موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحداً عن شي‌ء ، فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي وأن حجي فاسد وأن عليَّ بدنة ، فقال له : متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال : قبل أن أُلبّي قال : فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل ، أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شي‌ء عليه. طف بالبيت أُسبوعاً وصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام واسع بين الصفا والمروة وقصّر من شعرك ، فاذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس » (١).

وشيخنا الأنصاري قدس‌سره رواها بلفظه « أيما امرئ ركب أمراً بجهالة ... » (٢).

ومنها ما ورد في النكاح في العدة كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال : لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ، فقلت : بأي الجهالتين أعذر ، بجهالته أن يعلم أن ذلك محرّم عليه أم بجهالته أنها في العدّة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى الجهالة بأن الله حرّم عليه ذلك ... » (٣).

فان هذه الروايات تقتضي ارتفاع جميع الآثار عند ارتكاب العمل بالجهالة ، ومعه لا تجب على من توضأ بالماء النجس شي‌ء من الإعادة والقضاء ، كما لا عقاب عليه لجهله بالنجاسة فضلاً عن اشتراط الصلاة أو الوضوء بالطهارة.

وثانيهما : أن النجاسة إنما تثبت عند العلم بها ولا نجاسة عند عدمه حتى تمنع عن‌

__________________

(١) نقلناها عن الحدائق [ ١ : ٧٩ ] وهي تختلف عن رواية الوسائل في بعض الألفاظ فراجع الوسائل ١٢ : ٤٨٨ / أبواب تروك الإحرام ب ٤٥ ح ٣.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٦٩.

(٣) كذا في الحدائق [ ١ : ٧٣ ] « وحرم ذلك عليه » كما في الوسائل ٢٠ : ٤٥٠ / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ب ١٧ ح ٤.

٣٠١

صحّة وضوئه أو صلاته ، وذلك لقوله عليه‌السلام « كل ماء طاهر (١) حتى تعلم أنه قذر » (٢) وقوله « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فاذا علمت فقد قذر » (٣) لدلالتهما على أنّ النجاسة ليست من الأُمور الواقعية ، وإنما هي اعتبار شرعي قد ثبت لدى العلم بالنجاسة دون الجهل ، وقد رتب على ذلك عدم وجوب الإعادة والقضاء عند الجهل بنجاسته.

ثم استشهد على ذلك بكلام المحدث السيد نعمة الله الجزائري والشيخ جواد الكاظمي وإفتائهما بما ذهب إليه في المسألة ، وذكر في ذيل كلامه أن بعض معاصريه استبعد ما ذهب إليه لمخالفته ما هو المشهور بين الأصحاب ، حيث إنّ طبيعة الناس مجبولة على متابعة المشهورات وإن أنكروا بظاهرهم تقليد الأموات ، وأنّ الله سبحانه قد وفقه للوقوف على كلام للفاضلين المذكورين ، فأثبته في المقام لا للاستعانة به على قوّة ما ذهب إليه ، بل لكسر سورة النزاع ممن ذكره من المعاصرين ، لعدم قولهم إلاّ لكلام المتقدِّمين (٤) هذا.

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة على شي‌ء مما استند إليه في المقام.

أمّا ما ذكره في الوجه الأوّل ، فلأنّ معذورية الجاهل مطلقاً إلاّ في موارد قيام الدليل فيها على عدم المعذورية وإن كانت مسلّمة ، لعين الأخبار التي ذكرها في كلامه ، ومن هنا حكمنا أن من أفطر في نهار شهر رمضان بما لا يعلم بمفطريته ولا بحرمته لم تجب عليه الكفّارة وفاقاً لصاحب العروة (٥) وخلافاً لشيخنا الأُستاذ ( قدس‌

__________________

(١) كذا في الحدائق [ ٢ : ٣٧٢ ] والموجود في الوسائل عن حماد : الماء كلّه طاهر ... نعم روى في الوسائل عن الصادق عليه‌السلام كل ماء طاهر ، إلاّ أنّ ذيله ؛ إلاّ ما علمت أنه قذر ، لا حتى يعلم أنه قذر فليراجع.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٣ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٤) الحدائق ٢ : ٣٧٢.

(٥) فصل في كفّارة الصوم قبل المسألة [٢٤٧٠].

٣٠٢

سرهما ) في هامشها (١) وكذا قلنا بعدم ترتب الكفارة على ارتكاب محرمات الإحرام جهلاً بحكمها أو بموضوعها ، وبارتفاع الحد عن ارتكاب المحرم إذا كان عن جهل بحكمه أو بموضوعه.

وقد ورد في موثقة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل شرب الخمر على عهد أبي بكر وعمر واعتذر بجهله بالتحريم ، فسألا أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر عليه‌السلام بأن يدار به على مجالس المهاجرين والأنصار وقال من تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك ، فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله » (٢) بلا فرق في ذلك بين المقصر والقاصر ولا بين الجهل بالحكم والجهل بالموضوع إلاّ في موارد قام الدليل فيها على عدم معذورية الجاهل ، وذلك كمن تزوج بامرأة جاهلاً بكونها في العدة فدخل بها ، لأنها بذلك تحرم عليه مؤبداً ، إلى غير ذلك من الموارد ، فعموم هذه الأخبار وإطلاقها هو المحكّم في غير موارد الاستثناء.

نعم ، لا مناص من تقييدها بما إذا كان العمل والارتكاب بعد الفحص في الشبهات الحكمية ، لدلالة الأدلة على أن الأحكام الواقعية متنجزة على المكلفين قبل الفحص إلاّ أنها غير منطبقة على المقام ، وذلك لأن مقتضاها إنما هو ارتفاع المؤاخذة والعقاب عما ارتكبه جاهلاً من فعل المحرمات أو ترك الواجبات ، وارتفاع الآثار المترتبة عليه من كفّارة أو حد أو غيرهما من الآثار ، ومن البيّن أن وجوب الإعادة أو القضاء ليس من الآثار المترتبة على التوضؤ بالماء المتنجس ، بل إنما هما من آثار بقاء التكليف الأول وعدم سقوطه عن ذمة المكلف ، ومن آثار فوات الواجب في ظرفه ، ولا يترتب شي‌ء منهما على التوضؤ بالماء النجس حتى يحكم بارتفاعهما. نعم ، نحكم بارتفاع الحرمة والمؤاخذة عن ارتكابه فحسب. وعلى الجملة إنما يرتفع بها الآثار المترتبة على‌

__________________

(١) العروة الوثقى مع حاشية النائيني : ٥١١.

