موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

طاهر ، لأنه لا يحكم عند استناد ذلك إلى الاضطرار بارتفاع نجاسة الملاقي لحديث الرفع ، لأنها لم تترتب على فعل المكلف بما هو فعله ، بل إنما ترتبت على ملاقاة النجس وهي قد تكون من فعله وقد تكون من أمر آخر (١).

الجهة الخامسة : أن ما ذكرناه آنفاً من أن العمل المأتي به تقيّة محكوم بالصحة والإجزاء بمقتضى السيرة العملية أو الأدلة اللفظية المتقدمة ، إنما هو فيما إذا أتى المكلف بعمل في مقام الامتثال ولكنه كان ناقصاً لافتقاده جزءاً أو شرطاً أو لاشتماله على مانع تقيّة ، وحينئذٍ يأتي ما ذكرناه من أنه يجزئ عن العمل التام بمقتضى السيرة أو بحسب الأدلة اللفظية ، وأما إذا أدت التقيّة إلى ترك العمل برمته ، كما إذا ترك الصلاة مثلاً تقيّة فلا ينبغي الإشكال حينئذٍ في وجوب الإتيان بالمأمور به الأوّلي بعد ذلك في الوقت إن كان باقياً وفي خارجه إذا كانت التقيّة مستوعبة للوقت ، فان ترك العمل لا يجزئ عن العمل ، وهذا بحسب الكبرى مما لا إشكال فيه عند الأعلام.

وإنما وقع الكلام في بعض تطبيقاتها ومصاديقها ، كما إذا حكم الحاكم بثبوت الهلال فاضطر المكلف إلى أن يظهر موافقته لحكمه فأفطر في ذلك اليوم تقيّة ، فقد يقال وقتئذٍ إن ذلك من باب ترك العمل الواجب وهو الصوم من أجل التقيّة ، وقد قدمنا أن الإجزاء والصحّة إنما يأتيان فيما إذا أتى المكلف بعمل ناقص في مقام الامتثال ، فإنه يجزئ عن المأمور به التام بحسب الأدلّة التي قد عرفتها ، وأما ترك المأمور به رأساً فهو لا يجزئ عن الواجب بوجه ، فيجب قضاء ذلك اليوم الذي ترك فيه الصيام تقيّة.

ويستشهد على ذلك برواية داود بن الحصين عن رجل من أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : « إني دخلت عليه وقد شكّ الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان فسلمت عليه ، فقال : يا أبا عبد الله صمت اليوم؟ فقلت : لا ، والمائدة بين يديه قال : فادن فكل ، قال : فدنوت فأكلت ، قال : وقلت : الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله عليه‌السلام تفطر يوماً‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٩.

٢٦١

من شهر رمضان؟ فقال : إي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن يضرب عنقي » (١) فان هذه الرواية وإن لم تشتمل على قضاء ذلك اليوم الذي أفطر فيه تقيّة ، إلاّ أن كلمة « أفطر » التي صدرت منه عليه‌السلام ظاهرة في أن ما صنعه من أكل وشرب كان مفطراً لصومه ، وأنه قد بطل بارتكابه ، فلو كان الإفطار تقيّة غير مبطل للصوم ولا موجب لارتفاعه لم يكن وجه لتوصيفه ذلك الفعل بالإفطار ، فقد دلّتنا هذه الرواية على أن ترك الصيام تقيّة غير مقتض للإجزاء ، بل لا بدّ من قضائه لبطلانه بالإفطار.

وبرواية رفاعة عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال : ذاك إلى الامام إن صمت صمنا إن فطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليَّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله » (٢) وهي صريحة الدلالة على عدم إجزاء ترك الصوم تقيّة ووجوب قضائه بعد ذلك.

ولا يخفى أن كبرى عدم إجزاء ترك العمل رأساً عن الوظيفة المقررة وجوباً وإن كانت مسلمة كما عرفت ، إلاّ أن تطبيقها على الإفطار تقيّة لحكم حاكمهم بثبوت الهلال مما لا وجه له ، والسر في ذلك : أن إلزام الإمام عليه‌السلام أو غيره على إظهار الموافقة لحكم حاكمهم إنما يقتضي الإفطار في قطعة خاصة من اليوم كساعة أو ساعتين ونحوهما أو طول المدّة التي كان عليه‌السلام عند الحاكم في تلك المدة مثلاً ولا يقتضي التقيّة أزيد من الإفطار في ذلك الزمان كتمام النهار من أوله إلى آخره وعليه فالمكلف العامل بالتقية حينئذٍ لا يترك صيامه الواجب في مجموع النهار ، وإنما تركه تقيّة في جزء خاص منه مع تمكنه من الصيام في المدة الباقية من النهار ، ومعه‌

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٣٢ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٧ ح ٥.

٢٦٢

لا يسقط عنه الأمر بالصوم بذلك ، ومن هنا لا يجوز له أن يتناول شيئاً من المفطرات في غير ساعة التقيّة ، فلا مرخّص له أن يتغدّى في منزله ، وليس هذا إلاّ من جهة أمره بالصيام وعدم اضطراره إلى ترك الصوم في تمام النهار ، ومع ذلك كيف تنطبق كبرى ترك العمل رأساً على ترك الصيام في جزء من النهار ، بل هو من إتيان العمل الناقص تقيّة في مرحلة الامتثال ، وقد مرّ أن ذلك يجزئ عن العمل التام المأمور به.

وهذا نظير ما إذا أفطر بما لا يراه العامة مفطراً تقيّة فكما أنه محكوم بالصحة والإجزاء ولا يجب معه القضاء كما مر ، لأنه ليس من ترك العمل المأمور به برمته ، بل من قبيل الإتيان بالعمل الناقص وهو مجزئ عن التام ، فكذلك الحال في المقام.

