موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

هو الوضوء (١) ولو أمكن إجراء الغير الماء بيد المنوب عنه بأن يأخذ يده ويصبّ الماء فيها ويجريه بها هل يجب أم لا؟ الأحوط ذلك وإن كان الأقوى عدم وجوبه‌

______________________________________________________

فعل الغير أعني تغسيل الغير أو توضئته عمل من الأعمال المحترمة ، وهو مال له قيمته بحسب الطبع ما لم يُزل احترام ماله بقصد التبرع والإحسان ، فاذا كان العمل مالاً بطبعه وكانت له قيمة سوقية لدى العرف ، وقد عرفت أن الآية المباركة والأخبار الآمرة بالوضوء والاغتسال قد دلتنا على وجوب استناد تلك الأفعال إلى المكلّفين وقد ذكرنا أن الاستناد مع التمكّن من المباشرة لا يتحقق إلاّ بالمباشرة بنفسه كما أنه مع العجز لا يتحقّق إلاّ بالتسبيب ، إذن تدلنا الآية المباركة والروايات على وجوب التسبيب لدى العجز ولزوم الإتيان بتلك الافعال بفعل الغير الذي له قيمته على الفرض ، فيكون دفع الأُجرة على عمل الغير مأموراً به بذلك الأمر المتعلق بإيجاد الأفعال ولو بالتسبيب ، واستنادها إلى المكلّفين باستنابة الغير وتسبيبه ، لأن العمل الصادر من الغير مال بطبعه وله قيمة سوقية لدى العُرف.

هذا كلّه فيما إذا توقف العمل التسبيبي على بذل الأُجرة له بمقدار ماليته لدى العُرف والعادة.

وأمّا إذا توقّف على بذل المال زائداً على قيمته المتعارفة ، كما إذا طلب الغير ديناراً على عمله وهو يسوى عند العرف درهماً أو درهمين ، فلا ينبغي التأمل في عدم وجوب البذل وقتئذٍ ، لأنه ضرر مالي زائد على ما يقتضيه طبع الاستنابة والتسبيب ومقتضى قاعدة نفي الضرر عدم وجوبه على المكلف.

تعيين من تجب عليه النيّة في الوضوء التسبّبي :

(١) فهل تجب نيّة الوضوء على المتوضئ العاجز عن المباشرة ، أو أن الناوي لا بدّ أن يكون هو المعين؟ وتظهر ثمرة ذلك في الاستعانة بما لا نيّة له ، كالاستعانة ببعض الحيوانات المعلّمة أو الصبي ونحوهما.

٣٨١

لأنّ مناط المباشرة في الإجراء واليد آلة (١) والمفروض أن فعل الاجراء من النائب. نعم في المسح لا بدّ من كونه بيد المنوب عنه لا النائب ، فيأخذ يده ويمسح بها رأسه ورجليه (٢).

______________________________________________________

يختلف الحال في المسألة حسب اختلاف الوجوه المتقدمة في التعليقة المتقدمة ، فإن كان المعتمد في تلك المسألة هو قاعدة الميسور أو الوجه الأخير الذي قد اخترناه فلا بدّ أن يكون الناوي هو نفس المتوضئ العاجز عن المباشرة ، وذلك لأن العمل عمله ، غاية الأمر أنه عمل ناقص أو عمل بالتسبب ، فكما أن العمل التام والمباشري كان مستنداً إليه على وجه الحقيقة دون المجاز ، كذلك العمل الناقص والميسور أو العمل بالتسبيب مستندان إليه حقيقة ، إذن لا بدّ أن يكون الناوي هو المتوضئ العاجز عن المباشرة.

وأمّا إذا استندنا فيها إلى دعوى الإجماع أو الأخبار المتقدمة ، فلا بدّ من الاحتياط بالجمع بين نيّة المعين ونيّة المتوضئ العاجز عن المباشرة ، وذلك لأن الإجماع دليل لبِّي ومعقده غير مبين ، لعدم علمنا أن مراد المجمعين هل هو وجوب الاستعانة بالغير مع كون الناوي هو ذلك المعين أو مع كون النيّة من المتوضئ العاجز.

كما أن الأخبار مجملة من تلك الجهة ، لوضوح أنه لا دلالة في شي‌ء منها على أن الامام عليه‌السلام قد نوى الغسل أو أن الغلمان نووا ذلك ، وكذلك الحال في تيمّم المجدور ، وحيث إنّا علمنا إجمالاً بوجوب إحدى النيّتين وهما متباينان فلا مناص من الاحتياط بالجمع بين كلتا النيّتين ، فينوي الوضوء كل من المعين والمتوضئ العاجز تحصيلاً لليقين والجزم بحصول شرط العمل.

(١) كما سيظهر الوجه في ذلك.

لا بدّ أن يكون المسح بيد المنوب عنه :

(٢) لأنه يعتبر في المسح أن يكون ببلة اليد وأن يكون على وجه المباشرة ، فإذا سقط قيد المباشرة بالعجز فلا بدّ من التحفظ على بقية القيود الميسورة للمكلّف وهي‌

٣٨٢

وإن لم يمكن ذلك أخذ الرطوبة التي في يده ومسح بها (١) ، ولو كان يقدر على المباشرة في بعض دون بعض بعّض.

العاشر : الترتيب بتقديم الوجه ، ثمّ اليد اليمنى ، ثمّ اليد اليسرى ، ثمّ مسح الرأس ، ثمّ الرجلين ، ولا يجب الترتيب بين أجزاء كلّ عضو (٢).

______________________________________________________

كون المسح باليد وبالبلة.

وهذا بخلاف غسل الوجه واليدين إذ لا يعتبر أن يكون غسلهما بيد المتوضئ العاجز عن المباشرة بل يكفي غسلهما بيد المعين ، لوضوح أن الغسل باليد غير معتبر في الوضوء حال الاختيار ، لجواز غسلهما بصوف أو قطن أو بملعقة ونحوهما من الآلات فضلاً عن حالة العجز وعدم التمكن من المباشرة ، ولعله واضح.

