الظاهر أن الواجب حينئذٍ إنما هو غسل كل مكلف وجه نفسه ، سواء أكان أطول أم أقصر من غيره ، بمقدار لا يضرّ بكونه متعارفاً لدى العرف ، وذلك لأن العموم فيما دلّ على وجوب غسل الوجه في الوضوء انحلالي ، فيجب على كل واحد من المكلفين أن يغسل وجه نفسه من دون نظر إلى وجه غيره ، هذا كله بالإضافة إلى الاختلاف في الطول.

وأمّا بالإضافة إلى عرض الوجه ، فإن الأشخاص المتعارفين بحسب الوجه قد‌

__________________

(*) في العبارة قصور ، والمقصود غير خفيّ.

٤٣

يختلفون بكثرة الفصل والابتعاد بين الإصبعين أعني الوسطى والإبهام وقلتهما فترى أن شخصين متحدان من حيث الوجه غير أن الإصبع من أحدهما أطول من إصبع الآخر ، فهل المدار والاعتبار بأطولهما في الإصبع بحيث يجب على أقصرهما إصبعاً أن يغسل المقدار الزائد على ما دارت عليه إصبعاه ، أو أن الاعتبار بأقصرهما إصبعاً ، فلا يجب على أطولهما أن يغسل المقدار الزائد على ما دارت عليه إصبعا أقصرهما بحسب الإصبع؟

الصحيح أن المدار على أقلّهما فصلاً أعني أقصرهما إصبعاً وذلك لما تقدم من أن الوجه شي‌ء واحد وليس له إلاّ حد واحد ، ولا يعقل أن يكون له حدّان أو أكثر والمفروض أنهما متساويان في الوجه ، فمقتضى إطلاق ما دلّ على وجوب غسل الوجه في الوضوء أن أقلهما فصلاً أيضاً مأمور بغسل وجهه بالمقدار الذي تدور عليه إصبعاه فلا يجب عليه الزائد على ذلك بمقتضى تلك المطلقات ، فاذا كان هذا هو حد الوجه الواجب غسله في أحدهما ، كان هذا هو الحد في وجه الآخر أعني أكثرهما فصلاً لا محالة لتساويهما من حيث الوجه سعة وضيقاً ، ولا يمكن أن يكون للوجه حد آخر لما عرفت ، وعلى ذلك لا يجب على أطولهما فصلاً غسل المقدار الزائد عما دارت عليه إصبعا أقلهما فصلاً.

وهكذا الحال فيما إذا كانا متفقين من حيث الإصبع ومختلفين في الوجه من جهة المساحة العرضية ، فإن الميزان وقتئذٍ إنما هو الاقتصار بأقلهما فصلاً أو أقصرهما وجهاً ، لأنه مشمول للمطلقات الواردة في وجوب غسل الوجه ، فاذا ثبت أنه الحد الواجب الغسل في أحدهما ثبت في الآخر أيضاً ، لتساويهما في الفصل المتخلل بين الإصبعين.

ولكن هذا المقدار من الاختلاف في عرض الوجه لا يكاد يترتب عليه ثمرة عملية ، وذلك من جهة لزوم الغسل في المقدار اليسير الزائد عن الحد الواجب في كل من الوجه واليدين من جهة المقدمة العلمية ، فزيادة أحد الوجهين عن الآخر بمقدار يسير كما هو الحال في الأشخاص المتعارفين لا يترتب عليها أثر عملي ، هذا كله في الأشخاص المتعارفين من حيث الوجه واليدين.

٤٤

الخارج عن العادة في الوجه واليدين :

وأمّا من خرج عن العادة فيهما ، كما إذا كان وجهه ضعف الوجوه المتعارفة في الأشخاص ، أو كان وجهه أقصر من الوجوه المتعارفة بكثير ، كما إذا كان بمقدار نصفها مثلاً ، فهل المدار على أكبرهما وجهاً ، فيجب على أقصرهما وجهاً أن يغسل وجهه وأُذنيه مع خلفهما ، لأن المفروض أن المدار على أكبرهما وجهاً ، ووجهه ضعف وجه أقصرهما ، أو أن المدار على أقصرهما وجهاً ، فلا يجب على أكبرهما وجهاً إلاّ غسل مقدار النصف مثلاً من وجهه ، لأن المقدار الواجب غسله إنما هو وجه أقصرهما والمفروض أن وجهه ضعف الوجوه المتعارفة فضلاً عن الوجوه القصيرة والصغيرة؟

