موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وأمّا في العبادات فترك العمل فيها على طبق التقيّة وإتيانه على طبق الوظيفة الواقعية يتصوّر على وجهين ، وذلك لأن التقيّة قد تقتضي فعل شي‌ء إلاّ أن المكلف يتركه ويخالف فيه التقيّة ، وأُخرى ينعكس الأمر فتقتضي التقيّة ترك الإتيان بشي‌ء في مورد والمكلف يخالف التقيّة ويأتى به.

أمّا إذا اقتضت التقيّة فعل شي‌ء وخالفها المكلف بترك ذاك العمل ، فالصحيح صحة عباداته مطلقاً سواء أكان فعله جزءاً من العبادة على مذهبهم كقول آمين بعد القراءة أم كان شرطاً للعبادة كما في التكفير بوضع إحدى اليدين على الأُخرى ، أو لا هذا ولا ذاك بل كان أمراً مستحباً عندهم غير أن التقيّة اقتضت إظهار الموافقة معهم في الإتيان بالمستحب كصلاة الجماعة معهم ، فاذا ترك التأمين والتكفير ولم يصل معهم وهو في المسجد ، فالظاهر صحّة عمله ، لموافقته للوظيفة الواقعية وغاية الأمر أنه ارتكب الحرام بتركه التقيّة ، إلاّ أن ارتكاب المحرم في الصلاة غير مضر بصحّتها بعد ما فرضنا كونها مطابقة للمأمور به الواقعي ، والسر في ذلك أن الأدلّة الآمرة بالتقيّة كقوله عليه‌السلام « لا دين لمن لا تقيّة له » أو « لا إيمان له » ونحوهما مما قدمنا نقله (١) إنما تدلنا على أن التقيّة من الدين وتركها أمر غير مشروع ، وأما أن القيود المعتبرة عند العامّة أيضاً معتبرة في العمل تقيّة فلا دلالة لها على ذلك كما مر.

وأما إذا كانت التقيّة في الترك وخالفها المكلف بإتيان ذلك الفعل وهو مطابق للوظيفة المقررة بحسب الواقع فله صورتان :

إحداهما : ما إذا كان العمل المأتي به في العبادة على خلاف التقيّة خارجاً عن العبادة ولم يكن من قيودها وشرائطها ، كما إذا اقتضت التقيّة ترك القنوت إلاّ أن المكلف قد أتى به وترك التقيّة بتركه ، ولا مانع في هذه الصورة من الحكم بصحة العبادة ، لأن العمل المأتي به وإن كان محرماً على الفرض وقد وجب عليه أن يتركه للتقيّة ، غير أن العمل المحرم الخارج عن حقيقة العبادة غير مضر للعبادة بوجه.

__________________

(١) في ص ٢١٥.

٢٨١

اللهمّ إلاّ أن نقول بما احتمله شيخنا الأُستاذ قدس‌سره بل بنى عليه من أن الذكر المحرم من كلام الآدميين وهو مبطل للصلاة (١) ولكنّا أجبنا عنه في محله (٢) بأن حرمة الذكر لا يخرج الذكر عن حقيقته ولا تبدله إلى حقيقة أُخرى ، بل هو ذكر محرم لا أنه حقيقة ثانوية اخرى ، والمبطل إنما هو كلام الآدميين دون الذكر كما لا يخفى.

وثانيتهما : ما إذا كان العمل المأتي به على خلاف التقيّة من أجزاء العبادة أو شرائطها ، كما إذا اقتضت التقيّة ترك السجدة على التربة الحسينية على مشرفها آلاف التحية والسلام ، والمكلف قد خالف التقيّة وسجد على التربة ، فحينئذٍ إن اقتصر على ذلك ولم يأت بسجدة اخرى موافقة للتقية فلا ينبغي التأمل في بطلان عبادته ، لأن السجدة على التربة لأجل كونها على خلاف التقيّة محرمة على الفرض ، والمحرم لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب ، وحيث إنه قد اقتصر عليها ولم يأت بسجدة اخرى موافقة للتقية فقد ترك جزءاً من صلاته ومعه تقع الصلاة فاسدة لا محالة.

وأمّا إذا لم يقتصر على ذلك العمل المحرم بل أتى به ثانياً مطابقاً للتقية فهو أيضاً على قسمين :

لأن ما أتى به من العمل المحرم في الصلاة قد تكون من الأفعال التي زيادتها مانعة عن صحّة الصلاة ، كما في زيادة السجدة على ما استفدناه من النهي عن قراءة العزائم في الصلاة ، معللاً بأن السجدة الواجبة لأجلها زيادة في المكتوبة ، فأيضاً لا بدّ من الحكم ببطلان العبادة ، لأن الصلاة وقتئذٍ وإن كانت مشتملة على جزئها وهو السجدة على غير التربة ، إلاّ أن اشتمالها على سجدة أُخرى محرمة وهي السجدة على التربة الحسينية مثلاً في حال التقيّة يوجب الحكم ببطلانها ، لأن السجدة زيادة في الفريضة كما عرفت.

وقد لا تكون من الأفعال التي تبطل الصلاة بزيادتها ، وهذا أيضاً على قسمين :

__________________

(١) كتاب الصلاة ٢ : ١٨٢.

(٢) في المسألة [١٧١٠].

٢٨٢

[٥٢٨] مسألة ٣٨ : لا فرق في جواز المسح على الحائل في حال الضرورة بين الوضوء الواجب والمندوب (١).

[٥٢٩] مسألة ٣٩ : إذا اعتقد التقيّة أو تحقق إحدى الضرورات الأُخر فمسح على الحائل ، ثم بان أنه لم يكن موضع تقيّة أو ضرورة ففي صحّة وضوئه‌

______________________________________________________

لأنّ العبادة إن كانت مما يبطل بمطلق الزيادة فيها كالصلاة أيضاً لا بدّ من الحكم بالبطلان ، لأنها وإن كان مشتملة على جزئها غير أن تكراره زيادة والزيادة في الصلاة موجبة لبطلانها ، وإن كانت نفس الزيادة غير معدودة من الزيادة في الفريضة.