(٢) كذا في الحدائق [ ١ : ٨٠ ] وروى تفصيله في الوسائل ٢٨ : ٢٣٢ / أبواب حد المسكر ب ١٠ ح ١.

٣٠٣

الفعل أو الترك الصادر منه جهلاً دون ما لم يكن كذلك كالاعادة أو القضاء ، وكتنجس يده المترتب على ملاقاة النجس ونحوه ، فالتطبيق في غير محله.

وأما ما ذكره في الوجه الثاني فلاندفاعه :

أوّلاً بأن قوله عليه‌السلام « حتى تعلم أنه قذر » أدل دليل على ثبوت النجاسة والقذارة في ظرف الجهل وعدم العلم ، لبداهة أنه لولا ثبوتهما قبل العلم بهما فبأيّ شي‌ء يتعلق علمه في قوله « حتى تعلم » فلا مناص من التزام ثبوت النجاسة قبل ذلك واقعاً ، وهي قد يتعلق بها العلم وقد لا يتعلق ، وعليه فمفاد الروايتين إنما هو الطهارة الظاهرية الثابتة في ظرف الشكّ في النجاسة ، وحيث إن وضوءه قد وقع بالماء النجس واقعاً ، فلا مناص من الحكم بالفساد والبطلان ولزوم إعادة ما أتى به من الصلوات بعده أو قضائها ، لأن الاجتزاء بما أتى به من الصلوات الفاسدة يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، ومقتضى القاعدة لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.

وثانياً بأنّا نقطع أن صاحب الحدائق قدس‌سره بنفسه لا يلتزم بما أفاده في المقام فما ظنك بغيره ، وذلك لأنّا إذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء مشكوك الطهارة والنجاسة مع فرض كونه نجساً واقعاً ، فهل يفتي صاحب الحدائق بالطهارة في مثله حتى بعد الانكشاف والعلم بقذارة الماء حال الغسل به ، بحيث لا يحكم بنجاسة ما أصابه ذلك الثوب أو ذلك الماء حال الجهل بنجاسته ، بدعوى أن تطهير الثوب المتنجس يتوقّف على غسله بالماء الطاهر ، والغسل محرز بالوجدان وطهارة الماء ثابتة بالتعبّد على ما ادعاه ، وهذا مما لا يحتمل صدوره عمن هو دونه فضلاً عن مثله ( قدس الله إسراره ).

وثالثاً بأن ما أفاده قدس‌سره إذا كان تماماً في قوله « الماء كله طاهر ... » أو « كل شي‌ء نظيف ... » فلما ذا لا يلتزم به في قوله عليه‌السلام « كل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) بأن يدعى أن الحرمة ممّا لا واقعية له ، وإنما هي أمر اعتباري‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ ، ٢٥ : ١١٨ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٧ ، ٢٤ : ٢٣٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٤.

٣٠٤

اعتبرها الشارع بعد العلم بها ، ومن البعيد جدّاً أن يلتزم بتوقّف الحرمة على العلم بها. مع أن وزانه وزان قوله « الماء كله طاهر ».

وهذا ، على أنّا لو سلمنا كلا الوجهين وبنينا على صحة انطباق الروايات الواردة في معذورية الجاهل على ما نحن فيه ، وعلى أن النجاسة إنما تثبت بالعلم بها ، أيضاً لا يمكننا الالتزام بما أفاده في المقام ، وذلك للنص الخاص الذي دلّ على وجوب إعادة الصلاة أو قضائها فيما إذا توضأ بالماء النجس جاهلاً ، ومع وجود النص الصريح كيف يمكن العمل على طبق القاعدة ، وهو موثقة عمار الساباطي « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة ، فقال إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئاً وليس عليه شي‌ء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه ثم قال : لعلّه أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها » (١).

فانّ تعليله الحكم بقوله « لأنه لا يعلم متى سقطت فيه » كالصريح في أنه لو كان علم سقوطها فيه قبل الوضوء أو الاغتسال أو غسل الثوب وجبت عليه إعادة الوضوء والصلاة ولزم أن يغسل ثيابه وكل ما أصابه ذلك الماء ، وإنما لم يجب عليه ذلك لاحتمال وقوعها في الماء في تلك الساعة التي رآها.

ثم إن الرواية تعم ما إذا انكشفت نجاسة الماء قبل خروج وقت الصلاة وما إذا كان الانكشاف بعد خروجه ، وذلك لقوله « قد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه » لأن الوضوء مراراً أو الاغتسال وغسل الثياب كذلك لعطفهما على الوضوء مراراً قبل خروج وقت الصلاة مما لا يتحقق عادة. والعجب منه قدس‌سره كيف لم يلتفت إلى وجود النص في المقام والتزم بما نقلناه عنه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

٣٠٥

وكذا طهارة مواضع الوضوء ويكفي طهارة كل عضو قبل غسله ، ولا يلزم أن يكون قبل الشروع تمام محالّه طاهراً ، فلو كانت نجسة ويغسل كل عضو بعد تطهيره كفى. ولا يكفي غسل واحد (*) بقصد الإزالة والوضوء وإن كان برمسة في الكر أو الجاري (١).

______________________________________________________

اشتراط الطهارة في مواضع الوضوء :

(١) اعتبار الطهارة في مواضع الوضوء وإن نسب إلى المشهور ، إلاّ أنه مما لم ينص عليه في الأخبار ، ومن هنا وقع الكلام في مدرك الحكم بالاعتبار ، وأنه لماذا لم يجز تطهير المواضع المذكورة بالغسلة الوضوئية نفسها.

