موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ولو توضّأ في الصورة الأُولى بطل إن كان قصده امتثال الأمر المتعلِّق به من حيث هذه الصلاة على نحو التقييد (*).

نعم لو توضّأ لغاية أُخرى أو بقصد القربة صحّ ، وكذا لو قصد ذلك الأمر بنحو الداعي لا التقييد (١).

______________________________________________________

إذا توضّأ وهو مأمور بالتيمم :

(١) أراد بذلك بيان حكم المتوضئ فيما إذا حكمنا عليه بوجوب التيمم ، وأنه عند ضيق وقت الصلاة إذا توضأ وترك التيمم الواجب في حقه فهل نحكم بصحة وضوئه وجاز له قضاؤها في خارج الوقت بهذا الوضوء ، أم لا بدّ من الحكم ببطلانه؟

ولا تخلو عبارة الماتن عن قصور ، وتوضيح ذلك : أن المكلف ربما يأتي بالوضوء في مفروض المسألة قاصداً به امتثال الأمر بالصلاة المقيدة في الشريعة المقدسة بالطهارة المائية ، وحينئذٍ لا بدّ من الحكم ببطلان الوضوء ، لأن ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد ، لأنه لم يؤمر في الشريعة المقدسة بالصلاة المتقيدة بالوضوء والطهارة المائية ، وإنما أمر في حقه بالصلاة المقيدة بالطهارة الترابية والتيمم ، والمفروض أنه لم يأت بالوضوء قاصداً لامتثال هذا الأمر.

وربّما يتوضأ قاصداً به امتثال الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة الأعم من المقيدة بالوضوء والمقيدة بالتيمم ، إما لداعي أن لا يصلِّي به بوجه ، بل يأتي به لغيرها من الغايات المترتبة عليه كالكون على الطهارة أو الاستحباب النفسي ونحوها ، وإما بداعي أن يأتي به الصلاة الواجبة على ذمته بحيث لولا وجوب الصلاة في حقه لم يكن يتوضأ أبداً ، إلاّ أنه نوى في وضوئه امتثال الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة ، وحينئذٍ يحكم بصحّة الوضوء ، لأن مجرد كونه مأموراً بالتيمم حينئذٍ لا يخرج الوضوء عن محبوبيته ولا يسلب ملاكه ، بل هو باق على استحبابه النفسي ، وذكرنا في محلِّه أن الأمر بالشي‌ء‌

__________________

(*) لا أثر للتقييد في أمثال المقام فالأظهر هو الصحة في غير موارد التشريع.

٣٦١

لا يقتضي النهي عن ضدّه. إذن فالوضوء مستحب ومحبوب ولم يتعلّق به أي نهي ، فلا محالة يقع صحيحاً ، وإن كان المكلف قد عصى بتركه التيمم الواجب في حقه حتى يتمكّن من إيقاع الصلاة كلها في وقتها. فاذا صح ذلك وحكم على المكلف بالطهارة والوضوء فله أن يصلي بهذا الوضوء أية صلاة شاءها ومنها قضاء صلاته في خارج الوقت ، هذا.

ولكن الصحيح أن يقال : إنّا ذكرنا في التكلّم على مقدّمة الواجب (١) أن عبادية الوضوء والغسل غير ناشئة عن أمرها الغيري المقدمي ، بل إنما نشأت عن استحبابها النفسي ، إذن فالعبادية في مرتبة سابقة على الأمر الغيري المقدمي.

نعم ، لا يعتبر في عباديتها قصد أمرها النفسي على ما أسلفناه في محله كما سبق في التكلم على التعبدي والتوصلي ، أن العبادية يكتفى فيها بالإتيان بذات العمل وإضافته نحو المولى سبحانه نحو إضافة ، وبهذا يمتاز الواجب التعبدي عن التوصلي ، فعلى ذلك يكفي في صحة الوضوء في محل الكلام الإتيان به مضافاً إلى الله سبحانه نحو إضافة من غير أن يعتبر في صحته قصد الحصة الخاصة من الوضوء أعني الوضوء المأمور به مقدّمة للصلاة.

فما أفاده الماتن لا يتم لا على ما ذكرناه آنفاً ولا على ما هو ظاهر عبارته. أما بناء على ما سردناه آنفاً ، فلأن قصد المكلّف الإتيان بالحصة الخاصة من الوضوء أعني الوضوء الواجب مقدّمة للصلاة الذي هو المراد من قصده امتثال الأمر المتعلق به من حيث هذه الصلاة على نحو التقييد قصد أمر لا واقع له ، حيث عرفت أن الوضوء بطبيعيه عبادة ومستحب ذاتي وليست له حصتان ولا هو على نوعين وقسمين ، فقصد الحصة الخاصة من الوضوء مما لا واقع له ، وهو نظير قصده الوضوء الليلي أو النهاري حيث لا حصة للوضوء من حيث الليل والنهار ، فالقيد بهذا المعنى مما لا واقع له. نعم المقيد وهو الصلاة على قسمين ، لأنها قد تتقيد بالطهارة الترابية وقد تتقيد بالطهارة‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٠١.

٣٦٢

المائية ، وأما القيد فلا ، كما مرّ.

وأمّا بناء على ما هو ظاهر عبارته قدس‌سره من تقسيمه الوضوء المأتي به على قسمين ، وأنه قد يأتي به على نحو التقييد بأن يأتي الوضوء بداعي أنه الذي تتقيد به الصلاة الواجبة في حقه على نحو لو لم يكن صلاته متقيدة به لم يكن يأتي به ، وقد يأتي به على نحو الداعي لا التقييد بأن يأتي به بداعي أنه الذي تقيّدت به صلاته ولكن لا على نحو لو لم تتقيّد به صلاته لم يكن يأتي به ، بل هو يأتي بذلك الوضوء حتى لو لم تكن صلاته متقيدة به كما مرّ منه قدس‌سره هذا التفسير للداعي والتقييد في المسألة الثالثة من مسائل الوضوءات المستحبّة (١).