وإن لم تكن ممّا يبطل بمطلق الزيادة كما في غير الصلاة ، ولم يكن العمل المتكرِّر مما تمنع زيادته عن صحّة العبادة كما في غير السجدة حكم بصحة العمل والعبادة لمكان اشتمالها على ما هو جزئها أعني الفعل المأتي به ثانياً حسبما تقتضيه التقيّة في ذلك الحال ، وإن كان المكلّف قد ارتكب محرماً بالإتيان بالعمل المخالف للتقية ، إلاّ أنك قد عرفت أن حرمة ذلك العمل غير مضرة بصحة العبادة. هذا تمام الكلام في التقيّة وقد اتضح بذلك الحال في جملة من الفروع المذكورة في المتن فلا نتعرض لها ثانياً وبقيت جملة أُخرى نتعرض لها في التعليقات الآتية إن شاء الله تعالى.

لا فرق في التقيّة بين الواجب والمندوب :

(١) لإطلاق الأدلة الدالة على كفاية العمل المأتي به تقيّة عن المأمور به الواقعي كغسل الرجلين في الوضوء عند التقيّة أو الغسل منكوساً ، لأنها تعم كُلا من الوضوء الواجب والمستحب ، وكذا ما دلّ على جواز مسح الخفين بناء على اعتبار رواية أبي الورد ، وكذلك الأخبار الآمرة بالصلاة معهم وفي مساجدهم ، وعلى الجملة إن أدلّة التقيّة في كل مورد من مواردها بإطلاقها يقتضي عدم الفرق بين كون العمل المتقى به واجباً وكونه مستحباً في نفسه.

٢٨٣

إشكال (*) (١).

______________________________________________________

إذا اعتقد التقيّة ثم انكشف الخلاف :

(١) الأمر كما أفاده قدس‌سره والوجه في ذلك أن الماتن لم يرد من هذه المسألة ما إذا احتمل المكلف الضرر في الإتيان بالوظيفة الواقعية وتحقق فيه الخوف من تلك الناحية ثم انكشف أنه لم يكن أي ضرر في الإتيان بالمأمور به الأوّلي ، وذلك لأن الحكم بالبطلان أو الاستشكال في صحة العمل حينئذٍ بلا وجه ، لما تقدم من أن صحة التقيّة في العبادات غير متوقفة على احتمال الضرر عند الترك ، فإن التقيّة إنما شرعت فيها لمحض المجاملة والمداراة مع العامة ، سواء كان في تركها ضرر على المكلف أم لم يكن ، بأن علمنا أن الإتيان بالوظيفة الواقعية غير موجب للضرر بوجه ، فاحتمال الضرر وعدمه مما لا أثر له في العبادات.

وأمّا في غيرها فوجوب التقيّة أو جوازها إنما يدور مدار احتمال الضرر احتمالاً عقلائياً ، فالخوف وقتئذٍ تمام الموضوع لوجوب التقيّة أو جوازها ، ولا يعتبر في ذلك أن يكون في ترك التقيّة ضرراً واقعاً ، لأن الخوف أعم فقد يكون في الواقع أيضاً ضرر وقد لا يكون ، فلا وجه للاستشكال في صحة العمل عند انكشاف عدم ترتب الضرر على ترك التقيّة ، وذلك لأن موضوعها إنما هو الخوف وقد فرضنا أنه كان متحققاً بالوجدان.

فمراد الماتن قدس‌سره من قوله : إذا اعتقد التقيّة أو تحقق إحدى الضرورات الأُخر ، حسبما فهمناه من ظاهر عبارته ، أن يعتقد المكلف أن الموضوع للتقيّة أو لسائر الضرورات قد تحقق في حقه ، ولم يكن لها موضوع واقعاً ، كما إذا اعتقد أن أهل البلد الذي نزل فيه من العامة ، أو أن الجماعة الحاضرة عنده من المخالفين ، أو كان أعمى فتخيل أن العامّة حاضرون في المسجد عنده فاتقى في وضوئه أو في صلاته ولم يكن‌

__________________

(*) أظهره عدم الصحة.

٢٨٤

[٥٣٠] مسألة ٤٠ : إذا أمكنت التقيّة بغسل الرجل فالأحوط تعينه (*) (١)

______________________________________________________

الأمر كما زعمه واقعاً ، ولم يكن أهل البلد أو الجماعة الحاضرون عنده من العامّة ، أو لم يكونوا حاضرين عنده في المسجد أصلاً ، واعتقد أن ما يراه من بعيد سبع فمسح على خفّيه ، لأن مسحه على رجليه يتوقف إلى زمان يخاف من وصول السبع إليه في ذلك الزمان بناء على تمامية رواية أبي الورد لتعدي الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) من العدو فيها إلى كل ما يخاف منه كالسبع ونحوه ، واعتقد أن الرجل القادم عدوه فاتقى منه ومسح على خفّيه ، ثم ظهر أن السبع صورة مجسمة والرجل صديقه فلا موضوع للتقيّة واقعاً.

والظاهر في تلك الصورة بطلان وضوئه وصلاته ، وذلك لأن مدرك صحة العمل المأتي به تقيّة وإجزائه عن المأمور به الواقعي إنما هو السيرة العملية كما مرّ ، ومن المعلوم أنها إنما كانت متحققة عند إتيان العمل على طبق مسلك العامة عند وجودهم وحضورهم عنده ، وأما العمل طبق مذهبهم من دون أن يكون عندهم ولا بمحضرهم فلا سيرة عملية تقتضي الإجزاء والحكم بصحته.

وكذلك الحال فيما إذا اعتمدنا على رواية أبي الورد ، حيث إنها قيدت الحكم بالمسح على الخفين بما إذا كان هناك عدو تتقيه ، فوجود العدو مما لا بدّ منه في الأمر بالمسح على الخفين ، ومع فرض صداقة الرجل القادم لا موضوع للحكم بالتقية وإجزائها. وعلى الجملة المكلّف إذا اعتقد وجود موضوع التقيّة سواء خاف أم لم يخف ولم يكن هناك موضوع واقعاً فالظاهر بطلان عمله ، وهذا هو الذي أراده الماتن من عبارته فلاحظ.