الصحيح في مفروض الكلام هو الرجوع الى المتعارف ، وهذا لا بمعنى أنه يغسل من وجهه بمقدار الوجه المتعارف لدى الناس كما يعطيه ظاهر عبارة الماتن قدس‌سره لاستلزام ذلك وجوب غسل الأُذنين بل وخلفهما أيضاً في حق من قصر وجهه عن الوجوه المتعارفة بنصفها مثلاً ، أو وجوب غسل نصف الوجه في حق من كبر وجهه وكان ضعف الوجوه المتعارفة ، بل بمعنى أن يلاحظ أن اليد المتناسبة لهذا الوجه تصل إلى أيّ مقدار منه ويحيط به فيغسل وجهه بهذا المقدار ، والوجه في ذلك ما قدّمناه في محلِّه من أن التحديد قد يكون تحديداً عاما بالإضافة إلى الجميع كما هو الحال في مثل الكر المحدود بسبعة وعشرين شبراً ، أو بغيره من التحديدات ، وفي المسافة المرخصة للقصر المعيّنة بالذراع ، لوضوح أن الكر والمسافة لا يختصان بشخص دون شخص ، فإن أحكامهما طارئان على الماء والسفر ، فاذا بلغا ذلك الحد فالأوّل كر في حق الجميع كما أن الثانية مسافة مرخصة للقصر كذلك ، وإذا لم يبلغا إليه فهما ليسا كذلك في حق الجميع ، والمدار وقتئذٍ إنما هو بأقل الأشخاص المتعارفة شبراً أو ذراعاً ، وكذلك غيرهما من التحديدات العامة على ما أشرنا إليه في محلها.

وقد يكون التحديد شخصياً وحكماً انحلالياً ، كما هو الحال في المقام ، لأن قوله عزّ من قائل ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (١) عام انحلالي ، بمعنى أن كل واحد من المكلّفين‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٤٥

ويجب إجراء الماء فلا يكفي المسح به ، وحدّه أن يجري من جزء إلى جزء آخر ولو بإعانة اليد ، ويجزئ استيلاء الماء عليه وإن لم يجر إذا صدق الغسل (١).

______________________________________________________

يجب أن يغسل وجه نفسه ، فاذا كان وجهه أكبر عن المتعارف أو أصغر منه فلا بدّ من أن يرجع إلى المتعارف بالمعنى المتقدم ، وهو مراد الماتن قدس‌سره أيضاً ، وإن كانت عبارته كغيره من الفقهاء الذين اعتبروا المراجعة في المقام إلى المتعارف لا تخلو عن مسامحة ، لأن ظاهرها يعطي لزوم الغسل بمقدار الوجه المتعارف لدى الناس ، وقد عرفت عدم إمكان إرادته فليلاحظ.

وجوب الغسل في الوضوء :

(١) الاحتمالات في ذلك ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الغسل المعتبر في الوجه واليدين هو الغسل المعتبر في تطهير الأجسام المتنجسة ، بأن يعتبر فيه استيلاء الماء على البشرة وانفصال غسالته عنه كما هو الحال في تطهير المتنجسات ، فانّ مجرّد وصول الماء إليها من غير انفصال غسالتها غير كافٍ في تحقق الغسل وصدق عنوانه لدى العرف.

وربما يشهد لذلك ما ورد في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام : « كل ما أحاط به من الشعر فليس للعباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجرى عليه الماء » (١) لدلالتها على اعتبار الجريان في الوضوء فلا يكفى مجرد وصول الماء إلى البشرة ، بل لا بدّ في صحته من إيصال الماء إليها وجريانه ، أي انتقاله من جزء إلى جزء آخر حتى تنفصل غسالته.

الثاني ، وهو مع الاحتمال المتقدم على طرفي النقيض : أن يكون المعتبر في غسل الوجه واليدين مجرد إيصال النداوة إلى البشرة ولو بإمرار اليد عليها ، فكما أن النداوة تكفي في المسح ، كذلك تكفي في الغسل المعتبر في الوضوء ، وهذا لا بمعنى أن المعتبر في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٣.

٤٦

الوجه واليدين أيضاً هو المسح ، كيف وهو على خلاف ما نطق به الكتاب ودلت عليه السنة القطعية ، لدلالتهما على أن الوضوء غسلتان ومسحتان وأن الغسل معتبر في الوجه واليدين كما يعتبر المسح في الرأس والرجلين ، فللمسح موارد معيّنة ولا يجزي في غيرها أعني الوجه واليدين ، بل لأن الواجب فيهما إيصال النداوة إلى البشرة وحيث إن ذلك لا يتحقق في الغالب بل الدائم إلاّ بالمسح ، فيكون المسح مقدمة لما هو الواجب في الوجه واليدين ، والدليل إنما دلّ على أن المسح ليس بواجب فيهما ، ولم يدلنا أيّ دليل على حرمته حتى لا يجوز الإتيان به مقدمة لتحقق ما هو الواجب في الوجه واليدين.

وقد يستدل على هذا الاحتمال بعدة من الأخبار الكثيرة التي فيها الصحيحة والموثقة ، الدالة على أن الوضوء يكفي فيه مسمى الغسل ولو مثل الدهن منها : صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وأن المؤمن لا ينجّسه شي‌ء ، إنما يكفيه مثل الدهن » (١) ومنها : موثقة (٢) إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام « أن عليّاً عليه‌السلام كان يقول : الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أُجزي من الدهن الذي يبل الجسد » (٣) ومنها غير ذلك من الروايات.

ولكن الاستدلال بهذه الروايات يتوقف على أن يكون وجه الشبه في تشبيه الماء بالدهن كفاية البلة والنداوة الواصلة إلى البشرة ، ولو بإمرار اليد عليها وجريانه وانتقاله من جزء إلى جزء آخر ، فتدلنا هذه الروايات على أن هذا المقدار من البلة المائية كاف في صحة الوضوء ، إلاّ أنه لم تقم أية قرينة في شي‌ء من الأخبار المتضمنة للتشبيه على أن ذلك هو وجه الشبه بينهما ، بل من المحتمل القوي أن يكون وجه الشبه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٤ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ١.

