موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

على تقدير كونها مبتلة ويمسح بها ، تدفع اعتبار الجفاف التقديري بإطلاقها ، لأنها واردة في حق عامّة المكلّفين على اختلاف أمزجتهم وأمكنتهم ، واختلاف أماكن وضوئهم وأزمنته ، فقد دلّتنا على أن اللحية إذا لم تجف وكانت مبتلة وأمكن أخذ البلّة منها حكم بصحة الوضوء ، وإن كانت بقاء الرطوبة فيها من جهة برودة الهواء وعدم اعتداله ، بحيث لو كان الهواء معتدلاً لجفّت.

الأمر الثاني : قد أسلفنا أن جفاف الأعضاء المتقدمة إذا استند إلى التأخير والإبطاء فالوضوء محكوم وقتئذٍ بالبطلان بمقتضى الصحيحة والموثقة ، وأما إذا جفت من دون استناد الجفاف إلى التأخير كما إذا استند إلى حرارة البدن أو الهواء ، فقد ذكرنا أن مقتضى الإطلاقات صحته ، فاذا جفت أعضاؤه لا لأجل التأخير وحكمنا بصحّة وضوئه كما عرفت ، فهل يجب أن يأتي بالبقية من دون فصل أو له أن يتأخّر بعد ذلك ساعة أو ساعتين أو أكثر ثم يأتي ببقية أفعال الوضوء؟

الصحيح وجوب الإتيان بالبقية من دون إبطاء على نحو يصدق التبعيض لدى العرف ، لأن المستفاد من التعليل الوارد في ذيل الموثقة « فإنّ الوضوء لا يبعّض » أن الوضوء عمل وحداني غير قابل للتبعيض ، وهذه الكبرى وإن كانت قد طبقت على مورد الرواية وهو ما إذا حصلت اليبوسة للتأخير ولم تطبق على غيره كما إذا حصلت اليبوسة لحرارة الهواء مثلاً ، إلاّ أن كل مورد صدق عليه عنوان التبعيض لدى العُرف يشمله تعليل الرواية لا محالة ، وعليه فيعتبر في صحة الوضوء أحد أمرين :

أحدهما : أن لا تجف الأعضاء المتقدمة من جهة التأخير والإبطاء.

وثانيهما : أن لا يتخلّل الفصل بين أجزائه وأفعاله بمقدار يتحقق به التبعيض لدى العرف ، فاذا جفت أعضاء المتوضئ لحرارة الهواء فليس له أن يتأخر بمقدار يتحقق به التبعيض في الوضوء ، وهذا هو المراد بقولنا في أوائل المسألة أن الوضوء يعتبر فيه أحد أمرين كما عرفت ، هذا.

ثم إنه ورد في صحيحة حريز : « في الوضوء يجف ، قال قلت : فان جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذي يليه ، قال : جفّ أو لم يجف اغسل ما بقي ، قلت : وكذلك غسل الجنابة‌

٤٠١

قال هو بتلك المنزلة وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك ، قلت : وإن كان بعض يوم قال : نعم » (١).

وهي تعارض الموثقة والصحيحة المتقدمتين ، لدلالتها على عدم بطلان الوضوء بجفاف الأعضاء المتقدمة ، ومن هنا جمع بينها وبين الروايتين الشيخ قدس‌سره (٢) جمعاً دلالياً بحمل مطلقهما على مقيدهما ، بدعوى أن صحيحة حريز مطلقة ، لدلالتها على عدم بطلان الوضوء بجفاف الأعضاء المتقدمة مطلقاً سواء استند إلى التأخير أم إلى شي‌ء آخر من حرارة الهواء أو الريح الشديد ، والموثقة والصحيحة دلتا على بطلان الوضوء من جهة خصوص الجفاف المستند إلى التأخير ، فهما أخص من صحيحة حريز ، ومقتضى قانون الإطلاق والتقييد تقديم الدليل المقيد والأخص وتقييد المطلق به ، ونتيجة ذلك في المقام هو الحكم ببطلان الوضوء بجفاف الأعضاء المتقدمة عند استناده إلى التأخير ، بخلاف الجفاف غير المستند إليه.

وقد جمع قدس‌سره بينهما مرة أُخرى بحمل الصحيحة على التقيّة ، لأن مذهب كثير من علماء العامّة عدم اعتبار الموالاة في الوضوء وعدم بطلانه بجفاف الأعضاء المتقدِّمة (٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤٧ / أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٤.

(٢) لاحظ التهذيب ١ : ٨٨ ، الاستبصار ١ : ٧٢.

(٣) في الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٦٢ ، ٦٥ : أن الشافعية والحنفية قالوا إن الموالاة سنة فيكره التفريق بين الأعضاء إذا كان يغير عذر ، أما للعذر فلا يكره كما إذا كان ناسياً أو فرغ الماء المعد لوضوئه فذهب ليأتي بغيره ليكمل وضوءه. ومحل كونه سنة عند الشافعية ما لم يكن صاحب ضرورة كصاحب السلس فإنه يجب عليه التتابع كما سبق. والمالكية قالوا إن شرط وجوب الموالاة أن يكون المتوضئ ذاكراً قادراً فلو كان ناسياً أو عاجزاً غير مفرط ، وغير المفرط هو كمن أعد من الماء ما يكفي للطهارة يقيناً ثم ظهر عدم كفايته وأُريق منه شي‌ء فإنه يبني على ما فعل ولو طال الزمن ....

وفي كتاب الرّحمة بهامش الميزان للشعراني ص ٢٠ : والموالاة في الوضوء سنّة عند أبي حنيفة ، وقال مالك الموالاة واجبة. وللشافعي فيه قولان أصحهما أنها سنّة ، والمشهور عن أحمد أنها واجبة.

٤٠٢

الذي يريد أن يشرع فيه الأحوط الاستئناف (*) ، وإن بقيت الرطوبة في العضو السابق على السابق ، واعتبار عدم الجفاف إنما هو إذا كان الجفاف من جهة الفصل بين الأعضاء أو طول الزمان ، وأما إذا تابع في الأفعال وحصل الجفاف من جهة حرارة بدنه أو حرارة الهواء أو غير ذلك فلا بطلان فالشرط في الحقيقة أحد الأمرين من التتابع العرفي وعدم الجفاف. وذهب بعض العلماء إلى وجوب الموالاة بمعنى التتابع وإن كان لا يبطل الوضوء بتركه إذا حصلت الموالاة بمعنى عدم الجفاف. ثم إنه لا يلزم بقاء الرطوبة في تمام العضو السابق ، بل يكفي بقاؤها في الجملة ولو في بعض أجزاء ذلك العضو.