فالوجه في عدم تمامية ما أفاده قدس‌سره هو ما أسلفناه هناك من أن التقييد بهذا المعنى أيضاً لا يرجع إلى محصل ، فإن العبادة يكفي في صحّتها أن يؤتى بذات العمل مضافة إلى المولى نحو اضافة ، والمفروض أن المكلف في المقام قد أتى بذات الوضوء وأضافها إلى الله سبحانه أيضاً ، وبذلك تمّت العبادة ، وغاية الأمر أنه كان معتقداً بوجوبه فقد ظهر استحبابه ، فهو من قبيل الخطأ في التطبيق وقصده أن لا يأتي به على تقدير عدم كونه مقدّمة لصلاته لغو ولا يضر بصحّة ما أتى به من العمل متقرباً به إلى الله تعالى.

اللهمّ إلاّ أن يكون عالماً بعدم وجوبه وأن الصلاة غير متوقفة عليه ومع ذاك أتى به بداعي أنه مقدمة لصلاته ، فإنه وقتئذٍ تشريع محرم وهو مبطل للعبادة كما قدّمنا تفصيله في محله ، فما أفاده قدس‌سره من أن الإتيان بالوضوء قد يكون على وجه التقييد وقد يكون على وجه الداعي لا يرجع إلى محصل معقول.

بل الصحيح أن يفصّل في صحة الوضوء بين ما إذا كان المكلف عالماً بعدم توقف صلاته على الوضوء ، لعلمه بضيق الوقت وأن وظيفته حينئذٍ هو التيمم ومعه قد أتى به بقصد أنه واجب مقدمي للصلاة ، فإنه وقتئذٍ تشريع وهو موجب لبطلان وضوئه ، وما‌

__________________

(١) في ص ١٥.

٣٦٣

[٥٦٠] مسألة ٢١ : في صورة كون استعمال الماء مضرّاً (١) لو صبّ الماء على ذلك المحلّ الذي يتضرّر به ووقع في الضرر ثم توضّأ صحّ إذا لم يكن الوضوء موجباً لزيادته لكنه عصى بفعله (*) الأول.

التاسع : المباشرة في أفعال الوضوء في حال الاختيار (٢) ،

______________________________________________________

إذا لم يكن عالماً بعدم المقدمة بل كان جاهلاً بها ولكنه أتى به بداعي شي‌ء من الغايات المترتبة عليه أو بداعي تلك الصلاة مع الغفلة عن تضيق وقتها وعدم توقف صلاته عليه ، فان وضوءه صحيح في هذه الصورة ، فإنه أتى بذات العمل مضافة إلى الله سبحانه ، وقد عرفت أنه يكفي في الحكم بصحة العبادة وإن أخطأ في التطبيق حيث تخيّل وجوبه وكان أمراً استحبابياً واقعاً.

(١) بأن حصل الضرر بمجرّد وصول الماء إلى البشرة ، بحيث لو صبّ الماء بعد ذلك بقصد الغسل أو الوضوء لم يترتب عليه أي ضرر من حدوث مرض أو اشتداده أو بطء زواله ونحو ذلك فيقع غسله أو وضوءه صحيحاً ، حيث لا ضرر في شي‌ء منهما وإن عصى بذلك حيث أوقع نفسه في الضرر ، بناء على أن مطلق الإضرار بالنفس محرم شرعاً. وأما بناء على ما قدمناه في محله من عدم دلالة الدليل على حرمة مطلق الإضرار بالنفس فلا معصية أيضاً بوجه.

اعتبار المباشرة في أفعال الوضوء :

(٢) ويدلُّ على ذلك مضافاً إلى الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية حيث دلت بأجمعها على أنه عليه‌السلام قد أسدل الماء من أعلى وجهه أو من مرفقه وأمرّ يده إلى الذقن أو الأصابع ، نفس الخطابات المتكفلة لوجوب الغسل والمسح كما في الآية المباركة والروايات ، فان مقتضى إطلاق الأمر بالغسل أن المكلف يجب أن يغسل‌

__________________

(*) في إطلاقه إشكال بل منع.

٣٦٤

فلو باشرها الغير أو أعانه في الغسل أو المسح بطل ، وأمّا المقدّمات للأفعال فهي أقسام : أحدها : المقدّمات البعيدة كإتيان الماء أو تسخينه أو نحو ذلك.

______________________________________________________

وجهه ويديه بنفسه وكذلك يجب أن يمسح رأسه أو رجليه بنفسه ، فلو غسلهما أو مسحهما الغير لم يسقط بذلك التكليف عنه ، لأن إيجابهما مطلق ويدلُّ على وجوب الإتيان بهما بالمباشرة سواء أتى بهما غيره أم لم يأت بهما.

وكذلك الحال في جميع التكاليف والواجبات تعبدية كانت أم توصلية ، فإن المناط المتقدم أعني ظهور نفس الخطاب وتوجهه في وجوب المباشرة وعدم سقوط الواجب بفعل الغير متحقق في الجميع على حد سواء. اللهمّ إلاّ أن يقوم دليل خارجي على أن الغرض يحصل في الخارج من مجرد تحقق المأمور به ووجوده ، سواء استند ذلك إلى المباشرة أم التسبيب وفعل الغير ، فلو أمر بغسل ثوبه فمقتضى ظهور هذا الخطاب وإطلاقه عدم كفاية غسل الغير في حصول الامتثال ، إلاّ أن القرينة الخارجية دلتنا على أن الغرض من الأمر بغسله إنما هو مجرّد إزالة النجاسة عنه ، حصل ذلك بفعل نفس المأمور ومباشرته أو بفعل شخص آخر ، بل وسواء حصل من عاقل بالاختيار أم من غير العاقل أو من دون الاختيار ، كما إذا أطارته الريح وألقته في كر من الماء وزالت عنه النجاسة بذلك أو وقع عليه المطر فطهّره.