دوران الأمر بين الغسل والمسح :

(١) إذا دار أمر المكلّف بين التقيّة بغسل رجليه والتقيّة بالمسح على الخفّين قدم‌

__________________

(*) بل هو الأظهر.

٢٨٥

وإن كان الأقوى جواز المسح على الحائل أيضاً.

______________________________________________________

الأوّل على الثاني لا محالة ، وهذا لا لأجل الوجوه الاعتبارية والاستحسانية التي عمدتها ما ذكره الشهيد قدس‌سره من أن غسل الرجلين أقرب إلى المأمور به من مسح الخفّين ، نظراً إلى أن في غسلهما يتحقق مسح البشرة بالرطوبة لا محالة وإن كانت الرطوبة رطوبة خارجية ، وهذا بخلاف المسح على الخفين لعدم تحقق المسح على البشرة وقتئذٍ بوجه لا برطوبة الوضوء ولا بالرطوبة الخارجية ، ومن الظاهر أن المسح بالرطوبة الخارجية أقرب إلى المأمور به أعني مسح الرجلين برطوبة الوضوء (١) وذلك لعدم إمكان الاعتماد على الوجوه الاعتبارية بوجه ، ومن الواضح أن مسح البشرة بالرطوبة الخارجية غير معدود بالنظر العرفي ميسوراً للمسح على البشرة برطوبة الوضوء.

بل الوجه في تقديم الغسل على مسح الخفين هو أنه إذا قلنا بعدم جريان التقيّة في المسح على الخفين على ما نطقت به الروايات فلا إشكال في أن المتعيّن هو الغسل ، وإذ قلنا بجريانها في مسح الخفين أيضاً بحمل الروايات على أن عدم التقيّة فيه من خصائصهم عليهم‌السلام حسبما فهمه زرارة أيضاً تعيّن عليه الغسل ، وذلك لأن الغسل مما ورد به الأمر بالخصوص ولم يرد أمر بمسح الخفين إلاّ في رواية أبي الورد وقد عرفت أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاعتماد عليها ، وظاهر الأمر بغسل الرجلين هو التعيّن وعدم كفاية غيره عنه في موارد التقيّة ، فمقتضى الأصل اللفظي أعني ظهور الأمر في التعيين وجوب تقديم الغسل على مسح الخفين ، كما أن غسلهما موافق للاحتياط ، لأن المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، حيث لا نحتمل وجوب المسح على الخفين تعييناً بخلاف غسل الرجلين ، والاحتياط حينئذٍ إنما هو باختيار ما يحتمل فيه التعيّن ، هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بينهما ، وأما إذا لم يتمكّن إلاّ من المسح على الخفين فلا شك في تعيّنه ، وهذا ظاهر.

__________________

(١) الذكرى : ٩٠ السطر ١٩.

٢٨٦

[٥٣١] مسألة ٤١ : إذا زال السبب المسوّغ للمسح على الحائل من تقيّة أو ضرورة ، فإن كان بعد الوضوء فالأقوى عدم وجوب إعادته وإن كان قبل الصلاة ، إلاّ إذا كانت بلة اليد باقية فيجب إعادة المسح ، وإن كان في أثناء الوضوء فالأقوى الإعادة إذا لم تبق البلّة (١).

[٥٣٢] مسألة ٤٢ : إذا عمل في مقام التقيّة بخلاف مذهب من يتّقيه ففي صحّة وضوئه إشكال (*) وإن كانت التقيّة ترتفع به (٢) ، كما إذا كان مذهبه وجوب

______________________________________________________

زوال السبب المسوّغ للتقية :

(١) إذا زال السبب المسوّغ للمسح على الحائل في أثناء الوضوء أعني ما قبل المسح على الخفين أو غسل الرجلين فلا إشكال في عدم جواز التقيّة بالمسح على الخفين أو بغسل الرجلين ، حيث لا موجب للتقية عند المسح على الفرض فيجب عليه الإتيان بالمأمور به الأوّلى بأن يمسح على رجليه. وإذا زال السبب وارتفعت التقيّة بعد المسح أو الغسل ، فان كانت البلة موجودة ولم تكن الموالاة فائتة وجب عليه المسح على رجليه ، لأنه إتمام للوضوء الواجب وقد فرضنا أنه لا مانع من إتمامه لارتفاع التقيّة ، ولا دليل على عدم وجوب إتمام الوظيفة الأولية فيما إذا لم يكن في البين ما يمنع عن الإتمام ، لأن ما دلّ على إجزاء التقيّة وصحتها إنما ينفي وجوب الإعادة أو القضاء ، ولا دلالة في شي‌ء منها على عدم وجوب إكمال العمل وإتمامه.

نعم ، إذا فرضنا أن البلة غير باقية أو الموالاة مرتفعة بحيث احتاج تحصيل الوظيفة الأولية إلى الإعادة لم تجب عليه الإعادة ، حسبما دلتنا عليه الأدلة المتقدمة من أن التقيّة مجزئة ولا تجب معها الإعادة أو القضاء.

إذا عمل بخلاف مذهب من يتّقيه :

(٢) كما إذا كان من يتّقيه من الحنفية إلاّ أنه أتى بالعمل على طبق الحنابلة أو‌

__________________

(١) أظهره الصحة في غير المسح على الحائل.

٢٨٧

المسح على الحائل دون غسل الرجلين فغسلهما ، أو بالعكس ، كما أنه لو ترك المسح‌

______________________________________________________

المالكية أو الشافعية ، لا إشكال في ذلك بحسب الحكم التكليفي من الوجوب أو الجواز ، لأن التقيّة بمعنى الصيانة عن الضرر وتتأدى ذلك بإظهار الموافقة مع الحنابلة مثلاً وإن كان من يتّقيه من الحنفية مثلاً ، وإنما الكلام في صحة ذلك وإجزائه ، والظاهر أن العمل وقتئذٍ صحيح ومجزئ عن المأمور به الأولي ، وذلك لأن المستفاد من الأخبار الواردة في التقيّة أنها إنما شرعت لأجل أن تختفي الشيعة عن المخالفين وإلاّ يشتهروا بالتشيع وبالرفض ، ولأجل المداراة والمجاملة معهم ، ومن البيّن أن المكلف إذا أظهر مذهب الحنابلة عند الحنفي مثلاً أو بالعكس حصل بذلك التخفي وعدم الاشتهار بالرفض والتشيع وتحققت المداراة والمجاملة معهم ، فاذا صلّى في مسجد الحنفية مطابقاً لمذهب الحنابلة صدق أنه صلّى في مساجدهم أو معهم.

