موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

تعرضه لما ذكرناه آنفاً وبنائه على أن المحرّم إذا كان مصداقاً للواجب على نحو التركيب الاتحادي استحال أن يتعلّق به الوجوب ، لأن المبغوض والحرام لا يكونان مقرّبين ومصداقين للواجب والمحبوب ، التزم في المقام بعدم بطلان الوضوء من الماء المغصوب عند الجهل بحرمته أو بموضوعه ، واحتمال أنه مستند إلى الإجماع المدعى بعيد للقطع بعدم كونه تعبدياً ، ولعله من جهة الغفلة عن تطبيق الكبرى المذكورة على موردها هذا كلّه في الجهل بالحرمة.

وأمّا ناسي الحرمة أو الغصبية فالصحيح صحة عمله ، وذلك لأن النسيان يوجب سقوط الحرمة عن الناسي واقعاً وليس ارتفاعها ظاهرياً في حقه كما في الجاهل ، لأنّا قد ذكرنا أن الرفع في حديث الرفع بالإضافة إلى ما لا يعلمون رفع ظاهري ، وبالإضافة إلى النسيان والاضطرار وأخواتهما رفع واقعي ، وإذا سقطت الحرمة الواقعية في حق المكلف فلا يبقى أيّ مانع من أن يشمله إطلاق دليل الواجب ، لأنه عمل مرخص فيه بحسب الواقع فلا محذور في شمول الإطلاق له كما أنه صالح للتقرّب به.

وأمّا ما عن شيخنا المحقق النائيني قدس‌سره من أن المرتفع عن المضطر والناسي ونحوهما هو الحرمة دون ملاكها أعني المبغوضية ، ومع كون العمل مبغوضاً واقعاً لا يمكن التقرّب به ، لأن المبعّد والمبغوض لا يصلح أن يكون مقرباً ومحبوباً كما قدمناه في الجاهل المقصِّر ، فقد ظهر الجواب عنه بما سردناه في صورة الاضطرار إلى ارتكاب الحرام ، حيث قلنا إن المبغوضية والملاك وإن كانا باقيين في كلتا صورتي الاضطرار والنسيان وأمثالهما كما يقتضيه ظاهر إسناد الرفع إليهما ، لأنه إنما يصح فيما إذا كان هناك مقتض وملاك حتى يصح أن يقال إن أثره ومقتضاه مرفوع عن المضطر والناسي ونحوهما ، إلاّ أنهما غير مؤثرين في الحرمة كما هو المفروض ، لعدم حرمة العمل بحسب الواقع ، ولا أنهما مانعان عن ترخيص الشارع في ذلك العمل كما هو الحال في الناسي والمضطر وغيرهما ، والمقتضي والملاك اللّذان لا يؤثران في الحرمة ولا أنهما يمنعان عن ترخيص الشارع في ذلك العمل غير مانع عن المقرّبية وعن صحّة التقرّب به.

٣٢١

[٥٤٤] مسألة ٥ : إذا التفت إلى الغصبية في أثناء الوضوء صح ما مضى من أجزائه ويجب تحصيل المباح للباقي (١). وإذا التفت بعد الغسلات قبل المسح هل يجوز المسح بما بقي من الرطوبة في يده ويصح الوضوء أو لا ، قولان (٢).

______________________________________________________

هذا كله فيما إذا كان النسيان عذراً ، وأما النسيان غير المعذّر الذي هو من قبيل الممتنع بالاختيار المستند إلى اختياره وترك تحفّظه كما في نسيان الغاصب ، فان الغالب فيه هو النسيان ، حيث إنه بعد ما غصب شيئاً ولم يردّه إلى مالكه ينسى كونه مغصوباً غالباً ، إلاّ أن نسيانه ناش عن سوء الاختيار أعني غصبه لمال الغير وعدم ردّه إلى مالكه في أوّل الأمر.

أذن فهو من قبيل أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فهو عمل يعاقب عليه الغاصب ويصدر عنه مبغوضاً ، ومع المبغوضية الواقعية وكونه موجباً للعقاب لا يمكن التقرّب به بوجه ، لأن المبعّد يستحيل أن يكون مقرّباً ، والمبغوض لا يقع مصداقاً للواجب والمحبوب كما مرّ في الجاهل المقصر.

الالتفات إلى الغصبية في أثناء الوضوء :

(١) هذا على مسلكه قدس‌سره من عدم بطلان وضوء الجاهل بغصبية الماء وأما بناء على ما قدمناه فلا بدّ من الحكم ببطلان ما مضى من الأجزاء المتقدمة ووجوب استئنافها بالماء المباح ، اللهمّ إلاّ أن يكون ناسياً بنسيان عذري ، لما تقدم وعرفت من أن مصداق المأمور به إذا كان متحداً مع المنهي عنه فلا محالة يخصّص إطلاق دليل الواجب بالحرام تخصيصاً واقعياً ، ومن المعلوم أن الجهل بالحرام لا يجعل ما ليس بمأمور به مأموراً به كما تقدّم تفصيله.

الالتفات إلى الغصبية بعد الغسلات :

(٢) قد استدلّ عليه بما أشار إليه في المتن من أن النداوة الباقية من الغسل بالماء‌

٣٢٢

المغصوب لا تعدّ مالاً ولا يمكن ردها إلى مالكها. والظاهر أنه لم يرد بذلك أن الرطوبة لا تعدّ مالاً ، لعدم إمكان الانتفاع بها مع بقائها على ملك مالكها ، وإلاّ لم يصح حكمه بجواز التصرّف في النداوة المذكورة بالمسح بها ، لأن المال والملك يشتركان في حرمة التصرّف فيهما من دون إذن مالكيهما. وإنما الفرق بينهما في أن الملك لا ضمان فيه كما في حبة من الحنطة والثاني فيه الضمان لمكان المالية له ، ولكن الحكم بوجوب الرد إلى المالك وحرمة التصرف وغيرهما أمر يشترك فيه كل من المال والملك ، وإن كانت الأدلة اللفظية الواردة في حرمة التصرف من دون إذن المالك واردة في خصوص المال كقوله عليه‌السلام « لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيبة نفس منه » (١) إلاّ أن من الظاهر أن التصرف في ملك الغير أيضاً ظلم ومن أظهر موارد التعدي والعدوان ، فهو أيضاً محرّم ولا بدّ من ردّه إلى مالكه.