واستدل على اعتبار الطهارة فيها بوجوه :

الأوّل : أن يستفاد حكم المسألة مما ورد في كيفية غسل الجنابة من لزوم غسل الفرج أوّلاً ثم الشروع في الاغتسال ، بأن يقال : إنه لا وجه لذلك إلاّ اعتبار طهارة المحل في حصول الطهارة المعتبرة في الصلاة ، ولا يفرق في ذلك بين الغسل والوضوء.

ويندفع أولاً بأن المسألة في الغسل غير مسلمة فما ظنك بالوضوء. وثانياً بأن الغسل أمر والوضوء أمر آخر ، فكيف يمكن أن يستفاد الوظيفة في أحدهما من بيان الوظيفة في الآخر ، وهل هذا إلاّ القياس وهو مما لا نقول به.

الثاني : أن المحل إذا كان متنجساً قبل الوضوء فلا محالة ينفعل الماء الوارد عليه بالملاقاة ، وقد أسلفنا اعتبار الطهارة في ماء الوضوء وقلنا إن الوضوء بالماء المتنجس باطل ، إذن لا بدّ من تطهير مواضع الوضوء أوّلاً حتى لا يتنجس الماء بالمحل ويقع الوضوء صحيحاً.

وهذا الوجه وإن كان لا بأس به في نفسه إلاّ أنه لا يصحح الحكم بلزوم طهارة المحل على وجه الإطلاق ، بل لا بدّ من إخراج التوضؤ بالمياه المعتصمة ، كما إذا توضأ‌

__________________

(*) الظاهر كفايته إلاّ فيما إذا توضأ بماءٍ قليل وحكم بنجاسته بملاقات المحلّ.

٣٠٦

بماء المطر أو بالارتماس في الكر أو غيرهما من المياه المعتصمة ، لبداهة أن الماء وقتئذٍ باق على طهارته وإن لاقى المحل المتنجس ، ومع طهارة الماء لا وجه للحكم ببطلان الوضوء ، كما أن الوضوء إذا كان بالماء القليل لا بدّ في الحكم باعتبار طهارة المحل من القول بنجاسة الغسالة من حين ملاقاتها مع المتنجس ، إذ لو قلنا بطهارتها مطلقاً أو في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل كما هو الصحيح ، أو قلنا بنجاستها بعد الانفصال عن المتنجس لا قبله ، لم يكن وجه للمنع عن الوضوء ، لفرض عدم انفعال الماء بالصبّ على الموضع المتنجس إما مطلقاً كما على الأول أو فيما إذا كانت متعقبة بطهارة المحل كما على الثاني كالغسلة الاولى في المتنجس بما لا يعتبر في غسله التعدّد ، أو الغسلة الثانية فيما يعتبر التعدّد في غسله ، فاذا نوى الوضوء في الغسلة الثانية لم يحكم عليه بالبطلان ، لعدم نجاسة الماء حال كونه في اليد أو في غيرها من الأعضاء.

وكيف كان ، لا بدّ على هذا الوجه من التفصيل بين ما إذا كان الماء معتصماً كالكر والمطر وكونه غير معتصم ، وعلى الثاني أيضاً يفصّل بين كون الغسالة متنجسة ما دامت في المحل وكونها طاهرة ، فيلتزم باشتراط الطهارة في المحل فيما إذا كان الماء غير معتصم وكون الغسالة متنجسة في المحل.

الثالث : أصالة عدم التداخل ، وحيث إنّا أُمرنا بغسل المتنجس وتطهيره كما أُمرنا بغسلة الوضوء ، وكل منهما سبب تام لوجوب غسل المحل وقد تحقق السببان معاً وجب الغسل متعدِّداً ، لأن كل سبب يؤثر في إيجاب مسببه مستقلا ، ومعه لا بدّ من غسل مواضع الوضوء أوّلاً ثم الإتيان بغسلة الوضوء ، فان الاكتفاء بالغسلة الواحدة لرفع كل من الحدث والخبث على خلاف الأصل ، وهو أصالة عدم التداخل كما مرّ.

ولا يمكن المساعدة على هذا الاستدلال بوجه ، وذلك لأن عدم التداخل أو التداخل إنما هو فيما إذا كان الأمران مولويين ، كما إذا وجبت كفارتان من جهة الإفطار في نهار شهر رمضان ومن جهة حنث النذر مثلاً ، فيأتي وقتئذٍ مسألة التداخل وعدمه ، فيقال إن كُلا من الأمرين يستدعي امتثالاً مستقلا فتجب عليه كفارتان والاكتفاء بالكفارة الواحدة خروجاً عن عهدة كلا الأمرين على خلاف الأصل ، فإن‌

٣٠٧

الأصل عدم التداخل.

وأمّا إذا لم يكن الأمران مولويين كما في المقام ، إذ الأمر بغسل المتنجس إرشادي لا محالة ، لكونه إرشاداً إلى النجاسة وأنها مما ترتفع بالغسل ، فلا مجال فيه لهذه الأصالة وعدمها ، فإن الأمر بالغسل قد يكون إرشاداً إلى أمر واحد وقد يكون إرشاداً إلى أمرين : أعني النجاسة وكونها مما يزول بالغسل ، والأوّل كما إذا فرغنا عن نجاسة شي‌ء فورد الأمر بغسله كما في موثقة (١) عمّار « يُسأل عن الإناء كيف يغسل وكم مرة يغسل؟ قال : يغسل ثلاث مرات ... » (٢) لأن الأمر بالغسل إرشاد إلى أن نجاسته مما تزول بالغسل. والثاني كما إذا لم يعلم نجاسة الشي‌ء قبل ذلك وورد الأمر بغسله ابتداء كما في قوله عليه‌السلام « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٣) لأن الأمر بالغسل في مثله إرشاد إلى نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وإلى أن نجاسته مما يزول بالغسل ، ومن الظاهر أن طهارة المتنجس بالغسل مما لا يتوقف على القصد ، بل يطهر بمجرد وصول الماء إليه وتحقق غسله ، وعليه فاذا صبّ الماء على العضو المتنجس قاصداً به الوضوء حصلت بذلك طهارته أيضاً كما يتحقق به الوضوء ، بل الأمر كذلك حتى فيما إذا قصد به الوضوء ولم يقصد به الإزالة أصلاً ، كما إذا لم يكن ملتفتاً إلى نجاسته.