وأما إذا لم تقم قرينة خارجية على ذلك ، فمقتضى الظهور والإطلاق إنما هو اشتراط المباشرة كما عرفت ، وقد خرجنا عن ذلك في باب العقود والإيقاعات ، لأنه لو أمر بالبيع أو النكاح أو الطلاق أو الصلح فكما يحصل امتثال الأمر بذلك بإيقاع المعاملة بنفسه والمباشرة كذلك يحصل بأمره الغير بإيقاعها ، والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه في بحث المكاسب من أن الأفعال التكوينية ليست كالأفعال الاعتبارية من جهة أن إسناد الأفعال التكوينية على وجه الحقيقة لا يصحّ إلاّ إلى فاعلها ومصدرها أو صانعها فلا يصح أن يقال شرب فلان الماء إلاّ إذا شربه بالمباشرة ، فلو أمره غيره بشربه فشربه ذلك الغير لم يصح أن يقال شرب فلان الماء حقيقة.

٣٦٥

وهذا بخلاف الأفعال الاعتبارية ، لأنها كما يصح إسنادها إلى فاعلها بالمباشرة كذلك يصح إسنادها حقيقة إلى فاعلها بالتسبيب ، كما إذا أوجدها من أمره بإيجادها وذلك لأن قوام الأُمور الاعتبارية بالاعتبار ، فيصح إسنادها إلى من اعتبرها حقيقة كما إذا اعتبر ملكية ماله للمشتري وأمر غيره بأن يبيع ماله منه أي من ذلك المشتري فكما يصح أن يقال حقيقة إن الوكيل أو المأمور قد باع ذلك المال كذلك يصح أن يقال حقيقة إن المالك والآمر قد باع ذلك المال لقيام الاعتبار به ، وكذا فيما لو باعه الفضولي فإجازة مالك المال ، لأنه بالإجازة يصح أن يسند البيع إلى المالك بإمضائه وإجازته ويصحّ أن يقال فلان باع داره حقيقة ، لأنه الذي اعتبر ملكيتها للمشتري وأبرزه بإجازته وإمضائه.

وأظهر من ذلك ما إذا كان المأمور وكيلاً في مجرد إيقاع الصيغة وإنشائها من دون علمه بالعوضين ولا عرفانه بشي‌ء من شروطهما ، فان البيع حينئذٍ يسند إلى الموكل المالك إسناداً حقيقياً ، بل في صحة إسناده إلى الوكيل المذكور إشكال ، ومن هنا تأمل الشيخ قدس‌سره في ثبوت خيار المجلس لمثل هذا الوكيل نظراً إلى أن « البيّع » لا يصدق على مثله حقيقة (١).

وكيف كان ، فالخطابات بأنفسها وإطلاقها ظاهرة في اشتراط المباشرة في الأفعال التكوينية ، اللهمّ إلاّ أن يقوم دليل على صحة النيابة كما في الجهاد ، وعليه يكون العمل الصادر من الغير مسقطاً للواجب عن ذمة المنوب عنه لا أنه يقع مصداقاً للمأمور به لوضوح عدم معقولية تكليف أحد بالعمل الصادر من الغير ، وهذا ظاهر.

وأما في الأفعال الاعتبارية فظهور الخطابات وإطلاقها لا يقتضي اعتبار المباشرة كما عرفت ، وحيث إن الغسل والمسح من الأفعال التكوينية ولم يقم دليل على صحة النيابة فيهما فمقتضى ظهور الآية والأخبار وإطلاقاتها هو اعتبار المباشرة في الوضوء وعدم سقوطه بالفعل الصادر من الغير.

__________________

(١) المكاسب : ٢١٦ السطر ٣٠.

٣٦٦

وهذه لا مانع من تصدّى الغير لها (١).

الثاني : المقدمات القريبة مثل صبّ الماء في كفّه وفي هذه يكره مباشرة الغير (٢).

______________________________________________________

على أن المسألة مما لا خلاف فيه إلاّ من ابن الجنيد ، حيث ذهب إلى كراهة التولية في الوضوء (١) إلاّ أنه مما لا يعبأ به لشذوذه وندرته فإنه على خلاف المتسالم عليه بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ).

(١) ويدلُّ عليه مضافاً إلى الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، لاشتمالها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بقعب أو قدح أو طست أو تور أو غيره من أواني الماء (٢) وهي قد وردت في مقام البيان ، فيستفاد منها أن الإعانة في أمثال ذلك من المقدّمات البعيدة للوضوء أمر سائغ لا منع عنه ، أن التوضؤ من دون إعانة الغير في المقدمات أمر لا يتحقق إلاّ نادراً ، لتوقفه على أن يصنع لنفسه ظرفاً من إبريق ونحوه حتى يخرج به الماء من البئر أو البحر أو المخزن ونحوها ، وإلاّ فصانع الإبريق أو من أتى به الماء مثلاً معين للمتوضئ في وضوئه فلا يتحقق الوضوء من دون إعانة الغير إلاّ بالذهاب إلى بحر أو نهر ليتوضأ منه بلا إعانة الغير ، وهو قليل التحقّق لا محالة.

هذا على أن عبادية الوضوء ليست بأرقى من عبادية بقية العبادات كالحج والصلاة ، ولا إشكال في جواز الاستعانة من الغير في مقدماتهما ، فهل يكون هذا تشريكاً في الحج والصلاة ، أو أنه لا مانع من الشركة فيهما بخلاف الوضوء ، وهذا مما يدلّنا على عدم المنع من الاستعانة بالغير في مقدمات الوضوء.

مورد كراهة مباشرة الغير :

(٢) بل الظاهر عدم المنع عن ذلك لا كراهة ولا تحريماً ، ولا يمكن المساعدة على‌

__________________

(١) المختلف ١ : ١٣٥ المسألة [٨٣].

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢ ، ٣ ، ٦ ، ١٠ ، ١١.

٣٦٧

ما ذكره الماتن من الحكم بالكراهة ، وذلك لعدم قيام دليل على الكراهة بوجه ، وما استدلّ به عليها من الروايات الآتي نقلها إما ضعيف السند والدلالة معاً أو من إحدى الجهتين.

مضافاً إلى دلالة الرواية الصحيحة على الجواز وعدم الكراهة أو الحرمة وهي صحيحة الحذاء قال : « وضأت أبا جعفر عليه‌السلام بجمع ( عرفات ) وقد بال ، فناولته ماء فاستنجى ثم صببت عليه كفاً فغسل به وجهه وكفاً غسل به ذراعه الأيمن وكفاً غسل به ذراعه الأيسر ، ثم مسح بفضلة الندى رأسه ورجليه » (١) وهي صريحة الدلالة على جواز تصدي الغير بالمقدمات القريبة في الوضوء.