نعم ، لو اضطر في مورد إلى ترك الصيام المستمر من أول النهار إلى آخره ، انطبق عليه الكبرى المتقدمة أعني ترك العمل رأساً تقيّة ، وهو غير مجزئ عن الواجب كما عرفت.

وأما الروايتان المستشهد بهما على وجوب القضاء في محل الكلام ، فيدفعه : أنهما ضعيفتا السند لارسالهما ، فان كُلا من رفاعة وداود بن الحصين يروي عن رجل وهو مجهول. على أن في سند إحداهما سهل بن زياد وهو ضعيف فلا يصح الاعتماد على شي‌ء منهما للاستدلال. فالصحيح عدم وجوب القضاء فيما إذا أفطر في نهار شهر رمضان تقيّة لثبوت الهلال عندهم.

الجهة السادسة : أنه بناء على ما سردناه من أن إجزاء العمل المأتي به تقيّة عن الوظيفة الأوّلية على خلاف القاعدة ، وأنه يحتاج إلى دليل يدلّنا عليه ، وأن الدليل على إجزائه هو السيرة العملية ، يختص الحكم بالإجزاء بالعبادات ولا يأتي في شي‌ء من المعاملات بالمعنى الأعم ولا في المعاملات بالمعنى الأخص ، فاذا ألجأته التقيّة على غسل ثوبه المتنجس مرة واحدة فيما يجب غسله مرتين لم يحكم بطهارته بذلك ، بل يبقى على نجاسته.

نعم ، إذا صلّى في ذلك الثوب تقيّة حكم بصحة صلاته وعدم وجوب إعادتها أو‌

٢٦٣

قضائها ، كما أنه إذا اضطر إلى بيع ماله ببيع فاسد كما إذا باع مثلياً بما هو أزيد منه لعدم حرمة الربا عند العامة في المثليات مثلاً لم يحكم بصحة المعاملة ، أو إذا طلق زوجته عند غير عدلين تقيّة لم يحكم بصحة طلاقه لافتقاده شهادة العدلين. كل ذلك لما عرفت من أن إجزاء العمل المأتي به تقيّة على خلاف القاعدة وهو محتاج إلى دلالة الدليل ، والدليل إنما هو السيرة ولم تقم سيرة على التبعيّة للعامّة في غير العبادات.

وأمّا بناء على الاعتماد على شي‌ء من الأدلة اللفظية المتقدمة (١) فيشكل الأمر في المسألة ، لأن مقتضى عمومها وإطلاقها عدم الفرق في الحكم بالصحة والإجزاء بين العبادات والمعاملات ، لأن مثل قوله عليه‌السلام « التقيّة في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له » (٢) أعم من الحلية التكليفية والوضعية على ما أفاده شيخنا الأنصاري ، فيحكم بسقوط الجزئية والشرطية والمانعية عند التقيّة حتى في المعاملات ، ولازم ذلك عدم الفرق في الصحة والإجزاء بين العبادات والمعاملات ، ولا نعهد أحداً التزم بالإجزاء في المعاملات ، فليكن هذا أيضاً من أحد المحاذير المترتبة على الاستدلال بالأدلة اللفظية في المقام.

الجهة السابعة : في اعتبار عدم المندوحة في موارد التقيّة ، وتفصيل الكلام في هذا المقام ، أن التقيّة قد تكون من العامّة وقد تكون من غيرهم.

أمّا التقيّة بالمعنى الأعم أعني التقيّة من غير العامة ، كما إذا أجبره سلطان جائر على ترك واجب أو على إتيان فعل حرام فلا ينبغي الإشكال فيها في اعتبار عدم المندوحة في جواز ترك الواجب أو الإتيان بالحرام ، وذلك لاختصاص أدلة حلية المحرمات بحال الضرورة والاضطرار كما تقدم في صحيحة زرارة : « التقيّة في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له » (٣) وقوله : « التقيّة في كل ضرورة ... » (٤) ولا تصدق‌

__________________

(١) في ص ٢٣٧.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢.

(٣) ، (٤) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢ ، ١.

٢٦٤

الضرورة والاضطرار مع وجود المندوحة في البين ، ومعه عموم أدلة ذلك الواجب أو المحرم يكون محكماً لا محالة.

وأمّا التقيّة بالمعنى الأخص أعني التقيّة من العامة ، فهي قد تكون في ترك الواجب أو في الإتيان بالحرام ، وأُخرى في ترك جزء أو شرط أو الإتيان بالمانع في المأمور به. وإن شئت قلت : التقيّة قد تكون في غير العبادة من ترك الواجب أو الإتيان بالحرام ، وقد تكون في العبادة.

أمّا التقيّة في ترك الواجب أو الإتيان بالحرام لولا التقيّة فالظاهر فيها اعتبار عدم المندوحة في وجوب التقيّة أو جوازها ، وذلك لأن التقيّة في عدة من الروايات قد قيدت بالضرورة والاضطرار ، وهي الصحاح الثلاث المرويات عن أبي جعفر عليه‌السلام ففي بعضها : « التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به » وفي الأُخرى : « التقيّة في كل ضرورة » فقد دلّتنا على عدم مشروعية التقيّة في غير الضرورة.

وهذا لا لأجل القول بمفهوم اللقب كما ربما يتراءى من الروايتين ، بل من جهة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد حصر المسند في المسند إليه ، فإن حق العبارة لولا الحصر أن يقال : كل ضرورة فيها التقيّة ، فتقديمه عليه‌السلام التقيّة على كل ضرورة إنما هو لأجل حصر التقيّة في موارد الضرورة بحسب ظاهر الكلام وبما أن معنى « التقيّة في كل ضرورة » أن التقيّة مشروعة في كل ضرورة ، لعدم كونها ناظرة إلى نفس التقيّة فيستفاد من هاتين الصحيحتين عدم مشروعية التقيّة في غير موارد الضرورة.