(١) لما أشرنا إليه من أنه يعتبر في المسح أن يكون ببلة ما في يمناه على وجه المباشرة ، فإذا سقط قيد المباشرة وكونه باليد من جهة العجز وعدم التمكن منها فلا مناص من التحفظ على بقية قيود الموضوع الممكنة للمكلف. إذن يجب أن يأخذ الموضئ المعين البلّة من يد المتوضئ العاجز ويمسح بها رأسه ورجليه ، ولا اعتبار بالبلّة الكامنة في يد المعين.

اعتبار الترتيب في أفعال الوضوء :

(٢) ويدلُّ عليه مضافاً إلى تسالمهم على ذلك في المسألة ، الروايات الآمرة بالبدء بما بدأ به الله سبحانه ففي صحيحة زرارة قال : « سئل أحدهما عليهما‌السلام عن رجل بدأ بيده قبل وجهه وبرجليه قبل يديه ، قال : يبدأ بما بدأ الله به وليعد ما كان » (١).

وفي صحيحته الأُخرى قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام تابع بين الوضوء كما قال الله عزّ وجلّ ، ابدأ بالوجه ثمّ باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ، ولا تقدِّمن شيئاً بين يدي شي‌ء تخالف ما أُمرت به ، فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٠ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ١.

٣٨٣

على الذراع ، وإن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ، ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزّ وجلّ به » (١) إلى غير ذلك من الأخبار الآمرة بتقديم غسل الوجه على غسل اليدين وعلى مسح الرأس والرجلين.

وأما ما دلّ على لزوم مراعاة الترتيب بين اليدين فهو أيضاً عدة من الأخبار :

فمنها : صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين ، قال : يغسل اليمين ويعيد اليسار » (٢).

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه فذكر بعد ذلك غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وإن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضأ وقال اتبع وضوءك بعضه بعضاً » (٣)

ومنها : ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً عن كتاب النوادر لأحمد بن محمد ابن أبي نصر عن عبد الكريم يعني ابن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ، ثم استيقنت بعد أنك بدأت بها ، غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك » (٤) إلى غير ذلك من الروايات.

وأمّا ما دلّ على لزوم الترتيب بين مسح الرجلين وكذا بينه ومسح الرأس فقد قدّمنا الكلام عليه مفصّلاً (٥) فلا نعيد.

ومقتضى هذه الروايات لزوم مراعاة الترتيب بين الأفعال المذكورة ولزوم العود على ما يحصل به الترتيب على تقدير الإخلال به للنسيان ، سواء تذكره في الأثناء أم بعد الفراغ عن الوضوء قبل فوات الموالاة ، وأما بعد فواتها فلا بدّ من استئناف الوضوء لبطلانه بفوات الموالاة المعتبرة بين أجزائه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤٨ / أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ١.

(٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٤٥١ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٢ ، ٩ ، ١٤ ، السرائر ٣ : ٥٥٣.

(٥) في ص ١٦٣.

٣٨٤

نعم يجب مراعاة الأعلى فالأعلى كما مرّ (١) ولو أخلّ بالترتيب ولو جهلاً أو نسياناً بطل إذا تذكّر بعد الفراغ وفوات الموالاة ، وكذا إن تذكّر في الأثناء لكن كانت نيّته

______________________________________________________

بقي الكلام في شي‌ء : وهو أن مقتضى الأخبار الواردة في المقام أنه إذا نسي غسل اليد اليمنى قبل غسل اليسرى فغسلهما على خلاف الترتيب المعتبر في أفعال الوضوء ثم تذكر وجب أن يغسل يمينه بعد ذلك مرة ثانية ثم يساره أيضاً ثانياً ولا يكتفي بإعادة غسل اليد اليسرى فقط وهذا كما في موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن نسيت غسل وجهك فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ، ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد على غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك » (١) ومرسلة الصدوق قدس‌سره قال روي في حديث آخر « في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه أنه يعيد على يمينه ثم على يساره » (٢) إلى غير ذلك من الروايات.

ولا نرى نحن وجهاً صحيحاً لوجوب الإعادة في غسل اليد اليمنى أبداً ، لأن الترتيب المعتبر بين أفعال الوضوء إنما يحصل بإعادة الغسل في اليد اليسرى فحسب ولا مناص معه من رفع اليد عن الأخبار الآمرة بإعادة غسلهما معاً ، أو حملها على ما إذا غسل اليسار فقط قبل غسل اليمنى من غير أن يغسل اليمنى بعدها ، فإنه وقتئذٍ لا بدّ من غسل اليمنى ابتداء ثم يعيد غسل اليسرى حتى يتحقق بذلك الترتيب المعتبر في الوضوء.

عدم اعتبار الترتيب بين أجزاء العضو :

(١) فله أن يصبّ الماء على ظاهر يده من المرفق ويغسله ثم يصب الماء على باطنها فيغسل باطنها ، كما له أن يعكس الأمر بأن يغسل باطن يده من المرفق أوّلاً ، ثم‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٥٢ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٨ ، ١٠ ، الفقيه ١ : ٢٩ / ٩٠.

٣٨٥

فاسدة (١) حيث نوى الوضوء على هذا الوجه ، وإن لم تكن نيّته فاسدة فيعود على ما يحصل به الترتيب (٢)

______________________________________________________

يغسل ظاهرها. وكذلك الحال في غسل الوجه فان له أن يغسل جانبه الأيمن أوّلاً بأن يصبّ الماء عليه بيده ثم يغسل الجانب الأيسر كذلك ، كما أن له أن يعكس الأمر فلا يعتبر الترتيب بين الأجزاء العرضية في الأعضاء.

نعم ، لا بدّ من مراعاة الأعلى فالأعلى فيما يغسله من الأطراف ، فإذا أراد غسل باطن يده من المرفق ابتداء فلا بدّ من أن يغسل الجزء المسامت للجزء المتأخر عنه أوّلاً ثم يغسل ذلك الجزء الثاني المسامت للجزء الثالث ثانياً ، وهكذا يراعي الأعلى فالأعلى إلى آخر الأجزاء الواجب غسلها ، وهكذا الحال فيما إذا غسل ظاهر يده أو وجهه.

نعم لا تعتبر في المسامتة المسامتة الدقية العقلية ، بل المسامتة العرفية كافية في تحقق الشرط المعتبر في الوضوء كما مرّ في محلِّه.