والسرّ في ذلك : أن الواجب إنما هو التقيّة من العامة والمجاملة والمداراة معهم ، ولم يرد في شي‌ء من الأدلة المتقدمة وجوب اتباع أصنافهم المختلفة ، ولا دليل على وجوب اتباع من يتقي منه في مذهبه ، وإنما اللازم هو المداراة والمجاملة مع العامة وإخفاء التشيع عندهم ، وهذا يتأتى بإتيان العمل على طبق الحنابلة عند كون الحاضر الذي اتقى منه حنفياً مثلاً أو بالعكس ، فإن الأصناف الأربعة لا يخطِئ كل منهم الآخر ولا يتعرضون ولا ينكرون مذهبه ، بل ربما يقتدي بعضهم ببعض ، هذا.

على أن التقيّة بإتيان العمل على طبق المذهب الآخر أعني غير مذهب المتقى منه قد يكون مطابقاً للتقية ، وذلك كما إذا كان المتقي من بلد معروف أهله بالشافعية وقد ورد بلداً آخراً وهم الحنابلة مثلاً ، فإنه إن اتقى حينئذٍ بإتيان العمل على مذهب الحنابلة ربما يعرف أنه ليس من الحنابلة ، لأنه موجب لإلفات نظرهم إليه ، حيث إنه من بلدة فلانية وهم من الشافعية مثلاً وهو يعمل على مذهب الحنابلة ، فبذلك يتضح أنه أظهر التسنن معهم وهو رافضي ، وهذا بخلاف ما إذا أتى بالعمل على طبق الشافعية ، لأنهم يحملون ذلك على أنه من البلدة الفلانية وهم من الشافعية فلا يقع مورداً للإعجاب‌

٢٨٨

والغسل بالمرّة يبطل وضوءه وإن ارتفعت التقيّة به أيضاً (١).

[٥٣٣] مسألة ٤٣ : يجوز في كلّ من الغسلات أن يصبّ على العضو عشر غرفات بقصد غسلة واحدة ، فالمناط في تعدّد الغسل المستحب ثانيه الحرام ثالثه ليس تعدّد الصبّ بل تعدّد الغسل مع القصد (٢).

______________________________________________________

والتحقيق حتى يتفحّص ويظهر تشيعه عندهم.

(١) قد أسلفنا الكلام على ذلك في الجهة الحادية عشرة مفصّلاً وهو الصورة الاولى من صور ترك العمل بالتقيّة فلاحظ.

جواز الصبّ متعدِّداً في كلّ غسلة :

(٢) بمعنى أن ما سردناه سابقاً من أن الغسل مرّة واحدة هو الواجب في الوضوء ويستحب مرّتين ، والغسل الثالث وما زاد بدعة ، إنما هو في الغسل فحسب ، وأما الصب فهو خارج عن الغسل وله صبّ الماء كيفما شاء ولو عشر مرّات.

وتوضيح هذه المسألة : أن المكلّف قد يعتبر وجهه أو يديه ذا جهات فيصبّ صبّة على موضع منهما قاصداً بذلك غسل جهة من تلك الجهات ويصبّ صبّة ثانية بقصد غسل الجهة الثانية وهكذا إلى خمس جهات أو أكثر ، وهذا مما لا ينبغي الإشكال في صحته ، لأن مجموع الصبات والغسلات محقق للغسل الواحد المعتبر في الوضوء ، ولا يعد كل صبّة غسلة واحدة مستقلّة ، إلاّ أن هذه الصورة خارجة عن محط نظر الماتن قدس‌سره لأن نظره إلى صورة تعدّد الصبّ والغسل.

وقد يعتبر مجموع وجهه أو مجموع اليدين شيئاً واحداً فيصبّ الماء على المجموع صبّة أو صبّتين أو صبّات متعدِّدة ، وبما أن الغسل ليس من الأُمور المتوقفة على القصد ، لأنه بمعنى مرور الماء على المغسول سواء قصد به الغسل أم لم يقصد ، فيصدق أنه غسل وجهه مرّة أو مرّتين أو مرّات حسب تعدّد الصبّات.

٢٨٩

[٥٣٤] مسألة ٤٤ : يجب الابتداء في الغسل بالأعلى ، لكن لا يجب الصبّ على الأعلى ، فلو صبّ على الأسفل وغسل من الأعلى بإعانة اليد صحّ (١).

______________________________________________________

نعم ، مطلق الغسل وطبيعيه غير المتوقف على القصد ليس من الغسل المعتبر في الوضوء ، فان الغسل الوضوئي موقوف على قصد كونه وضوئياً ، إذن له أن يصبّ الماء عشر مرّات ولا يقصد بها الغسل المعتبر في الوضوء ، بل يقصده في الصبّة الأخيرة فقد أتى وقتئذٍ غسلاً واحداً من غسلات الوضوء ، والصبّات والغسلات المتحققتان قبل الصبّة الأخيرة خارجتان عن الغسل المعتبر في الوضوء فلا يكون تعدّدهما مخلاًّ له. نعم إذا قصد الغسل المعتبر في الوضوء في كل واحد من الصبات تحققت بذلك غسلات متعدِّدة ، والثالثة وما زاد منها بدعة محرّمة.