وفي الثالثة : « التقيّة في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له » (١) ودلالتها على الحصر أظهر ، لأن الفاء تفريعية فقد دلت على عدم الحلية فيما لا يضطر إليه ابن آدم ، ونحن إنما قلنا بالمفهوم في الجملات الشرطية لمكان الفاء التي هي للتفريع فيكون الحال في المقام هو الحال في الجملات الشرطية فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢.

٢٦٥

نعم ، لو كانت الصحيحة هكذا : التقيّة في كل شي‌ء ، وكل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له ، أمكن أن يقال : إنها اشتملت على كبريين إحداهما : التقيّة في كل شي‌ء ، سواء أكانت مع الاضطرار أم لم تكن. وثانيتهما : كل شي‌ء يضطر إليه ... إلاّ أنها ليست كذلك كما ترى ، وبما أن الضرورة والاضطرار لا يصدق مع وجود المندوحة فلا محالة تختص التقيّة المشروعة بموارد عدم المندوحة.

وممّا يدلّنا على ذلك أيضاً ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن معمر بن يحيى قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام إن معي بضائع للناس ونحن نمر بها على هؤلاء العشار فيحلفونا عليها فنحلف لهم؟ فقال : وددت أني أقدر على أن أُجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها ، كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقيّة » (١).

وبذلك كلّه نقيد الإطلاقات الواردة في بعض الأخبار كقوله عليه‌السلام « ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة » (٢) ..

هذا ، على أنه يمكن أن يمنع عن دلالة المطلقات على عدم اعتبار عدم المندوحة من الابتداء ، وذلك لما قدّمناه من أن التقيّة من وقى يقي وقاية ، والوقاية بمعنى الصيانة عن الضرر ومنه المتقون ، لتحذرهم وصيانة أنفسهم من سخط الله سبحانه ، وعليه فقد أُخذ في مفهوم التقيّة خوف الضرر واحتماله ، ولا إشكال في أن المكلف مع وجود المندوحة لا يحتمل ضرراً في ترك شرب النبيذ أو في الإتيان بواجب ، لأن المفروض تمكنه من ذلك لوجود المندوحة العرضية أو الطولية ، ومع عدم خوفه وعدم احتماله الضرر في ترك شرب النبيذ كيف يكون ارتكابه تقيّة رافعة لحرمته ، وعليه فلا يصدق مفهوم التقيّة في موارد وجود المندوحة.

إذن لا إطلاق يقتضي مشروعية التقيّة عند وجود المندوحة حتى نحتاج إلى تقييده بما قدّمناه من الصحاح ، هذا كله فيما إذا كانت التقيّة من العامة في غير العبادات من‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٢٣ : ٢٢٧ / أبواب كتاب الايمان ب ١٢ ح ٢.

٢٦٦

ترك الواجب أو فعل الحرام.

وأمّا التقيّة منهم في العبادات ، كما في التقيّة في ترك شرط أو جزء أو الإتيان بمانع في العبادة ، فالظاهر تسالمهم على عدم الاعتبار وأنه لا يعتبر عدم المندوحة فيها مطلقاً بحيث لو تمكن من الإتيان بالوظيفة الواقعية إلى آخر الوقت لم يجز له التقيّة معهم فاعتبار عدم المندوحة فيها عرضية كانت أم طولية مقطوع الفساد ، وذلك لما ورد منهم عليهم‌السلام من الحث والترغيب في الصلاة معهم وفي عشائرهم وفي مساجدهم كما مرّ (١).

بل في بعضها أن الصلاة معهم في الصف الأوّل كالصلاة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). فان مقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين صورة التمكّن من الإتيان بالوظيفة الواقعية إلى آخر الوقت وصورة عدم التمكّن من ذلك ، وحملها على عدم التمكن من الإتيان بالصلاة الواقعية ولو في داره إلى نهاية الوقت ، حمل لها على كثرتها على مورد نادر ، وهو من الاستهجان بمكان.

بل ظاهر أمرهم عليهم‌السلام بالصلاة معهم وحثهم وترغيبهم إلى ذلك أن تكون الصلاة معهم وفي صفوفهم بالقدرة والاختيار ، لا خصوص ما إذا كانت لأجل الضرورة والاضطرار ، ومن هنا ذهبوا إلى عدم اعتبار عدم المندوحة في جواز التقيّة على وجه الإطلاق.

اعتبار عدم المندوحة في محل الكلام :

وهل يعتبر عدم المندوحة حال التقيّة والعمل كما لعله المشهور بينهم أو أن عدم المندوحة غير معتبر في وجوب التقيّة وإجزائها عن الوظيفة الواقعية حتى في حال التقيّة والعمل؟ فلو تمكّن حال الصلاة معهم من أن يقف في صف أو مكان يتمكن فيه من السجود على ما يصح السجود عليه جاز له أن يترك ذلك ويقف على صف‌

__________________

(١) ، (٢) في ص ٢٥٢.