نعم ، رواها الشيخ قدس‌سره في موضع آخر من التهذيب مشتملة على قوله « ثم أخذ كفّاً » (٢) بدل ثم صببت عليه كفّاً ، كما نقله في الوسائل ، وعليه تكون الرواية أجنبية عما نحن بصدده ، إلاّ أن الصحيح هو نسخة الوسائل ولعلّه سقط عن قلم الشيخ اشتباهاً ، وذلك لاشتمال صدرها على قول الحذاء : « وضأت أبا جعفر » فلو كان عليه‌السلام أخذ الماء بنفسه فأين وضاءة الحذاء حينئذٍ؟ هذا.

وقد استدل للكراهة بعدة روايات :

منها : رواية حسن الوشاء قال : « دخلت على الرضا عليه‌السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت منه لأصب عليه فأبى ذلك ، فقال : مه يا حسن ، فقلت له لِمَ تنهاني أن أصب الماء على يديك تكره أن أُوجر؟ قال : تؤجر أنت وأُوزر أنا ، فقلت : وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد » (٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩١ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٨.

(٢) التهذيب ١ : ٧٩ / ٥٣ وأخرجها في ص ٥٨ / ١٦٢ مطابقة لما في الوسائل.

(٣) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ١.

٣٦٨

ولكنّها ضعيفة السند بإبراهيم بن إسحاق الأحمر ، لأنه ممن ضعّفه الشيخ (١) والنجاشي (٢) قدس‌سرهما كما أنها ضعيفة الدلالة على المدعى ، حيث إن ظاهرها الحرمة ، لأن معنى قوله تعالى ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا ... ) أنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن الظاهر أن ارتكاب أمر مكروه عند الله سبحانه لا يستلزم انتفاء الايمان بالله سبحانه واليوم الآخر ، فلا يتحقق هذا إلاّ في ارتكاب المحرمات.

أضف إلى ذلك قوله عليه‌السلام « أُوزر أنا » فان الوزر بمعنى العقاب وهو مختص بالحرام.

وفي الرواية مناقشة أُخرى ، وهي أن ظاهر الآية المباركة التي استشهد بها الامام عليه‌السلام عدم جواز الإشراك في العبودية ، وأن من آمن بالله واليوم الآخر لا يسوغ له أن يعبد غير الله سبحانه ، بل لا مناص من حصر المعبودية به جلّت عظمته كما اشتمل عليه غيره من الآيات أيضاً كقوله عزّ من قائل ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣) وقوله ( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) (٤) ولا يستفاد منها عدم جواز الإتيان بعبادة الله تعالى من دون إشراك مع الاستعانة بالغير في مقدّمات العمل.

وعلى الجملة : إن ظاهر الآية عدم جواز الإشراك في المعبود دون الإشراك في العمل.

إذن لا مناص من طرح الرواية أو حملها على إرادة التشريك في نفس العمل ، كما إذا وضّأه غيره كما كان هو المرسوم عند السلاطين والجبابرة العظماء حيث كانوا يوضئوهم الخدم والعبيد ولم يكونوا يتصدّون لتلك الأُمور بالمباشرة ، وقد أُشير إلى ذلك في بعض الروايات الآتية (٥) أيضاً فلاحظ.

__________________

(١) رجال الطوسي : ٤١٤ / ٥٩٩٤.

(٢) رجال النجاشي : ١٩ / ٢١.

(٣) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٤) الفاتحة ١ : ٥.

(٥) وهي مرسلة المفيد الآتية المرويّة في الوسائل ١ : ٤٧٨ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٤.

٣٦٩

الثالث : مثل صبّ الماء على أعضائه مع كونه هو المباشر لإجرائه وغسل أعضائه ، وفي هذه الصورة وإن كان لا يخلو تصدّي الغير عن إشكال ، إلاّ أنّ الظاهر صحّته ، فينحصر البطلان فيما لو باشر الغير غسله أو أعانه على المباشرة بأن يكون الإجراء والغسل منهما معاً.

______________________________________________________

ولا ينبغي الإشكال في أن ذلك يوجب البطلان لمنافاته اشتراط المباشرة في أعمال المكلف.

ومنها : مرسلة الصدوق قدس‌سره قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا توضأ لم يدع أحداً يصب عليه الماء ، فقيل له يا أمير المؤمنين لِمَ لا تدعهم يصبّون عليك الماء؟ فقال : لا أُحب أن أُشرك في صلاتي أحداً ، وقال الله تبارك وتعالى ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) » (١).

ويتوجه على الاستدلال بها :

أوّلاً : أنها ضعيفة السند بالإرسال.

وثانياً : أنها قاصرة الدلالة على المدعى ، لما مرّ من أن ظاهر الآية المباركة حرمة الإشراك في عبادة الله سبحانه وهل يكون الإشراك مكروهاً ، وإلاّ لم يختص تركه بمن آمن بالله ويوم المعاد ، هذا.

على أن ظاهر الرواية أن عدم حبّه عليه‌السلام أن يصب عليه الماء مستند إلى كون الوضوء مقدمة للصلاة ، وأن الإشراك فيه إشراك في الصلاة ، ولازم هذا كراهة الاستعانة في جميع مقدّمات الصلاة حتى تهيئة المكان والمسجد وغيرهما ، لأنه إشراك في الصلاة ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

هذا كلّه فيما رواه الصدوق قدس‌سره في المقنع (٢) والفقيه (٣) على وجه الإرسال.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٧ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٢ ، الفقيه ١ : ٢٧ / ٨٥.

(٢) المقنع : ١١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٧ / ٨٥.

٣٧٠

وقد نقله قدس‌سره في العلل بالإسناد عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن إبراهيم بن إسحاق عن عبد الله بن حماد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) وهذا الطريق أيضاً ضعيف بإبراهيم بن إسحاق الأحمر ، لأن الشيخ (٢) والنجاشي (٣) قدس‌سرهما قد ضعّفاه. ونقله الشيخ قدس‌سره في تهذيبه بإسناده عن إبراهيم ابن هاشم عن عبد الرحمن بن حماد عن إبراهيم بن عبد الحميد (٤). وهذا أيضاً ضعيف لأن عبد الرّحمن بن حماد إمامي مجهول.