______________________________________________________

والصحيح هو ما أفاده أخيراً ، وذلك لما قدّمناه غير مرّة من أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى البطلان ، وعليه فالموثقة والصحيحة دلّتا على بطلان الوضوء عند جفاف الأعضاء المتقدِّمة بالتأخير ، وهذه الصحيحة دلّت على عدم البطلان بذلك فهما متعارضتان ولا بدّ من الرجوع إلى مرجحات المتعارضين ، وحيث إن الصحيحة موافقة للعامّة وهما مخالفتان معهم فلا مناص من طرح الموافق والأخذ بما خالفهم.

وأمّا ما صنعه أوّلاً من حمل مطلقهما على مقيدهما ، ففيه : أن الصحيحة إنما دلت على عدم بطلان الوضوء بجفاف الأعضاء المتقدمة عند استناده إلى التأخير ، ولم تدلنا على عدم بطلان الوضوء بمطلق الجفاف.

وهذا يظهر بملاحظة قوله عليه‌السلام « هو أي الغسل بتلك المنزلة » أي بمنزلة الوضوء ، حيث يدلنا على أنهما متحدان بحسب الحكم ، وبما أنه عليه‌السلام صرح بعد ذلك بعدم بطلان الغسل وإن آخر بعض أجزائه بعض يوم ، فيعلم من ذلك أن الوضوء أيضاً كذلك ، وأن مراده بالجفاف في الوضوء هو الجفاف المستند إلى التأخير وأنه غير قادح في صحته ، وعليه فالصحيحة والروايتان متعارضتان وليستا من المطلق والمقيد في شي‌ء.

__________________

(*) لا بأس بتركه.

٤٠٣

[٥٦٣] مسألة ٢٤ : إذا توضّأ وشرع في الصلاة ثم تذكّر أنّه ترك بعض المسحات أو تمامها بطلت صلاته (١) ووضوءه أيضاً إذا لم يبق الرطوبة في أعضائه (٢) ، وإلاّ أخذها (*) ومسح بها واستأنف الصلاة.

[٥٦٤] مسألة ٢٥ : إذا مشى بعد الغسلات خطوات ثم أتى بالمسحات لا بأس (٣) وكذا قبل تمام الغسلات إذا أتى بما بقي ، ويجوز التوضؤ ماشياً.

[٥٦٥] مسألة ٢٦ : إذا ترك الموالاة نسياناً بطل وضوءه (٤) مع فرض عدم التتابع العرفي أيضاً ، وكذا لو اعتقد عدم الجفاف ثم تبيّن الخلاف (٥).

[٥٦٦] مسألة ٢٧ : إذا جفّ الوجه حين الشروع في اليد لكن بقيت الرطوبة في مسترسل اللحية أو الأطراف الخارجة عن الحدّ ففي كفايتها إشكال (٦).

______________________________________________________

(١) لفقدانها الطهارة المعتبرة فيها.

(٢) من دون فرق في ذلك بين أن يكون جفاف أعضائه مستنداً إلى التأخير واستناده إلى شي‌ء آخر من حرارة البدن أو الهواء أو غيرهما من الأُمور ، وذلك لأن المسح يعتبر أن يكون ببلة الوضوء الباقية في اليد ومع عدمها وعدم ما يقوم مقامها من بلة سائر الأعضاء يقع باطلاً لا محالة.

(٣) والدليل على هذا وما بعده ، أعني ما إذا مشى قبل تمام الغسلات وغسل الأعضاء الباقية في مكان آخر ، وما إذا توضأ ماشياً إنما هو الإطلاق ، لأن أدلّة الوضوء غير متقيدة بأن يكون مسحه وغسله في مكان واحد ، أو تكون الغسلات فيه كذلك أو أن يقع الوضوء بجميع أجزائه في محل واحد ، إذن له أن يتوضأ ماشياً كما عرفت.

(٤) لأن الوضوء أمر وحداني لا يقبل التبعيض كما مرّ.

(٥) لعين ما مرّ وعرفت.

(٦) والأمر كما أُفيد ، بل يمكن الحكم ببطلان الوضوء حينئذٍ من جهة أن ظاهر‌

__________________

(*) تقدّم أنّ الأظهر هو الاقتصار على الأخذ من اللحية.

٤٠٤

الثاني عشر : النيّة (١).

______________________________________________________

قول عليه‌السلام في الصحيحة والموثقة « حتى يبس وضوءك » أو « فيجف وضوئي » أن ماء الوضوء إنما يجف في مورد أمر فيه بغسله ، لا أنه يجف الماء الموجود في موضع لا يجب غسله ، لأنه إما ليس بماء الوضوء أو أنه ليس في مورد الأمر بالغسل وموضعه ومع جفاف ماء الوضوء في مورده يتبعض الوضوء بمقتضى تطبيقه عليه‌السلام الكبرى « فان الوضوء لا يبعض » على مورد الجفاف المستند إلى التأخير.

اشتراط النيّة في الوضوء :

(١) لا خلاف يعتد به في المسألة ، وإنما الكلام في وجه امتياز الوضوء من بقيّة مقدّمات الصلاة بكونه عبادة يعتبر فيه قصد الامتثال والإتيان به بداعي أمر الله سبحانه وإطاعته ، بخلاف غيره من المقدمات كتطهير الثوب والبدن ونحوهما.

الوجوه المستدل بها على عبادية الوضوء :

يمكن أن يستدل على ذلك بعدة وجوه :

منها : الإجماع والارتكاز المتشرعي الثابت في أذهان المتشرعة الثابت من لدن تشريع الوضوء إلى يومنا هذا ، حيث إن كبيرهم وصغيرهم يعتقدون أن الوضوء أمر قربي عبادي ، وهذا كاشف عن أن ذلك وصلهم يداً بيد وتلقاه الخلف عن السلف والولد عن والده إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام.

ويؤكده ما ورد من أن الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث الطهور وثلث الركوع وثلث السجود (١).

وما ورد من أن الوضوء من الصلاة ، كما تقدّم في رواية النوفلي عن عليّ ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٦ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٨ ، ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١ ، ٣٨٩ / أبواب السجود ب ٢٨ ح ٢.