(٢) عدّ هذه الرواية موثقة باعتبار أن غياث بن كلوب الواقع في سندها وإن لم يوثق في الرجال ولكن الشيخ [ في العدّة ١ : ٥٦ السطر ١٢ ] نقل أن الطائفة قد عملت برواياته.

(٣) الوسائل ١ : ٤٨٤ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٥.

٤٧

في الروايات هو قلة الدهن في التدهين ، فان في موارد التدهين لا يستعمل الدهن إلاّ قليلاً ، فتؤخذ بمقدار الراحة من الدهن فيدهن به ، كما ورد التصريح بذلك في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في كيفية الوضوء ، حيث قال أبو جعفر عليه‌السلام « يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع ... » (١) فكذلك الحال في الوضوء ، فيكتفى فيه بالمقدار القليل من الماء ، ولا يعتبر فيه استعمال الماء الكثير وأوسعية الماء في الصحيحة إنما هي بلحاظ سرعة جريانه ، وقد ورد في صحيحة الحلبي الأمر بالاسباغ عند كثرة الماء ، والاكتفاء بالقليل عند قلته ، حيث قال : « أسبغ الوضوء إن وجدت ماءً ، وإلاّ فإنه يكفيك اليسير » (٢) ، وعلى الجملة التشبيه إنما هو في الكم والمقدار دون الكيف وإيصال النداوة بالتمسح.

وما ذكرناه إما هو الظاهر من الأخبار المتقدمة ، أو لا أقل من أنه القدر المتيقن منها ، كيف وحملها على كفاية إيصال النداوة بالمسح ينافي الصحيحة المتقدمة التي دلّت على اعتبار جريان الماء في الوضوء ، كما ينافي ذلك ما ورد في الآية المباركة والروايات من الأمر بغسل الوجه واليدين ، فان الغسل يعتبر فيه استيلاء الماء على البشرة وانفصاله عنها كما لا يخفى ، ومجرد إيصال النداوة إلى البشرة غير كاف في تحقق مفهوم الغسل ، لوضوح أن النداوة ليست بماء ، وأيضاً ينافيه الأخبار البيانية الواردة في الوضوء المشتملة على حكاية فعلهم عليهم‌السلام من أنه أخذ كفاً من الماء وغسل به وجهه ويديه (٣).

الثالث : أن يكون المعتبر في غسل الوجه واليدين أمراً متوسطاً بين الاحتمالين المتقدّمين ، بأن يكون الواجب هو استيلاء الماء على البشرة دون مجرّد إيصال النداوة إليها ، إلاّ أنه لا يعتبر انفصال الغسالة عنها ، بل لو أوصل الماء إلى بشرته ولو بالتمسّح على نحو لم ينفصل عنها ولو قطرة واحدة كفى هذا في صحّة وضوئه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩١ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٤٨٥ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٤.

(٣) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

٤٨

ويجب الابتداء بالأعلى (١)

______________________________________________________

وعلى الجملة فاللازم أن يكون الماء مستولياً على البشرة والبدن من دون اعتبار انفصال الغسالة عنها بوجه ، وتدلّ على ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « في الوضوء قال : إذا مس جلدك الماء فحسبك » (١) ، لظهورها في أن مجرّد وصول الماء إلى البشرة كافٍ في صحة الوضوء وإن لم ينفصل عنها كما لا يخفى ، وهي حاكمة على ما دلّ على اعتبار جريان الماء أو الغسل في الوضوء ، بحيث لولا هذه الصحيحة لقلنا باعتبار تحقق الغسل والجريان أعني انفصال الغسالة في صحّته ، لأنه معنى الغسل على ما عرفت.

ولكن هذه الصحيحة قد دلّتنا على أن الغسل الواجب في الوضوء إنما هو بمعنى وصول الماء إلى البدن لا بمعنى انفصال الغسالة عنه ، وقد عرفت أن الأخبار الواردة في كفاية مثل الدهن من الماء أيضاً ظاهرة في هذا المعنى ، ولا أقل من أنه القدر المتيقن من التشبيه دون إيصال مجرد النداوة إلى البشرة باليد.

وجوب البدأة بالأعلى :

(١) على ما هو المعروف بين المتقدمين والمتأخرين ، وخالفهم في ذلك السيد المرتضى قدس‌سره وذهب إلى جواز النكس (٢) وتبعه الشهيد (٣) وصاحب المعالم (٤) والشيخ البهائي (٥) وابن إدريس (٦) وغيرهم ( قدس الله أسرارهم ) واستدل على ما ذهب إليه المشهور بوجوه :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٥ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٣.

(٢) نقل عنه في المعتبر ١ : ١٤٣.

(٣) لاحظ البيان : ٤٦.

(٤) حكى عنه في المستمسك ٢ : ٣٣٥.

(٥) حبل المتين : ١٢.

(٦) السرائر ١ : ٩٩.