ومنها : مرسلة المفيد قدس‌سره قال : « دخل الرضا عليه‌السلام يوماً والمأمون يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء ، فقال : لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحداً ، فصرف المأمون الغلام وتولّى تمام وضوئه بنفسه » (٥) وقد استدلّ بها على كراهة الاستعانة بالغير في المقدمات ، نظراً إلى أن الامام عليه‌السلام لم يأمر المأمون بالاستئناف وإعادة وضوئه ، بل قد أتم وضوءه بالمباشرة وأمضاه الامام عليه‌السلام فلو كانت الاستعانة بالغير محرماً لأمره بالاستئناف والإعادة.

ولكنها أيضاً ضعيفة بإرسالها ، كما أنها قاصرة الدلالة لعين ما قدّمناه في سابقتها لأن ظاهرها أن الاستعانة بالغير في مقدمات الوضوء إشراك في العبادة وهي الصلاة ولازمه كراهة الاستعانة بالغير في مطلق مقدمات الصلاة ، لأنها إشراك في العبادة والصلاة كما عرفت أن الآية المباركة منطبقة على الإشراك في العمل ، لأنها إنما دلت على حرمة الإشراك ولا حرمة إلاّ في الإشراك في المعبود لا في العمل.

ومنها : ما رواه هو قدس‌سره في الخصال بإسناده عن أبيه عن علي بن إبراهيم‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٧٨ / ١.

(٢) رجال الطوسي : ٤١٤ / ٥٩٩٤.

(٣) رجال النجاشي : ١٩ / ٢١.

(٤) التهذيب ١ : ٣٥٤ / ١٠٥٧.

(٥) الوسائل ١ : ٤٧٨ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٤ ، الإرشاد : ٣١٥.

٣٧١

عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خصلتان لا أُحب أن يشاركني فيهما أحد : وضوئي فإنه من صلاتي ، وصدقتي فإنها من يدي إلى يد السائل فإنها تقع في يد الرحمن » (١) وهي وإن كانت من حيث السند معتبرة حيث بنينا أخيراً على اعتبار روايتي النوفلي والسكوني اعتماداً على ما يحكى عن الشيخ قدس‌سره من دعوى إجماعهم على العمل بروايات السكوني في غير واحد من مواضع كلامه (٢) ، وهذا الإجماع توثيق منهم للسكوني ، وهو وإن اختلفوا في مذهبه وقد قيل إنه عامي إلاّ أن مذهبه غير قادح في وثاقته في الرواية.

ثم إن هذا الإجماع كما ذكره الوحيد البهبهاني قدس‌سره (٣) يلازم الإجماع على قبول روايات النوفلي أيضاً ، لأن طريق السكوني في كتابه إنما هو النوفلي الذي يروي عنه إبراهيم بن هاشم ، فإذا أجمعوا على اعتبار روايات السكوني كان ذلك إجماعاً بالملازمة على اعتبار روايات النوفلي أيضاً فلاحظ ، هذا.

ويمكن المناقشة في ذلك بأن ما سردناه وذكره البهبهاني قدس‌سره إنما يتم فيما إذا كانت روايات السكوني منحصرة بما في كتابه عن النوفلي ، وليس الأمر كذلك ، لأن له روايات اخرى بطريق آخر غير كتابه حسبما نقله الأردبيلي قدس‌سره في جامع الرواة (٤) ومعه لا يكون الإجماع على اعتبار روايات السكوني إجماعاً بالملازمة على اعتبار روايات النوفلي أيضاً. إذن لا بدّ من ملاحظة حال النوفلي رأساً وهو وإن لم يضعّف في الرجال إلاّ أنه لم يوثق أيضاً ولم يذكروا له مدحاً ولا توثيقاً ، وبذلك يكون النوفلي مجهول الحال فيكون السند في الرواية ضعيفاً لا محالة (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٨ / أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٣ ، الخصال : ٣٣ / ٢.

(٢) عدة الأُصول ١ : ٥٦ السطر ١٢.

(٣) تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال : ٥٧.

(٤) جامع الرواة ١ : ٩١.

(٥) ولا يخفى أن النوفلي ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات وقد بنى ( دام ظله ) أخيراً على اعتبار

٣٧٢

ولكنّها قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن ظاهرها هو الاستعانة بالغير في نفس العمل والوضوء دون مقدّماته ، لأن المشاركة لا تطلق على مجرّد الإعانة في المقدّمات فلا يصح أن يقال لمن هيأ الدواة والقرطاس أنه شارك الكاتب فيما كتبه ، ولا يقال للخياط أنه شارك اللابس في لبسه الثياب. فالمشاركة إنما يصح إطلاقها فيما إذا أعان الفاعل في نفس العمل بأن صدر الفعل من اثنين معاً ، ولا إشكال في بطلان الوضوء بذلك ، لأنه خلاف الأدلّة المتقدِّمة الدالّة على اعتبار المباشرة في الواجبات.

ويؤيد ذلك الفقرة الأخيرة من الرواية ، حيث إن مشاركة الغير في الصدقة إنما تتصوّر بإعطاء الفلوس مثلاً لذلك الغير حتى هو يوصله إلى يد السائل وهو الشركة في نفس العمل والاستنابة فيه.

وهذا قرينة على أن المراد من الفقرة الأُولى أيضاً هو ذلك ، ولا إشكال في أن الشركة في نفس الوضوء والاستنابة فيه موجبان للبطلان.

فالمتحصل إلى هنا أن الحكم بكراهة الاستعانة بالغير في المقدّمات مشكل جدّاً ولم يدلنا على كراهيتها دليل. مضافاً إلى القطع بأنه لا خصوصية للوضوء من بين العبادات ، فلو كانت الاستعانة في مقدماته مكروهة لكرهت الاستعانة في مقدّمات مثل الحج والصلاة والصوم والجهاد أيضاً ، وهذا مما لا يلتزم به القائل بكراهة الاستعانة في مقدّمات الوضوء ، وتخصيص الوضوء بذلك من بين العبادات مما لا مخصّص له.