٤٠٥

السلام ) عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه قال : « خصلتان لا أُحبّ أن يشاركني فيها أحد : وضوئي فإنّه من صلاتي ... » (١) وذلك لأنه لا معنى لجعل الوضوء ثلثاً من الصلاة إلاّ فيما هو أظهر آثارها وهو العبادية واعتبار قصد القربة فيها ، كما أنه لا وجه لكونه من الصلاة إلاّ من جهة كونه عبادة ، بل مقتضى هذه الروايات أنه يترتب على الوضوء كل أثر يترتب على الصلاة ، بل كل شرط يعتبر فيها ، إلاّ ما علمنا بعدم اعتباره في الوضوء كالطمأنينة واستقبال القبلة ونحوها. وعلى تقدير المناقشة في ذلك ففي الارتكاز المتشرعي غنى وكفاية كما مرّ.

ومنها : ان الأصل في كل واجب أن يكون عباديا لا يسقط إلاّ بقصد القربة والامتثال ، وذلك من جهة أن تحصيل غرض المولى واجب عقلي على المكلفين وحيث إنّا نحتمل أن يكون لقصد الأمر والتقرب مدخلية في حصوله فوجب الإتيان بالعمل بقصد القربة والامتثال تحصيلاً للجزم بحصول الغرض ، هذا.

وقد أجبنا عن ذلك في محلِّه (٢) بأنّا إن بنينا على إمكان أخذ قصد التقرب والامتثال في متعلق الأمر الأوّل كما بنينا عليه في محلِّه ، أو في متعلق الأمر الثاني على نحو نتيجة التقييد كما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (٣) فلا مانع من أن ندفع احتمال مدخلية قصد الأمر في حصول الغرض بإطلاق الدليل.

وأمّا إذا بنينا على استحالة ذلك وعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر فلنا أن ندفع احتمال مدخلية ذلك بالبراءة العقلية لقبح العقاب من دون بيان ، وذلك لأنّا إذا قلنا بالاستحالة فالمستحيل إنما هو أخذ قصد التقرب والامتثال في متعلق الأمر والتكليف ، وأما بيان أن قصد التقرب مما له مدخلية في حصول الغرض ولو بالجملة الخبرية بعد الأمر فهو من الإمكان بمكان ، فاذا كان المولى في مقام البيان ولم يبين ذلك بوجه مع التمكن والقدرة من بيانه وتوضيحه فلا يستحق العبد لوماً ولا‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٨ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٣.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٦٥.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١١٦.

٤٠٦

عقاباً على مخالفته ، لأنه من العقاب من دون بيان وهو أمر قبيح.

ومنها : قوله عزّ من قائل ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (١) بدعوى أن الإطاعة لا تتحقق إلاّ بقصد الأمر والامتثال ، ولا تصدق مع الإتيان بذات العمل مجرداً عن ذلك ، فمقتضى الآية المباركة أن الإطاعة وقصد القربة والامتثال واجبة في كل واجب إلاّ ما خرج بالدليل ، هذا.

والإنصاف أن الآية المباركة لا دلالة لها على المدعى ، لأن الاستدلال بها يتوقف على أمرين :

أحدهما : إثبات أن الأمر بالإطاعة أمر مولوي وليس إرشاداً إلى ما استقل به العقل من وجوب طاعة المولى سبحانه ، لأنه إذا كان إرشادياً لم يترتب عليه إلاّ ما كان يترتب على نفس الإتيان بالواجبات الشرعية في نفسها ، فلا بدّ من لحاظ أن الأمر بها هل يقتضي التعبدية حتى يكون طاعته بالإتيان بها متقرباً إلى الله سبحانه أو أنه لا يقتضي التعبدية فلا يعتبر في إطاعته سوى الإتيان بها بذاتها.

وثانيهما : إثبات أنه أمر غيري وليست الإطاعة واجبة بالوجوب النفسي ، وهذا بعد إثبات أن الأمر بها أمر مولوي ، فيثبت أن الأمر بها من باب المقدمة ، لأن قصد الأمر والتقرب جزء من الواجبات ، فإن الأمر الغيري لا يعقل إلاّ في الشرائط والأجزاء ، ولأجله أمر بها بالأمر المولوي الغيري ، وهو يدلّنا على أن قصد التقرّب جزء معتبر في التكاليف فيتقيد به إطلاق أدلة الواجبات ، وأما إذا كانت الطاعة واجبة بالوجوب النفسي فهي إذن من إحدى الواجبات الشرعية وفي عرضها ، فلا دلالة لها على اعتبار قصد التقرب في الواجبات ، وأنّى للمستدل باثباتهما ، وذلك لأن الأمر بالطاعة فيها إرشاد إلى ما استقل به العقل من لزوم طاعة المولى جلت عظمته ، ومعه لا يترتّب عليه إلاّ ما يترتّب على نفس الأمر بالواجبات ، ولو لا هذا الأمر بالطاعة أيضاً ، كنّا نلتزم بوجوب الطاعة للمولى سبحانه بمعنى لزوم الإتيان بالواجبات‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٥٤.

٤٠٧

فلا دلالة له على اعتبار قصد القربة بوجه فيكون وجوده كعدمه ، وليس المورد مما يقبل الأمر المولوي كما أشرنا إليه في محله.

ومما يدلّنا على أن الأمر بالإطاعة إرشاد إلى ما استقل به العقل ، أن الآية المباركة كما تقتضي لزوم طاعة الله سبحانه في الواجبات بناء على أن الأمر فيها مولوي كذلك تقتضي وجوب طاعته في المحرمات ، وذلك لعدم انحصار الطاعة بالإتيان بالواجبات ، ومن البديهي أن الطاعة في المحرمات إنما تتحقق بمجرد تركها والتجنب عنها ، ولا يتوقف حصول الطاعة في المحرمات على قصد التقرب والامتثال.

كما أن الظاهر من كل أمر أنه أمر نفسي فحمله على الغيرية يحتاج إلى دليل ، فالأمر بالطاعة على تقدير تسليم أنه أمر مولوي ظاهر في أن الطاعة واجبة بالوجوب النفسي لا الغيري ، فلا دلالة له على أن قصد القربة جزء أو شرط للواجبات ، ومعه لا يمكن أن يستدل بالآية المباركة على أن الأصل في كل واجب هو التعبدية إلاّ ما خرج بالدليل.