فكأنه قدس‌سره أراد بذلك بيان أن الماء بعد ما صرف في الغسل يعد تالفاً وينتقل الأمر فيه إلى بدله من القيمة أو المثل ، فالرطوبة في الأعضاء لا تعتبر مالاً حيث لا ينتقع به في شي‌ء بحسب الغالب ، فالرطوبة المتحققة في التراب عند إراقة ماء الغير على الأرض لا تعتبر مالاً لمالكها كما لا تعتبر ملكاً له ، للغوية اعتبار الملك فيما لا يمكن إرجاعه إلى مالكه كما في النداوة. فإذا لم تكن الرطوبة مالاً ولا ملكاً لأحد جاز للمتوضئ أن يتصرف فيها بالمسح أو بالصلاة في الثوب المرطوب الذي قد غسل بالماء المغصوب مع بقاء الرطوبة فيه ، أو بالصلاة مع رطوبة بدن المصلي فيما إذا اغتسل بماء الغير ثم التفت إلى غصبيته قبل جفاف البدن.

وما أفاده في المقام وفيما رتبه على ذلك بقوله : إذا توضأ بالماء المغصوب عمداً ثم أراد الإعادة هو الصحيح ، فإذا توضأ أو اغتسل بماء الغير نسياناً عذريا على ما سلكناه‌

__________________

(١) كما في موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفس منه » المروية في الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١.

٣٢٣

أقواهما الأول ، لأن هذه النداوة لا تعد مالاً وليس مما يمكن رده إلى مالكه ، ولكن الأحوط الثاني. وكذا إذا توضأ بالماء المغصوب عمداً ثم أراد الإعادة هل يجب (١) عليه تجفيف ما على محالّ الوضوء من رطوبة الماء المغصوب أو الصبر حتى تجف أو لا؟ قولان أقواهما الثاني وأحوطهما الأول. وإذا قال المالك أنا لا أرضى أن تمسح بهذه الرطوبة أو تتصرف فيها لا يسمع منه بناء على ما ذكرنا. نعم لو فرض إمكان انتفاعه (١) بها فله ذلك ولا يجوز المسح بها حينئذٍ (٢).

______________________________________________________

أو جهلاً ونسياناً ولو غير عذري على مسلكه ثم التفت إلى غصبية الماء قبل المسح جاز له أن يمسح بالرطوبة الباقية على يديه ، وبذلك يصح غسله أو وضوءه.

(١) الوجوب المذكور في كلامه شرطي لا محالة وليس وجوباً تكليفياً وإلاّ لم يفترق الحال في حرمة التصرف في مال الغير أو في ملكه على تقدير أن تكون الرطوبة باقية على ماليتها وملكيتها بين تجفيفها أو صبّ الماء عليها للتوضؤ أو الاغتسال ، فالوجوب المذكور شرطي أي هل يشترط في صحة الوضوء أحد الأمرين أم لا؟

وقد ظهر مما سردناه عدم اشتراط شي‌ء من الأمرين في صحة الوضوء ، لعدم بقاء الرطوبة على ماليتها وملكيتها كما لا يخفى.

ابتناء المسألة على ثبوت حق الاختصاص :

(٢) تبتني هذه المسألة على ما تعرضنا له في بحث المكاسب (٢) تبعاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سره من أن المال إذا حكم عليه بالتلف وانتقل الأمر إلى بدله من القيمة أو المثل ، فهل يبقى للمالك حق الاختصاص فيما بقي من آثار ذلك المال مما لا‌

__________________

(*) إذا كان الماء الذي توضّأ به يعدّ من التالف فلا فرق في جواز المسح بما بقي منه من الرطوبة بين إمكان انتفاع المالك به وعدمه.

(١) في مصباح الفقاهة ٣ : ٣٧٣.

٣٢٤

مالية له ، أو لا يثبت حق اختصاص للمالك فيه ، وذلك كما إذا كسر جرّة غيره وحكم عليه بضمان قيمتها ، فهل المواد الخزفية الباقية بعد الكسر التي لا مالية لها بوجه ترجع إلى مالك الجرة لحق الاختصاص أو لا ترجع إليه؟ أو إذا أتلف خلاًّ لغيره كما إذا جعله خمراً مثلاً ، فهل لمالك الخل حق الاختصاص بها ، فيصح له منع الغير عن الانتفاع بها في مثل التداوي ونحوه من الانتفاعات المحللة ، فيجوز له خاصّة أن ينتفع منها بتلك الانتفاعات المحلّلة دون غيره إلاّ برضاه أو لا يثبت له حق الاختصاص بها؟

حكم شيخنا الأنصاري قدس‌سره أن الحكم بوجوب ردّ العوض من المثل أو القيمة في تلك الموارد إنما هو غرامة وليس من باب المعاوضة في شي‌ء ، وعلى ذلك ترجع المواد والأجزاء الباقية من المال التالف إلى مالك المال وإن لم يكن لها أية مالية وقيمة عند العقلاء ، وذلك لحق الاختصاص.

وقد ذكرنا نحن في محلِّه أن مقتضى السيرة وبناء العقلاء عدم ثبوت حق الاختصاص للمالك في تلك الموارد ، لأن رد البدل عندهم معاوضة قهرية حينئذٍ وبتلك المعاوضة تنتقل الأجزاء الباقية والمواد إلى الضامن دون المالك ، وليس في ذلك حق الاختصاص بها ، وعليه فلو طالب مالك الماء المتوضئ بالرطوبة الباقية على يديه لالصاق ورقة بأُخرى بتلك الرطوبة مثلاً ، لم يجب سماعه ، بل للمتوضئ أن يمسح بها لانتقالها إليه بالمعاوضة القهرية ورد البدل ، ومعه لا وجه للاستشكال في جواز المسح بالرطوبة المذكورة عند مطالبة المالك بها لغاية الانتفاع منها على الوجه الحلال. وعلى الجملة لا بدّ أن يكون الماء مباحاً في الوضوء.