٢٦٧

لا يتمكّن فيه من السجود على ما يصح السجود عليه؟ أو إذا كان في مسجده موضعان أحدهما مما يصح السجود عليه ، جاز له أن يسجد على الموضع الآخر الذي لا يجوز السجود عليه؟

قد ذهب شيخنا الأنصاري (١) والمحقق الهمداني (٢) ( قدس الله سرهما ) إلى اعتبار عدم المندوحة حال التقيّة والامتثال ، وما استدلّ به على ذلك في مجموع كلماتهم وجوه :

وجوه الاستدلال :

الأوّل : أن مقتضى الأخبار الواردة في المقام هو اختصاص التقيّة بصورة الضرورة والاضطرار وعدم مشروعيتها في غير موارد الضرورة فضلاً عن إجزائها ، غير أنّا خرجنا عن ذلك في غير حال التقيّة بما قدمناه من الأخبار الآمرة بالصلاة معهم والدالة على الحث والترغيب في متابعتهم والصلاة في مساجدهم وعشائرهم ، وأما في حال التقيّة والعمل فلم يقم دليل على عدم اعتبار الضرورة والاضطرار ، فيبقى ظواهر الروايات بالنسبة إلى حال التقيّة والعمل بحالها ، ومقتضى ذلك عدم جواز التقيّة فيما إذا تمكن حال التقيّة والصلاة من الإتيان بالوظيفة الواقعية ، فإذا تمكن مثلاً من الوقوف في صف يتمكّن فيه من السجود على ما يصح السجود عليه وجب عليه ذلك ، ولم يجز له الوقوف في مورد آخر لا يتمكن فيه من ذلك.

ويندفع هذا بإطلاقات الأخبار المتقدمة ، أعني ما دلّ على الحث والترغيب في إظهار المتابعة لهم والآمرة بالصلاة معهم ، لأن ظاهرها أن المصلي معهم كأحدهم فيصلِّي كصلاتهم ، ولم يقيد ذلك بما إذا كان غير قادر من العمل بحسب الوظيفة الواقعية حال العمل.

__________________

(١) رسالة في التقيّة : ٣٢١ السطر ٢٣.

(٢) لاحظ مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٥ السطر ٢٤.

٢٦٨

بل ذكرنا أن مقتضى الحث والترغيب أن يكون الدخول معهم في الصلاة اختيارياً للمكلف ، فهو مع تمكّنه من الصلاة المأمور بها يصلي معهم إظهاراً للموافقة وتحسب صلاته هذه صلاة واقعية ، ولو كان ذلك بداعي التقيّة وأن لا يعرف المصلي بالتشيّع عندهم. ففي بعض الروايات أنه قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت لا تقتدي بهم مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به » (١).

بل بعضها كاد أن يكون صريحاً فيما ادعيناه ، كما دلّ على أن من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) لدلالته على استحباب الصلاة معهم في الصف الأول مطلقاً وإن لم يتمكن المكلف من السجود على ما يصح السجود عليه في ذلك الصف بخلاف غيره من الصفوف كما يتفق ذلك كثيراً فهذا الوجه ساقط.

الثاني : أن التقيّة قد أُخذ في مفهومها خوف الضرر كما تقدم غير مرة ، ومع تمكن المكلف من الإتيان بالوظيفة الواقعية لا يحتمل الضرر في ترك التقيّة ، إذن لا مناص من اعتبار عدم المندوحة حال العمل تحقيقاً لمفهوم التقيّة ، فإنه مع وجود المندوحة لا تحقق للتقيّة.

والجواب عن ذلك : أن الوجه في الحكم بصحة العبادة المأتي بها تقيّة إن كان هو الأخبار العامة الواردة في التقيّة فحسب كان لهذا الكلام مجال ، إلاّ أن الأمر ليس كذلك ، لوجود الأخبار الخاصة الآمرة بالصلاة معهم وعيادة مرضاهم والصلاة في عشائرهم كما تقدّم (٣) وهي أخص مطلقاً من عمومات التقيّة كما لا يخفى ، فيخصصها بغير العبادات من موارد التقيّة.

وأمّا في العبادات فلا يعتبر في صحّة العمل المأتي به لأجل المتابعة للمخالفين احتمال الضرر عند تركه ، بل لا بدّ من الحكم بصحّتها ولو مع عدم احتمال الضرر‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥ ح ٣ ، ٤.

(٣) في ص ٢٥٢.

٢٦٩

والخوف شخصاً ، نعم لا نضايق أن تكون الحكمة في ذلك هي مراعاة التقيّة والمحافظة على الشيعة كي لا يعرفوا بالتشيّع لدى الناس.

الثالث : ما رواه إبراهيم بن شيبة قال : « كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يرى المسح على الخفين ، أو خلف من يحرم المسح وهو يمسح ، فكتب عليه‌السلام إن جامعك وإياهم موضع فلم تجد بداً من الصلاة فأذّن لنفسك وأقم ، فان سبقك إلى القراءة فسبح » (١) حيث دلتنا على أن الصلاة مع من يمسح على الخفين إنما تجوز فيما إذا لم يجد بداً من ذلك.

ويرد على هذا الاستدلال أوّلاً : أن الرواية ضعيفة السند ، لأن إبراهيم بن شيبة لم يوثق ، وما في كلام المحقق الهمداني قدس‌سره من إسناد الرواية إلى إبراهيم بن هاشم (٢) من سهو القلم.

وثانياً : أن الرواية أجنبية عما نحن بصدده ، لأن الكلام إنما هو في الصلاة مع العامّة والرجل في الرواية على ما يبدو أنه شيعي ، لأنه يتولى أمير المؤمنين عليه‌السلام وإن كان يتبع العامة في مسحه كما يتفق ذلك في بعض الأمكنة ، فترى أن جماعة يتولون عليّاً عليه‌السلام إلاّ أنهم في الفروع يجرون على طريقة العامة ، لعدم وصول الفروع الصحيحة إليهم أو لغير ذلك من الجهات ، وبما أن صلاة الرجل كانت محكومة بالبطلان في مورد الرواية فلذا منع عليه‌السلام عن الصلاة خلفه فهي خارجة عن محل الكلام.