(١) كما إذا قصد امتثال أمر متعلق بوضوء مقيد بأن يغسل فيه اليد اليسرى قبل غسل اليمنى ، أو يغسل فيه الوجه بعد غسل اليدين أو بغير ذلك من القيود ، والجامع أن يكون متعلق الأمر مقيداً بما لا واقع له ، فان الوضوء وقتئذٍ باطل على الإطلاق ، وهذا لا لأجل التشريع فحسب لتختص حرمته بصورة العلم بالحال ، بل من جهة أن العمل غير مقرّب واقعاً ، وقصد التقرب لو تمشي في مثله لم يسبب حصول التقرب ، لعدم صلاحية العمل للمقربية واقعاً ، وهذا لا يفرق فيه بين صورتي العلم والجهل ولا بين التذكر في أثناء العمل أو بعد الفراغ عنه ، نعم لا بأس بالوضوء في محل الكلام فيما إذا أخطأ في التطبيق ، بأن قصد امتثال الأمر الواقعي المتعلق بالوضوء الذي اعتقد كونه مقيداً بكذا وكذا خطأ ، إلاّ أن هذه المسألة مستدركة في المقام ، لأن الكلام في الترتيب وأنه أمر معتبر في الوضوء ويبطل بالإخلال فيه بالترتيب ، وأما بطلانه من غير هذه الناحية كقصد امتثال أمر متعلق بما لا واقع له فهو خارج عن محط الكلام.

(٢) وقد بينّا الوجه فيه مفصلاً آنفاً ، فلا يجب عليه إعادة غسل كل من اليدين فيما‌

٣٨٦

ولا فرق في وجوب الترتيب بين الوضوء الترتيبي والارتماسي (١).

الحادي عشر : الموالاة بمعنى عدم جفاف الأعضاء السابقة قبل الشروع في اللاّحقة ، فلو جفّ تمام ما سبق بطل (٢) ، بل لو جفّ العضو السابق على العضو‌

______________________________________________________

إذا غسل اليد اليسرى مقدّماً على غسل اليمنى ، لأنه لو أعاد غسل اليسرى فحسب لحصل به الترتيب المعتبر في الوضوء.

عدم الفرق في اعتبار الترتيب بين الارتماسي والترتيبي‌

(١) أشار قدس‌سره بذلك إلى الفرق بين الطهارتين أعني الغسل والوضوء ، وأن الوضوء لا يختلف الترتيب المعتبر فيه باختلاف أنحائه وأقسامه كما يختلف في الغسل لوضوح أن غسل الرأس مقدم في الغسل على غسل الجانبين من غير خلاف ، كما أن غسل الجانب الأيمن مقدم على الأيسر على المشهور ، إلاّ أن ذلك خاص بالترتيبي منه دون الارتماسي ، فإن الأمر ربما ينعكس في الارتماس فيغسل أوّلاً رجليه ثم جانبيه ثم رأسه ، لأنه إنما يدخل في الماء من طرف الرجل غالباً في الارتماس ، وهذا بخلاف الوضوء ، لأن مقتضى إطلاق أدلته أن الترتيب معتبر فيه مطلقاً ، سواء أكان التوضؤ بالترتيب أم بالارتماس ، فالارتماسي فيه كالترتيبي ، فان المراد بالارتماس في الوضوء إنما هو ارتماس وجهه أو يده اليمنى أو اليسرى ، فلو قدّم ما هو متأخر بطل وضوءه لا محالة.

اشتراط الموالاة في أفعال الوضوء :

(٢) لا إشكال ولا خلاف في اعتبار الموالاة في الوضوء وإن كان بينهم كلام في أن الموالاة واجب شرطي فيبطل الوضوء بالإخلال بها ، أو أنها واجب نفسي فالإخلال بها يوجب الإثم والعقاب ولا يبطل بذلك الوضوء ، وكيف كان فالمسألة متسالم عليها عندهم.

٣٨٧

وتوضيح الكلام في ذلك : أن مقتضى إطلاق أدلة الوضوء من الآية المباركة والأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام عدم الموالاة في الوضوء وأن حاله حال الغسل ، فكما لا تعتبر الموالاة في صحته فله أن يغسل رأسه في مجلس وزمان ويغسل طرفه الأيمن في وقت آخر والأيسر في زمان ثالث ، فكذلك الحال في الوضوء فيتمكّن المكلّف من أن يغسل وجهه في زمان ويديه في وقت آخر وإن طال الفصل بينهما حسبما يقتضيه إطلاق الأدلة كما عرفت.

نعم ، الفصل الطويل بين الغسلتين والمسحتين مخل بالصحة من جهة اعتبار أن يكون المسح في الوضوء بالنداوة الباقية في يد المتوضئ ، ومع الفصل الكثير ترتفع النداوة وييبس المحل فلا يتحقّق المسح المأمور به في الوضوء. وعلى الجملة أنّا لو كنّا نحن وهذه المطلقات لحكمنا بعدم اعتبار الموالاة بما لها من المعنى والتفسير في الوضوء.

وأمّا الأخبار الآمرة بالاتباع في الوضوء أو الأخبار الدالة على وجوب المتابعة فيه ، أو ما دلّ على أن الوضوء غير قابل للتبعيض فسيأتي أن شيئاً من ذلك لا دلالة له على اعتبار الموالاة العرفية فلاحظ.

نعم ، إنّ بين الروايات روايتين وهما موثقة أبي بصير وصحيحة معاوية بن عمّار وكلتاهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في أُولاهما : « إذا توضأت بعض وضوئك وعرضت لك حاجة حتى يبس وضوءك فأعد وضوءك فان الوضوء لا يبعّض » (١).

وفي ثانيتهما : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ربما توضأت فنفد الماء ، فدعوت الجارية فأبطأت عليَّ بالماء فيجف وضوئي ، فقال : أعد » (٢). وقد دلتا على عدم بطلان الوضوء بحدوث الفصل الطويل في أثنائه ما دام لم يؤد إلى جفاف الأعضاء المتقدمة ولو كان الفصل مخلًّا بالموالاة لدى العُرف ، فنستفيد منهما أن الموالاة المعتبرة في الوضوء عند الشارع ليست هي الموالاة العرفية فحسب ، بل إن لبقاء الرطوبة على‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٤٦ / أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٢ ، ٣.