نعم ، يبقى هناك احتمال أن تكون الغسلة الوضوئية مشروطة بطهارة المحل قبلها ، فلا يكتفى بطهارته الحاصلة بالوضوء ، ولكنه يندفع بإطلاقات الأمر بغسل الوجه واليدين في الآية المباركة والروايات المشتملة على الأمر بغسلهما ، لعدم تقييد الغسل فيها بطهارة المحل قبل ذلك.

__________________

(١) على ما حقّقه سيِّدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) من أن الصحيح في سندها محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال لا كما في التهذيب [ ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ] والوسائل أعني رواية محمد ابن أحمد بن يحيى عن أحمد بن يحيى وإلاّ فأحمد بن يحيى مجهول فليلاحظ.

(٢) هو مضمون موثقة عمار المروية في الوسائل ٣ : ٤٩٦ / أبواب النجاسات ب ٥٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٣٠٨

نعم لو قصد الإزالة بالغمس والوضوء بإخراجه كفى (*) ولا يضر تنجس عضو بعد غسله وإن لم يتم الوضوء (١).

______________________________________________________

وعليه فالصحيح اشتراط طهارة الأعضاء قبل الوضوء فيما إذا كان التوضؤ بالماء القليل وكانت الغسلة غير متعقبة بطهارة المحل ، كما في الغسلة الأُولى فيما إذا كانت متنجسة بما يعتبر التعدد في إزالته لاستلزام نجاسة الأعضاء وقتئذٍ نجاسة الماء الوارد عليها وهي قادحة في صحة الوضوء كما مر.

وأمّا إذا كان التوضؤ بشي‌ء من المياه المعتصمة أو كان بالماء القليل وكانت الغسالة متعقبة بطهارة المحل ، كما إذا لم تكن النجاسة مما يعتبر تعدد الغسل في إزالتها ، أو كان معتبراً إلاّ أنه قصد التوضؤ بالغسلة الثانية المتعقبة بطهارة المحل ، فلا يشترط طهارة الأعضاء قبل التوضؤ كما لا يخفي.

وقد سقط في تعليقات سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) تفصيل هذه المسألة ، حيث إن السيد قدس‌سره في أحكام غسل الجنابة اعتبر طهارة البدن قبل غسلها (٢) وعلّق عليه سيدنا الأُستاذ ( دام ظله ) بقوله : مرّ تفصيلها في الوضوء ، ولم يتقدم عنه هذا التفصيل في تعليقاته على مسائل الوضوء وهو سقط مطبعي (٣).

إذا قصد الوضوء بالإخراج :

(١) ما أفاده قدس‌سره متين بالنسبة إلى رفع غائلة نجاسة المحل ، وهو كاف في صحة الوضوء مع قطع النظر عما أشرنا إليه سابقاً من أن الظاهر المستفاد من الأخبار الآمرة بالغسل في الوضوء والغسل إنما هو إيجاد الغسل وإحداثه ، وأما الغسل بحسب البقاء فهو غير كاف في صحته ، وحيث إن الغسل بإخراج العضو من الماء ليس‌

__________________

(*) مرّ الإشكال في نظائره [ منها المسألة ٥١١ ].

(١) في المسألة [٦٦٦].

(٢) وقد أُضيف هذا التفصيل على تعليقته المباركة في طبعاتها الأخيرة.

٣٠٩

[٥٤٠] مسألة ١ : لا بأس بالتوضؤ بماء القليان ما لم يصر مضافاً (١).

[٥٤١] مسألة ٢ : لا يضر في صحة الوضوء نجاسة سائر مواضع البدن بعد كون محالّه طاهرة. نعم الأحوط عدم ترك الاستنجاء قبله (٢).

______________________________________________________

باحداث للغسل وإنّما هو إبقاء له ، والإحداث إنما كان بإدخاله العضو في الماء ، فلا يمكن الاكتفاء به في الحكم بصحة الوضوء.

التوضّؤ بماء القليان :

(١) هذه المسألة لا تناسب المسائل الراجعة إلى اشتراط طهارة الماء أو الأعضاء في الوضوء ، فكان الأولى والأنسب أن يعنون المسألة باشتراط طهارة ماء الوضوء وعدم تغيّره بشي‌ء من أوصاف النجس ثم يذكر أن التغيّر بغير أوصاف النجس كتغيّر ماء القليان بالدخان غير قادح في صحته ما دام لم يصر مضافاً.

(٢) هذا الاحتياط احتياط استحبابي ، والمنشأ فيه ما ورد في بعض النصوص من الأمر بإعادة الوضوء في من ترك الاستنجاء نسياناً (١) وحمل الوضوء فيها على الاستنجاء كما عن بعضهم خلاف ظاهر الروايات ، إذن تدلنا هي على اشتراط الاستنجاء في صحة الوضوء.

وقد ورد في مقابلها عدة روايات فيها صحاح وموثقة دلت على عدم بطلان الوضوء بترك الاستنجاء ، والجمع بينهما بحمل الأمر بإعادة الوضوء في الطائفة الأُولى على الاستحباب غير صحيح ، لأنه إنما يصح فيما إذا كان الأمر في المتعارضين مولوياً وليس الأمر كذلك ، لأن الأمر بالإعادة في الطائفة الأُولى إرشاد إلى بطلان الوضوء واشتراطه بالاستنجاء.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ١٠ ح ١ ، ٥ ، ٢٩٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٨ ح ٨ ، ٩.