ثم إنه قد ظهر مما بيّناه في المقام أن الأخبار المستدل بها على الكراهة في الاستعانة بالغير في مقدمات الوضوء غير قابلة للاعتماد عليها عند الاستدلال ، لضعفها من جهتي السند والدلالة معاً ، وأنه ليست المناقشة فيها منحصرة بضعف السند فحسب‌

__________________

كل من وقع في سلسلة أسانيد ذلك الكتاب ولم يضعف بتضعيف معتبر ، إذن على هذا المسلك يكون النوفلي ممن وثقه ابن قولويه ، وحيث لم يضعف بتضعيف معتبر فلا بدّ أن يحكم بوثاقة الرواية في المقام.

٣٧٣

كما عن بعضهم حتى يجاب عنها كما في الجواهر بأن ضعفها منجبر بعمل المشهور على طبقها. على أن ضعف السند غير مضر في الحكم بالكراهة من جهة قاعدة التسامح في أدلة السنن. وقد مرّ أن الأخبار المتقدمة زائدة على ضعف السند قاصرة الدلالة أيضاً على المدعى.

وما أجاب به في الجواهر (١) على تقدير تماميته إنما يتكفل لتصحيح السند ولا يدفع المناقشة عنها في دلالتها. على أنه غير دافع للمناقشة السندية أيضاً ، وذلك لأنّا لو سلمنا أن اعتماد الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) على رواية ضعيفة جابر لضعفها لكشفه عن أنهم قد أصابوا بقرينة دلتهم على اعتبارها ، فهو إنما يتم فيما إذا أحرزنا صغرى تلك القاعدة وعلمنا أنهم قد اعتمدوا في حكمهم هذا على تلك الرواية الضعيفة ، ومن أين نحرز ذلك في المقام ، حيث إن الحكم من الأحكام غير الإلزامية فيحتمل أنهم اعتمدوا في الحكم بكراهة الاستعانة في المقدمات على قاعدة التسامح في أدلة السنن ، ومعه كيف يمكن الحكم بانجبار ضعف الروايات بدعوى انجبار ضعف الرواية بعمل المشهور على طبقها.

وأما التمسك في المقام بقاعدة التسامح في أدلة السنن ، فيتوجّه عليه مضافاً إلى أنها مما لا أساس له حسبما قدّمناه في محلِّه (٢) أنها لو تمت في نفسها فإنما تتم في المستحبّات لأن ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من بلغه ثواب من الله على عمل ... » (٣) هو الفعل والعمل فلا يعم الترك والكراهة.

فالصحيح ما قدّمناه من أن الكراهة مما لا أساس له في المقام ، فما ذهب إليه صاحب المدارك (٤) واختاره في الحدائق (٥) من عدم كراهة الاستعانة في المقدّمات‌

__________________

(١) الجواهر ٢ : ٣٤٣.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٣١٩.

(٣) الوسائل ١ : ٨٢ / أبواب مقدمة العبادات ب ١٨ ح ٧.

(٤) المدارك ١ : ٢٥٢.

(٥) الحدائق ٢ : ٣٦٤.

٣٧٤

[٥٦١] مسألة ٢٢ : إذا كان الماء جارياً من ميزاب أو نحوه ، فجعل وجهه أو يده تحته بحيث جرى الماء عليه بقصد الوضوء صحّ (١) ولا ينافي وجوب المباشرة بل يمكن أن يقال (٢) : إذا كان شخص يصبّ الماء من مكان عال لا بقصد أن يتوضّأ به (*) أحد (٣) وجعل هو يده أو وجهه تحته صحّ أيضاً ولا يعدّ هذا من إعانة الغير أيضاً.

______________________________________________________

القريبة فضلاً عن البعيدة ، هو الصحيح.

(١) وذلك لصحة استناد الوضوء حينئذٍ إلى المتوضئ حقيقة لدى العرف ، لأنه الذي جعل يده تحت الميزاب وغسل وجهه ويده دون غيره كما هو ظاهر.

(٢) لعين ما قدّمناه في الوضوء من الماء الجاري من الميزاب ، لأن غسل الوجه واليدين بالإمرار أو بأخذ اليد تحت الماء إنما يستند إلى المتوضئ حقيقة ، وأما صبّ الماء من غير أن يقصد توضؤ الغير به ، فإنما هو إعداد لا إعانة في الوضوء.

(٣) بل ولو بقصد أن يتوضأ به أحد ، لأن القصد وعدمه مما لا مدخلية له في استناد الوضوء إلى المتوضئ وعدمه ، فلو كانت له مدخلية فإنما هي في صدق الإعانة على صبّه لا في صدق الاستعانة وعدم استناد الوضوء إلى فاعله ، بناء على أن مفهوم الإعانة يتقوّم بالقصد كما ذكره شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره فإنه إذا لم يقصد بصبه أن يتوضأ به غيره لم يصدق على صبّه عنوان الإعانة ، كما أنها تصدق مع قصده ذلك.

وأمّا في صدق الاستعانة فلا ، والسر في ذلك هو أن الجزء الأخير الذي به يتحقق الفعل المأمور به إنما يصدر من المتوضئ بإرادته واختياره ، وهو جعل يده ووضعها تحت الماء الذي به يتحقق الوضوء من غسل يده ووجهه ، فبه صحّ أن يُقال إنه توضأ‌

__________________

(*) بل مع هذا القصد أيضاً إذا جعل المتوضئ وجهه أو يده تحت عمود الماء باختياره بحيث جرى الماء عليه بقصد الوضوء.

(١) لاحظ كتاب الطهارة : ١٤٩.

٣٧٥

[٥٦٢] مسألة ٢٣ : إذا لم يتمكّن من المباشرة جاز (١).