٤٩

الوجه الأوّل : أن ذلك مقتضى أصالة الاشتغال ، لعدم العلم بالفراغ فيما إذا لم يبتدأ من الأعلى إلى الأسفل ، وهذا الاستدلال يبتني على أمرين :

أحدهما : أن لا يكون هناك دليل دل بإطلاقه على جواز الغسل بأية كيفية كانت لوضوح أن مع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى التمسك بالأصل.

وثانيهما : عدم جريان البراءة في الطهارات الثلاث ، بدعوى أن المأمور به فيها إنما هو تحصيل الطهارة وهو أمر معلوم ، وإنما الشك في أسبابها ومحصلاتها ، إذن فالشك في المكلف به دون التكليف ، ولا تجري معه أصالة البراءة في شي‌ء من الطهارات.

والأمران كلاهما ممنوعان ، أما الأول فلأن الآية المباركة ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (١) مطلقة وقد دلتنا على وجوب غسل الوجه واليدين ولزوم مسح الرأس والرجلين من غير تقييدها الغسل بأن يبتدأ من الأعلى إلى الأسفل ، فمقتضى إطلاقها جواز النكس في الغسل.

ودعوى أن الآية بصدد التشريع وبيان أصل الحكم في الشريعة المقدسة ، وليست ناظرة إلى كيفياته وخصوصياته ، مما لا شاهد له لوضوح أنها قد وردت بصدد البيان وبيّنت حدود الغسل والمسح الواجبين ، وأنه لا بدّ من أن يكون الغسل في اليدين من المرفق ، وأن محله إنما هو في الوجه واليدين كما أن المسح في الرأس والرجلين ، وحيث لم يقيد فيها الغسل بكيفية معينة فيستفاد منها كفاية الغسل على وجه الإطلاق كما هو المدعى.

وكذلك الأخبار الواردة في كيفية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض الأوصياء عليهم‌السلام كالروايات المشتملة على أنه عليه‌السلام دعا بماء وأخذ كفاً منه فغسل به وجهه ويديه (٢) فإنها كما ترى مطلقة وليست مقيّدة بكيفية دون كيفية ، هذا كله في الأمر الأوّل.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

٥٠

ثم لو سلمنا ذلك وقلنا إن الآية ليست بصدد البيان ، وأنه لا دليل في المقام يتشبث بإطلاقه ، فللمنع عن الأمر الثاني مجال واسع ، وذلك لأن الطهارة ليست مسببة عن الغسلتين والمسحتين ، وإنما هي عبارة عن نفس الأفعال ، لأن لها بقاء في عالم الاعتبار والتعبير بـ « إنه على وضوء » كثير في الروايات (١) وعليه فاذا شككنا في أن الوضوء الواجب هل هو الأفعال فقط ، أعني الغسلتين والمسحتين ، أو يعتبر فيه شي‌ء زائد عليهما ، فلا مانع من أن تجري البراءة عن التكليف بالزائد ، لأنه من الشك في التكليف ، بناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين كما هو الصحيح. نعم بناء على القول فيه بالاشتغال فللمنع من جريان البراءة في المقام وجه ، إلاّ أنه على خلاف الواقع كما عرفت.

الوجه الثاني مما استدل به على مذهب المشهور : رواية قرب الاسناد عن أبي جرير الرقاشي قال : « قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال : لا تعمق في الوضوء ولا تلطم وجهك بالماء لطماً ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً ، وكذلك فامسح الماء على ذراعيك ورأسك وقدميك » (٢) لدلالتها على الأمر بغسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل.

وقد نوقش في الاستدلال بهذه الرواية تارة من جهة السند وأُخرى من جهة الدلالة.

أمّا من جهة السند ، فلأجل اشتماله على أبي جرير الرقاشي ، وهو مهمل في الرجال ، وذلك لأن الرقاشي عنوان لشخصين ليس منهما أبو جرير ، وهما الحسين بن المنذر ومحمد بن درياب ، كما أن أبا جرير كنية لجماعة ليس منهم الرقاشي ، فأبو جرير الرقاشي مهمل والسند ضعيف.

ودعوى أن كتاب قرب الاسناد من الأُصول المعتبرة فلا يضره ضعف السند كما في‌

__________________

(١) منها صحيحة زرارة قال : « قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ... » الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٩٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢٢ ، ٤٣٥ / أبواب الوضوء ب ٣٠ ح ٣.

٥١

الحدائق (١) ساقطة ، لأن كون الكتاب من الأُصول المعتبرة لا يقتضي اعتبار كل رواية من رواياته ، وكيف لا فان كتاب قرب الاسناد لا يزيد في الاعتبار على كتاب الكافي مثلاً ، فإنه مع كونه من الكتب المعتمد عليها عند الأعلام لا يسوغ الاعتماد على كل رواية مندرجة فيه إلاّ بعد ملاحظة سندها وتماميته ، إذن فهذه المناقشة مما لا مدفع له.

وأمّا من جهة الدلالة ، فقد نوقش فيها بأن الرواية قد نهت عن التعمق في الوضوء على ما هو دأب الوسواسين ، كما نهت عن التلطم بالماء ، والنهي عن ذلك يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون النهي تنزيهياً باعتبار استحباب المسح في غسل الوجه وإيصال الماء إلى تمام أطرافه بإمرار اليد عليه ، فيكون اللطم في مقابله مكروهاً لا محالة.