وجوب الابتداء في الغسل بالأعلى :

(١) إمرار اليد من الأعلى إلى الأسفل ليس من حقيقة الغسل لا في شي‌ء من لغة العرب ولا في غيرها ، لضرورة أن قطرة من الماء إذا وقعت على أي موضع من البدن أو غيره فأمررنا عليها اليد مرتين مثلاً لم يصدق أنّا غسلناه مرتين ، بل الغسل عبارة عن مرور الماء على الوجه أو اليد أو غيرهما من المواضع ، فاذا صبّ الماء على الأسفل فهو غسل حقيقة إلاّ أنه غير معتبر في الوضوء ، للزوم كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل دون العكس ، فلو بقي شي‌ء من الماء في يده حين وصولها ، أي اليد إلى الأعلى ، فأمرّ يده بالماء من أعلى الوجه إلى الذقن صدق عنوان الغسل عليه ، إلاّ أن الاجتزاء به يبتني على كفاية مطلق الغسل في مقام الامتثال. على أنه من الندرة بمكان لعدم بقاء الماء بحسب العادة في اليد بعد صبّه من الأسفل حين وصولها إلى الأعلى.

وأمّا بناء على ما قدّمناه (١) من عدم كفاية الغسل بحسب البقاء في موارد الأمر بالغسل كالوضوء والغسل ووجوب إحداث الغسل وإيجاده ، فيشكل الحكم بصحّة‌

__________________

(١) في ص ١٠٢.

٢٩٠

[٥٣٥] مسألة ٤٥ : الإسراف في ماء الوضوء مكروه (١) ، لكن الإسباغ مستحبّ (٢) وقد مرّ أنه يستحبّ أن يكون ماء الوضوء بمقدار مدّ ، والظاهر أن‌

______________________________________________________

الوضوء في مفروض المسألة ، لأن الغسل قد تحقق من صبّ الماء من الأسفل وهو غسل حادث إلاّ أنه غير معتبر ، لمكان أنه من الأسفل إلى الأعلى. فالغسل المعتبر والمأمور به إنما هو إمرار اليد بالماء من الأعلى إلى الأسفل ، ولكنه غسل بحسب البقاء دون الحدوث ، وقد بنينا على عدم كفاية الغسل بحسب البقاء ولزوم كون الغسل حادثاً ، وعليه فلا مناص من أن يصب الماء من أعلى الوجه كما في الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ليتحقق الغسل الحادث من الأعلى إلى الأسفل.

كراهة الإسراف في ماء الوضوء :

(١) الحكم بكراهة الإسراف في ماء الوضوء يبتني على القول بالتسامح في أدلة السنن ثم التعدي من المستحبات إلى المكروهات ، والوجه في ذلك : أن الرواية المستدل بها على ذلك في المقام هي ما رواه الكليني قدس‌سره (١) عن علي بن محمد وغيره عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون بالتخفيف أو التشديد عن حماد ابن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن لله ملكاً يكتب سرف الوضوء كما يكتب عدوانه » (٢) ومحمد بن الحسن بن شمون ضعيف ضعّفه النجاشي صريحاً (٣) وكذا سهل بن زياد فإنه أيضاً ضعيف فلاحظ.

الإسباغ مستحبّ :

(٢) كما ورد في عدّة من الروايات فيها الصحاح وغيرها (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢ / ٩.

(٢) الوسائل ١ : ٤٨٥ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٢.

(٣) رجال النجاشي : ٣٣٥ / ٨٩٩.

(٤) الوسائل ١ : ٤٨٧ / أبواب الوضوء ب ٥٤.

٢٩١

ذلك لتمام ما يصرف فيه من أفعاله ومقدّماته من المضمضة والاستنشاق وغسل اليدين (١).

______________________________________________________

تحديد ماء الوضوء بالمدّ :

(١) كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال » (١) وصحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنهما سمعاه يقول : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغتسل بصاع من ماء ويتوضأ بمد من ماء » (٢).

ومفهوم المد وإن لم يمكن تحقيقه على وجه دقيق ، إلاّ أن شيخنا البهائي قدس‌سره على ما يحكى عنه في حبل المتين ذكر أن المد ربع المن التبريزي الصغير على وجه التقريب وهو ستمائة وأربعون مثقالاً ، وعليه يكون المد مائة وخمسون مثقالاً تقريباً (٣).

والوجه في كون ذلك على وجه التقريب ، أن المد ربع الصاع والصاع ستة أرطال بالرطل المدني وتسعة بالعراقي ، فالمد رطل ونصف وكل رطل مائة مثقال مع شي‌ء زائد ، إذ الصاع الذي هو ستة أرطال ستمائة وأربعة عشر مثقالاً وربع مثقال فيكون الرطل والنصف الذي هو المد عبارة عن مائة وخمسين مثقالاً وثلاثة مثاقيل ونصف مثقال وحمصة ونصف ، وهو قريب من ربع المن التبريزي أعني مائة وخمسين مثقالاً كما ذكره شيخنا البهائي قدس‌سره.

إلاّ أن استحباب كون الوضوء بهذا المقدار من الماء لا توافقه الروايات الواردة في الوضوءات البيانية ، لمكان اشتمالها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ كفاً من الماء وأسدله على وجهه ، وأخذ كفاً ثانياً فغسل به يده اليمنى ، ثم غرف غرفة ثالثة‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٨١ / أبواب الوضوء ب ٥٠ ح ٢.

(٣) حبل المتين : ٢٧.

٢٩٢

فغسل بها يده اليسرى ، ومن الظاهر أن ثلاث غرف لا يبلغ ربع المن التبريزي الذي هو المد ، وعليه لا بدّ من الجمع بين الأخبار الواردة في استحباب كون الوضوء بمد من الماء ، والأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، بحمل الثانية على ورودها لبيان الأُمور المعتبرة في الوضوء على وجه الوجوب ولم تشتمل من المستحبات إلاّ على شي‌ء قليل ، إذ الغرض منها تعريضهم عليهم‌السلام للمخالفين ، حيث نسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه غسل منكوساً وغسل الرجلين عوضاً عن مسحهما ، فثلاث غرفات من جهة ما يحصل به المقدار الواجب من الغسل في الوضوء.