______________________________________________________

سواء قصد الصاب بصبِّه هذا أن يتوضأ به غيره أم لم يقصده. ففرق ظاهر بين أن تكون يده في موضع فصبّ عليها الماء غيره ، وأن يصبّ الماء غيره وهو وضع يده تحته للوضوء ، لأن الوضوء حينئذٍ يستند إلى فاعله حقيقة. نعم لو أمر المتوضئ غيره بأن يصبّ الماء على يده دخل ذلك في الاستعانة بالغير في المقدمات وقد أسلفنا حكمها.

وظيفة العاجز عن المباشرة :

(١) المسألة متسالم عليها عندهم ولم يعرف فيها الخلاف ، وإنما الكلام في مدركها وأن المكلف بعد ما وجبت عليه المباشرة في العمل وإصدار المكلّف به بنفسه من جهة اقتضاء ظواهر الخطابات ذلك ، إذا عجز عن التصدي له بالمباشرة لماذا يجب عليه الاستنابة والاستعانة بغيره ، مع أن مقتضى القاعدة أن تتبدّل وظيفته إلى التيمّم ، لعدم تمكّنه من الوضوء المأمور به أعني الوضوء الصادر منه بالمباشرة؟

وقد قيل في وجه ذلك أُمور :

الأوّل : قاعدة الميسور ، وأن الوضوء المباشري إذا تعذّر على المكلّف وجب عليه أن يأتي بميسوره وهو أصل طبيعي الوضوء بإلغاء قيد المباشرة.

وفيه : مضافاً إلى ما مرّ منّا غير مرّة من المناقشة في كبرى تلك القاعدة ، أن الصغرى قابلة للمنع في المقام ، وذلك لأن طبيعي العمل المأمور به وإن كان بالنظر العقلي ميسوراً للطبيعي المقيد بالمباشرة إلاّ أنهما بالنظر العرفي متباينان ولا يعد العمل الصادر من الغير بالتسبيب ميسوراً للعمل الصادر منه بالمباشرة فإنهما أمران متباينان عندهم. وعلى الجملة إن التمسّك في المقام بقاعدة الميسور مما لا وجه له ، والعمدة فيه هي المناقشة الكبروية.

الثاني : الإجماع القطعي في المسألة ، ويمكن المناقشة فيه أيضاً بأن المستند في‌

٣٧٦

حكمهم في المسألة إن كان منحصراً بالإجماع فهو وإن أمكن الاستدلال به نظراً إلى أنه إجماع تعبدي كاشف عن رضى المعصوم عليه‌السلام إلاّ أن الوجه متعدد في المقام ولا ينحصر المستند بذلك ، ومعه يحتمل أن يكون المستند لهم في ذلك قاعدة الميسور أو غيرها من الوجوه المستدل بها في المقام ، ومع هذا الاحتمال لا يكون الإجماع تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام بوجه.

الثالث : ما رواه الشيخ قدس‌سره بطرق متعددة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنه كان وجعاً شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد قال : فدعوت الغلمة فقلت لهم ، احملوني فاغسلوني فحملوني ووضعوني على خشبات ، ثم صبوا عليَّ الماء فغسلوني (١) حيث دلّ على أن من عجز عن الغسل بالمباشرة ينتقل فرضه إلى الغسل بالتسبيب أي بالاستعانة بغيره حتى يغسله.

وما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قيل له : إن فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات ، فقال : قتلوه ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ إن شفاء العي السؤال » (٢) وغيرها من الأخبار الواردة بهذا المضمون ، لدلالتها على أن من عجز عن المباشرة بالتيمّم يجب أن يستعين بفعل الغير حتى ييمِّمه.

والاستدلال بهذه الأخبار إنما يفيد فيما إذا انضم إليه القطع بعدم الفرق في ذلك بين الغسل والتيمّم وبين الوضوء ، وأن فرض من عجز عن المباشرة لغسله وتيمّمه إذا كان هو الاستعانة والاستنابة لتغسيله وتيمّمه فلا بدّ أن يكون الأمر كذلك في الوضوء أيضاً ، حيث إنه لولا دعوى القطع بعدم الفرق يمكن أن يقال إن الحكم بما أنه على خلاف القاعدة لأنها تقتضي انتقال الأمر إلى التيمم ، فلا يمكن أن نتعدى عن مورد النص إلى سواه.

الرابع : أن دليل اعتبار المباشرة وشرطيتها في الواجبات ليس دليلاً لفظياً حتى‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٨ / أبواب الوضوء ب ٤٨ ح ١ ، التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٥ ، الاستبصار ١ : ١٦٢ / ٥٦٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤٦ / أبواب التيمم ب ٥ ح ١ ، الكافي ٣ : ٦٨ / ٥.

٣٧٧

يمكن التمسّك بإطلاقه في كلتي حالتي التمكن منها وعدمه ، وذلك لأن دليل الشرطية إذا كان لفظياً لم يكن أي مانع من الحكم بشرطية المباشرة في كل من المتمكن والعاجز عنها.

ولا يصغي إلى ما ذكره المحقق القمي قدس‌سره في بعض كلماته ، وكذا صاحب الجواهر (١) قدس‌سره من أن دليل الشرطية والاعتبار إذا كان هو الأمر والإيجاب اختص ذلك بحالة القدرة والتمكن ولا يعم حالة العجز ، والوجه في عدم الإصغاء إليه أن القدرة إنما تعتبر في متعلق الأوامر المولوية ، وأما الأوامر الإرشادية فلا وجه لاشتراط القدرة فيها بوجه ، لعدم لزوم أيّ محذور في كون الشرطية مطلقة وثابتة في كل من حالتي التمكن وعدمه ، وغاية الأمر أن العاجز عن الشرط بما أنه غير متمكن من الإتيان بالمأمور به واجداً لشرطه فيسقط عن ذمته وينتقل الأمر إلى بدله من الوضوء أو غيره.

وكيف كان ، إذا كان الدليل على اعتبار المباشرة لفظياً لالتزمنا بشرطيتها مطلقاً ، إلاّ أن دليل شرطية المباشرة ليس كذلك في المقام ، لأنّا إنما استفدنا اعتبارها وشرطيتها من حال الخطابات وظواهرها في نفسها ، لأنها تقتضي اعتبار استناد العمل وصدوره إلى نفس المكلف الفاعل له ، فلا بدّ في الحكم بسقوط الواجبات من أن يصح إسنادها إلى فاعلها ، وهذا يختلف باختلاف الفاعلين ، لأن الفاعل إذا كان قادراً متمكناً من الإتيان بالعمل الواجب بالمباشرة فلا يصح إسناده إليه إلاّ إذا أتى به بنفسه بحيث لو أتى به شخص آخر ولو بتسبيبه لم يصح إسناده إليه على وجه الحقيقة.