٣٨٨

الأعضاء المتقدِّمة مدخلية تامّة في تحقّق الموالاة في نظره.

وهذا المعنى من الموالاة أعني عدم جفاف الأعضاء المتقدمة ، وإن كان أمراً تعبدياً في الجملة لا محالة ، إلاّ أنه في الجملة أيضاً موافق للذوق العرفي ، فإن الأعضاء السابقة ما دامت باقية على رطوبتها فكأنها باقية على اتصالها مع الأجزاء اللاّحقة عليها لدى العرف ، وإنما يراها منفصلة عن سابقتها إذا جفت ويبست ، وأما مع بقاء الرطوبة فالوحدة باقية في نظره.

وعليه فمقتضى الجمع بينهما وبين الأخبار المطلقة أن نكتفي في حصول شرط الوضوء بكل من الموالاة العرفية وبقاء الأعضاء المتقدِّمة على رطوبتها ، فأي منهما حصل كفى في الحكم بصحّة الوضوء.

فاذا فرضنا أنه فصل بين أجزاء الوضوء بمقدار مخل للموالاة العرفية ، ولكن الأعضاء المتقدمة كانت باقية على رطوبتها لبرودة الهواء مثلاً كما في الشتاء بحيث لو كان الفصل غير فصل الشتاء لجفت ويبست ، كفى ذلك في صحة الوضوء. كما أنّا لو فرضنا أن الأعضاء السابقة لمرض كما في بعض أقسام الحمى أو لحرارة الهواء تجف بمجرد وصول الماء إليها ، إلاّ أن الفصل المخل بالموالاة العرفية لم يتحقق في الخارج أيضاً حكمنا بصحّة الوضوء.

نعم ، إذا فرضنا أن الأعضاء السابقة قد يبست من جهة التأخير وعدم مراعاة الموالاة حكمنا عليه بالبطلان بمقتضى الموثقة والصحيحة ، وهذا بخلاف ما إذا راعى الموالاة ولكن الأعضاء يبست بسبب حرارة البدن أو الهواء فان الإطلاقات المقتضية للصحة هي المحكّمة وقتئذٍ. فلا نشترط الموالاة العرفية على وجه الإطلاق ، كما لا نشترط بقاء الأعضاء السابقة على رطوبتها على الإطلاق ، هذا.

وقد يُقال مستدلاًّ بالموثقة والصحيحة المتقدِّمتين (١) إن المدار في بطلان الوضوء إنما هو جفاف الأعضاء المتقدمة ، سواء استند ذلك إلى التأخير والفصل الكثير المنافي‌

__________________

(١) في ص ٣٨٨.

٣٨٩

للموالاة العرفية أم استند إلى حرارة البدن أو الهواء ، فبجفاف الأعضاء المتقدمة يحكم بالبطلان وإن كانت الموالاة العرفية غير زائلة ، لأن المذكور في الموثقة وإن كان هو يبوسة الأعضاء المتقدمة من جهة الفصل الطويل المسبب عن عروض الحاجة له إلاّ أن التعليل الوارد في ذيلها بقوله عليه‌السلام « فان الوضوء لا يبعّض » يعم ما إذا حصل الجفاف من جهة حرارة البدن أو الهواء ، لدلالته على أن جفاف الأعضاء السابقة مبعض للوضوء سواء استند إلى ذلك أو إلى ذاك ، هذا.

ولا يخفى أن الكبرى الواردة في ذيل الموثقة وإن كنّا نسلمها ونعترف بأن الوضوء لا يبعض ، إلاّ أن الكلام في أن التبعيض في الوضوء يتحقق بأي شي‌ء ، والظاهر أنه لا بدّ أن يكون التبعيض بأحد أمرين : فإما أن يكون التبعيض بالنظر العرفي وترك الموالاة العرفية ، وإما أن يكون التبعيض بالتعبد الشرعي ، كما إذا حصلت اليبوسة في الأعضاء السابقة من جهة الفصل الطويل كما هو مورد الرواية.

وإذا فرضنا بقاء الموالاة العرفية في مورد فلا محالة يتوقف حصول التبعيض تعبداً بمجرد جفاف الأعضاء السابقة من جهة المرض أو لحرارة الهواء على دلالة الدليل عليه ، والمفروض عدمها ، لأن العلة الواردة في ذيل الموثقة إنما تشتمل على الكبرى فقط ، وقد عرفت أنّا نسلمها ونعترف بمضمونها ، إلاّ أنها غير متكفِّلة لبيان الصغرى والمصداق ، أعني ما به يتحقّق التبعيض في الوضوء ، وموردها خصوص ما إذا استند جفاف الأعضاء السابقة إلى الفصل الطويل لأجل عروض الحاجة له ، ولا تعرض لها إلى الجفاف المستند إلى حرارة البدن أو الهواء ، وقد ذكرنا أن التبعيض إنما يتحقق بأحد أمرين والمفروض أنه لا أثر منهما في المقام ، هذا كله في الموثقة.

وأمّا صحيحة معاوية ، فيتوجّه على الاستدلال بها في المقام أن الحكم الذي تكفلته الصحيحة قضية شخصية في واقعة وهو خطاب لمعاوية ، ولا بدّ في مثلها من الاقتصار على المقدار المتيقن والمعلوم ، وهو مورد الرواية أعني ما اشتمل على قيدين أحدهما : جفاف الأعضاء السابقة. وثانيهما : استناد ذلك إلى التأخير والإبطاء المستندين إلى عروض الحاجة له ، ووجوب الإعادة في مثله مما لا كلام فيه ، وأمّا التعدِّي عنه إلى‌

٣٩٠

ما اشتمل على قيد واحد وهو مجرّد الجفاف وإن لم يستند إلى الإبطاء والتأخير فمما لا شاهد له ، ولا يمكن استفادته من الحكم الخاص أعني ما تكفلته الصحيحة في موردها.

وعليه فما ذهب إليه في المتن ووافقه عليه جملة من المحققين أعني القول بكفاية أحد الأمرين من الموالاة العرفية أعني عدم التبعيض وبقاء الرطوبة في الأعضاء هو المتين ولعلّ هذا القول منشؤه الصدوق قدس‌سره (١) هذا.