وثالثاً : لو تنازلنا عن ذلك وبنينا على صحة الرواية بحسب السند ، لدلتنا على اعتبار عدم المندوحة العرضية والطولية ، لتخصيصها الجواز بما إذا كان لا بدّ من الصلاة خلفه ، وقد عرفت التسالم على عدم اعتبار عدم المندوحة الطولية فليلاحظ.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٦٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٣ ح ٢.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٥ السطر ٢٥.

٢٧٠

الرابع : ما عن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام « لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة ، إلاّ أن تخافوا على أنفسكم » (١).

ويتوجه على هذا الاستدلال : أن روايات دعائم الإسلام غير قابلة للاعتماد عليها للإرسال ، وإن كان مؤلفه جليل القدر وكبير الشأن كما ذكرناه غير مرة ، هذا.

على أنها على تقدير تماميتها سنداً قاصرة الدلالة على المدعى ، لاختصاصها بالناصب وهو خارج عن محل الكلام ، لأنه محكوم بالكفر بل بالنجاسة أيضاً على الأظهر.

وعلى تقدير التنازل فلا مانع من كون الرواية مخصصة لما دلّ على جواز الصلاة مع المخالفين ودالة على عدم جواز الصلاة مع المخالف الناصب.

الخامس : ما في الفقه الرضوي « لا تصل خلف أحد إلاّ خلف رجلين : أحدهما من تثق به وتدين بدينه وورعه ، والآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنعته فصلّ خلفه على سبيل التقيّة والمداراة » (٢).

ويردّه : أن كتاب الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتبارها ، مضافاً إلى عدم دلالتها على المدعى ، لأنها بصدد حصر الإمام في رجلين ، وأما أن الصلاة خلف من يتقى منه مشروطة بعدم المندوحة حال العمل فلا دلالة لها على ذلك بوجه.

بل يمكن أن يقال : إن قوله عليه‌السلام « على سبيل التقيّة والمداراة » بنفسه يدلنا على عدم اعتبار عدم المندوحة حال الصلاة ، وإنما يصلي معهم مع التمكن من الإتيان بالوظيفة الواقعية على سبيل المداراة لا الضرورة والاضطرار.

ما ينبغي التنبيه عليه :

ومما ينبغي أن ينبه عليه في المقام ، هو أن الصلاة معهم ليست كالصلاة خلف الامام‌

__________________

(١) المستدرك ٦ : ٤٥٨ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ١ ، دعائم الإسلام ١ : ١٥.

(٢) المستدرك ٦ : ٤٦٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٩ ح ١ ، فقه الرضا : ١٤٤.

٢٧١

العادل ، وإنما هي على ما يستفاد من الروايات صورة صلاة يحسبها العامّة صلاة وائتماماً بهم ، ومن هنا لم يرد في الروايات عنوان الاقتداء بهم ، بل ورد عنوان الصلاة معهم ، فهو يدخل الصلاة معهم ويؤذّن ويقيم ويقرأ لنفسه على نحو لا يسمع همسه فضلا عن صوته.

ولا دلالة في شي‌ء من الروايات على أنها صلاة حقيقة ، وقد ورد في بعضها : ما هم عنده عليه‌السلام إلاّ بمنزلة الجدر (١) إذن لا تكون الصلاة معهم كالصلاة خلف الامام العادل ، بل إنما هي صورة الائتمام لتحسبوها كذلك من دون أن يسقط القراءة والإقامة ولا غيرهما ، لأنهم ليسوا إلاّ كالجدر.

نعم ، قد استفدنا من الأخبار الواردة في التقيّة بحسب الدلالة الالتزامية أن عدم المندوحة غير معتبر في الصلاة معهم ، لا حال العمل والامتثال ولا فيما بعده.

فما ورد في عدّة من الروايات من النهي عن الصلاة خلف فاسدي المذهب أو الفاسق أو شارب الخمر أو غير ذلك مما ورد في الأخبار ، لا ينافي شي‌ء منه ما ذكرناه في المقام ، من صحة الصلاة معهم على النحو الذي بيّناه ، لأنها إنما دلت على عدم جواز الصلاة خلف الجماعة المذكورين على نحو الائتمام الصحيح كالائتمام بالإمام العادل وقد عرفت أن الصلاة معهم ليست إلاّ صورة الائتمام.

فالمتحصل إلى هنا : أن في التقيّة من العامة في العبادات الظاهر عدم اعتبار عدم المندوحة مطلقاً لا عرضية ولا طولية ، وإن كان اشتراط عدم المندوحة العرضية أحوط.

الجهة الثامنة : في المراد بالضرر الذي يعتبر احتماله في مفهوم التقيّة ، وفي الحكم بجوازها أو وجوبها.

أمّا في التقيّة بالمعنى الأعم أو بالمعنى الأخص في موارد ترك الواجب أو فعل الحرام‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٠٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٠ ح ١.

٢٧٢

تقيّة ، فالقدر المتيقن من الضرر المسوّغ احتماله للارتكاب إنما هو الضرر المتوجه إلى نفس الفاعل ، سواء أكان بدنياً أم مالياً أم عرضيا ، ويلحق بذلك الضرر المتوجه إلى الأخ المؤمن ، لعدة من الروايات الواردة في جواز الحلف كاذباً لأجل حفظ أموال المسلمين وقد طبق على ذلك في بعضها قوله : « كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقيّة » (١).