وثانيهما : أن يكون النهي عن التلطم مستنداً إلى عدم إحراز وصول الماء بذلك إلى تمام الوجه ، ومعناه أنه لا تلطم وجهك بالماء ، لأنه لا يوجب إحراز الغسل الواجب في الوضوء. وعلى هذا الاحتمال يبقى ظهور القيد ، أعني قوله « ... مسحاً » في الاحترازية بحاله ، لأن معناه أن التلطم بالماء غير كافٍ في الوضوء ، بل لا بدّ فيه من غسل الوجه ولو مسحاً حتى يصل الماء إلى تمام أطرافه وأجزائه ، ومعه لا بدّ من الحكم بوجوب المسح.

وهذا لا لأجل أن له موضوعية في صحة الوضوء ، بل من جهة طريقيته إلى ما هو المعتبر من وصول الماء إلى جميع أجزاء الوجه ، فالأمر بالغسل مسحاً أمر وجوبي من دون أن يكون للمسح خصوصية وموضوعية ، وإنّما أُخذ على وجه الطريقية ، فعلى هذا الاحتمال لا ترد المناقشة على الرواية من تلك الجهة. وأما على الاحتمال الأوّل وهو أن يكون النهي تنزيهياً فلا يمكن التحفظ معه على ظهور القيد في الاحترازية ، وذلك لعدم وجوب المسح في غسل الوجه قطعاً ، لضرورة كفاية الغسل بالارتماس أو‌

__________________

(١) الحدائق ٢ : ٢٣٣.

٥٢

بماء المطر ، ولأن التفصيل قاطع للشركة وقد فصّل الله سبحانه بين الوجه واليدين والرأس والرجلين ، فأمر بالمسح في الثانيتين ، وهذا يدلنا على عدم وجوبه في الأُوليين ، وعليه يكون الأمر بالغسل مسحاً محمولاً على الأمر باختيار أفضل الأفراد فهو أمر استحبابي لا محالة. والنتيجة أنه لم يدلنا دليل على وجوب كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل.

هذا ولكن الصحيح عدم ورود هذه المناقشة على الاستدلال بالرواية ، وذلك لما بيّناه غير مرة من أن الوجوب والاستحباب خارجان عن مدلول الصيغة ، فان صيغة الأمر لا تستعمل في معنيين ، بل إنما تستعمل في معنى واحد دائماً ، والعقل ينتزع منها الوجوب مرّة والاستحباب اخرى ، وخصوصية الاستحباب إنما تنتزع من اقتران الصيغة بالترخيص في الترك كما ينتزع الوجوب من عدم اقترانها به ، فاذا استعملت ولم تكن مقترنة به فالعقل ينتزع منها الوجوب ويستقل باستحقاق العقوبة على الترك.

ومن هنا قلنا إن الأمر بغسل الجمعة والجنابة في رواية واحدة « اغتسل للجمعة والجنابة » (١) قد استعمل في معنى فأرد ، ولكن القرينة قامت على الترخيص في الترك في أحدهما فحكمنا باستحبابه ، ولم تقم في الآخر فحكمنا بوجوبه ، وقيام القرينة على الترخيص في الترك في أحدهما غير مانع عن دلالة الأمر بالوجوب على التقريب المتقدِّم في الآخر ، لوجود الفارق بينهما وهو قيام القرينة على الترخيص في الترك وإن كان المستعمل فيه في كليهما شيئاً واحداً ، هذا كلّه في حال الأمر بالإضافة إلى الأفراد.

ومنه يظهر الحال بالنسبة إلى الأجزاء والقيود ، كما إذا أمر المولى بإكرام جماعة من‌

__________________

(١) لم نعثر على هذه الرواية في مظانها ، نعم هناك رواية أُخرى وهي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اغتسل يوم الأضحى والفطر والجمعة. وإذا غسلت ميتاً ، ولا تغتسل من مسه إذا أدخلته القبر ، ولا إذا حملته » المروية في الوسائل ٣ : ٣٠٦ / أبواب الأغسال المسنونة ب ١ ح ٩ وغيرها.

٥٣

العلماء وقامت القرينة على الترخيص في ترك الإكرام لبعضهم ، فلا محالة يكون الإكرام بالنسبة إلى ذلك البعض مستحباً وبالنسبة إلى البقية محكوماً بالوجوب ، وفي المقام لما قامت القرينة على الترخيص في ترك المسح الذي هو قيد المأمور به كان الأمر بالإضافة إليه استحبابياً لا محالة. وأما بالنسبة إلى المأمور به وهو الغسل من الأعلى إلى الأسفل فهو أمر وجوبي ، لعدم قيام القرينة على الترخيص في تركه ، فعلى تقدير تمامية الرواية بحسب السند لا ترد عليها المناقشة بحسب الدلالة ، إذن فالعمدة هي المناقشة فيها بحسب السند.