ثمّ إنّ الإباحة قد تستند إلى كون الماء من المباحات الأصلية التي لا مالك لها شرعاً ، وقد تستند إلى كونه ملكاً للمتوضئ بعنوانه وتشخصه ، وثالثة تستند إلى كونه ملكاً لجهة عامة أو خاصة تشمل المتوضئ كما في الأوقاف العامة أو الخاصة فيما إذا كان المتوضئ من الموقوف عليهم ، ورابعة تستند إلى كون منفعة الماء مملوكة للمتوضئ كما في موارد الإجارة.

٣٢٥

وأمّا إذا لم يكن هناك شي‌ء من هذه الأُمور فلا بدّ في صحة الوضوء من إذن مالك الماء ورضاه ، وذلك لأن حرمة التصرف في مال الغير من دون إذنه قد أطبقت عليها الأديان والشرائع ومن الأُمور الضرورية عند العقلاء ، لبداهة أن التصرّف في ملك الغير من دون رضاه ظلم وعدوان كما أن الحرمة من ضروريات الدين وقد دلّت موثقة سماعة المتقدِّمة (١) على عدم جواز التصرّف في مال الغير إلاّ بطيبة نفسه.

ثم إن المالك قد يصرّح برضاه وإذنه في الوضوء ، كما إذا قال أبحت لك التصرّف في هذا الماء بالوضوء أو قوله انتفع به في الوضوء أو غير ذلك من العبارات.

وقد يستكشف رضاه بالفحوى وطريق الأولوية ، كما إذا أجاز له في إتلاف ماله لأنه يستلزم الإذن في الوضوء بطريق أولى ، حيث لا إتلاف معتدّ به في الوضوء أو لو كان فهو قليل.

وثالثة يستكشف الإذن من شاهد حال كما في الضيوف ولا سيما في المضائف العامة ، فإنه إذا أضاف أحد غيره يرضى بتصرفاته في مثل الماء الموجود في محل الضيافة بالاستنجاء أو بالتوضؤ أو بغيرهما مما لا يوجب الإضرار والإتلاف ، كما جرت عليه السيرة في الضيافات ، فان الضيف يتصرف في مال المضيف كتصرّفات نفسه. وقد قيد الماتن قدس‌سره شاهد الحال بالقطعي ويأتي عليه الكلام عن قريب إن شاء الله تعالى.

بقي هنا شي‌ء : وهو أنك قد عرفت أن بناء العقلاء والمتشرعة على عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه ورضاه ، بل مرّ أن ذلك من ضروريات الدين ومما أطبقت عليه الأديان والشرائع. إذن حرمة التصرف في مال الغير من غير إذنه ورضاه مما لا إشكال فيه.

وإنما الكلام في أن موضوع الحرمة المذكورة هل هو عدم الرضا القلبي والطيب النفساني ، أو أن موضوعها عدم الاذن وعدم إبراز الرضا بحيث لو علمنا برضاه قلباً‌

__________________

(١) في ص ٣٢٣.

٣٢٦

ولكنه لم يبرزه بمبرز في الخارج من تصريح أو فحوى ونحوهما حكم بحرمة التصرّف في ماله؟ مقتضى ما جرت عليه سيرة العقلاء والمتشرعة إنما هو الأوّل ، ومن هنا تراهم يتصرفون في أموال غيرهم من كتاب أو لحاف أو عباء عند العلم برضى مالكه وإن لم يبرز رضاه في الخارج بشي‌ء. وتدل عليه صريحاً موثقة سماعة « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفس منه » (١) حيث علقت الجواز على طيبة النفس لا على الاذن والإبراز.

نعم ، ورد في التوقيع الخارج إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري ( قدس الله روحه ) قوله عليه‌السلام « فلا يحل لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه » (٢) وهو كما ترى قد علّق الجواز على إذن المالك وإبراز رضائه في الخارج.

ولكن الصحيح هو الأوّل كما مرّ ، وذلك لأن الرواية الثانية ضعيفة السند فإنها قد رويت في الاحتجاج عن أبي الحسين محمد بن جعفر وهو منقطع السند ، ورويت أيضاً عن مشايخ الصدوق قدس‌سره كعلي بن أحمد بن محمد الدقاق وعلي بن عبد الله الوراق وغيرهما ولكنهم لم يوثقوا في الرِّجال ، وليس في حقِّهم غير أنهم من مشايخ الإجازة للصدوق قدس‌سره وأنه قد ترضّى وترحّم على مشايخه في كلامه وشي‌ء من ذلك لا يدل على توثيقهم ، لوضوح أن مجرّد كونهم مشيخة الإجازة غير كاف في التوثيق لعدم دلالته على الوثاقة بوجه ، كما أن ترحّمه وترضّاه قدس‌سره كذلك فإن الإمام عليه‌السلام قد يترحّم على شيعته ومحبيه ولا يدل ذلك على وثاقة شيعته ، فكيف بترحّم الصدوق قدس‌سره هذا أوّلاً.

وثانياً : أن الجمع العرفي بين الروايتين يقتضي حمل الاذن في الرواية الثانية على كونه كاشفاً عن الطيب النفساني والرضا القلبي من دون أن تكون له خصوصية في ذلك ، ومع إمكان الجمع العرفي بين الروايتين لا تكون الرواية مخالفة لما ذكرناه.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١.

(٢) الاحتجاج : ٤٨٠ ، وفيه أبي الحسن.

٣٢٧

[٥٤٥] مسألة ٦ : مع الشك في رضا المالك لا يجوز التصرّف (١) ويجري‌

______________________________________________________

إذن المدار في جواز التصرف لغير المالك إنما هو رضى المالك وطيبة نفسه ، سواء أكان مبرزاً بشي‌ء أم علمنا بوجوده من دون إبرازه بمبرز.

هذا كله فيما إذا علمنا برضى المالك على أحد الأنحاء المتقدمة ، وأما إذا شككنا في رضاه فقد أشار الماتن إلى تفصيل الكلام فيه بقوله : مع الشك.

صور الشك في رضى المالك :

(١) قد لا يكون لرضى المالك حالة سابقة متيقنة وقد يكون مسبوقاً بها.