وتحمل الاولى على بيان المقدار المستحب في الوضوء مشتملاً على جميع مستحباته ، لأن الماء المصروف في الوضوء المراعى فيه تمام المستحبات لا يقل عن ربع المن التبريزي بكثير ، لأنه يستحب فيه غسل اليدين مرة من حدث البول ومرتين من حدث الغائط ، فهذا كف أو كفان ، ويستحب غسل الوجه مرتين وهما كفان ، فهذه ثلاثة أكف أو أربعة. ويستحب الغسل في كل من اليدين مرتين وهو يستلزم الماء كفين ، لعدم كون اليد مسطحة كالوجه حتى يكتفي فيها بكفة واحدة في غسلها على وجه الأسباع ، اللهمّ إلاّ أن يواصل الماء إلى تمام أجزاء يده بإمرار اليد وهو ينافي الإسباغ المستحب ، وعليه لا بدّ من صب كف من الماء على ظاهرها وصب كف اخرى على باطنها ليتحقق بذلك الإسباغ ، وهذه أربعة أكف ومع ضم الثلاثة المتقدمة إليها يبلغ سبعة.

ويستحب المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات وهي ستة ، والمجموع تبلغ ثلاثة عشرة أو أربعة عشرة كفاً ، وهو قريب من المد وربع المن التبريزي ، ومعه لا حاجة إلى إدخال الاستنجاء أيضاً في الوضوء كما عن بعضهم ، وحمل أخبار المد على الوضوء مع الاستنجاء ، لوضوح أنه أمر آخر لا موجب لإدراجه في الوضوء بعد كون الماء المصروف فيه بجميع مستحبّاته بالغاً حد المد كما عرفت.

وقد ورد في الفقيه أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الوضوء مد والغسل صاع ؛ وسيأتي أقوام بعدي يستقلون ذلك فأُولئك على خلاف سنّتي ، والثابت‌

٢٩٣

[٥٣٦] مسألة ٤٦ : يجوز الوضوء برمس الأعضاء كما مرّ ، ويجوز برمس أحدها وإتيان البقيّة على المتعارف بل يجوز التبعيض في غسل عضو واحد مع مراعاة الشروط المتقدِّمة من البدأة بالأعلى وعدم كون المسح بماء جديد وغيرهما (١).

______________________________________________________

على سنّتي معي في حظيرة القدس » (١).

ويمكن الاستدلال بها على كراهة السرف في الوضوء وأنه بأكثر من مد لاستقلال المد وعدم اعتقاده بكفايته للوسواس خلاف سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أن الرواية مرسلة ، فيبتني الاستدلال بها أيضاً على التسامح في أدلة السنن وإلحاق المكروهات بالمستحبات.

جواز التوضّؤ برمس بعض الأعضاء :

(١) تقدّمت (٢) مسألة الغسل الارتماسي في الوضوء برمس أعضائه في الماء وحكم الماتن قدس‌سره بأنه لا بدّ من نيّة الغسل حال إخراج العضو من الماء ، وتقدّم منّا الاستشكال فيما أفاده سابقاً. وتعرض في هذه المسألة لما إذا غسل بعض أعضائه بالارتماس وغسل بعضها الآخر بالترتيب وصبّ الماء عليه وحكم بصحته ، وما أفاده قدس‌سره هو الصحيح ، والوجه فيه أن الآية المباركة ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (٣) مطلقة ولم يرد عليها أي مقيد ، وإطلاقها يقتضي جواز الاكتفاء في الغسل بالتبعيض كما ذكره في المتن.

وأمّا ما ورد في بعض الروايات البيانية من أنه عليه‌السلام صبّ الماء على وجهه ويديه (٤) فإنما هو من جهة الغلبة إذ الغالب في الوضوء أن يكون بالصب والماء القليل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٣ / أبواب الوضوء ب ٥٠ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٣ / ٢.

(٢) في ص ١٠٢.

(٣) المائدة ٥ : ٦.

(٤) هذا مضمون عدة روايات مشتملة على لفظة الصبّ أو ما هو بمعناه كاسدال الماء على الوجه أو اليد أو الذراع أو غيرهما المرويّة في الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

٢٩٤

[٥٣٧] مسألة ٤٧ : يشكل صحّة وضوء الوسواسي إذا زاد في غسل اليسرى من اليدين في الماء ، من جهة لزوم المسح بالماء الجديد في بعض الأوقات. بل إن قلنا بلزوم كون المسح ببلّة الكف دون رطوبة سائر الأعضاء يجي‌ء الإشكال في مبالغته في إمرار اليد ، لأنه يوجب مزج رطوبة الكف برطوبة الذراع (١).

[٥٣٨] مسألة ٤٨ : في غير الوسواسي إذا بالغ في إمرار يده على اليد اليسرى لزيادة اليقين لا بأس به ، ما دام يصدق عليه أنه غسل واحد (٢)

______________________________________________________

الإشكال في وضوء الوسواسي :

(١) لأن الوسواسي بعد تحقق الغسل المعتبر في الوضوء يصبّ الماء على يديه ، وهو يستلزم أن يكون المسح بالماء الجديد ، وقد عرفت لزوم كون المسح بالبلة الوضوئية الباقية في اليد ، وكذا يجي‌ء الإشكال عند إمرار يده من المرفق بعد تمامية الغسل المعتبر لاستلزامه امتزاج رطوبة الكف برطوبة المرفق والذراع ، وهو يمنع عن كون المسح ببلة اليد كما لعلّه ظاهر.

ومن هنا الأولى للوسواسي كما ابتلينا به برهة من الزمان أن يتوضأ وضوءين بأن يتوضأ أولاً وضوءاً عاديا كما يصنعه غير الوسواسي وإن كان هذا باطلاً حسب عقيدته ثم يتوضأ ثانياً بما يراه وضوءاً صحيحاً حسب اعتقاده ، لئلاّ يلزم محذور كون المسح بغير بلة الوضوء.

إذا بالغ غير الوسواسي في غسله :

(٢) أي قبل حصول اليقين أو الاطمئنان أو قيام الأمارة الشرعية على تحقّق الغسل المعتبر في الوضوء.