ومما يؤيد ما ذكرناه : أن الواجبات التوصلية أكثر من التعبديات في الشريعة المقدسة بكثير ، فعلى تقدير دلالة الآية المباركة على اعتبار قصد التقرب في كل واجب يلزم تخصيص الأكثر المستهجن ، حيث يخرج عنها مثل رد السلام والإنفاق على الزوجة ودفن الميت وكفنه ورد الدين وغيرها من الواجبات ، وما يبقى تحتها إلاّ التعبديات وما يشك في أنه تعبدي أو توصلي.

ومنها : قوله عزّ من قائل ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ... ) (١) والاستدلال بهذه الآية المباركة كسابقتها أيضا غير تام ، حيث يتوقف على أن تكون العبادة متعلقة للأمر لا غاية له ، بأن يكون اللاّم بمعنى الباء ، أي إلاّ بعبادة الله مخلصين له الدين ، وعليه تنحصر الأوامر الواردة في الدين بالأوامر المتعلقة بالعبادات ، فكل ما تعلق به أمر فهو عبادة لا محالة لا يسقط أمره إلاّ بقصد الطاعة‌

__________________

(١) البيّنة ٩٨ : ٥.

٤٠٨

والامتثال ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد ، وذلك لأن ظاهر الآية المباركة أن العبادة غاية لأوامر الله سبحانه كما أنها غاية لخلقه على ما صرح به في قوله عزّ من قائل ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (١).

إذن العبادة هي الغاية القصوى لكل من التكوين والتشريع ، حيث إنه سبحانه خلقهم وأرسل إليهم رسله بعد ذلك ليعبدوه والعبادة موجبة لاستكمال النفوس ، فالغاية لكل من التكوين والتشريع هو استكمال النفس بالعبادة ، وعليه فلا دلالة للآية المباركة على اعتبار قصد التقرب في الواجبات إلاّ ما خرج بالدليل.

ثم إن الآية المباركة إنما تعرّضت لخصوص الصلاة والزكاة حيث قال عزّ من قائل ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (٢) إشارة إلى الكمال النفسي وما فيه المصلحة العامة للمكلّفين لأن الصلاة فارقة بين الكفر والإسلام ، والزكاة فيها مصلحة عامة ومن إعاشة الفقراء بامداد غيرهم ، فكأن الآية والله العالم قد بينت أنهم أُمروا لغاية استكمال النفس وما فيه المصالح العامّة ، وأن أحدهما غير منفك عن الآخر ، ومن هنا لا نذكر مورداً ذكر فيه الأمر بالصلاة من دون اقترانها بالزكاة ، هذا.

ثم لو تنازلنا عن ذلك وبنينا على أن اللاّم بمعنى الباء والعبادة متعلقة للأوامر لا أنها غاية لها ، فأيضاً لا يمكن الاستدلال بها على هذا المدعى ، وذلك لأنها إنما تدل على أن العبادة لا بدّ أن تكون منحصرة بالله سبحانه ولا عبادة لغيره من الأوثان ونحوها وهذا لقرينية صدرها ، حيث ورد في المشركين وأهل الكتاب ( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) (٣) أي وما تفرق أهل الكتاب ، ولم يعبد بعضهم عزيراً بدعوى أنه ابن الله ، وبعضهم قال عيسى ابن الله إلاّ من بعد ما جاءتهم البيِّنة. وقال قبل ذلك : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ

__________________

(١) الذاريات ٥١ : ٥٦.

(٢) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٣) البيِّنة ٩٨ : ٤.

٤٠٩

حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ) (١) فصدر الآية المباركة إنما ورد في المشركين وأهل الكتاب الذين عبدوا غير الله سبحانه من الوثن والعزير أو عيسى بن مريم ، مع أنهم إنما أُمروا ليعبدوا الله خاصة.

فالآية المباركة بصدد بيان انحصار المعبود بالله العظيم ، وأن عبادة غيره أمر غير جائز ، وأين هذا من اعتبار قصد التقرب والامتثال في الواجبات. فالآية أجنبية عما نحن بصدده بالكلية ، هذا كله فيما استدلّ به على هذا الأصل من الآيات المباركة.

وأما ما استدلّ به من الأخبار على أن الأصل في كل واجب أن يكون عباديا يعتبر في سقوط أمره قصد التقرب والامتثال ، فهو جملة من الروايات الواردة بمضمون أن الأعمال بالنيّات (٢) ولا عمل إلاّ بنيّة (٣) ولكل امرئ ما نوى (٤) بدعوى أن النفي في هذه الأخبار إنما ورد على نفي وصف الصحة دون الذات ، لوضوح تحقق الذات مع عدم قصد القربة والامتثال ، فتدلنا على أن العمل الفاقد لنية القربة فاسد لا يترتب عليه أي أثر ، هذا.

والمحتملات فيما أُريد بالنيّة في هذه الروايات أُمور :

الأوّل : أن المراد بها نيّة القربة وقصد الامتثال ، وهذا الاحتمال هو الذي يبتني عليه الاستدلال في المقام.

ويردّه : مضافاً إلى أن النيّة ليست بحسب العرف واللغة بمعنى قصد القربة والامتثال أن لازم حمل النيّة على ذلك لزوم تخصيص الأكثر وهو أمر مستهجن ، فان العبادات في جنب التوصليات قليلة في النهاية ، والصحة في التوصليات لا تنتفي بعدم قصد القربة والامتثال. على أنه ينافيه بعض الروايات كما يأتي قريباً إن شاء الله.

الثاني : أن يراد بها قصد عناوين الأفعال ، وأن الفعل إذا اتي به من دون أن يقصد عنوانه وقع فاسداً ولا يترتب عليه أيّ أثر في الخارج ، مثلاً إذا غسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ولكنه لا بقصد عنوان الوضوء لم يترتّب عليه أيّ أثر لدى‌

__________________

(١) البيّنة ٩٨ : ٤ ، ١ ، ٢.

(٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٤٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٥.

٤١٠

الشرع.

وعلى هذا الاحتمال تكون الأخبار المذكورة أجنبية عن المدعى ، وإنما تدلنا على أن الفعل الاختياري يعتبر في صحته أن يكون صادراً بالإرادة وقصد عنوانه ، ولا يستفاد منها اعتبار نيّة القربة والامتثال في كل واجب.