أمّا إذا لم تكن له حالة سابقة فلا إشكال في عدم جواز التصرف في ماء الغير بالتوضؤ أو بغيره ، وذلك لاستصحاب عدم إذنه ورضاه لأنه المستثنى في قوله عليه‌السلام لا يحل لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلاّ برضاه أو بطيبة نفسه ، وهو مما يجرى الاستصحاب في عدمه.

وأمّا إذا كانت له حالة سابقة فهي على قسمين :

فقد يعلم برضى المالك بهذا التصرّف الشخصي سابقاً ، كما إذا كانت بينهما صداقة فأذن له في التوضؤ بمائه أو في جميع التصرّفات فيه ثم ارتفعت الصداقة ولأجله شككنا في بقاء إذنه ورضاه ، ولا شبهة وقتئذٍ في جريان الاستصحاب في بقاء الرضا وبه يحكم على جواز التوضؤ وصحته.

وأُخرى لا يعلم إلاّ أصل الرضا على نحو الإجمال ، كما إذا لم ندر أنه هل رضي بالتصرف في مائه هذا اليوم فقط أو أنه أذن له في تصرفاته فيه في اليوم الثاني والثالث أيضاً ، ففي هذه الصورة لا بدّ من الاقتصار بالمقدار المتيقن من إذن المالك وهو اليوم الأول في المثال ، وأما في غيره فلا بدّ من الرجوع إلى عمومات حرمة التصرف في مال الغير من دون اذنه ، والسر في ذلك ما سردناه في التكلم على المعاطاة من أن كل تصرف مغاير للتصرّف الآخر ، وحرمة التصرّف في مال الغير انحلالية ، وقد ثبت على‌

٣٢٨

عليه حكم الغصب ، فلا بدّ فيما إذا كان ملكاً للغير من الاذن في التصرّف فيه صريحاً أو فحوى (١) أو شاهد حال قطعي (٢)

______________________________________________________

كل واحد من أفراد التصرفات حرمة استقلالية ، ومعه إذا علمنا ارتفاع الحرمة عن فرد من أفراد المحرّم فقد علمنا بجواز ذلك الفرد من الأفراد المحرمة ، ولا يستلزم هذا ارتفاع الحرمة عن الفرد المحرم الآخر ، بل لا بدّ معه من الرجوع إلى عموم حرمة التصرّف في مال الغير كما عرفت.

(١) كما قدّمناه (١) فلاحظ.

(٢) قد قيد شاهد الحال بالقطعي ، ولعلّه أراد منه مطلق الحجّة المعتبرة ، إذ لا وجه لتخصيصه ذلك بخصوص القطعي منها ، لوضوح أن الاطمئنان أيضاً حجّة عقلائية يعتمدون عليه في أُمورهم ومعاشهم ولا سيما في أمثال تصرّفات الضيوف للاطمئنان الخارجي برضى المضيف لهم.

بل وكذلك الحال في القسمين السابقين أعني تصريح المالك بالإذن أو استكشافه بالفحوى ، فإن مالكية الآذن قد تثبت بالبينة والأمارة الشرعية كاليد لا بالعلم الوجداني. وكذا تصريحه بالإذن فإنّه قد يثبت بالبيِّنة وقد تثبت بالفحوى ، كما إذا رأينا أن من بيده المال قد أذن في إتلافه وعلمنا منه إذنه في الوضوء بطريق الأولوية القطعية ، مع أن مالكيته مستندة إلى اليد.

وعلى الجملة تكفي في جواز التصرّفات في الأملاك الراجعة إلى الغير قيام شي‌ء من الحجج المعتبرة على الإذن والرضا بتلك التصرّفات ولا اختصاص في ذلك للعلم.

__________________

(١) في ص ٣٢٦.

٣٢٩

[٥٤٦] مسألة ٧ : يجوز الوضوء والشرب (*) من الأنهار الكبار سواء كانت قنوات أو منشقة من شط ، وإن لم يعلم رضى المالكين ، بل وإن كان فيهم الصغار والمجانين ، نعم مع نهيهم يشكل الجواز (١).

______________________________________________________

حكم التوضؤ من الأنهار الكبار :

(١) قد أسلفنا حكم التوضؤ من المياه المملوكة غير الكبيرة ، وأما المياه الكبيرة المملوكة للغير فقد أفتى الماتن قدس‌سره بجواز التوضؤ والشرب من الأنهار الكبيرة وإن لم يعلم برضى ملاّكها ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ).

بل قد ذهب بعضهم إلى جواز التصرف فيها حتى مع منع المالك عن تصرف الغير في مياهه ، وكذلك التصرف في الأراضي الوسيعة بالتوضؤ فيها أو الجلوس والنوم عليها. وتبعهم الماتن في بعض أقسام الأراضي كالأراضي المتسعة جدّاً. والكلام في مدرك ذلك ، والعمدة فيه هي السيرة القطعية المستمرة على ما يأتي تقريبها.

وقد يستدل عليه بانصراف أدلة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه عن مثل الصلاة والجلوس والنوم ونحوها من التصرفات غير المضرة لمالك المال ، وكذلك الوضوء فيما إذا صبّ ماءه على النهر المملوك لمالك الماء بحيث نعلم عدم تضرره إلاّ بمقدار يسير لا يعتنى به عند العقلاء ، أعني الرطوبات الباقية على يديه أو وجهه ، ومن هنا جاز الاستظلال بجدار الغير أو الاستضاءة بنوره أو ناره.

ويندفع بأن الاستظلال بجدار الغير أو الاستضاءة بنوره وإن كانا مباحين إلاّ أن الوجه في إباحتهما عدم كونهما تصرفاً في جدار الغير أو مصباحه مثلاً ، وليس الوجه فيه هو انصراف أدلة حرمة التصرف عن مثله ، حيث لا موجب للانصراف بعد صدق التصرّف على مثل الصلاة في أرض الغير أو الوضوء بمائه مع عموم قوله في‌

__________________

(*) الظاهر أنّه يعتبر في الجواز عدم العلم بكراهة المالك وعدم كونه من المجانين أو الصغار وأن لا تكون الأنهار تحت تصرّف الغاصب والأحوط عدم التصرف مع الظنّ بالكراهة.