٣١٠

[٥٤٢] مسألة ٣ : إذا كان في بعض مواضع وضوئه جرح لا يضره الماء ولا ينقطع دمه فليغمسه بالماء وليعصره قليلاً حتى ينقطع الدم آناً ما ، ثم ليحركه بقصد الوضوء (*) مع ملاحظة الشرائط الأُخر ، والمحافظة على عدم لزوم المسح بالماء الجديد إذا كان في اليد اليسرى ، بأن يقصد الوضوء بالإخراج من الماء (١).

الثالث : أن لا يكون على المحل حائل يمنع وصول الماء إلى البشرة (٢)

______________________________________________________

وعليه فالصحيح في الجمع بينهما حمل الطائفة الآمرة بالإعادة على التقيّة ، وإلاّ فهما متعارضتان ولا بدّ من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى إطلاقات أدلة الوضوء كما في الآية المباركة والروايات ، لعدم تقييد الأمر بالغسل فيها بالاستنجاء ، فمقتضى الإطلاقات عدم اشتراط الاستنجاء في الوضوء.

كيفيّة غسل موضع الجرح :

(١) قد عرفت غير مرّة أن المأمور به في الوضوء إنما هو إحداث الغسل وإيجاده ولا يكفي فيه الغسل بقاءً ، ومنه يظهر الحال فيما إذا قصد الوضوء بإخراج يده من الماء.

نعم ، هناك طريقة اخرى وهي أن يضع يده على موضع الجرح ويدخلها في الماء ويحرّك يده حتى يدخل الماء تحتها ثم يخرجها عنه ويغسل بقية المواضع أعني المقدار الباقي من اليد في الخارج بصبّ الماء عليه.

اعتبار عدم الحائل على المحل :

(٢) فان الوضوء غسلتان ومسحتان ، فكما أنه لا بدّ في المسحتين من وقوع المسح على نفس البشرة ولا يكفي المسح على الحائل على ما عرفت تفصيله ، فكذلك الحال في الغسلتين.

__________________

(*) فيه إشكال ، نعم لا بأس بأن يضع يده مثلاً على موضع الجرح ثم يجرّها إلى الأسفل ليجري الماء على موضع الجرح.

٣١١

ولو شكّ في وجوده يجب الفحص حتى يحصل اليقين أو الظن بعدمه (*) ، ومع العلم بوجوده يجب تحصيل اليقين بزواله (١).

الرابع : أن يكون الماء وظرفه (**) ومكان الوضوء (***) ومصبّ مائه مباحاً (٢)

______________________________________________________

عدم الاعتبار بالظن :

(١) لا اعتبار بالظن بالعدم ، لأن مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم العلم بالفراغ والخروج عن عهدة التكليف المتيقن ، وعليه لا مناص من الفحص حتى يحصل له العلم أو الاطمئنان بوصول الماء إلى البشرة وزوال الحاجب ، أو تقوم على ذلك أمارة معتبرة شرعاً.

فلا وجه للتفرقة بين موارد الشك في الحاجب وموارد العلم بوجوده كما صنعه الماتن قدس‌سره واعتبر تحصيل اليقين بزواله عند العلم بالوجود واقتصر على الظن بالعدم عند الشك في وجوده ، فان الصحيح كما عرفت إنما هو تحصيل الحجة المعتبرة على زوال المانع ووصول الماء إلى البشرة ، لأن استصحاب عدم الحاجب لا يترتب عليه الحكم بالوصول إلاّ على القول بالأُصول المثبتة.

والسيرة على عدم الاعتناء بالشك في وجود الحائل مما لا أساس له ، فلا مناص من الاستناد إلى حجة معتبرة من الاطمئنان أو غيره كما مرّ ، بلا فرق في ذلك بين الصورتين : أعني صورة العلم بوجود الحائل وصورة الشك في وجوده.

اعتبار الإباحة في الماء :

(٢) أمّا اعتبار إباحة الماء في صحة الوضوء فهو مما لا إشكال فيه ولا خلاف ، لأن‌

__________________

(*) لا يكفى الظن بالعدم ما لم يصل إلى حدّ الاطمئنان ، ومعه يكتفى به حتى مع العلم بوجود الحائل قبل ذلك.

(**) تقدم حكم الوضوء من الظرف المغصوب في بحث الأواني ، وفي حكم الظرف مصبّ الماء.

(***) على الأحوط.

٣١٢

الماء إذا كان مغصوباً محرماً حرم جميع التصرفات الواقعة فيه ، ومن جملتها غسل مواضع الوضوء به ، وإذا حرم الغسل به استحال أن يكون متصفاً بالوجوب ، وذلك لأن حرمة التصرّف في المغصوب انحلالية وقد ثبتت على كل واحد من أنحاء التصرفات في الماء ، ومقتضى الأمر بطبيعي الوضوء والغسل وإن كان هو الترخيص في تطبيقه على أيّ فرد شاءه المكلف خارجاً ، إلاّ أن من الظاهر أن الترخيص في التطبيق يختص بالأفراد غير المحرمة ، إذ لا معنى للترخيص في الحرام ، فلا يجوز تطبيق الطبيعي المأمور به في الوضوء والغسل على الغسل بالماء المغصوب ، فإذا توضأ بالماء الغصبي بطل وضوءه لا محالة.

ثم لا يخفى أن الحكم بفساد الوضوء من الماء المغصوب غير مبتن على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي واستحالته ، وإن نسب إلى الكليني قدس‌سره جواز التوضؤ بالماء المغصوب (١) ولعلّه استند في ذلك إلى جواز اجتماع الأمر والنهي.