ولكن الأخبار المذكورة لا دلالة لها على هذا المعنى أيضاً ، وذلك لأن بيان اعتبار الاختيارية وقصد عنوان الفعل بالإضافة إلى الأفعال المتقومة بالقصد كالتعظيم والإهانة ، والعبادات الشرعية حيث يعتبر فيها زائداً على قصد القربة قصد عناوين الأفعال وصدورها عن الإرادة والاختيار ، وكذا الحال في العقود والإيقاعات ، من قبيل توضيح الواضحات غير المناسب للإمام عليه‌السلام لوضوح أن تلك الأفعال لا يتحقق إلاّ بقصد عناوينها.

وأما بالإضافة إلى التوصليات وغيرها من الأفعال التي لا تقوم بقصدها وإرادة عناوينها فهو يستلزم محذور تخصيص الأكثر ، لأنها بأجمعها إلاّ نادراً تتحقق من غير قصد عناوينها ، كما إذا أوجدها غيره أو أوجدها غفلة من دون قصد عناوينها كغسل الثوب للصلاة وغيره من التوصليات.

هذا ، على أن هذا الاحتمال كالاحتمال السابق عليه ينافي بعض الأخبار الواردة في المقام ، وقد ورد في روايتين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا قول إلاّ بعمل ولا قول ولا عمل إلاّ بنيّة ولا قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السنة » (١) حيث يستفاد منهما أن المراد بالنيّة ليس هو قصد القربة ولا قصد عناوين الأفعال وإلاّ فلا معنى لاصابتهما السنة.

فالصحيح أن يقال : إن المراد بالنية أمر ثالث وهو الداعي والمحرك نحو العمل ، وأن كل ما صدر عن المكلفين من الأفعال أمر مستحسن فيما إذا كان الداعي إليه حسناً ، كما أنه أمر مستقبح فيما إذا كان الداعي إليه قبيحاً ، وهذا كضرب اليتيم لأنه إذا كان بداعي‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٥ ح ٢ ، ٤.

٤١١

التأديب يتصف بالحسن ويثاب عليه وإذا كان بداع التشفي أو الإيذاء اتصف بالقبح وعوقب عليه ، وكالنوم لأنه إذا كان بداع الاستراحة ثم الاشتغال بالعبادة فلا محالة اتصف بالحسن ، كما إذا كان بداع الاستراحة ليجدد قواه حتى يقتل مؤمناً بعد ذلك مثلاً اتصف بالقبح.

وهكذا الصلاة ، فإن الداعي إليها إذا كان هو التقرب وقصد الامتثال اتصفت بالحسن ويُثاب عليها ، كما إذا كان الداعي إليها هو الرياء ونحوه اتصفت بالقبح وعوقب عليها ، وهكذا بقية الأعمال والأفعال لأنها كالجسد والنيّة بمثابة الروح ، فكما أن الأنبياء عليهم‌السلام متحدون بحسب الصورة مع الأشقياء ، لأن كُلا منهما بصورة الإنسان لا محالة ، وإنما يختلفان ويفترقان بحسب الروح والحقيقة ، فان روح النبيّ روح طيِّبة ولأجل اتحادها مع البدن نحو اتحاد اتصف بدنه أيضاً بوصف روحه وروح الشقي روح خبيثة فبدنة أيضاً خبيث.

كذلك الأفعال الصادرة من العباد ، لأنها كالأجساد يشبه بعضها بعضاً ، وإنما يفترقان من ناحية أرواحها وهي النيّات والدواعي ، فالفعل إذا صدر بداع حسن فيتصف بالحسن وإن كان صادراً بداع قبيح فهو قبيح.

وبهذا يصح أن يقال لا عمل إلاّ بنية وأن الميزان في الحسن والقبح والثواب والعقاب إنما هو الدواعي والنيات ، فان كان الداعي حسناً فالعمل أيضاً حسن وإن كان قبيحاً فالعمل أيضاً قبيح.

وبما ذكرناه قد صرح في ذيل بعض الروايات حيث قال : « فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزّ وجلّ. ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى » (١) فان الغزو من كل من الشخصين فعل واحد لا اختلاف فيه بحسب الصورة والجسد ، لأن كُلا منهما مقاتل وجعل نفسه معرضاً للقتل ، غير أنهما يختلفان بحسب الروح الداعية إليه والمحركة نحوه ، فان كان الداعي له إلى ذلك هو الله عزّ وجلّ فقد وقع عليه أجره ، ومن كان داعيه عرض الدنيا لم يكن له إلاّ ما نوى.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

٤١٢

ويؤيِّد ما ذكرناه أنه عبّر في الرواية بالجمع حيث إنه قال : « الأعمال بالنيّات » ولم يقل الأعمال بالنية ، وذلك للدلالة على أن الدواعي مختلفة فربما يكون الداعي حسناً وربما يكون قبيحاً وثالثة لا يكون حسناً ولا قبيحاً ، كما إذا شرب الماء بداعي رفع العطش ولم يشربه بداع آخر ، فيصح أن يقال الأعمال بالنيّات لاختلاف الأفعال بحسب اختلاف الدواعي.

فالمتحصل من ذلك : أنه لا دليل على أن الأصل في كل واجب أن يكون قربيّاً عباديا ، بل لا بدّ من مراجعة أدلته ، فإن دلت على اعتبار قصد القربة والامتثال فيه فيكون عباديا وإلاّ كان توصلياً يسقط أمره بمجرد الإتيان به ، وقد عرفت أن مقتضى الارتكاز المتشرعي أن الوضوء واجب عبادي فيعتبر في صحته أن يؤتى به بداعي القربة والامتثال.

ثم إن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) عند استدلاله على أن العبادة لا يعتبر فيها خصوص قصد الامتثال بل يكفي في العبادية أن يؤتى بالعمل ويضاف إلى الله سبحانه نحو اضافة تمسك بقوله عليه‌السلام في الوضوء « يأتي به بنية صالحة يقصد بها ربّه » (٢) وهذه الرواية لم نعثر عليها في أبواب الوضوء ولا في غيرها من سائر الأبواب فليلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأُصول ١ ٢ : ١٥١.