مع انّ المفروض أنه لا ضرر ولا ضرورة في ترك الحلف على نفسه ، بل الضرورة والضرر متوجهان إلى الأخ المؤمن أو المسلم ، فمن تطبيق الكبرى المذكورة على موارد الضرر المتوجه إلى الأخ المؤمن نستكشف أن الضرر المسوغ للتقية أعم من ضرر نفس الإنسان وضرر أخيه المؤمن.

ثم إنّا نتعدى من مورد الروايات وهو التضرر المالي للأخ المؤمن إلى التضرر العرضي والنفسي بطريق الأولوية ، وعليه فالجامع فيما يسوغ التقيّة في ترك الواجب أو في فعل الحرام إنما هو الضرر المتوجه إلى النفس أو الأخ المسلم في شي‌ء من المال أو العرض أو النفس.

وأما إذا لم يترتب على ترك التقيّة ضرر على نفسه ولا على غيره ، بل كانت التقيّة لمحض جلب النفع من الموادّة والتحابب والمجاملة معهم في الحياة ، فلا تكون مسوّغة لارتكاب العمل المحرم ولا ترك الفعل الواجب ، فليس له الحضور في مجالسهم المحرمة كمجلس الرقص وشرب الخمر ونحوهما لأجل المجاملة ، لعدم تحقق مفهوم التقيّة حينئذٍ حيث لا ضرر يترتب على تركها.

نعم ، لا بأس بذلك في خصوص الصلاة ، فإن له أن يحضر مساجدهم ويصلي معهم للمداراة والمجاملة من دون أن يترتب ضرر على تركه بالنسبة إلى نفسه أو بالإضافة إلى الغير ، وذلك لإطلاقات الأخبار الآمرة بذلك ، لأن ما دلّ على أن الصلاة معهم في الصف الأوّل كالصلاة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مقيد بصورة ترتّب‌

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٧ / أبواب كتاب الايمان ب ١٢ ح ١٦ وغيره.

٢٧٣

الضرر على تركها ، بل قد عرفت أن حملها على تلك الصورة حمل لها على مورد نادر لبعد أن يكون ترك الحضور في مساجدهم أو ترك الصلاة معهم مرة أو مرتين أو أكثر مستلزماً لاشتهاره بالتشيّع ومعروفيته به ، أو لأمر آخر موجب لتضرره.

نعم ، إذا ترك ذلك بالكلية أمكن أن يستلزم الضرر ، بل قد قدمنا أن ظاهر هذه الروايات هو الحث والترغيب إلى إظهار الموافقة معهم في الصلاة أو في غيرها من الأعمال بالقدرة والاختيار ، لا من جهة الخوف والالتجاء والتقيّة.

وقد ورد أن الصلاة معهم من حيث الأثر والثواب كالصلاة خلف من يقتدى به حيث قال عليه‌السلام « يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت لا تقتدي بهم مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من يقتدى به » (١) وهو أيضاً غير مقيد بصورة خوف الضرر عند ترك الصلاة معهم ، فجواز الحضور عندهم أو الصلاة معهم وعيادة مرضاهم وغير ذلك من الأُمور الواردة في الروايات غير مقيد بصورة ترتب الضرر على تركها وإنما ذلك من باب المجاملة والمداراة معهم.

ولقد صرح بحكمة تشريع التقيّة في هذه الموارد وعدم ابتنائها على خوف الضرر في صحيحة هشام الكندي قال « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إياكم أن تعملوا عملاً نعير به ، فان ولد السوء يعير والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم (٢) وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شي‌ء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشي‌ء أحب إليه من الخباء ، قلت : وما الخباء؟ قال : التقيّة » (٣) لدلالتها على أن حكمة المداراة معهم في الصلاة أو غيرها إنما هي ملاحظة المصلحة النوعية واتحاد كلمة المسلمين من دون أن يترتّب ضرر على تركها ، فان ظاهرها معروفية أصحابه عليه‌السلام بالتشيّع في‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥ ح ٣.

(٢) هكذا في الكافي [ ٢ : ١٧٤ / ١١ ] والوسائل وفي الوافي « في عشائركم » راجع المجلّد الخامس ص ٦٨٩ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٩ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٦ ح ٢.

٢٧٤

ذلك الوقت ، ولم يكن أمره بالمجاملة لأجل عدم انتشار تشيّعهم من الناس ، وإنما كان مستنداً إلى تأديبهم بالأخلاق الحسنة ليمتازوا بها عن غيرهم ويعرفوا الشيعة بالأوصاف الجميلة وعدم التعصب والعناد واللجاج وتخلقهم بما ينبغي أن يتخلق به حتى يقال : رحم الله جعفراً ما أحسن ما أدب أصحابه.

كما ورد في رواية زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم ، صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية فعل الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه » (١).

وقد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان أنه قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أُوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا ، إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه ( وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً ) ثم قال : عودوا مرضاهم واحضروا جنائزهم واشهدوا لهم وعليهم ، وصلّوا معهم في مساجدهم حتى يكون التمييز وتكون المباينة منكم ومنهم » (٢).

وعلى ذلك لا يتوقف جواز الصلاة معهم على ترتب أي ضرر على تركه ولو احتمالاً ، وهذا قسم خاص من التقيّة فلنعبر عنه بالتقية بالمعنى الأعم ، لمكان أنها أعم من التقيّة بالمعنى العام ، إذ لا يعتبر في ذلك ما كان يعتبر في ذلك القسم من خوف الضرر واحتماله على تقدير تركها ، بل هذا القسم خارج من المقسم ، لعدم اعتبار احتمال الضرر في تركه.

هذا ، وفي بعض الكلمات أن الأخبار الآمرة بالصلاة معهم وحضور مجالسهم‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٣٠ / أبواب صلاة الجماعة ب ٧٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٠١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥ ح ٨ ، ١٢ : ٧ / أبواب أحكام العشرة ب ١ ح ٦.