وأمّا إذا كان عاجزاً عن إصدار العمل والإتيان به بنفسه وبالمباشرة فأتى به بالتسبب ، فلا مانع من صحة إسناد ذلك العمل إليه على وجه الحقيقة ، وهذا لا من جهة أن المراد من اللفظ هو إيجاد غير العاجز عن المباشرة بالمباشرة وإيجاد العاجز عن المباشرة بالتسبب ليكون لفظ واحد مستعملاً في معنيين ، بل من جهة أن المتبادر‌

__________________

(١) الجواهر ٢ : ٣١٣.

٣٧٨

من الأوامر الواردة في الآية المباركة والروايات بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ليس إلاّ وجوب إصدار مطلق الطبيعة على كل مكلف من المكلفين على وجه يصح إسناده إليه لدى العرف ، وهذا أمر يختلف باختلاف المكلفين والأشخاص من جهة قدرتهم وعجزهم ، فإنه كالاختلاف في التعظيم والتجليل حسب اختلاف الأشخاص من حيث القدرة وعدمها ، فنرى أن من عجز عن القيام للتعظيم إذا حرّك جانبه أو قام لا على وجه التمام تعظيماً للوارد عليه أو إقامة غيره ، صحّ أن يسند إليه التعظيم على وجه الحقيقة ، بخلاف من تمكّن من القيام ، لأنه إذا لم يقم على وجه التمام بل حرّك جانبه أو قام لا على وجه التمام ، أو إقامة غيره وهو متمكِّن من القيام لم يصحّ إسناد التعظيم إليه حقيقة.

وكذلك البناء المتمكِّن من البناية ، لأنه لا تستند إليه البناية إلاّ فيما إذا باشرها بنفسه ، كما إذا بنى داراً أو حانوتاً مثلاً فيصح حينئذٍ أن يقول قد بنيت الدار ويسند البناية إلى نفسه على وجه الحقيقة ، وأمّا إذا بناهما غيره ولو بتسبيبه فإنّه لا يصحّ أن يسند إليه بنايتهما حقيقة ، وهذا بخلاف مالك الدار العاجز عن البناية لصحّة أن يقول إني بنيت داري أو حانوتي أو عمّرتهما ، ويصح أن يسند بنايتهما إلى نفسه حقيقة مع أنه إنما أوجد البناية بالتسبيب من دون أن يصدر عنه بالمباشرة.

وعليه فاذا عجز المكلف من التوضؤ بنفسه وبالمباشرة واستعان فيه بالغير بأن أوجده بالتسبيب صح أن يسند إليه فعل الوضوء لدى العرف. وبهذا يظهر أن الأخبار الواردة في الغسل والتيمم الدالة على وجوبهما على من عجز عنهما بالتسبيب على طبق القاعدة ، لأنها كما عرفت تقتضي إصدار العمل بالتسبيب إذا لم يمكن الإتيان به بالمباشرة.

وهذا الوجه قد ذكره شيخنا المحقق الهمداني قدس‌سره (١) ولعمري أنه قد أجاد فيما أفاد وجاء فيما نقلناه عنه بما فوق المراد وكم له قدس‌سره من بيانات شافية في المطالب الغامضة والدقيقة فشكر الله سعيه وأجزل مثوبته.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٩٠ ١٩١.

٣٧٩

أن يستنيب (١) بل وجب وإن توقف على الأُجرة (٢) فيغسل الغير أعضاءه وينوي‌

______________________________________________________

(١) الاستنابة في المقام بمعنى الاستعانة بالغير في إيجاد العمل المأمور به.

إذا توقّفت الاستنابة على الأُجرة :

(٢) إذا فرضنا أن استناد فعل الوضوء إلى المكلف على وجه التسبب قد توقف على بذل المال والأُجرة للغير حتى يوضأ أو يغسله فهل يجب أن يبذلها؟

يختلف ذلك باختلاف الوجوه المتقدمة في بيان وجوب الاستنابة وإصدار العمل الواجب على وجه التسبيب ، فان اعتمدنا في ذلك على الأخبار المتقدمة (١) الحاكية لفعل أبي عبد الله عليه‌السلام مع التعدي عن موردها إلى الوضوء ، أو الواردة في تيمم المجدور فلا يمكننا الحكم بوجوب بذل المال والأُجرة في الوضوء أو الغسل التسبيبيين ، حيث لا يستفاد منها أنه عليه‌السلام بذل الأُجرة لعمل المباشر أم لم يبذلها له ، وأن المجدور لا بدّ أن ييمم وإن استلزم الأُجرة والضرر المالي ، أو أنه ييمم حيث لا يتوقف على البذل وإعطاء الأُجرة ، فلا دلالة على ذلك في شي‌ء من الروايات.

وكذلك الحال فيما إذا اعتمدنا على الإجماع المدعى في المقام ، لأنه إنما انعقد على الحكم ولم ينعقد على لفظ ليستكشف أنه صدر من المعصوم عليه‌السلام حتى يؤخذ بإطلاقه ، ومن الظاهر أن الإجماع دليل لبِّي يقتصر فيه على المورد المتيقن ، وهو ما إذا لم يتوقف التسبيب على بذل المال أو إعطاء الأُجرة عليه ، ولم يعلم انعقاد الإجماع فيما إذا توقف على بذل الأُجرة بوجه.

نعم إذا اعتمدنا في المسألة على ما أسلفنا نقله عن شيخنا المحقق الهمداني قدس‌سره ووافقناه عليه ، لم يكن بد من الحكم بوجوب إصدار المأمور به على وجه التسبيب عند العجز عن المباشرة حتى إذا توقف على بذل الأُجرة وإعطاء المال ، لأن‌

__________________

(١) في ص ٣٧٧.

٣٨٠