(٢) الرواية بتلك الألفاظ التي نقلناها عنه قدس‌سره غير موجودة في كتب الحديث ، نعم روى مضمونها في الوسائل في حديث : « إن العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه الله عزّ وجلّ فيدخله الله بهما الجنة » المروية في الوسائل ١ : ٦١ / أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ٨. أيضاً روى عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب ، فقال : إذا كان أول صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان » رواها في الوسائل ١ : ١٠٧ / أبواب مقدمة العبادات ب ٢٤ ح ٣ فلاحظ فكلمة صالحة غير موجودة في الرواية ولفظة « قصد » مبدلة بلفظة يريد ، كما أنها واردة في الصلاة دون الوضوء وهو قدس‌سره أيضاً لم يدع ورودها في الوضوء ، فاستدلاله قدس‌سره تام في نفسه إلاّ أن استشهاده بتلك الرواية غير صحيح ، لأنه مبني على الاشتباه.

٤١٣

وهي القصد إلى الفعل مع كون الداعي أمر الله تعالى إمّا لأنّه تعالى أهل للطاعة وهو أعلى الوجوه ، أو لدخول الجنة والفرار من النار وهو أدناها ، وما بينهما متوسطات (١).

______________________________________________________

هذا كلّه في اعتبار النيّة في الوضوء وأما معنى النيّة ، فقد فسّرها الماتن قدس‌سره بقوله : وهي القصد إلى الفعل مع كون الداعي أمر الله تعالى ، ونتعرّض له في التعليقة الآتية فلاحظ.

هل الأُمور المذكورة محققات للعبادة أو غايات؟

(١) مما ينبغي أن يتعرض له في المقام تحقيق أن الأُمور المذكورة في المتن من كون الله سبحانه أهلاً للطاعة أو دخول الجنة أو غيرها مما ذكره قدس‌سره هل هي محققات للطاعة والعبادية أو أنها غايات للعبادة ومحقق عنوان الطاعة أمر آخر ، وهذا من غير اختصاصه بالشريعة المقدسة ، وذلك لأن الأفعال على قسمين في جميع المذاهب والأديان ، فيعتبر في بعضها أن يؤتى به على وجه التذلل والتخضع والجامع أن يقع على وجه التأله أي أخذ المعبود إلهاً والتعبد له بالطاعة ، ولا يعتبر ذلك في بعضها الآخر.

فنقول : العمل قد يكون طاعة وعبادة في ذاته إذا اتي به على وجهه وعنوانه ، وهذا كما في ذكر الله سبحانه كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله ، ومنه قوله عزّ من قائل ( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ ) (١) فإن أمثال ذلك إذا اتي به بعنوان أنه ذكر الله سبحانه وقع عبادة ، لأنه بنفسه تذلل وتخضع من دون حاجة إلى قصد أمر آخر ، وكالسجود لأن وضع الجبهة على الأرض تخضع ذاتي وتأله فهو عبادة في نفسه من دون حاجة إلى قصد أمر آخر.

وقد لا يكون العمل إطاعة في ذاته وهذا كالصيام ، لأن الإمساك عن المفطرات من‌

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٨٧.

٤١٤

أوّل الفجر إلى الغروب أجنبي عن الله سبحانه وليس تخضّعاً وتذلّلاً في نفسه ، فيعتبر في اتصاف هذه الأفعال بالعبادية والتذلل والتخضع والجامع التأله أن يؤتى بها مضافة إلى الله سبحانه نحو إضافة.

ومحقق الإضافة والطاعة أحد أمرين لا ثالث لهما :

أحدهما : أن يؤتى بها بقصد امتثال أمر الله سبحانه.

وثانيهما : أن يؤتى بها بقصد ما هو ملاك أمره أعني المحبوبية لله سبحانه ، فان العمل بذلك يضاف إلى الله تعالى ويقع عبادة وطاعة أي تذلّلاً وتخضّعاً ويوجب التقرّب لا محالة ، وأما إذا أتى بها لا بقصد أمرها ولا بقصد كونها محبوبة ، بل بقصد الدخول في الجنة أو الفرار عن النار أو نحوهما من الأُمور الدنيوية أو الأُخروية ، فلا يمكن أن تقع عبادة وطاعة بشي‌ء من ذلك ولا تضاف بها إلى الله سبحانه بوجه ، لأن تلك الأُمور إنما هي في طول الطاعة والعبادة وهي أُمور مترتبة عليها لا أنها في عرضها ومحققة لعنوان الطاعة والعبادية ، ومع عدم تحقق المقرّبية والإضافة لا تتحقّق العبادة لا محالة ومع عدم تحقّقها لا يترتّب عليها شي‌ء من تلك الأُمور أُخروية كانت أم دنيوية ، لأن تلك المنافع والآثار ليست من الآثار الوضعية المترتبة على ذوات تلك الأفعال ، كعدم الابتلاء بالفقر مثلاً المترتب عي صلاة الليل ، حيث ورد ما مضمونه أن دعوى الفقر والجوع ممن يأتي بصلاة الليل دعوى كاذبة (١) وفي بعض الروايات سئل عليه‌السلام عن الإتيان بصلاة الليل في جواب من سأله عن الفقر وشكى إليه الحاجة وأفرط في الشكاية (٢) ومن الظاهر أن تلكم الأفعال غير دافعة للفقر بحسب الوضع والتكوين ، وإنما الدافع له خصوصية العبادة وهي لا تتحقق إلاّ إذا اتي بها بأحد الأمرين المتقدمين المحققين لعنوان الطاعة والعبادة ، وعليه فالأُمور المذكورة في المتن من الغايات المترتبة على الطاعة والعبادة ، لا أنها محققة لعنوانهما كما لا يخفى.

ثم إن غايات العبادات منحصرة في ثلاثة لا رابع لها ، فان العاقل لا يأتي بعمل من‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٨ : ١٥٨ / أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ٣٩ ح ٤١ ، ١٣.

٤١٥

دون أن يقصد غاية مترتبة على ذلك الفعل ، والغاية المترتبة على الفعل إما أن لا تكون عائدة إلى نفس الفاعل وإنما تعود إلى المعبود فقط ، فيأتي بالعبادة لأنه أهل لها ولا ينظر إلى الحور أو القصور ولا له طمع في الجنة ولا أنه يخاف من النار ولا أنه يقصد شيئاً من المنافع الدنيوية أو الأُخروية من عمله ، وهذا القسم من العبادة إنما تتأتى من المعصومين عليهم‌السلام وأما من غيرهم فلا يمكن التصديق بتحققها ، نعم هي من الأُمور الممكنة والمحتملة ، وقد حكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : « ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك » وقد رواها المجلسي في مرآة العقول (١) ولعلّها من الأخبار الواردة عن طرق العامّة ومن هنا لم نعثر عليها في رواياتنا ولم يرد من طرقنا إلاّ في الكتاب المذكور.