والوجه في عدم ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة ، هو أن مسألة جواز الاجتماع وامتناعه إنما هي فيما إذا كان هناك عنوانان قد تعلق بأحدهما الأمر وتعلق النهي بالآخر وتصادق كل من العنوانين على شي‌ء واحد خارجاً ، فإنه يتكلّم وقتئذٍ في أن ذلك المجمع للحرمة والوجوب هل هو موجود واحد حقيقة حتى يحكم بالامتناع لعدم إمكان أن يكون شي‌ء واحد واجباً وحراماً في وقت واحد ، أو أنه موجود واحد بالإشارة إلاّ أنه في الحقيقة أمران قد انضم أحدهما بالآخر حتى يحكم بالجواز كما في الصلاة والغصب المنطبقتين على الصلاة في الدار المغصوبة. وأما إذا تعلق الأمر بشي‌ء كالغسل في الوضوء وتعلق عليه النهي أيضاً لكونه غصبياً ، فلا ينبغي الإشكال في خروجه بذلك عن الوجوب ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أم بالامتناع وذلك للعلم باتحاد متعلّق الأمر والنهي ، فان الغسل بعينه تصرف مبغوض.

وبعبارة أُخرى : إذا تعلّق النهي بشي‌ء وكان من أحد مصاديقه هو ما تعلق الأمر بطبيعيه ، كان النهي مقيّداً لما تعلّق به الأمر بغير ذلك الفرد الذي وقع مصداقاً‌

__________________

(١) حكى عنه في المستمسك ٢ : ٤٢٦.

٣١٣

فلا يصح لو كان واحد منها غصباً من غير فرق بين صورة الانحصار وعدمه ، إذ مع فرض عدم الانحصار وإن لم يكن مأموراً بالتيمم إلاّ أنّ وضوءه حرام من جهة كونه تصرّفاً أو مستلزماً للتصرّف في مال الغير فيكون باطلاً.

______________________________________________________

للمنهي عنه ، لأن النهي انحلالي ، والنهي عن فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها يوجب تقيد متعلّق الأمر بغير ذلك الفرد لا محالة ، وهذا من دون فرق بين صورتي انحصار الماء به وعدمه.

اعتبار الإباحة في الظرف والمكان والمصب :

وأما إباحة الظرف أو المكان أو مصب ماء الوضوء فالصحيح أن يفصّل فيها بين صورتي الانحصار وعدمه.

فاذا فرضنا أن الماء منحصر بالماء الموجود في الإناء المغصوب ، أو المكان أو المصب منحصر بالمغصوب منهما حكم ببطلان الوضوء ، لأنه تصرّف في ماء الغير من دون إذنه ، أو أن الماء ملكه أو مباح له والتصرف فيه سائغ إلاّ أن التوضؤ به مستلزم للحرام ، لأن أخذه والاغتراف به من إناء الغير محرّم مبغوض فلا يتعلق به الأمر وينتقل فرضه إلى التيمم.

وكذلك الحال فيما إذا كان التوضؤ به مستلزماً للتصرف في مكان الغير أو في المصب المغصوب وكل ذلك تصرف حرام.

وأما إذا فرضنا عدم الانحصار لا في الماء ولا في المكان والمصب ، بأن كان له ماء آخر مباح أو مكان أو مصب مباحان فالصحيح صحة الوضوء حينئذٍ كما مر في التكلّم على أواني الفضة والذهب فلاحظ (١) والوجه فيه أن المحرم إنما هو مقدّمة الوضوء أعني الاغتراف من إناء الغير ، وأما الماء فهو مباح التصرّف له على الفرض‌

__________________

(١) شرح العروة ٤ : ٣٠٥.

٣١٤

ومن هنا لو أفطر في نهار شهر رمضان بذلك الماء لم يكن إفطاراً بالحرام. فاذا كان الماء مباحاً له فله أن يتوضأ منه كما له أن يصرفه في غيره من الأُمور ، والمفروض أنه مكلف بالوضوء لعدم انحصار الماء بما يستلزم الوضوء منه تصرّفاً حراماً ، وحرمة المقدّمة لا تسري إلى ذي المقدمة.

وكذا الحال فيما إذا كان المكان محرماً ، لأن الغسل المأمور به الذي هو بمعنى مرور الماء على أعضائه مما لا حرمة له ، وإن كانت مقدمته كتحريك اليد تصرفاً في ملك الغير وهو حرام ، إلاّ أن حرمة التحريك والمكان لا تسري إلى الغسل الذي فسّرناه بمرور الماء على أعضائه.

وكذا فيما إذا كان المصبّ مغصوباً ، لأن الوضوء وصبّ الماء على العضو ومروره عليه كان مستلزماً لوقوع قطراته على المصبّ المغصوب وهو كالعلة التامّة للتصرّف الحرام ، إلاّ أنّا قدمنا في محلِّه أن المقدّمة لا تتصف بالوجوب فضلاً عن أن تكون محرّمة ، ولو كانت كالعلّة التامّة للوقوع في الحرام.

وعليه فالوضوء وإن كان مستلزماً للتصرف الحرام إلاّ أنه لا يتصف بالحرمة ومعه لا مانع من الامتثال به ووقوعه مصداقاً للواجب ، وإن كان الأحوط هو الاجتناب لوجود القائل بالحرمة والبطلان ، هذا.

وقد قدّمنا في التكلّم على أواني الفضة والذهب أن الوضوء في مفروض الكلام محكوم بالصحّة حتى في صورة الانحصار فيما إذا كان الإناء مغصوباً أو كان المصب أو المكان محرّماً (١) وذلك لأن القدرة المعتبرة في الواجبات إنما هي القدرة التدريجية والمفروض في محل الكلام أن المكلّف قادر ومتمكن من الماء المباح وكذا من التوضؤ بعد الاغتراف ، فالقدرة على الماء والوضوء تحصل له بالتدريج حسب تدريجية الغرفات ، وإن كان كل واحد من اغترافاته محرّماً وتصرفاً في مال الغير من دون رضائه.

__________________

(١) شرح العروة ٤ : ٣٠٢.