ثم إن مقتضى الروايتين هو اعتبار جفاف الأعضاء السابقة بأجمعها ، لمكان قوله عليه‌السلام « فيجف وضوئي » أو « حتى يبس وضوءك » فان ظاهرهما هو جفاف تمام الوضوء ، وعليه فجفاف بعض الأعضاء السابقة مع رطوبة البعض الآخر مما لا يترتّب عليه أثر في البطلان.

ومن ذلك يظهر بطلان ما ذهب إليه الإسكافي قدس‌سره من الحكم بالبطلان عند ما يبس شي‌ء من الأعضاء المتقدِّمة (٢) لما عرفت من أن المدار في ذلك إنما هو يبوسة الأعضاء السابقة بتمامها ، ولا دليل على بطلان الوضوء بجفاف بعضها بوجه.

وكذلك الحال فيما سلكه الحلي قدس‌سره من ذهابه إلى الحكم بالبطلان عند جفاف العضو المتقدم على العضو الذي يريد غسله أو مسحه (٣) وذلك لأنه إن أراد بذلك جفاف تمام الأعضاء المتقدمة بالملازمة كما هو الأقرب ، لأنه إذا كان التأخير بمقدار جف معه العضو المتقدم على ما يريد الاشتغال به فيجف معه الأعضاء المتقدمة عليه بطريق أولى ، فهو عين ما قدمناه من اعتبار جفاف الأعضاء السابقة بتمامها ، وإن أراد به جفاف خصوص العضو السابق على ما بيده ولو مع بقاء الرطوبة في العضو المتقدِّم عنه ، كما إذا كانت رطوبة وجهه باقية وقد جفت رطوبة يده اليمنى وهو يريد‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٥.

(٢) المختلف ١ : ١٤١ المسألة ٩٣.

(٣) السرائر : ١ : ١٠١.

٣٩١

الاشتغال باليد اليسرى مثلاً ، فقد ظهر أنه مما لا دليل عليه ، لأن ظاهر الصحيحة والموثقة إنما هو اعتبار الجفاف في تمام الأعضاء المتقدِّمة كما مرّ.

ومما يدلنا على بطلان هذا القول هو الأخبار الآمرة بأخذ البلّة من اللحي والحاجبين فيما إذا توضأ ونسي المسح ثم تذكر وقد جفت رطوبة يده ووجهه ، فان الوضوء إذا قلنا ببطلانه بجفاف العضو السابق على المسح للزم الحكم ببطلان الوضوء في موارد الأخبار المذكورة ولم يكن وجه لصحته بأخذ البلّة من اللّحى والحاجبين.

فالمتحصل : أن الوضوء يعتبر فيه أحد الأمرين المتقدمين : بقاء الأعضاء السابقة على رطوبتها. والموالاة العرفية فيما إذا لم يستند جفاف الأعضاء إلى التأخير.

ما ذهب إليه جمع من الأصحاب ( قدس‌سرهم )

بقي الكلام فيما ذهب إليه جمع من الأصحاب قدس‌سرهم من أن العامد في الإخلال بالموالاة العرفية يبطل وضوءه ، وأما المضطر الذي من جملته الناسي فهو إنما يبطل وضوءه بالإخلال بالموالاة فيما إذا جفت الأعضاء المتقدِّمة ، وأما إذا تذكر مع بقاء الأعضاء المتقدمة على رطوبتها فهو محكوم بصحة الوضوء.

الوجوه المستدل بها على التفصيل بين الناسي والعامد :

هكذا يفصّل بين الناسي والعامد ويستدل عليه بأُمور :

الأول : أن ذلك مقتضى الجمع بين الروايات ، فإن الأخبار المتضمنة بالأمر بالاتباع أو المتابعة في الوضوء تدلنا على اعتبار الموالاة العرفية في صحته ، لأن ظاهر كلمة الاتباع والمتابعة هو إتيان كل جزء بعد الجزء الآخر متوالياً ، فإذا أخل المكلف بذلك متعمِّداً ولم يأت بالإجزاء على نحو التوالي فقد أخل بالشرط فيحكم على وضوئه بالبطلان.

وأمّا الموثقة والصحيحة الدالتان على صحة الوضوء عند بقاء الرطوبة في الأعضاء السابقة فهما محمولتان على ترك التوالي عند الاضطرار كما هو موردهما ، ومن أفراد‌

٣٩٢

الاضطرار النسيان ، وبهذا يجمع بين الطائفتين ، هذا.

والتحقيق أنه لا فرق بين العامد وغيره في أن الوضوء مع الإخلال بالموالاة العرفية إذا بقيت الأعضاء السابقة على رطوبتها محكوم بالصحة كما مرّ ، والسر في ذلك أنه لا دليل على أن الإخلال بالموالاة العرفية يوجب الحكم ببطلان الوضوء حتى يحمل ذلك على العامد.

وما استدلّ به على ذلك من الأخبار الآمرة بالاتباع والمتابعة وقالوا إنها محمولة على المتعمد في الإخلال بالموالاة العرفية فمما لا يمكن الاعتماد عليه ، وذلك لأن الأخبار الآمرة بالاتباع والمتابعة روايات ثلاث :

الأُولى : رواية حكم بن حكيم قال : « سألت أبا عبد الله عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس ، قال : يعيد الوضوء ، إن الوضوء يتبع بعضه بعضاً » (١) بدعوى أن قوله عليه‌السلام « يتبع بعضه بعضاً » بمعنى أن الأجزاء الوضوئية تعتبر فيها الموالاة عرفاً.

ويتوجّه على الاستدلال بها أولاً : أنها ضعيفة السند بالحسين بن محمد بن عامر لأنه وإن كان يحتمل أن يكون هو الحسين بن محمد بن عمران وهو موثق في الرجال إلاّ أنه مجرّد احتمال لا يعتنى به (٢) والحسين بن محمد بن عامر لم يوثق في الرجال ، كما أن معلّى بن محمد أيضاً مجهول ، فالرواية غير قابلة للاعتماد عليها من حيث السند.