وإمّا أن تعوّد الغاية إلى نفس الفاعل وهي على قسمين : لأن القوى الكامنة في الإنسان قد يلائم شيئاً مترتباً على العبادة فيأتي بها للتوصل إلى وجود ذلك الشي‌ء الملائم له كدخول الجنة أو الحور أو القصور ، وقد لا يلائم شيئاً فيأتي بالعبادة للتوصل بها إلى التباعد عن ذلك الشي‌ء كالنار والعقوبة ، هذا فيما يرجع إلى الأُمور الأُخروية. وكذلك الحال فيما يرجع إلى الأُمور الدنيوية فإنه ربما يأتي بالصوم أو الصلاة أو زيارة الحسين عليه‌السلام ليتوصّل بذلك إلى المال أو الولد أو الصحة والشفاء من المرض أو غير ذلك من الأُمور. وقد يأتي بالعبادة للتوصل بها إلى عدم زوال ملكه ونعمه فيصلِّي لله شكراً لئلاّ يذهب ماله ويزول ملكه.

وقد أشار عزّ من قائل إلى جميع أنحاء الغايات المترتبة على العبادة في سورة الفاتحة بقوله ( الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فأشار بالجملة الاولى إلى كماله الذاتي حيث أتى بكلمة « الله » أعني الربوبية لكل شي‌ء ، وبهذا الكمال الذاتي استحق العبادة وصار أهلاً لها. ثم أشار إلى رأفته ورحمته بقوله ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وقد دلّ ذلك على أن بعبادة الله عزّ وجلّ يمكن أن يصل الإنسان‌

__________________

(١) مرآة العقول ٨ : ٨٩ ، الوافي ٤ : ٣٦١.

٤١٦

ولا يلزم التلفّظ بالنيّة (١) بل ولا إخطارها بالبال (٢)

______________________________________________________

إلى رحمته وما يلائم لإحدى قواه من المال والجنة والحور والقصور وغيرها. وأشار ثالثاً إلى يوم الحساب ، وأن العقاب بيده وأن بعبادته يوفق الإنسان إلى الفرار عن عقوبته.

وعلى الجملة : أن ما أفاده الماتن قدس‌سره هو الصحيح ، والطاعة إنما تتحقق بأحد الأمرين المتقدمين ، ومعهما لا يضر بالعبادة قصد شي‌ء من الغايات المتقدمة. نعم لا يكفي في العبادية قصد هذه الغايات ما دام لم يكن العمل طاعة بذاته أو قصد امتثال أمر الله سبحانه أو محبوبية العمل كما مر.

عدم لزوم التلفظ بالنيّة :

(١) إلاّ في تلبية الحج لزوماً أو احتياطاً لأنه منصوص.

وقد يقال بكراهة التلفظ بالنيّة ، فإن أُريد بها الكراهة مطلقاً في الصلاة وفي غيرها أو في خصوص الصلاة على وجه الإطلاق فلا نرى له وجهاً ، وإن أُريد بها الكراهة بعد الإقامة فهو صحيح ، لأن التكلم بين الإقامة والصلاة أمر مكروه والتلفظ بالنيّة من أحد مصاديق التكلم.

وقد يكون التلفظ بالنيّة محرّماً مفسداً للعمل وهذا كالتكلم والتلفظ بالنيّة في صلاة الاحتياط ، بناء على أنها جزء من الصلاة أو كالجزء لها ، ولذا يعتبر فيها أن لا يأتي بالمنافيات التي منها التكلّم والتلفّظ المنطبق على التلفُّظ بالنيّة.

نعم ، يستحب التلفظ بالنيّة في الحج بأن يقول : إني آتي بالحج قربة إلى الله ، وهذا غير التلفظ بتلبية الحج فلا تغفل.

عدم لزوم الإخطار بالبال :

(٢) لأن الدليل على اعتبار نيّة القربة في الوضوء إنما هو الارتكاز المتشرعي ولا دلالة له على اعتبار إخطارها بالقلب ، بل إنما يدلنا على اعتبار صدور الوضوء‌

٤١٧

بل يكفي وجود الداعي في القلب بحيث لو سئل عن شغله يقول : أتوضأ مثلاً ، وأما لو كان غافلاً بحيث لو سئل بقي متحيّراً فلا يكفي وإن كان مسبوقاً بالعزم والقصد حين المقدّمات (١). ويجب استمرار النيّة إلى آخر العمل فلو نوى الخلاف أو تردّد وأتى ببعض الأفعال بطل ، إلاّ أن يعود إلى النيّة الأُولى قبل فوات الموالاة (٢) ،

______________________________________________________

بالداعي القربى أخطرها بقلبه أم لا.

كفاية وجود الداعي في القلب :

(١) إن ما أفاده قدس‌سره في كلا شقي كلامه أمر غالبي لا دائمي وإلاّ فللنقض على كلا الشقين مجال واسع ، حيث إن العمل قد يصدر عن الإرادة الإجمالية والارتكازية إلاّ أنه لو سئل عن شغله يتحيّر في الجواب وليس تحيّره إلاّ من نفس السؤال ، حيث ينشغل باله ولا يتمكن من الجواب فيتحيّر لا محالة ، مع أنه لولا هذا السؤال كان يتحرك على طبق إرادته الإجمالية والارتكازية.

كما ربما يقع ذلك في الأفعال الخارجية ، فنرى أنه يمشي إلى داره بحسب إرادته الإجمالية وإذا سئل عن أنك تمشي إلى أي مكان يتحيّر في الجواب ، ولا سيما فيما إذا اندهش من السؤال كما إذا كان السائل كبيراً من الأكابر مثلاً.

وكذا الحال في الشق الآخر من كلامه ، فإنه قد يأتي بالعمل لا عن الإرادة الإجمالية لغفلته ، إلاّ أنه إذا سئل عن عمله لا يتحيّر في الجواب بل يخطر مقصده بباله بنفس هذا السؤال بعد ما كان غافلاً عن وجه عمله وموجبه بالكلية فيجيب. فالصحيح أن الوضوء لا يعتبر في صحّته إلاّ أن يكون صادراً عن داع قربي إلهي سواء تمكّن من الجواب عند السؤال عن موجب عمله أم لم يتمكّن من ذلك.