٢٧٥

مختصّة بصورة خوف الضرر على تقدير تركها ، إلاّ أن سبر الروايات الواردة في هذا الباب المرويّة في الوسائل في أبواب مختلفة كباب العشرة من كتاب الحج ، وفي كتاب الأمر بالمعروف وكتاب الايمان يشهد بعدم تمامية هذا المدعى ، لاطلاقاتها وعدم كونها مقيّدة بصورة الخوف على تقدير تركها.

فبناء على ذلك لا بدّ من حمل ما ورد من أنه ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره (١) على التقيّة بهذا المعنى الأخير كما في حضور مجالسهم والصلاة معهم ، لأنها التي لا يعتبر فيها خوف الضرر ، ولا يمكن حملها على التقيّة بالمعنى المتقدم في ترك الواجب وفعل الحرام لتقومها بخوف الضرر كما مر ، ولا خوف من الضرر مع من يأمنه أو في التقيّة في الباطن كما هي المراد من قوله عليه‌السلام « شعاره ودثاره » أي في باطنه وظاهره ، ومن هنا يحرم على المكلف الارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إذا كان عنده من العامة من لا يخاف منه على نفسه ولا على غيره ، وهذا وإن كان حملاً للرواية على غير ظاهرها إلاّ أنه مما لا بدّ منه بعد عدم إمكان التحفظ على ظهورها. على أنها ضعيفة السند فليلاحظ.

الجهة التاسعة : هل التقيّة بالمعنى الأخير تختص بزمان شوكة العامّة واقتدارهم وعظمتهم كما في أعصار الأئمة عليهم‌السلام أو أنها تعم عصرنا هذا وقد ذهب فيه اقتدارهم ولم تبق لهم تلك العظمة على نحو لا يخاف من ضررهم ، فلو تشرف أحدنا سامراء مثلاً استحب له حضور مساجدهم والصلاة معهم ، إلى غير ذلك من الأُمور الواردة في الروايات المتقدمة؟ لم نعثر على من تعرّض لهذه المسألة إلاّ المحقق الهمداني قدس‌سره حيث تعرّض لها واختار اختصاصها بزمان اقتدارهم وأيام عظمتهم (٢).

والصحيح عدم اختصاص التقيّة بوقت دون وقت ، لأن اختصاصها بعصر شوكتهم إنما يتم فيما إذا أُريد من التقيّة معناها المتقدم المتقوم بخوف الضرر ، حيث‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٢ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٩.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٦ السطر ١٤.

٢٧٦

لا يحتمل ضرر في ترك التقيّة في أمثال زماننا ، إلاّ أنك قد عرفت أنها بهذا المعنى غير مرادة في مثل الصلاة ، وإنما الحكمة في تشريعها هي المداراة وتوحيد الكلمة وإبراز الميزة بينهم وبين العامة ، وعليه فهي تأتي في أمثال زماننا أيضاً فيستحب حضور مساجدهم والصلاة معهم ليمتاز الشيعة بذلك عن غيرهم ويتبيّن عدم تعصبهم حتى تتحد كلمة المسلمين.

والخطاب في بعض الأخبار المتقدمة وإن كان لا يشملنا ، لاختصاصه بذلك الزمان كما اشتمل على الأمر بالصلاة في عشائركم وقوله عليه‌السلام « عودوا مرضاهم » حيث لا عشيرة لنا من المخالفين ليستحب الصلاة معهم ، إلاّ أن في إطلاق بعضها الآخر مما اشتمل على بيان حكمة تشريع تلك التقيّة أو غيره من المطلقات المتقدمة كما دلّ على أن الصلاة في الصف الأول معهم كالصلاة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غنى وكفاية ، لتحقق الحكمة في أعصارنا وعدم تقيد استحباب الصلاة في الصف الأول معهم بزمان دون زمان ولا باحتمال ترتب الضرر على تركها ، وعلى هذا يمكن أن يمثل للتقية المستحبة بهذه التقيّة ، أعني حضور مساجدهم والصلاة معهم من دون احتمال الضرر على تقدير تركها.

الجهة العاشرة : أن ما هو محل البحث والكلام في هذه المسألة إنما هو التقيّة من العامة بإظهار الموافقة معهم في الصلاة أو الصوم أو الحج ونحوها من العبادات وغير العبادات ، وقد عرفت حكمها على نحو لا مزيد عليه.

وأمّا إذاعة أسرارهم عليهم‌السلام وكشف الستر عن خصوصياتهم ومزايا شيعتهم عند العامّة أو غيرهم فهي محرمة في نفسها ، فان الكشف عن أسرار الأئمة عليهم‌السلام للمخالفين أو غيرهم مرغوب عنه عندهم ، بل أمر مبغوض وقد نهي عنه في عدّة روايات (١) وفي بعضها « إن من أذاع أسرارهم يمس حر الحديد » (٢) ولعلّ‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٣٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٣٢ ، ٣٤ وغيرهما.

(٢) عبد الرّحمن بن الحجّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من استفتح نهاره بإذاعة سرّنا

٢٧٧

قتل معلى بن الخنيس أيضاً كان مستنداً إلى ذلك ، حيث كشف عن بعض أسرارهم ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ).