٢٩٥

نعم بعد اليقين إذا صبّ عليها ماءً خارجيّاً يشكل (١) ، وإن كان الغرض منه زيادة اليقين ، لعدّه في العرف غسلة اخرى ،

______________________________________________________

(١) لاستلزام ذلك أن يكون المسح بالماء الجديد ، وكذا الكلام فيما إذا أمرّ يده بعد اليقين أو الاطمئنان بحصول الغسل المعتبر من طرف المرفق إلى طرف الأصابع ، لاستلزامه امتزاج رطوبة الكف برطوبة المرفق والذراع.

الشكّ في تحقّق الغسل :

بقي الكلام فيما إذا شكّ المكلّف في تحقّق الغسل المعتبر في الوضوء وعدمه ، لأن مقتضى الاستصحاب وقاعدة الاشتغال وجوب صبّ الماء مرّة ثانية أو إمرار يده حتى يحصل اليقين بتحقق الغسل المعتبر في الوضوء ، وقد عرفت أنه إذا صبّ على يده الماء ثانياً أو أمرّ يده على مرفقه لم يمكنه الجزم بأن المسح بالبلة الباقية ، لاحتمال أن يكون المسح بالماء الجديد ، كاحتمال امتزاج البلة الموجودة في كفه ببلة الذراع والمرفق وذلك لاحتمال تحقّق الغسل المعتبر في الوضوء واقعاً ، ومعه يكون الماء الذي قد صبّه بعد الشكّ والتردّد من الماء الجديد ، أو تكون الرطوبة الموجودة في يده ممتزجة برطوبة المرفق والذراع فلا يمكنه إحراز أن البلة بلة الوضوء.

والأصلان إنما يقتضيان وجوب الصب وعدم تحقق الغسل المعتبر في الوضوء ، وأمّا أن البلة بلة الوضوء فلا يمكن إحرازها بشي‌ء منهما. فهل تجب عليه إعادة الوضوء ثانياً ، أو لا مانع من أن يصب الماء بعد الشك والتردد في تحقق الغسل المعتبر أو يمرّ يده من المرفق إلى أصابعه؟

قد يقال : إن الحكم ببطلان الوضوء عند صبّ الماء بعد الشك أو إمرار اليد من المرفق يستلزم الهرج والمرج ، إذ قلّما ينفك المتوضئ عن هذا الابتلاء ، أعني الشك في تحقّق الغسل المعتبر في الجملة.

والظاهر أنه لا مانع من الاحتياط فيه في نفسه ، بأن يصبّ الماء على يده عند الشك في تحقق الغسل المعتبر أو يمرّ بيده من المرفق ، فلا حاجة معه إلى التمسّك بلزوم الهرج والمرج وذلك لوجهين :

٢٩٦

وإذا كان غسله لليسرى بإجراء الماء من الإبريق مثلاً وزاد على مقدار الحاجة مع الاتصال لا يضرّ ما دام يعدّ (*) غسلة واحدة (١).

______________________________________________________

أحدهما : أن مقتضى الأخبار الواردة في المقام أن المسح لا بدّ من أن يكون بالبلة الباقية في الكف بعد تمامية الغسل المأمور به في الوضوء ، والاستصحاب يقتضي أن يكون غسلها عند الشك مأموراً به ظاهراً ، ومعه يكون البلة الموجودة في الكف بلة باقية بعد تمامية الغسل المأمور به ، لأنه لا فرق بين الغسل المأمور به الواقعي والغسل المأمور به بحسب الظاهر.

وثانيهما : نفس الأخبار الواردة في الشك في الإتيان ببعض الأفعال المعتبرة في الوضوء قبل إتمامه ، لدلالتها على وجوب الإتيان بما يشك في الإتيان به وما بعده من الأجزاء والشرائط ثانياً ، ومع الأمر بتلك الأفعال لا تكون الرطوبة الباقية في الكف رطوبة خارجية جديدة ، فلا تضر بصحة المسح والوضوء لاستنادها إلى الغسل المعتبر في الوضوء.

صبّ الماء زائداً على مقدار الحاجة :

(١) الزيادة على مقدار الحاجة من صبّ الماء من الإبريق أو الحنفيات المتعارفة اليوم قد تكون قليلة وممّا لا بدّ منها في استعمال مقدار الحاجة من الماء ، وهي غير قادحة في صحّة الوضوء أبداً لقلّتها ، بل ومما لا بدّ منه في الاستعمال ، لأن صبّ الماء على اليد بمقدار لا يزيد عن مقدار الحاجة ولا ينقص منه بشي‌ء أمر متعذر ، فلا مناص من صبه الماء وإن زاد على مقدار الحاجة بشي‌ء يسير.

وأُخرى تكون الزيادة كثيرة ومما لا يتسامح به ، كما إذا فرضنا أن الصب من الإبريق أو الحنفية دقيقة واحدة يكفي في مقدار الحاجة من الماء وبه يمكن غسل اليد بتمامها ، إلاّ أنه صبه ساعتين أو أوقف يده تحت الحنفية كذلك ، وهذه الزيادة قادحة في صحة المسح والوضوء لا محالة.

__________________

(*) هذا إذا لم يخرج عن الغسل المتعارف ، وإلاّ ففي صحة الوضوء إشكال بل منع.

٢٩٧

[٥٣٩] مسألة ٤٩ : يكفي في مسح الرجلين المسح بواحدة من الأصابع الخمس إلى الكعبين أيها كانت حتى الخنصر منها (١).

فصل في شرائط الوضوء‌

الأوّل : إطلاق الماء فلا يصح بالمضاف ولو حصلت الإضافة بعد الصبّ على المحل من جهة كثرة الغبار أو الوسخ عليه ، فاللازم كونه باقياً على الإطلاق إلى تمام الغسل (٢).