لزوم الاستمرار في النيّة :

(٢) فإن العمل بمجموعه عبادة وليست العبادية مختصة بأوله ، فلا بدّ من إيقاع كل‌

٤١٨

جزء من أجزاء العمل بداع إلهي ، فلو وقع شي‌ء منها لا بهذا الداعي بطل العمل برمّته ، وهذا هو المراد من اعتبارهم استمرار النيّة إلى آخر العمل ، وهذا مما لا شبهة فيه ولا كلام.

وإنما الكلام في اعتبار استمرارها في الآنات المتخللة بين أجزاء العمل ، وأنه إذا عدل عنها ونوى خلافها ، أو تردد فيها ثم بنى على نيّته الأولية صح عمله مطلقاً أو لا يصح كذلك ، أو أن هناك تفصيلاً؟

قد يكون العدول عن نيّته بالعزم على عدم الإتيان بالعمل أو بالتردد في ذلك موجباً لوقوع جزء من العمل من دون نيّة قربية ، كما في الصوم حيث يجب فيه الإمساك بالنيّة المقربة في كل آن من الآنات النهارية ، فإذا فرضنا أنه عدل عن نيّته فعزم على الإفطار أو تردّد في ذلك ، فقد مضى عليه آن أو آنات من دون نيّة مقربة وهو أمر غير قابل للتدارك ، ولا مناص حينئذٍ من أن يحكم بالفساد لعدم اشتمال بعض أجزاء العمل على النيّة المعتبرة في العبادة ، وهذا لا من جهة أن العزم على الإفطار مفطر حتى يقال إن العزم على الإفطار ليس بإفطار بالضرورة ، بل هو عزم على الإفطار لا أنه إفطار بنفسه ، ومن هنا لا يترتب عليه أحكام الإفطار العمدي في نهار شهر رمضان فلا تجب عليه الكفّارة بذلك ، بل من جهة أن العزم على الإفطار يستلزم انتفاء شرط الصحة في جزء من أجزاء العمل وهو الصوم ، فيبطل العمل بأسره لبطلان جزء من أجزائه كما هو الحال في جميع الواجبات الارتباطية.

وقد يكون العدول في أثناء العمل غير مستلزم لوقوع شي‌ء من أجزائه من دون نيّة مقربة ، أو أنه إذا استلزم ذلك فصدر بعض أجزاء العمل في حالة التردّد أو العزم بعدم الإتيان به فهو أمر قابل للتدارك ، كما في الوضوء لأنه مركّب من الغسلتين والمسحتين فاذا عدل عنه في أثناء الغسلتين أو في أثناء أحدهما وفرضنا أنه قد غسل نصفاً من يده من دون نيّة مقربة ثم رجع عن ذلك إلى نيّته الأولية ، فلا مانع من أن يعيد غسل النصف من يده مع النيّة المقربة وبذلك يحكم بصحة وضوئه. اللهمّ إلاّ أن يكون ذلك مستلزماً لفوات الموالاة المعتبرة في الوضوء ، كما إذا تردّد زماناً جفّت أعضاؤه السابقة بذلك فإنه يقتضي الحكم ببطلان الوضوء لا محالة ، إلاّ أنه من جهة‌

٤١٩

ولا يجب نيّة الوجوب والندب لا وصفاً ولا غاية ، ولا نيّة وجه الوجوب والنّدب بأن يقول أتوضّأ الوضوء الواجب أو المندوب أو لوجوبه أو ندبه أو أتوضأ لما فيه من المصلحة ، بل يكفي قصد القربة وإتيانه لداعي الله (١).

______________________________________________________

الإخلال بالموالاة لا من جهة العدول عن نيّة الوضوء ، وهذا ظاهر.

وهناك شق ثالث متوسط بين مثل الصوم والوضوء وهو عبارة عن الصلاة فيما إذا عدل عن نيّتها في أثنائها فعزم على قطع الصلاة أو تردد في ذلك ، وهذا يتصوّر تارة فيما إذا أتى ببعض أجزاء الصلاة متردِّداً أو عازماً على القطع ، ويتصوّر اخرى فيما إذا لم يأت بشي‌ء من أجزائها مع التردّد أو العزم على القطع ، كما إذا عدل عن نيّة الصلاة في أثنائها ثم رجع إلى نيّتها من دون أن يأتي بشي‌ء من أجزائها عند العدول.

أمّا في الصورة الاولى ، فلا تأمل في الحكم ببطلان الصلاة ، من جهة أن ما أتى به من الأجزاء الصلاتية عند العدول أي لا بنيّة الصلاة زيادة عمدية مبطلة للصلاة لا محالة ، لعدم احتسابها من الصلاة لافتقادها النيّة المعتبرة في صحتها.

وأمّا الصورة الثانية ، فالحكم فيها بالبطلان يبتني على القول بأن الأكوان المتخللة بين أجزاء الصلاة جزء من الصلاة ، وحيث إن الظاهر أن الأكوان المتخللة خارجة عن أجزاء الصلاة ، فالظاهر عدم بطلان الصلاة بالعدول في تلك الأكوان. ولا ينافي هذا مع الحكم ببطلانها فيما إذا أتى بشي‌ء من قواطع الصلاة في أثنائها ولو في الأكوان المتخللة ، كما إذا تكلم فيها بكلام الآدميين أو أحدث أو استدبر ، لأن الحكم بالبطلان وقتئذٍ ليس مستنداً إلى أن الأكوان المتخللة جزء من الصلاة ، بل مستند إلى الإتيان بالقاطع وهو في الصلاة ، لأن المصلِّي لا يخرج عنها إلاّ بالتسليمة فان أوّلها التكبيرة وآخرها التسليمة ، فما دام لم يسلّم فهو في الصلاة ، فإذا تكلم فقد تكلم في الصلاة ، كما أنه إذا أحدث وقتئذٍ فقد أحدث في صلاته وهو موجب لبطلان الصلاة لا محالة.

عدم اعتبار نيّة الوجوب ولا نيّة وجهه :

(١) بعد ما بيّن الشروط المعتبرة في الوضوء تعرض قدس‌سره لجملة من الأُمور‌

٤٢٠