٣٣٠

موثقة سماعة المتقدِّم « لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيبة نفسه ».

وأُخرى يتوهّم عدم شمول أدلّة حرمة التصرّف لمثل الوضوء من الأنهار الكبيرة من جهة معارضتها بما دلّ على مطهرية الماء وطهارته وعدم انفعاله إلاّ بالتغيّر ، نظراً إلى أن مقتضى إطلاق تلك الأدلة أو عمومها حصول الطهارة بالتوضؤ من مياه الغير.

ويتوجه عليه : أنّا لا ننكر طهورية الماء وعدم انفعاله إلاّ بالتغيّر ، وإنما ننكر مطهريته عند كونه ملك الغير من جهة العنوان الثانوي وهو كونه تصرّفاً في مال الغير من دون إذنه ، وعليه فالأدلّة المذكورة أجنبية عما نحن بصدده وغير معارضة للأدلّة الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير من دون رضاه.

نعم ، حكي عن المجلسي (١) والكاشاني (٢) قدس‌سرهما الاستدلال على ذلك بما ورد في بعض الروايات من أن الناس في ثلاثة شرع سواء ، الماء والنار والكلاء ومقتضاها جواز التوضؤ والشرب من المياه المملوكة للغير وإن لم يرض به ملاكها.

والجواب عن ذلك : أن الرواية لا بدّ من حملها على المياه التي هي من المباحات غير الداخلة في حيازة أحد وكذا في النار والكلاء ، وإلاّ فظاهرها جواز التصرّف في تلك الأُمور الثلاثة مطلقاً حتى فيما إذا حازها أحد وجعلها في إناء مثلاً ، أو كان التصرّف فيها مستلزماً لتضرّر ملاّكها كشق نهر مملوك لغيره ونحو ذلك ، مع أنه على خلاف الضرورة وخلاف ما بنى عليه العقلاء ، فان الاشتراك في الأموال المذكورة على خلاف الأديان وخلاف الضرورة في ديننا ، وهو من أظهر أنحاء الظلم والعدوان والتعدي لأموال الناس بلا مسوّغ ، فكيف يؤخذ مال الغير من دون إذنه بدعوى أنه ماء أو نار أو كلاء.

وحمل الرواية على خصوص الأنهار الكبار يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن ، إذن لا مناص من حملها على الماء أو الكلاء أو النار التي هي من المباحات الأصلية‌

__________________

(١) ملاذ الأخيار ١١ : ٢٣٣.

(٢) حكى عنه في المستمسك ٢ : ٤٣٣.

٣٣١

غير الداخلة في حيازة أحد ، أو على كراهة المنع عن فضل الماء أو الكلاء كما ورد في بعض الروايات (١) ولعلّه من جملة الحقوق المستحبة ، فيستحب أن لا يمنع فضل الأُمور المذكورة فلاحظ.

هذا مع أنّا لم نقف على الرواية المذكورة بتلك الألفاظ لا من طرقنا ولا من طرق العامة ، والموجودة في رواياتنا إنما هي رواية الشيخ قدس‌سره بإسناده عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي الحسن عليه‌السلام قال « سألته عن ماء الوادي فقال : إن المسلمين شركاء في الماء والنار والكلاء » (٢) ورواها الصدوق قدس‌سره أيضاً بإسناده عن محمد بن سنان (٣) ولكنّها أيضاً ضعيفة السند بمحمد بن سنان وغير قابلة للاستدلال بها في محل الكلام.

وورد أيضاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الناس شركاء في ثلاث النار والماء والكلاء » (٤) ولكنها أيضاً ضعيفة السند بالإرسال.

وعلى تقدير تماميتها من حيث السند لا بدّ من حملها على المحملين اللذين قدمنا ذكرهما آنفاً ، والمراد بالنار في الرواية إما أصلها وهو الحطب فتكون الرواية دالة على كراهة المنع عن فضل الحطب أيضاً ، أو تبقى على ظاهرها فيحكم بكراهة المنع عن فضل النار نفسها ، وكيف كان لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية في المقام.

والمتحصل : عدم إمكان الاستدلال على هذا الحكم بشي‌ء من الأُمور المتقدِّمة.

فالعمدة هي السيرة القطعية المستمرّة ، حيث إن الناس يتصرّفون في الأراضي الوسيعة بمثل الاستراحة والتغذي أو الصلاة ، وفي الأنهار الكبيرة بالشرب والاغتسال والتوضؤ كما هو المشاهد في الماشين إلى زيارة الحسين عليه‌السلام راجلاً. ولم يرد ردع عن ذلك كما عرفت ، فلو كان ذلك من التصرفات المحرمة لردعوا عن ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤١٩ / أبواب إحياء الموات ب ٧.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤١٧ / أبواب إحياء الموات ب ٥ ح ١ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ / ٦٤٨.

(٣) الفقيه ٣ : ١٥٠ / ٦٦٢.

(٤) المستدرك ١٧ : ١١٤ / أبواب احياء الموات ب ٤ ح ٢.

٣٣٢

لا محالة. وعلى هذا فإن أحرزنا جريان السيرة على ذلك في مورد فلا بدّ من أن نحكم بجواز التوضؤ والصلاة أيضاً كبقية التصرفات فيه ، وأما مع الشك في قيامها في مورد كما إذا كان المالك صغيراً أو مجنوناً أو منع الغير عن التصرف في مائه ونهره ، فلا مناص من الحكم بحرمة التصرفات الواقعة فيه لعدم قيام السيرة فيها على الجواز.

والحاصل : أن حرمة التصرف في أموال الناس وأملاكهم مما قد أطبقت عليه الأديان كما قيل وهو الصحيح المحقق في محله ، لأن التصرف في أموال الناس من دون إذنهم ظلم وعدوان ، وعليه جرت سيرة المتدينين وبناء العقلاء ، بل هو من ضروريات الدين الحنيف ، مضافاً إلى الأخبار الدالة على عدم جواز التصرف في مال الغير إلاّ بطيبة نفسه.