وثانياً : أن دلالتها على المدعى محل الكلام ، وذلك لأن المراد بالتبعية في قوله عليه‌السلام « يتبع بعضه بعضاً » إنما هو الترتيب المعتبر بين أفعاله وأجزائه دون الموالاة العرفية كما توهم ، وذلك بقرينة ورودها في من نسي الذراع والرأس وأخل بالترتيب المعتبر في الوضوء. إذن معنى أنه يتبع بعضه بعضاً ، أن لكل جزء منه موضعاً معيناً‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤٨ / أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٦.

(٢) وقد تعرّض ( دام ظله ) لهذا في الرجال وبنى على أن محمد بن عامر هو الحسين بن محمد بن عمران ، معلّلاً بما عن النجاشي من أن عامراً هو ابن عمران فلاحظ معجم رجال الحديث ٧ : ٨٠.

٣٩٣

لا يسع للمتوضئ أن يقدِّم ما هو متأخِّر أو يؤخِّر ما هو متقدِّم منها.

وثالثاً : أنّا لو سلمنا أن قوله عليه‌السلام « يتبع بعضه بعضاً » بمعنى الموالاة في الوضوء ، فلا مناص من حمله على الموالاة بمعنى جفاف الأعضاء السابقة ، لأن موردها إنما هو الناسي وهو غير مكلف بالموالاة حسبما تقتضيه الموثقة والصحيحة المتقدِّمتان ، وإنما موالاته بمعنى عدم جفاف الأعضاء السابقة ، وقد تقدم أنه تعبدي في الجملة كما أنه في الجملة أيضاً موافق للذوق العرفي ، لأن العرف يرى استمرار العمل وعدم انقطاعه عما تقدم ما دامت الرطوبة باقية على أعضاء الوضوء ، ومع ورود الرواية في مورد النسيان كيف يحمل ذيلها على العامد وغير الناسي. إذن لا مجال لحمل التبعية فيها على الموالاة العرفية حتى يحمل على العامد لمنافاته مورد الرواية كما عرفت.

الثانية : صحيحة زرارة قال « قال أبو جعفر : تابع بين الوضوء كما قال الله عزّ وجلّ ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ، ولا تقدِّمن شيئاً بين يدي شي‌ء ... » (١) مدعياً أن كلمة « تابع » بمعنى الإتيان بالأجزاء متوالية.

ويدفعه : أن كلمة « تابع » في الصحيحة ليست بمعنى الموالاة قطعاً ، لأنه عليه‌السلام استشهد بقول الله عزّ وجلّ ، مع وضوح أن الآية المباركة أجنبية عن الدلالة على اعتبار الموالاة العرفية. بل ذكرنا أن مقتضى إطلاقها كبقية الأخبار المطلقة عدم اعتبار الموالاة في الوضوء كما هي غير معتبرة في الغسل ، بل إنما هي بمعنى الترتيب لأنه الذي ذكره الله سبحانه بقوله « ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) » ومن ثمة قال عليه‌السلام « ابدأ بالوجه ... ».

وعلى الجملة قد يراد بالاتباع الإتيان بالأجزاء متوالية ، وقد يراد منه الإتيان بالأجزاء بعضها بعد بعض وإن لم تكن متوالية ، وقد عرفت أن الأول غير مراد في الصحيحة ، وحيث إن الوضوء متركب من أُمور متعدِّدة لا يمكن الإتيان بها مرّة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤٨ / أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ١.

٣٩٤

واحدة بأجمعها وإنما يؤتى ببعضها قبل بعضها الآخر فالتتابع متحقق فيه في نفسه ، وإنما أراد عليه‌السلام أن يبين كيفية التتابع وأنه إنما يحصل بتقديم غسل الوجه على غسل اليدين ، وبتقديمهما على مسح الرأس ثم الرجلين.

الثالثة : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه فذكر بعد ذلك غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وإن كان إنما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضأ وقال : اتبع وضوءك بعضه بعضاً » (١) وقد استدلّ بالجملة الأخيرة على اعتبار الموالاة العرفية في الوضوء.

ويرده : أن الاتباع المأمور به في الرواية ليس بمعنى الموالاة العرفية ، وإنما معناه الترتيب المعتبر في الوضوء بقرينة صدرها ، وهو إنما ذكر كالدليل على الحكم المذكور في صدر الرواية ، ويبين أن الوجه فيه هو لزوم الاتباع في الوضوء.

على أنّا لو سلمنا أنه بمعنى الموالاة فهي بمعنى عدم جفاف الأعضاء المتقدمة ، وذلك لعين ما قدمناه في الرواية الاولى من أن موردها النسيان ، والناسي غير مكلف بالموالاة العرفية ، وإنما يكلف بالموالاة بالمعنى الثاني حسبما تقتضيه الموثقة والصحيحة المتقدِّمتان ، ومع كون المورد هو الناسي كيف تحمل الرواية على المتعمد ويراد منها اعتبار الموالاة العرفية في الوضوء.

والمتحصل : أنه لم يقم على اعتبار الموالاة العرفية دليل حتى نحمله على العامد ونحمل الموثقة والصحيحة على الناسي ، فلا وجه للتفرقة بينهما أعني العامد والناسي بدعوى أنه مقتضى الجمع بين الدليلين ، بل قد عرفت أن مقتضى إطلاق الآية المباركة وبقية الأخبار المطلقة الآمرة بغسل الوجه واليدين عدم اعتبار الموالاة في الوضوء وأن حاله حال الغسل ، فله أن يأتي بجزء منه في زمان وبالجزء الآخر في زمان آخر إلاّ المسح لأنه لا بدّ وأن يقع عقيب غسل اليدين أعني قبل جفافهما ، لاعتبار أن يكون‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٢ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٩.

٣٩٥

المسح بالبلّة الوضوئية الباقية في اليد ، ومع يبوستها لا يتحقق المسح المأمور به كما هو ظاهر.