الوجه الثالث ممّا استدل به للقول المشهور هو : الروايات البيانية الواردة في حكاية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها : صحيحة زرارة قال : « حكى لنا أبو جعفر عليه‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بقدح من ماء فأخذ كفاً من ماء فأسدله على وجهه من أعلى الوجه ، ثم مسح وجهه من الجانبين جميعاً ، ثم أعاد يده اليسرى في الإناء ... » (١).

وقوله « ثم مسح وجهه من الجانبين جميعاً » لعله بمعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعان بيده اليسرى كما استعان باليمنى فأمرّهما معاً على جانبيه ، وقد ورد في بعض الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستعين بيده اليسرى في الوضوء (٢) وفي بعض تلك الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع الماء على جبهته (٣) وهي كما ترى كالصريحة في أن الغسل لا بدّ أن يكون من أعلى الوجه إلى أسفله.

ولكن للمناقشة في دلالتها على اعتبار ذلك مجال واسع ، وذلك لأن أبا جعفر عليه‌السلام إنما حكى فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضوءه ، وأنه كان يتوضأ بتلك الكيفية ، وليست فيها أية دلالة على أن تلك الكيفية كانت واجبة في‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩٠ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٦.

(٢) كما فيما رواه بكير وزرارة ابنا أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام المروية في الوسائل ١ : ٣٩٢ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١١.

(٣) كما في صحيحة زرارة المروية في الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

٥٤

الوضوء ، ولعلّها من باب الأفضلية والاستحباب دون الوجوب ، ومن هنا لم ترد خصوصية غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أعلى الوجه إلى أسفله في غير هذه الروايات من الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية وهي عدّة روايات ، فإثبات وجوب تلك الكيفية بهذه الروايات مما لا يمكن المساعدة عليه.

ولا سبيل إلى دعوى وجوبها من جهة وجوب التأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا مجال لوجوب التأسي في المباحات والمستحبّات ، وقد دلّتنا الآية المباركة بإطلاقها على عدم وجوب الابتداء بالأعلى إلى الأسفل في غسل الوجه ، هذا.

التذييل المنسوب إلى العلاّمة والشهيد ( قدس‌سرهما ):

وقد نسب إلى العلاّمة في المنتهي (١) والشهيد في الذكرى (٢) ( قدس الله أسرارهما ) تذييل الصحيحة المتقدمة بقولهما : روي عنه عليه‌السلام أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد ما توضأ : « إن هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به » وهذا على تقدير ثبوته أيضاً تدلنا على وجوب تلك الكيفية في الوضوء ، ومعه لا بدّ من الحكم باعتبار البدء بالأعلى إلى الأسفل في غسل الوجه وغيره من الخصوصيات المذكورة في الرواية ، إلاّ أن يقوم دليل على عدم وجوبها ، وسرّه أن المشار إليه في قوله : « هذا وضوء » ليس هو الوضوء الشخصي الصادر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف وهو أمر قد انقضى وانصرم ولا يمكن صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من الباقر عليه‌السلام أو غيرهما ، بل إنما هو إشارة إلى صنف ذلك الشخص ، وهو الوضوء المشتمل على الخصوصيات المذكورة في الرواية فلا مناص من الحكم بوجوبها.

ودعوى : أن الإشارة إلى طبيعة الوضوء لا إلى صنف ذلك الشخص الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مندفعة بأن المحمول في قوله : « إن هذا وضوء » هو الوضوء ولا يصح هذا فيما إذا أُريد من قوله « هذا » هو الطبيعي ، لأنه يؤول إلى قوله إن طبيعي‌

__________________

(١) المنتهي ١ : ٣٢.

(٢) الذكرى : ٨٣ السطر ٢٤.

٥٥

الوضوء وضوء ، وهو كلام لا ينبغي صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعم يصحّ أن يقال إنه شي‌ء أو أمر ، وأمّا الوضوء فقد عرفت أنه لا معنى لحملة عليه.

والذي يسهل الخطب وهو العمدة في المقام ، أن هذا الذيل مما لا أصل له ، لأنه إنما وقع في كلامهما مرسلاً ، ولا يكاد يوجد في شي‌ء من الأخبار الواردة في كيفية غسل الوجه في الوضوء ، لا في مسنداتها ولا في مرسلاتها ، ولا ندري من أين جاءا به. نعم ورد ذلك في روايات غسل الوجه مرة أو مرتين ، حيث روى الصدوق قدس‌سره في الفقيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ مرة مرة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به (١) وهو أجنبي عما نحن بصدده ، لأن الكلام إنما هو في اعتبار غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل ، لا في اعتبار المرة وعدم جواز الغسل مرتين.

الوجه الرابع ممّا استدلّ به للمشهور : أن الأمر بالغسل في الآية المباركة والروايات إنما ينصرف إلى الغسل الخارجي المتعارف لدى الناس ، والدارج عندهم إنما هو غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل ، وأمّا الغسل نكساً فهو أمر غير معتاد فالغسل منصرف عنه لا محالة.

وهذا الاستدلال مورد للمناقشة صغرى وكبرى ، أمّا بحسب الصغرى ، فلأن المتعارف في غسل الوجه إنما هو الغسل من وسط الجبين أو ما يقرب من الوسط ، دون الغسل من قصاص الشعر إلى الأسفل ، لوضوح عدم جريان العادة بذلك ، ومعلوم أن هذا غير كافٍ في الوضوء.