إذن لا بدّ في جواز التصرّف في أموال الغير من العلم برضى المالك وإذنه. نعم إذا أذن المالك الحقيقي وهو الشارع في التصرّف في مال الغير كما في حق المارّة مثلاً أيضاً يجوز التصرّف فيه ، سواء رضي به المالك الصوري أم لم يرض به بل منع عنه وإلاّ فمقتضى ما قدّمناه حرمة التصرّفات في أموال الغير وعدم جوازه.

والمخصّص لتلك الأدلّة ليس دليلاً لفظياً على ما قدّمناه ليتمسّك بعمومه أو إطلاقه ، وإنما هو السيرة القطعية الجارية على التصرف في مثل الأنهار الكبار والأراضي المتسعة ، حيث لا يرون ذلك منافياً للعدالة بل يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، ولم يردع عنها الشارع كما مرّ ، وهي دليل لبي يقتصر فيها بالمقدار المتيقن أعني موارد العلم بقيام السيرة. ففي كل مورد علمنا بقيامها فيه فهو ، وأما إذا شككنا في تحقّقها وعدمه فمقتضى العمومات والإطلاق وإطباق الأديان والعقلاء هو حرمة التصرّف وعدم جوازه كما مرّ.

والمقدار الذي يتيقن بقيام السيرة فيه على الجواز إنما هو الأنهار الكبيرة والأراضي المتسعة ، فيما إذا كانت بيد ملاّكها وكانوا متمكِّنين من التصرّف فيها ويسمع إذنهم وإجازتهم فيه ولم يظهر منهم عدم الرضا به ، وأما إذا فرضنا أن المالك صغير أو مجنون بحيث لو أذن في التصرّف في أمواله لم يسمع منه ذلك فضلاً عما إذا لم يأذن ، ولا يتمكّن‌

٣٣٣

وإذا غصبها غاصب أيضاً يبقى جواز التصرّف لغيره ما دامت جارية في مجراها الأوّل ، بل يمكن بقاؤه مطلقاً (١).

وأمّا للغاصب فلا يجوز (٢) وكذا لأتباعه من زوجته وأولاده وضيوفه (٣)

______________________________________________________

وليّه من الاذن فيه ، لأن إذنه في التصرّف في أموال الصغار إنما يعتبر في الأُمور الراجعة إلى مصلحة الصغير أو المجنون بمراعاة غبطتهما ، ولا مصلحة في الاذن في تصرف الناس في أنهارهما أو أراضيهما كما لا يخفى.

وكذلك الحال فيما إذا أحرزنا أن المالك بخيل لا يرضى بالتصرّف في أمواله فلا علم لنا بتحقق السيرة وقيامها على الجواز ، ومع عدم إحراز السيرة لا يمكن الحكم بجواز التصرّف من الوضوء والاغتسال والصلاة فيما يرجع إليهما. وكذا الحال فيما إذا ظن كراهة المالك ، وهذا لا لأن الظن حجّة يعتمد عليها لدى الشرع ، بل من جهة أنه يولد التردّد والشك في تحقق السيرة ومع عدم إحرازها لا يمكن الحكم بالجواز.

نعم ، إذا شككنا في أن المالك صغير أو مجنون أو كاره للتصرف في مائه أو أرضه ، لم يكن مانع من التصرّف بالوضوء والصلاة وأمثالهما وقتئذٍ من جهة قيام السيرة عليه مع الشك في ذلك.

اغتصاب الأنهار الكبيرة غير مغيّر لحكمها :

(١) ولكنك قد عرفت عدم جواز التصرف فيما إذا لم يكن الماء تحت يد المالك ، لأن القدر المتيقن من السيرة الجارية على الجواز إنما هو ما كان الماء أو الأرض تحت يد مالكيهما ، وأما إذا كان خارجاً عن يده وكان في يد الغاصب فلا علم بثبوت السيرة وجريانها على التصرّف فيهما بالتوضؤ أو الصلاة ونحوهما ، ولعل الوجه في عدم جريان السيرة حينئذٍ أن التصرف في الماء وهو في يد الغاصب تأييد عملي له.

(٢) لحرمة التصرّف في مال الغير من دون إذنه ورضاه ، وعدم تحقق السيرة على تصرّف الغاصب فيما غصبه بالتوضؤ أو الصلاة.

(٣) لعين ما قدّمناه في التعليقة المتقدمة.

٣٣٤

وكلّ من يتصرّف فيها بتبعيته ، وكذلك الأراضي الوسيعة (١) يجوز التوضؤ فيها كغيره من بعض التصرّفات ، كالجلوس والنوم ونحوهما ما لم ينه المالك (٢) ولم يعلم كراهته ، بل مع الظن (٣) أيضاً الأحوط الترك. ولكن في بعض أقسامها يمكن أن يقال ليس للمالك النهي أيضاً.

[٥٤٧] مسألة ٨ : الحياض الواقعة في المساجد والمدارس إذا لم يعلم كيفية وقفها من اختصاصها بمن يصلي فيها أو الطلاّب الساكنين فيها ، أو عدم اختصاصها ، لا يجوز لغيرهم التوضؤ منها إلاّ مع جريان العادة بوضوء كل من يريد مع عدم منع من أحد ، فإن ذلك يكشف عن عموم الاذن. وكذا الحال في غير المساجد والمدارس كالخانات ونحوها (٤).

______________________________________________________

(١) لقيام السيرة على التصرف فيها بمثل الصلاة والاستراحة عليها كما تقدّم.

(٢) لعدم قيام السيرة على جواز التصرف في الأنهار الكبار والأراضي المتسعة عند نهي المالك عن التصرّف في ماله ، ولا أقل من الشك في ذلك وهو كاف في الحكم بحرمة التصرف وعدم الجواز.

(٣) لا لاعتبار الظن وحجيته ، بل لإيراثه الشك في تحقق السيرة كما مرّ.

حكم التوضّؤ من حياض المساجد ونحوها :

(٤) قد تعرّضنا (١) لتفصيل هذه المسألة في التكلّم على أحكام التخلِّي عند تعرّض الماتن للتخلِّي في أرض الغير ، و

ذكرنا هناك أن عموم الوقف وخصوصه إنما يتبعان جعله على وجه العموم أو الخصوص حال الوقف وإنشائه.