٣١٥

نعم لو صبّ الماء المباح من الظرف الغصبي في الظرف المباح ثم توضّأ لا مانع منه (١) وإن كان تصرّفه السابق على الوضوء حراماً. ولا فرق في هذه الصورة بين صورة الانحصار وعدمه ، إذ مع الانحصار وإن كان قبل التفريغ في الظرف المباح مأموراً بالتيمم إلاّ أنه بعد هذا يصير واجداً للماء في الظرف المباح ، وقد لا يكون التفريغ (*) أيضاً حراماً كما لو كان الماء مملوكاً له وكان إبقاؤه في ظرف الغير تصرفاً فيه ، فيجب تفريغه حينئذٍ فيكون من الأول مأموراً بالوضوء ولو مع الانحصار (٢).

______________________________________________________

إذن المكلّف قادر من الماء والتوضؤ به على تقدير ارتكابه المعصية وهي الاغتراف ، وعليه فلا فرق بين صورتي الانحصار وعدمه إلاّ في أن المكلّف مأمور بالوضوء في صورة عدم الانحصار ، وأمّا في صورة الانحصار فله أن يختار التيمم من دون أن يرتكب المعصية بالاغتراف ويكلف بالوضوء.

(١) لصيرورته بالتفريغ متمكناً من الوضوء بالماء المباح بالتكوين وإن كان غير قادر عليه قبله ، وذلك لحرمة التصرف في إناء الغير بالتفريغ ، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ، ومن هنا وجب عليه التيمم في صورة الانحصار.

(٢) ما أفاده قدس‌سره إنما يتم فيما إذا كان إشغال ظرف الغير غير مستند إلى اختياره ، أو كان مستنداً إلى سوء الاختيار إلاّ أنّا بنينا على أن الامتناع بالاختيار كالامتناع بغير الاختيار ينافي الاختيار ، لأن مالك الماء مكلّف وقتئذٍ بتفريغ إناء الغير ، لما فرضنا من أن بقاء ماله في الإناء مما يصدق عليه التصرف لدى العرف وإن لم يكن مستنداً إلى اختياره ، ولا يحرم عليه التصرّف فيه بالتفريغ ، لعدم استناده إلى اختياره ، أو على فرض أنه مستند إليه بنينا على ان الامتناع ولو بالاختيار يوجب سقوط الحرمة وارتفاعها ، والمكلّف على هذا يكون متمكِّناً من الماء فيجب عليه الوضوء من الابتداء.

__________________

(*) على تفصيل في استحقاق العقاب وعدمه.

٣١٦

[٥٤٣] مسألة ٤ : لا فرق في عدم صحّة الوضوء بالماء المضاف أو النجس أو مع الحائل بين صورة العلم والعمد والجهل أو النسيان (١) ، وأمّا في الغصب فالبطلان مختص (*) بصورة العلم والعمد (٢) سواء كان في الماء أو المكان أو‌

______________________________________________________

وأمّا إذا كان التصرف في إناء الغير وإشغاله مستنداً إلى سوء اختياره كما هو الغالب في الغاصبين ، وبنينا في محله على أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما هو الصحيح فلا يتم ما أفاده الماتن بوجه ، لأنه وقتئذٍ محرم التصرف في إناء الغير بالحرمة السابقة على الامتناع ومعه لا يتمكن من تفريغ الإناء كما لا يتمكن من إبقائه بحاله ، لأنه أيضاً معدود من التصرف في مال الغير على الفرض فلا يحكم على تفريغ الإناء بالوجوب. بل لو فرّغه لارتكب محرماً من المحرمات وإن كان العقل يلزمه بالتفريغ لأنه أقل الضررين وأخف القبيحين ، فهو مأمور به عقلاً ومحرم عليه شرعاً. وكيف كان فسواء كان تفريغه محرماً أم لم يكن فهو بعد ما فرّغ الإناء واجد للماء ومتمكن من الوضوء ، فلا بدّ من الحكم بوجوبه في حقه.

اشتراط الإطلاق وأخويهما واقعاً :

(١) بمعنى أن شرطية الإطلاق والطهارة وعدم الحائل شرطية واقعية ثابتة في كلتا حالتي العلم والجهل الشامل للنسيان أيضاً.

اشتراط الإباحة ذُكري :

(٢) فتكون شرطية الإباحة في الماء والمكان والمصب ذُكرية فلا اشتراط عند الجهل والنسيان ، وتفصيل الكلام في هذا المقام : أن الماتن ذهب إلى أن الإباحة في كل‌

__________________

(*) لا فرق فيما حكم فيه بالبطلان بين صورتي العلم والجهل في موارد الشبهات الحكمية والموضوعية ، وأما موارد النسيان فان كان الفعل فيها مبغوضاً كما في نسيان الغاصب ونحوه فالظاهر بطلان الوضوء معه أيضاً ، وإلاّ فيحكم بصحته ، ويجري هذا التفصيل في المسألة الآتية أيضاً.

٣١٧

المصبّ ، فمع الجهل بكونها مغصوبة أو النسيان لا بطلان ، بل وكذا مع الجهل بالحكم أيضاً إذا كان قاصراً ، بل ومقصراً أيضاً إذا حصل منه قصد القربة ، وإن كان الأحوط مع الجهل بالحكم خصوصاً في المقصّر الإعادة.

______________________________________________________

من الماء والمكان والمصب إنما تشترط في صحة الوضوء حال العلم بغصبيتها وحرمتها ، وهي شرط ذكرى ليست كبقية الشرائط المتقدمة التي هي شروط واقعية وعلى ذلك لا اشتراط في حالتي الجهل والنسيان ، بلا فرق في ذلك بين الجهل بالحكم والجهل بالموضوع ، بل بلا فرق بين القاصر والمقصّر في الجاهل بالأحكام ، لأن استحقاق العقاب في الجاهل المقصّر لا ينافي صحة الوضوء منه حال الجهل بحرمة الغصب ، لأنه قد أتى بطبيعي الغسل وتمشى منه قصد القربة لجهله بحرمته ، ومعهما يتم عمله ويصح وضوءه وإن استحق بذلك العقاب أيضاً.