وأمّا بحسب الكبرى ، فلأنّ الغلبة الخارجية في أفراد المطلق غير موجبة للانصراف إلى الفرد الغالب ، فان الحكم بعد ما ترتب على الطبيعة سرى إلى جميع ما يمكن أن يكون مصداقاً لها ، ولا فرق في ذلك بين الأفراد النادرة والغالبة ، فالغلبة غير موجبة لاختصاص الحكم بالغالب.

فالمتحصل إلى هنا أن وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل مما لم يقم عليه دليل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٣٨ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١١ ، الفقيه ١ : ٢٥ / ٧٦.

٥٦

والغسل من الأعلى إلى الأسفل عرفاً ولا يجوز النكس (١)

______________________________________________________

فلم يبق إلاّ تسالم الفقهاء الأقدمين وسيرة أصحاب الأئمة عليهم‌السلام حيث جرت على غسل وجوههم من الأعلى إلى الأسفل ، فإن المتقدمين متسالمون على وجوب ذلك ولم يخالفهم في ذلك إلاّ السيد المرتضى قدس‌سره (١) كما أن أصحاب الأئمة عليهم‌السلام لم ينقل عنهم خلاف ذلك ، فلو لم يكن هذا على وجه الإلزام والوجوب لظهر وشاع ، فنطمئن من عدم ظهور ذلك بأن الغسل من الأعلى إلى الأسفل أمر واجب لا محالة.

وعلى الجملة : أنّ التسالم بين الفقهاء قدس‌سرهم إن تم وثبتت سيرة أصحابهم عليهم‌السلام فهو ، وإلاّ فللمناقشة في وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل مجال واسع ، غير أن النفس مطمئنة من سيرتهم وتسالم فقهائنا الأقدمين على وجوبه هذا تمام الكلام في أصل المسألة وهو وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل وعدمه.

(١) إذا قلنا بوجوب غسل الأعلى فالأعلى ، فلا بدّ من التكلم فيما هو الواجب في المسألة وفيه احتمالات :

الاحتمالات في الغسل من الأعلى :

أحدها : أن يقال إن الواجب وقتئذٍ هو الغسل من أعلى الوجه والقصاص بمقدار يسير يصدق عليه الشروع ، وأما بعد ذلك فلا يعتبر فيه الغسل من الأعلى فالأعلى بل له أن يغسل الباقي كيفما شاء ، فكأن الواجب إنما هو مجرد الشروع والابتداء في الغسل بالأعلى ، وبذلك يسقط الوجوب والترتيب ، فللمكلف أن يغسل وجهه بعد ذلك بأية كيفية شاءها ولو نكساً.

ويدفعه : أن الظاهر المستفاد من الأخبار البيانية الواردة في حكاية وضوء النبي‌

__________________

(١) تقدّم ذكر المصدر في ص ٤٩.

٥٧

( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ورواية الرقاشي المتقدمة (١) على القول بصحة الاستدلال بهما على لزوم غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل ، أن الواجب إنما هو غسل الوجه من الأعلى إلى أسفله بالتمام ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما شرع من الأعلى وغسل الأعلى فالأعلى إلى أسفله ، لا أن الواجب مجرد الشروع بالأعلى فالحكم بجواز النكس بعد الابتداء في الغسل به خلاف ظواهر الأخبار.

ثانيها : أن الواجب غسل الأجزاء العالية فالعالية بحسب الخطوط العرضية ، بحيث لا يجوز غسل شي‌ء من الأجزاء السافلة حتى الجزء السافل الذي لا يكون مسامتاً للجزء الأعلى غير المغسول إلاّ بعد غسل تمام الأجزاء الواقعة فوقها في خط عرضي دقيق ، كما نقل عن المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس‌سره.

ويرده : أن هذا مضافاً إلى صعوبته في نفسه على خلاف الروايات الصريحة في عكس المدعى كقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة (٢) : « فأسدله على وجهه من أعلى الوجه ثم مسح وجهه من الجانبين جميعاً » فان الماء بطبعه إذا اسدل من أعلى الوجه نزل إلى الأسفل منه ، فيغسل به الجزء السافل قبل غسل بقية الأجزاء العالية من الخط العرضي ، ومن هنا كان عليه‌السلام يمسح الجانبين ، فوصول الماء إليهما كان متأخراً عن إسدال الماء على الوجه لا محالة.

ثالثها : أن الواجب إنما هو غسل الأجزاء العالية فالعالية بحسب الخطوط الطولية فلا بدّ من غسل الجزء العالي قبل الجزء السافل المسامت له ، دون الأجزاء السافلة غير المسامتة له ، فإنه يجوز غسلها قبل غسل الجزء العالي الذي لا يكون مسامتاً له إذن لا بدّ من غسل الوجه حسب الخط الطولي الهندسي لئلاّ يغسل شي‌ء من الجزء السافل المسامت للجزء العالي قبل غسل الجزء العالي عليه.