ومن هنا يظهر عدم إمكان الاستدلال على اعتبار الموالاة العرفية في الوضوء بالأخبار الآمرة بالإعادة عند جفاف الأعضاء للتراخي ، وذلك لاحتمال استناد البطلان وقتئذٍ إلى عدم تحقق المسح المأمور به لا إلى فوات الموالاة العرفية بين الأعضاء ، وعلى ذلك لا يعتبر الموالاة العرفية في الوضوء. نعم يعتبر عدم جفاف الأعضاء المتقدِّمة حسبما تقتضيه الموثقة والصحيحة ، فاذا جفت وكان مستنده التأخير والإبطاء فهو يوجب البطلان ، لأنه المقدار المتيقن من دلالتهما. وأمّا إذا لم يحصل التأخير الموجب للجفاف ولكن حصل الجفاف من علة أُخرى كحرارة البدن والهواء فبما أن سببية مثله للتبعيض والبطلان لا يمكن ان يستفاد من الصحيحة والموثقة لعدم دلالتهما على بيان ما به يتحقق التبعيض ، فالمرجع حينئذٍ هو الإطلاقات المقتضية للحكم بصحّة الوضوء وعدم اعتبار شي‌ء من بقاء الرطوبة أو غيره في صحّته.

فبهذا لا لدلالة الأخبار المتقدِّمة صحّ لنا أن نقول أنه يعتبر في الوضوء أحد أمرين : إما الموالاة العرفية وإن حصل الجفاف من جهة حرارة البدن أو الهواء ، وإما بقاء الرطوبة في الأعضاء السابقة فيما إذا لم يتحقق هناك الموالاة ، بلا فرق في ذلك بين المتعمد والناسي.

هذا كلّه في الأمر الأوّل من الأُمور المستدل بها على التفصيل بين المتعمد والناسي أعني حالتي الاختيار والاضطرار.

والثاني : قاعدة الاشتغال ، بدعوى أنّا مكلفون بالطهارة للصلاة فاذا شككنا في اعتبار شي‌ء ومدخليته في تحققها فلا مناص من أن يؤتى بها حتى نقطع بحصول الواجب في الخارج وامتثال الأمر المتعلق به ، لأنه من قبيل الشك في المحصل ، وحيث إنّا نحتمل اعتبار التوالي العرفي في حق المتعمد فلا مناص من أن نراعيه حتى نقطع بإتيان ما هو محقق للطهارة الواجبة في حقنا.

وفيه أوّلاً : أن الطهارة ليست إلاّ نفس الأفعال أعني الغسلتين والمسحتين كما قدّمنا‌

٣٩٦

تفصيله سابقاً ، لا أنها أمر آخر يتولد منهما وهما محصّلان للطهارة ، فاذا شككنا في اعتبار أمر زائد على ما نعلم اعتباره في الوضوء فهو من قبيل الشك في أصل توجه التكليف بإتيان المأمور به مقيداً بما نشك في اعتباره ، وهو مورد للبراءة دون الاشتغال.

وثانياً : لو سلمنا أن الشك من قبيل الشك في المحصل وأنه مورد الاشتغال أيضاً لا مجال للتمسك بها في المقام ، وذلك لأن الشك في اعتبار الموالاة العرفية بالإضافة إلى المتعمد مما يدفعه إطلاق الآية المباركة والأخبار المطلقة ، لما تقدم من أن مقتضى إطلاقهما أن الوضوء كالغسل وأن الموالاة غير معتبرة فيه أبداً ، ومن الواضح أن الدليل الاجتهادي لا يبقي مجالاً للتشبث بالأصل العملي.

الثالث : الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، حيث تضمنت أنه عليه‌السلام غرف غرفة فغسل بها وجهه وغرف غرفة اخرى وغسل بها يده اليمنى ثم غرف ثالثاً وغسل بها يده اليسرى ثم مسح رأسه ورجليه ، ولم يرد في شي‌ء من تلك الأخبار الواردة في مقام البيان أنه عليه‌السلام غسل وجهه ثم صبر مدة ثم غسل يديه مثلاً. إذن تدلنا على أن الوضوء يعتبر فيه التوالي لا محالة وأنه من دون التوالي محكوم بالبطلان ، وقد خرجنا عنها في حق الناسي والمضطر بالموثقة والصحيحة المتقدمتين وبقي المتعمد تحتها.

والجواب عن ذلك : أن الأخبار المذكورة ليست بصدد بيان أن الموالاة معتبرة في الوضوء ، وإنما كان عليه‌السلام في تلك الأخبار بصدد تعليم الوضوء للراوي وإرشاده ، ومن البديهي أن مقتضى التعليم أن يأتي عليه‌السلام بجميع أفعال الوضوء بعضها بعد بعض ، فهل ترى من نفسك أن أحداً إذا سألك تعليم الوضوء تأتي ببعض أفعالها وتؤخر إتيان البعض الآخر ، أو تأتي برمتها وحسب ترتيبها مرة واحدة.

ومن الظاهر أن التأخير في أثناء العمل لا يصدر عن العاقل والحكيم عند تعليمه إلاّ بداع أهم ، ومع عدمه فالعادة جارية على الإتيان بجميع ما يعتبر في العمل متتالية حتى يتعلمها الجاهل عند التعليم. إذن عدم إتيانه عليه‌السلام الأجزاء مع التراخي‌

٣٩٧

في الأخبار البيانية إنما هو من جهة الجري على المتعارف العادي في مقام التعليم لا من جهة اعتبار التوالي في الوضوء.

الرابع : الإجماع ، حيث ادعوا الإجماع على هذا التفصيل وأن التوالي يعتبر بالإضافة إلى المتعمد المختار ، وأما الناسي والمضطر فيعتبر في صحة وضوئه عدم جفاف الأعضاء المتقدمة على العضو الذي يريد الاشتغال به.

وفيه : أن الإجماع المنقول لو قلنا باعتباره في غير المقام مع أنّا لا نقول باعتباره أصلاً لا يمكننا الاعتماد عليه في خصوص المسألة ، وذلك لتصريحهم بندرة القول باعتبار الموالاة العرفية في حق العامد وأن القائل باشتراطها غير معروف ، ومعه كيف يكون اعتبارها الشرطي مجمعاً عليه بين الأصحاب ، وإنما القائل باعتبارها يرى الموالاة واجبة بالوجوب النفسي وأن الإخلال بها يوجب الإثم والعصيان ، لا أنه يسبب البطلان وهذا أي الوجوب النفسي أمر آخر وإن نسب إلى المشهور. وكيف كان فلم يثبت اعتبار الموالاة العرفية شرطاً في الوضوء.