هذا ما ذهب إليه الماتن في المقام ، وهو وإن كان موافقاً للمشهور في غير التعدِّي إلى الجاهل المقصِّر لأن المشهور قد ألحقوه بالعالم المتعمد في الترك ، وأمّا عدم مانعية الغصب في غير صورة العلم به فهو المعروف والمشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية. وقد ادّعى صاحب مفتاح الكرامة قدس‌سره على ما يبالي الإجماع على صحّة الوضوء عند الجهل بحرمة الغصب أو الجهل بموضوعه الذي هو الغصب (١).

إلاّ أن ما أفاده قدس‌سره مما لا يمكن المساعدة عليه ، أمّا بالإضافة إلى التعدِّي إلى الجاهل المقصّر ، فيتوجّه عليه : أن المقصّر وإن كان قد تمشى منه قصد القربة إلاّ أن العمل مما لا يمكن التقرّب به واقعاً لمبغوضيته وحرمته ، فهو غير قابل للمقربية بحسب الواقع ولأجل ذلك يستحق العقاب ، لأن العقاب إنما هو على نفس عمله الحرام لا على تركه التعلم أو غير ذلك ، ومع كون العمل موجباً للعقاب ومبغوضية صدوره من‌

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣.

٣١٨

فاعله كيف يمكن أن يكون مقرّباً إلى الله سبحانه ، فهل يكون المبغوض محبّباً والمبعّد مقرّباً.

وأمّا بالإضافة إلى الجاهل القاصر ، فلأن الإجماع المدعى على صحّة الوضوء منه لا يحتمل أن يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رضى المعصوم ورائه ، وإنما هو مستند إلى ما زعموه في محل الكلام من أن المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي ، لأن الغسل بماء الغير واجب من جهة ومحرم من جهة أُخرى ، فإذا كانت الحرمة متنجزة لكونها واصلة إلى المكلف فلا محالة نبني على بطلان الوضوء والعبادة ، لما عرفت من أن الحرام والمبغوض لا يقع مصداقاً للواجب والمحبوب ، ومع العلم بهما لا يمكن قصد التقرّب بالعمل. وأمّا إذا لم تتنجّز الحرمة ولم تصل إلى المكلّف وفرضناه معذوراً في ارتكابه لأن جهله عذر مستند إلى قصوره ، فلا مانع من أن يأتي بالعمل والمجمع ويقصد به القربة حيث لا حرمة متنجزة في حقِّه حتى تمنع عن قصد التقرب وكون العمل مصداقاً للواجب.

وهذا مما لا يمكن المساعدة عليه كما تعرّضنا له مفصّلاً في الكلام على مسألة اجتماع الأمر والنهي (١) وذلك لما أشرنا إليه من أن المقام خارج عن بحث الاجتماع ، فان الغصب يحرم التصرّفات الواقعة فيه بأجمعها ومن جملتها الغسل ، فيكون الغسل مصداقاً للواجب والحرام وتركبهما اتحادي لا محالة ، بمعنى أن ما هو متعلق للنهي بعينه مصداق للواجب ومع التركب الاتحادي أعني وحدة المصداق حقيقة لا يكون المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي ، ومعه لا مناص من أن يقيد الترخيص في تطبيق الطبيعي المأمور به على مصاديقه بغير هذا المصداق المحرم ، لاستحالة اجتماع الحرمة والوجوب في شي‌ء واحد حقيقي ، لوضوح أن الحرام لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب والمبعّد لا يمكن أن يكون مقرّباً كما تقدم ، هذا كله في صورة العلم بحرمة المجمع.

وأمّا إذا لم تتنجز الحرمة على المكلّف لجهله المعذر له ، فلا ينبغي الإشكال في جواز‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٩٥.

٣١٩

تصرّفاته في الماء حينئذٍ لمعذوريته ، ومن تلك التصرّفات غسله في الوضوء وتطبيقه للطبيعي المأمور به على الغسل بذلك الماء ، ومعه يجب عليه التوضؤ لتمكّنه شرعاً من الغسل.

إلاّ أن الكلام في أن هذا الترخيص في التصرّفات التي منها تطبيق الغسل المأمور به على الغسل بذلك الماء ترخيص واقعي ، وأن الحكم بوجوب الوضوء في حقِّه وجوب واقعي ، أو أن كُلاًّ من الترخيص والوجوب حكم ظاهري في حقِّه.

فان قلت : إن الوضوء واجب واقعي في حقه وهو مرخّص في التصرف في الماء بحسب الواقع ، فمعه يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في مورد واحد واقعاً ، وذلك لأن حرمة الحرام إنما تسقط في موارد الجهل ظاهراً ، وأما الحرمة الواقعية فهي غير مرتفعة بالجهل أبداً ، لعدم دوران الحرمة الواقعية مدار العلم والجهل بها ، فهو مع الحرمة الواقعية قد اتصف بالوجوب ، واجتماع الحرمة والوجوب بحسب الواقع من الاستحالة بمكان ، وعليه فلا مناص من أن يكون الوجوب والترخيص ظاهريين قد ثبتا في ظرف الجهل بحرمته.

ومعه إذا انكشف الخلاف وعلم المكلف بغصبية الماء أو بحرمة الغصب وجبت إعادة وضوئه وصلاته ، لأن ما أتى به غير مطابق للواجب الواقعي ، ولم يقم أي دليل على إجزاء غير المأمور به عن المأمور به في المقام.

والسرّ فيما ذكرناه أن مصداق المأمور به إذا اتحد مع ما هو من مصاديق الحرام كان النهي لمكان أنه انحلالي مخصّصاً للإطلاق في دليل الواجب ومقيداً له بالإضافة إلى هذا الفرد ، لأن الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب والمبعّد لا يمكن أن يكون مقرّباً ، وبما أن التخصيص واقعي فلا يكون العمل مصداقاً للواجب فيقع باطلاً لا محالة ، والجهل بحرمته لا يجعله مأموراً به وإنما يكون عذراً عن عقابه فحسب هذا.

وممّا يتعجّب به في المقام ما صدر عن المحقق النائيني قدس‌سره حيث إنه مع‌

٣٢٠