______________________________________________________

وهذا لا لأن الغسلة متعددة ، بل مع تسليم وحدتها لأن الاتصال مساوق للوحدة ، وهي غسلة واحدة طالت أم قصرت لا يمكن الحكم بعدم قدحها ، إذ المدار على تعدد غسلة الوضوء ووحدتها لا على تعدد طبيعي الغسلة وتعددها ، والغسلة المطلقة وإن لم تتعدد سواء طال صبّ الماء على العضو أم قصر ، إلاّ أن غسلة الوضوء متعددة لا محالة ، وذلك لأن غسلة الوضوء عبارة عن إجراء الماء على العضو بمقدار يتحقق به غسله ، ولنفرض حصولها بصبّ الماء دقيقتين ، وما زاد عليها تعد غسلة وضوئية زائدة ، وهو نظير الغسل تحت الحنفية أو بالارتماس في الماء ، لأنه يتحقق بمجرد إحاطة الماء على تمام البدن ويكون بقاؤه تحت الماء زائداً على مقدار إحاطة الماء على البدن زائداً على الغسلة الواجبة الكافية في حصول الغسل ، والمسح برطوبة الغسلة الزائدة حينئذٍ لا يخلو عن الاشكال ، بل الصحة ممنوعة جدّاً.

(١) ظهر الحال في هذه المسألة مما قدمناه في كيفية المسح على الرجلين فليراجع (١).

فصل في شرائط الوضوء‌

(٢) قد أسلفنا تفصيل الكلام على ذلك في أوائل الكتاب (٢) وذكرنا أن المضاف لا يزيل خبثاً ولا يرفع حدثاً.

__________________

(١) ص ١٥٣.

(٢) شرح العروة ٢ : ١٦.

٢٩٨

الثاني : طهارته (١).

______________________________________________________

(١) للروايات المستفيضة بل المتواترة المروية في الوسائل وغيره في أبواب مختلفة ، كما دلّ على لزوم إهراق الماءين المشتبهين والتيمم بعده (١) وما دلّ على النهي عن التوضؤ بفضل الكلب معلّلاً بأنه رجس نجس لا يتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء (٢) وما دلّ على النهي عن الوضوء بالماء المتغيِّر (٣) إلى غير ذلك من الروايات ، فاعتبار الطهارة في الماء المستعمل في الوضوء مما لا إشكال فيه.

وإنما الكلام في أن الطهارة شرط واقعي في صحّته ، فوضوء الجاهل بالنجاسة محكوم بالبطلان ، فلو توضأ بالماء النجس فصلّى ثم انكشف أن الماء كان نجساً أعاد وضوءه كما يعيد صلاته إذا كان في الوقت ويقضيها فيما إذا كان الانكشاف في خارجه أو أن الطهارة شرط علمي ، أي إنها شرط بالإضافة إلى العالم بالنجاسة حال الوضوء ، أو العالم بها قبله فيما إذا نسيها فتوضأ بماء نجس ، وأما الجاهل فلا يشترط الطهارة في صحّة الوضوء في حقه بوجه ، فكل من الوضوء والصلاة في المثال المتقدِّم محكوم بالصحّة لا محالة؟

لا إشكال ولا خلاف كما ذكره في الحدائق (٤) في وجوب الإعادة أو القضاء فيما إذا توضأ بالماء المتنجس مع العلم بنجاسة الماء حال الوضوء ، كما أن الظاهر من كلماتهم أن من علم بنجاسة الماء قبل الوضوء ونسيها حال الوضوء فتوضأ بالماء النجس أيضاً كذلك ، وأن الناسي للنجاسة يلحق بالعالم بالنجاسة حال الوضوء لوجوب التحفظ في حقه ، ولعلهم استفادوا ذلك مما دلّ على بطلان صلاة الناسي للنجاسة في ثوبه أو بدنه ، لاستناده إلى ترك التحفظ عن النجاسة لا محالة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٩ / أبواب الماء المطلق ب ١٢ ح ١.

(٢) وهي صحيحة البقباق المروية في الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٧ / أبواب الماء المطلق ب ٣.

(٤) الحدائق ٢ : ٣٧٠.

٢٩٩

وأمّا إذا توضأ بالماء النجس جاهلاً بالنجاسة فالمشهور بين المتأخرين إلحاقه بالقسمين المتقدمين والحكم عليه بوجوب الإعادة أو القضاء ، والمفهوم من كلام الشيخ في المبسوط على ما في الحدائق وجوب الإعادة في الوقت خاصة دون وجوب القضاء خارج الوقت ، وبه صرح ابن البراج (١) كما أنه ظاهر ابن الجنيد (٢).

وخالفهم في ذلك صاحب الحدائق قدس‌سره وذهب إلى عدم وجوب الإعادة والقضاء ، حيث إنه بعد ما نقل كلام العلاّمة والشهيد قدس‌سرهما قال ما مضمون كلامه : إن ما ذكروه من وجوب الإعادة والقضاء فإنما يسلم في القسمين الأوّلين ، وأما في حق الجاهل بنجاسة الماء فلا ، لعدم توجه النهي إليه لجهالته ، فلا تجب عليه الإعادة ولا القضاء. وعمدة ما استند قدس‌سره إليه في حكمه هذا أمران :

أحدهما : ما ذكره في مقدمات كتابه الحدائق من معذورية الجاهل مطلقاً إلاّ ما خرج بالدليل ، مستنداً في ذلك إلى جملة من الروايات الواردة في موارد خاصّة منها : ما ورد في باب الحج كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « من لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه وهو محرم ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فلا شي‌ء عليه » (٣).

وكما رواه عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه ، فوثب عليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا : شقّ قميصك وأخرجه من رجليك فان عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجّك فاسد ، فطلع أبو عبد الله عليه‌السلام فقام على باب المسجد فكبّر واستقبل الكعبة فدنا الرجل من أبي عبد الله عليه‌السلام وهو ينتف شعره ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام اسكن يا عبد الله ، فلما كلمه وكان الرجل أعجمياً ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ما تقول؟ قال : كنت رجلاً أعمل‌

__________________

(١) المهذب ١ : ٢٧.

(٢) المختلف ١ : ٧٦.

(٣) وقد نقلناها في المتن عن الحدائق [ ١ : ٧٩ ] وهي فيه بهذا المقدار نعم لها صدر وذيل رواهما في الوسائل ١٣ : ١٥٧ / أبواب بقية كفارات الإحرام ب ٨ ح ١.

٣٠٠