فالصحيح ما ذكرناه من عدم اعتبار الموالاة العرفية في الوضوء من دون فرق في ذلك بين المتعمد والناسي.

ما نسب إلى المشهور في المسألة :

بقي الكلام فيما نسبوه إلى المشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) من أن الموالاة معتبرة في الوضوء بالوجوب النفسي ، وأن الإخلال بها يوجب الإثم والعصيان دون بطلان الوضوء.

فقد يستدل على ذلك بقاعدة الاشتغال لاحتمال اعتبارها في الوضوء ، وبما أن المورد من موارد الشك في المحصل فلا مناص من الاحتياط.

وفيه : أنّا إن اعتمدنا على قاعدة الاشتغال عند الشك في اشتراط صحّة الوضوء بالموالاة ، فلا نعتمد عليها في الشك في وجوبها النفسي أبداً ، وذلك لإطباق المحدثين‌

٣٩٨

والأُصوليين على أن الشبهات الوجوبية مورد للبراءة عدا المحدث الأسترآبادي (١) ومعه لا مجال للتمسك بقاعدة الاشتغال.

وقد يستدل بأن الأمر يقتضي الفور ، فلو فصل بين أجزاء الوضوء وأفعاله وخالف الفور أثم ، إذن لا بدّ من أن يأتي بها فوراً وهو معنى وجوب الموالاة في الوضوء ، وهذا الاستدلال لو لم يذكروه في الكتب العلمية لكان الصفح عن ذكره أجدر ، لعدم قابليته للذكر أو الاعتماد عليه.

ويدفعه أوّلاً : أن الأمر لا يفيد الفور ، وعلى تقدير تسليم أنه يفيد الفور لا يمكن الالتزام به في المقام ، وإلاّ لوجبت المبادرة إلى غسل الوجه فوراً وهو مما لا يلتزم به أحد ، لأنه كغسل اليدين متعلق للأمر ، فمن قام من نومه وهو الذي فسر به القيام في الآية المباركة لوجب عليه أن يغسل وجهه ، وهو كما ترى. واحتمال أنه لا يقتضي الفور في غسل الوجه ويقتضيه في غسل اليدين ضعيف غايته ، لأن غسل اليدين لم يتعلّق به أمر مستقل وإنما عطف على غسل الوجه ، فلو حملنا الأمر المتعلق به على غير الفور فبأي شي‌ء نستدل على الفور في غسل اليدين ، هذا كله.

على أنّا لو سلمنا جميع ذلك وأغمضنا عن عدم إفادة الأمر للفور وعن عدم إمكان الالتزام به في المقام لمحذور التفكيك بين مثل الوجه وغسل اليدين ، فهو إنما يتم في الأمر المولوي ولا يتم في مثل الوضوء الذي هو شرط ومقدمة للصلاة ، فإن الإتيان به غير واجب على الفور فكيف يكون الإتيان بأجزائه واجباً فورياً وقتئذٍ.

وثالثة يستدل بالإجماع ، ورابعة بالأخبار الآمرة بالمتابعة والاتباع ، ولكن الإجماع غير تعبّدي ولا يكشف مثله عن رأيه عليه‌السلام والأخبار المذكورة إنما تدلّ على وجوب الترتيب لا على وجوب الموالاة كما تقدّم.

فالإنصاف أنه لا دليل على اعتبار الموالاة في الوضوء لا على وجه الشرطية ولا على وجه النفسية ، من دون فرق في ذلك بين العامد وغيره.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٣٨ ١٣٩ وحكى عنه الشيخ في فرائد الأُصول ١ : ٤١٦.

٣٩٩

بقي هناك أمران ينبغي التنبيه عليهما :

أحدهما : أن المدار في جفاف الأعضاء السابقة هل على الجفاف الفعلي أو أن المعتبر هو الجفاف التقديري نظير التغير التقديري في الماء؟

وجّه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) الاحتمال الثاني ، بل قواه واختاره على ما ينسب إليه ، نظراً إلى أن قوله عليه‌السلام « حتى يبس وضوءك » أو « فيجف وضوئي » في الموثقة والصحيحة المتقدِّمتين (٢) منصرفان إلى اليبس المتعارف العادي وأفاد أنه على ذلك يعتبر في الجفاف المبطل للوضوء أن يكون على نحو لو كان التوضؤ في الهواء المعتدل لجف ، وأما الجفاف في الهواء غير المعتدل وعدمه فهما خارجان عن مورد الروايتين ، فلو فرضنا أنه جفت أعضاؤه في الهواء الحار الشديد أو بقيت على رطوبتها من جهة برودة الهواء ورطوبته كما في أيام الربيع مثلاً ، فهو خارج عن مورد الصحيحة والموثقة.

وفيه : مضافاً إلى أن حمل الجفاف على التقديري خلاف ظاهر الروايتين ، أن غاية ما يلزم على ذلك أن يكون عدم الجفاف في الهواء غير المعتدل خارجاً عن مورد الروايتين ، لأنهما إنما دلتا على صحة الوضوء فيما إذا لم تجف الأعضاء المتقدِّمة من جهة التأخير والإبطاء أي لم يفصل زمان تجف فيه الأعضاء على تقدير حرارة الهواء ، وأما إذا فرضنا تخلل زمان تجف فيه الأعضاء على تقدير اعتدال الهواء غير أنها لم تجف لعدم اعتدال الهواء فهو خارج عن مورد الروايتين ، وأما أن الوضوء يبطل حينئذٍ فهو يحتاج إلى دليل ، فهب أنه خارج عن موردهما ، إلاّ أن مقتضى الإطلاق كما قدّمناه عدم اعتبار الموالاة في الوضوء ، وأن حاله حال الغسل بعينه ، وإنما خرجنا عنها فيما إذا جفّت الأعضاء لأجل التأخير فحسب ، وبقي غيره مشمولاً للإطلاقات ، هذا.

على أنّ الأخبار الواردة في من نسي المسح في وضوئه وأنه يأخذ البلّة من لحيته‌

__________________

(١) في كتاب الطهارة : ١٣٥ السطر ٢٥.

(٢) في ص ٣٨٨.

٤٠٠