وهذا الاحتمال أيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، لوضوح أن الماء إذا صب من الأعلى لم ينزل إلى الأسفل على وجه مستقيم ، بل ينحرف بحسب الطبع إلى اليمين واليسار‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢٢ ، وتقدّمت في ص ٥١.

(٢) في ص ٥٤.

٥٨

ولا يجب غسل ما تحت الشّعر بل يجب غسل ظاهره ، سواء شعر اللِّحية والشّارب والحاجب ، بشرط صدق إحاطة الشعر على المحل ، وإلاّ لزم غسل البشرة الظاهرة في خلاله (١).

______________________________________________________

ومن الظاهر أن إجراء الماء من الأعلى يكفي في صحة الوضوء إذا وصل إلى جميع أجزاء الوجه من دون اعتبار الاستقامة في الجريان.

فهذه الاحتمالات ساقطة ، فلا بدّ على تقدير القول بوجوب غسل الأعلى فالأعلى من أن نلتزم بوجوب ذلك على نحو الصدق العرفي المسامحي دون الصدق التحقيقي العقلي ، بأن يغسل وجهه على نحو يصدق عرفاً أنه قد شرع من الأعلى إلى الأسفل ، وإن لم يغسل بعض الأجزاء العالية قبل السافلة ، كما إذا وضع الماء على جبهته وأمرّ يده عليه إلى الأسفل ، فإنه بحسب الطبع يبقى حينئذٍ شي‌ء من جانبي الجبين غير مغسول بذلك الغسل ، إلاّ أنه يكفي في صحة الوضوء إذا غسله بإمرار اليد عليه ثانياً وثالثاً ، لصدق أنه قد غسل وجهه من الأعلى إلى الأسفل وقتئذٍ.

تحت الشعر غير لازم الغسل :

(١) مقتضى ما دلّ على وجوب غسل الوجه واليدين أن الواجب بحسب الابتداء إنّما هو غسل البشرة ، سواء أكان فيها شعر أم لم يكن ، لأن الوجه قد ينبت عليه الشعر وقد لا ينبت ، فنبات الشعر واللحية غير مانع عن صدق عنوان الوجه ، فإنه اسم للعضو المخصوص ، والشعر قد ينبت عليه ، فحقيقة يصدق أن يقال إن اللحية ينبت على وجهه ، أو الشعر نبت عليه ، إذن يجب غسل الوجه وإن كان عليه شعر.

إلاّ أنّا نرفع اليد عن ذلك ونكتفي بغسل ظاهر الشعر النابت على العضو فيما إذا أحاط به الشعر ، بمقتضى الدليل الدال عليه ، وهو الأخبار البيانية الحاكية عن وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه عليه‌السلام في مقام الحكاية عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ كفاً من الماء فأسدله على وجهه ومسح‌

٥٩

جانبيه باليدين واكتفى به في وضوئه ، من دون أن يتصد للتبطين والتخليل ، فهذا يدلنا على عدم اعتبار غسل ما تحت الشعر ، لوضوح أنه صيقلي ولا ينفذ الماء داخله وتحته إلاّ بعلاج ، فيظهر من ذلك أن الواجب غسله من الوجه هو المقدار الذي يصل إليه الماء بطبعه حين إسداله على الوجه ، فلا يجب التخليل والتبطين والتعمق في إيصال الماء إلى البشرة ، بل ولا إلى الشعر المحاط بالشعر.

وصحيحة زرارة المروية في التهذيب قال : « قلت له : أرأيت ما كان تحت الشعر قال : كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه ولكن يجرى عليه الماء » (١) ورواها الصدوق في الفقيه بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) ونظيرها غيرها من الروايات ، فان مقتضى تلك الروايات عدم وجوب التبطين والتعمق في غسل الوجه ، وكفاية مجرد جريان الماء عليه من دون وصوله إلى ذات البشرة ، بل ولا إلى الشعر المحاط بالشعر.

تنبيه : لا يخفى أن الرواية في كل من الفقيه والتهذيب على ما في الوسائل المطبوعة جديداً بلفظة اللاّم في قوله : « فليس للعباد » وكذا ظاهر الوافي (٣) أن نسختي الفقيه والتهذيب متوافقتان من هذه الجهة ، لأنه بعد ما نقلها عن التهذيب أشار إلى أن الصدوق في الفقيه أيضاً روى مثله عن أبي جعفر عليه‌السلام وظاهر المماثلة هي المماثلة من جميع الجهات ، وعدم الفرق بين التهذيب والفقيه من هذه الناحية.

إلاّ أن شيخنا المحقق الهمداني قدس‌سره (٤) رواها عن التهذيب باللاّم كما نقلناها ، وعن الفقيه بـ « على » وأنه ليس على العباد أن يغسلوه ، وقد عرفت أنه مخالف لنقل الوافي والوسائل المطبوعة جديداً ، نعم التهذيب والفقيه في طبعتهما الأخيرة موافقان لنقل شيخنا المحقق فليلاحظ ، هذا كله في أصل المسألة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٣٦٤ / ١١٠٦.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨ / ٨٨.

(٣) الوافي ٦ : ٢٧٩.

(٤) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٣٧ السطر ٢٤ ٢٦.

٦٠