فإذا شككنا في ذلك فمقتضى أصالة عدم جعله ولحاظه على وجه العموم عدم جواز تصرّف غير المخصوصين من سكنة المدارس أو المصلين في المسجد ونحوهما ،

__________________

(١) في شرح العروة ٤ : ٣٤٩.

٣٣٥

[٥٤٨] مسألة ٩ : إذا شق نهر أو قناة من غير إذن مالكه لا يجوز الوضوء بالماء الذي في الشق (١) وإن كان المكان مباحاً أو مملوكاً له ، بل يشكل إذا أخذ الماء من ذلك الشق وتوضأ في مكان آخر وإن كان له أن يأخذ من أصل النهر أو القناة (٢).

[٥٤٩] مسألة ١٠ : إذا غيّر مجرى نهر من غير إذن مالكه وإن لم يغصب الماء ففي بقاء حق الاستعمال الذي كان سابقاً من الوضوء والشرب من ذلك الماء لغير الغاصب إشكال ، وإن كان لا يبعد بقاء هذا (*) بالنسبة إلى مكان التغيير ، وأما ما قبله وما بعده فلا إشكال (٣).

______________________________________________________

فلا يجوز التصرف فيه لمن شك في اندراجه في الموقوف عليهم أو المباح لهم. ولا يعارضها أصالة عدم جعله على وجه الخصوص ، وذلك لأنها مما لا أثر شرعي له في المقام ، فإن الأثر أعني حرمة التصرف لغير المخصوصين مترتب على عدم جعله على وجه العموم وعدم لحاظه ذلك حين الوقف ، ولم يترتب على جعله على وجه الخصوص.

(١) لعدم جريان السيرة وقتئذٍ على التصرف في الماء بالتوضؤ.

(٢) لعين ما قدمناه من عدم إحراز قيام السيرة على التصرف عند عدم كون الماء تحت يد المالك.

إذا غيّر المجرى من دون إذن المالك :

(٣) كما إذا كان مجرى الماء على وجه الدائرة فغيّره وجعله على وجه الخط المستقيم ، لغرض له في ذلك من دون أن يكون الماء تحت يد الغاصب ولا أن يكون المكان والمجرى مغصوباً ، كما إذا كان برضى مالك المجرى أو كان مملوكاً لمالك الماء ،

__________________

(*) لا يترك الاحتياط فيه.

٣٣٦

[٥٥٠] مسألة ١١ : إذا علم أن حوض المسجد وقف على المصلّين فيه لا يجوز الوضوء منه بقصد الصلاة في مكان آخر ، ولو توضّأ بقصد الصلاة فيه ثمّ بدا له (*) أن يصلِّي في مكان آخر أو لم يتمكّن من ذلك (**) فالظاهر عدم بطلان وضوئه (١).

______________________________________________________

وحيث إن المتيقن من موارد السيرة هو ما إذا كان الماء في المجرى الأول ونشك في قيامها مع التغيير ، فلا بدّ من الحكم بحرمة التصرّف في الماء بالتوضؤ أو الاغتسال ونحوهما ، من جهة الأدلّة الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير من غير إحراز المخصّص لها وهو السيرة كما مرّ.

إذا كان حوض المسجد وقفاً على المصلين فيه :

(١) وحيث إن الصلاة متأخرة عن الوضوء فتكون حرمة التوضؤ من الماء الموقوف على المصلين في المسجد بالإضافة إلى من لا يصلِّي فيه مشروطة بالشرط المتأخر وهو عدم الصلاة في المسجد بعد الوضوء ، وهذا من أحد موارد الشرط المتأخر في الأحكام الشرعية. فإذا توضأ منه ثم ترك الصلاة فيه استكشف من تركه أن الوضوء كان محرّماً في حقِّه ، لأنه خارج عن الموقوف عليهم وهو مَن صلّى في المسجد بعد الوضوء على الفرض.

ثم إن حال هذه الحرمة لا تخلو عن أحد أوجه ثلاثة : لأنها إما أن تكون فعلية متنجّزة ، وإما أن تكون فعلية غير متنجّزة ، وإما أن لا تكون فعلية ولا متنجّزة ، بل كان هناك مجرّد إنشاء الحرمة.

أمّا الصورة الاولى : أعني ما إذا كانت حرمة الوضوء من الماء فعلية متنجّزة ، كما‌

__________________

(١) الظاهر هو البطلان في هذه الصورة.

(٢) ولم يكن محتملاً لعدم التمكّن من الأوّل للغفلة أو للقطع بالتمكّن وأمّا لو احتمل ذلك فالظاهر بطلان وضوئه ولو مع قيام الحجة على خلافه.

٣٣٧

بل هو معلوم في الصورة الثانية ، كما انه يصحّ لو توضّأ غفلة أو باعتقاد عدم الاشتراط ، ولا يجب عليه أن يصلّي فيه وإن كان أحوط ، بل لا يترك في صورة التوضّؤ (*) بقصد الصلاة فيه والتمكّن منها ،

______________________________________________________

إذا كان المكلف عالماً بالاختصاص وأن الماء موقوف على خصوص من صلّى في المسجد بعد الوضوء وكان قاصداً عدم الصلاة فيه بعد الوضوء ، فإن الحرمة متنجّزة حينئذٍ لعلم المكلف بها وتعمده ، فلا إشكال في حرمة التوضؤ وبطلانه حينئذٍ ، لأنه لا يتمشى منه قصد القربة مع العلم بالحرمة وعدم كونه من الموقوف عليهم ، حتى لو عدل عن قصده بعد الوضوء وبنى على الصلاة في ذلك المسجد لم يكن قصده ذلك وعمله المتأخران عن التوضؤ الباطل مصححين له ، لأن الوضوء بعد ما وقع باطلاً لعدم تمشي قصد القربة حال العمل لا ينقلب عما وقع عليه بقصد المتوضي الصلاة في المسجد ، وهذا ظاهر.

وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كانت حرمة التوضؤ فعلية من غير أن تكون متنجّزة في حق المكلّف ، كما إذا توضأ بذلك الماء قاصداً به الصلاة في المسجد إلاّ أنه لم يكن في علم الله سبحانه ممن يصلِّي في المسجد بعد الوضوء ولم يكن من جملة الموقوف عليهم ، لأنه وقتئذٍ وإن كان معذوراً في تصرفه في الماء بقصده الصلاة في المسجد بعد الوضوء ، إلاّ أنه بحسب الواقع كان محرماً في حقه ، فان تركه الصلاة في المسجد بعد الوضوء يكشف عن عدم كونه مندرجاً في الموقوف عليهم ، والمفروض أن التصرّف في الماء محرم لغيرهم.

فالحكم في هذه الصورة يبتنى على ما قدّمناه (٢) في التوضؤ بالماء المغصوب جاهلاً بالحال ، من أن الحرمة والمبغوضية الواقعيتين هل تقتضيان بطلان العمل لاستحالة‌

__________________

(*) لا بأس بالترك.

(١) في ص ٣٢٠.

٣٣٨

كون المحرم مصداقاً للواجب ، أو أن الحرمة من الموانع الذكرية ومع الجهل بها لا مقتضي للبطلان ، وقد عرفت أن الأوّل هو الحق.

وبناء على ذلك لا مناص من الحكم ببطلان الوضوء في مفروض الكلام ، للمبغوضية والحرمة الواقعيتين واستحالة كون المحرم مصداقاً للواجب على تفصيل قد عرفت ، وحيث إن الماتن كغيره ممن لا يرى الحرمة الواقعية مبطلة للعمل ما دامت غير متنجّزة على المكلف ، فقد ذهب في المتن إلى صحّة التوضؤ في مفروض المسألة في هذه الصورة.

ومن هذا القبيل ما إذا توضأ بماء المسجد قاصداً به الصلاة فيه إلاّ أنه احتمل عدم تمكنه من ذلك ، كما إذا كان باب المسجد ينسد في وقت معيّن واحتمل المكلّف اقتراب وقت الانسداد ، ولكنه عمد إلى الوضوء بحجّة معتبرة قائمة على تمكنه من الصلاة في المسجد من استصحاب أو أمارة ، وكان في الواقع وعلم الله سبحانه لا يتمكن من الصلاة فيه وكان خارجاً عن الموقوف عليهم واقعاً ، لأن عدم تمكنه من ذلك بعد الوضوء يكشف عن عدم كونه من الموقوف عليهم لا محالة وأن التصرّف في ذلك الماء كان محرماً في حقِّه واقعاً ، وإن كان معذوراً في تصرّفه في الماء بالوضوء.

وأمّا الصورة الثالثة : أعني ما إذا لم تكن حرمة التصرف فعلية ولا متنجزة في حق المكلّف ، بل إنما كان هناك إنشاء الحرمة فحسب ، كما إذا توضأ بماء الحوض في المسجد معتقداً تمكنه من الصلاة في المسجد بعد الوضوء ، أو غافلاً عن أن الوقف مخصوص بالمصلين في المسجد ولم يكن بحسب الواقع متمكناً من الصلاة في المسجد والماء موقوف على خصوصهم ، فإن حرمة التصرف فيه ساقطة واقعاً ، حيث لا معنى لفعلية الحرمة مع الغفلة أو الاعتقاد بالتمكن من الصلاة ، لعدم كونها قابلة للامتثال في حقيهما ولو على وجه الاحتياط ، لأن الغافل والجاهل المركب غير متمكنين من الاحتياط ومع عدم قابلية الحكم للامتثال لا معنى لفعليته.

فالصحيح حينئذٍ هو الحكم بصحة وضوئه لتمشي قصد التقرب منه وعدم حرمة‌

٣٣٩

الفعل ومبغوضيته واقعاً ، ومع انتفاء الحرمة لا وجه للبطلان.

نعم ، يبقى الكلام حينئذٍ في أنه إذا التفت إلى خصوصية الوقف بعد الوضوء ، أو علم بخطإ اعتقاده ثم عرض له التمكن بعد ذلك فهل يجب عليه أن يصلي في ذلك المسجد حتى يندرج بذلك في عنوان الموقوف عليهم؟

ذكر في المتن أنه هو الأحوط ، بل لا يترك في صورة التوضؤ بقصد الصلاة فيه والتمكّن منها ، ولا نرى نحن وجهاً صحيحاً لإيجاب الصلاة عليه في المسجد في مفروض الكلام ، وذلك لأن ما يوجب بطلان الوضوء إنما هو أحد أمرين إما الحرمة المتنجزة وإما الحرمة الواقعية على الخلاف فيها بيننا وبين الأصحاب قدس‌سرهم ولا تحقق لشي‌ء منهما في المقام ، ومعه يقع الوضوء محكوماً بالصحة لا محالة ، فلا وجه للحكم بوجوب الصلاة في ذلك المسجد ، لأن الوضوء من حوض المسجد قد حكم بصحّته سواء اندرج المتوضئ في الموقوف عليهم أم لم يندرج ، فله أن يصلِّي في أي مكان شاءه.

تنبيه وهو : أن صحّة الوضوء في الصورة الثالثة من جهة عدم فعلية الحرمة في حق المكلف لا تستلزم الحكم بعدم ضمانه الماء فيما إذا كانت للماء الذي توضأ به مالية لدى العرف ، كما إذا توضأ خارج الحوض وصرف مقداراً له مالية عند العقلاء ، وذلك لأنه إتلاف لمال الموقوف عليهم فيوجب الضمان وإن قلنا بصحّة وضوئه.

وعلى الجملة لا ملازمة بين الحكمين بوجه فربما نحكم بصحّة وضوئه وضمانه كما في المثال. وقد نحكم بصحة وضوئه من دون أن نحكم بالضمان ، كما إذا توضأ غفلة من الماء في الحوض من دون أن يصبه على الأرض بحيث لم يتلف من الماء إلاّ بمقدار الرطوبة الباقية على أعضائه وهي مما لا مالية له. وثالثة نحكم بالضمان ولا نحكم بصحة الوضوء ، كما إذا توضأ من الماء في إحدى الصورتين الأُوليين وصرف من الماء مقداراً له مالية عند العقلاء.

٣٤٠