الجهة الحادية عشرة : أن المكلف في موارد التقيّة إذا ترك العمل على طبقها استحق العقاب على مخالفته ، لما تقدم من أن التقيّة واجبة في مواردها ، فلا ينبغي الإشكال في أن ترك التقيّة محرم بالحرمة التكليفية ، وإنما الكلام في حرمته الوضعية وأن العمل إذا لم يؤت به على طبق التقيّة فهل يقع فاسداً ولا بدّ من الحكم ببطلانه أو أنه محكوم بالصحة إذا كان مطابقاً للواجب الواقعي؟ وللمسألة صور :

الصورة الاولى : أن يترك المكلف في موارد التقيّة العمل برمته ، فلا يأتي به على طبق التقيّة ولا على طبق الوظيفة الأولية ، كما إذا اقتضت التقيّة الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام والمكلف قد ترك الوقوف معهم في ذلك اليوم وفي اليوم التاسع حسب عقيدته ، أو أن التقيّة اقتضت غسل رجليه ولكنه ترك غسلهما كما ترك مسحهما.

فإن استندنا في الحكم بصحّة العمل المتقى به وإجزائه عن المأمور به الأوّلي إلى السيرة العملية الجارية على الاكتفاء به في مقام الامتثال من لدن عصرهم إلى زماننا فلا كلام في الحكم ببطلان العمل وقتئذٍ حيث يكفي في بطلانه مخالفته للوظيفة الواقعية ، ومن الظاهر أن المخالف للواقع باطل لا يمكن الاكتفاء به في مقام الامتثال اللهمّ إلاّ أن يدل عليه دليل ، والدليل على إجزاء العمل المخالف للواقع في موارد التقيّة إنما هو السيرة ، وهي إنما تحققت فيما إذا كان العمل المخالف للواقع موافقاً لمذهب العامّة بأن يؤتى به متابعة لهم ، وأما ما كان مخالفاً للواقع ولم يكن موافقاً مع العامّة وعلى طبق مذهبهم فلم تقم أية سيرة على صحته وكونه مجزئاً عن الوظيفة الواقعية فلا مناص وقتئذٍ من الحكم بالبطلان.

__________________

سلّط الله عليه حرّ الحديد وضيق المجالس » المروية في الوسائل ١٦ : ٢٤٧ / أبواب الأمر والنهي ب ٣٤ ح ٢.

٢٧٨

وأمّا إذا استندنا في الحكم بصحّة العمل المتقى به وإجزائه إلى الأدلة اللفظية كقوله عليه‌السلام « ما صنعتم من شي‌ء ... » (١) أو غيره من الروايات المتقدمة كما صنعه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) فإن استفدنا من الأمر بالتقية في ذلك المورد أو من غيره انقلاب الوظيفة الواقعية وتبدلها إلى ما يراه العامة وظيفة حينئذٍ ، فأيضاً لا بدّ من الحكم بالبطلان لعدم مطابقة العمل المأتي به لما هو الوظيفة في ذلك الحال ، وهذا كما في غسل الرجلين بدلاً عن المسح حال التقيّة أو الغسل منكوساً بدلاً عن الغسل من الأعلى إلى الأسفل ، فإن ظاهر الأمر بهما أن الوظيفة حال التقيّة في الوضوء إنما هو الوضوء بغسل الرجلين أو الغسل منكوساً ، ولا يجب عليه المسح أو الغسل من الأعلى إلى الأسفل.

وكذا الحال في مسح الخفين بناء على الاعتماد على رواية أبي الورد ، لدلالتها على الرخصة في مسح الخفين عند التقيّة ، وقد ذكرنا أن الرخصة في مثله لا يحتمل غير الترخيص الغيري وعدم كون ذلك العمل مانعاً عن الوضوء بل هو جزء أو شرط له. ففي هذه الموارد إذا أتى بالوضوء ولم يأت بغسل الرجلين أو بمسح الخفين أو بالغسل منكوساً فلا محالة يحكم ببطلانه ، لمخالفة الوضوء كذلك للوضوء الواجب حينئذٍ وذلك لما استفدناه من الأدلة من التبدل والانقلاب بحسب الوظيفة الواقعية.

وأمّا إذا لم نستفد من الدليل انقلاب الوظيفة الواقعية وتبدلها إلى العمل المطابق للعامّة ، بل إنما علمنا بوجوب التقيّة فحسب بمقتضى الأدلة المتقدمة كما هو الحال في الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام ، فلا يبعد حينئذٍ الحكم بصحّة العمل ، لأن مقتضى الأدلة اللفظية سقوط الجزئية والشرطية والمانعية في ذلك الحال وعدم كون الفعل مقيّداً بما اقتضت التقيّة تركه أو فعله ، ومعه لا وجه لبطلان العمل ، إذ الحج مثلاً في حقِّه غير مقيد بالوقوف يوم التاسع لاضطراره إلى تركه تقيّة ، فاذا أتى‌

__________________

(١) المتقدمة في ص ٢٤٣.

(٢) رسالة في التقيّة : ٣٢٣ ٣٢٤.

٢٧٩

به وترك الوقوف يوم التاسع فقد أتى بما وجب عليه في ذلك وهو الحج من دون اعتبار الوقوف فيه يوم التاسع ، وغاية الأمر أنه عصى وارتكب الحرام لعدم عمله بالتقية بالوقوف يوم الثامن إظهاراً للموافقة معهم ، إلاّ أن عصيانه من تلك الجهة غير موجب لبطلان حجّه بوجه بعد ما فرضناه من مطابقته لما هو الواجب عليه حينئذٍ.

ودعوى أن حجه عند اضطراره إلى إظهار الموافقة معهم قد قيد بالوقوف معهم يوم الثامن ، وبما أنه لم يأت بالوقوف في ذلك اليوم كما لم يأت به بعده فلا محالة يقع عمله باطلاً ، لعدم اشتماله لما هو المعتبر حينئذٍ من الوقوف يوم الثامن مثلاً ، مندفعة بأن غاية ما يستفاد من الأدلة الآمرة بالتقيّة وأنه لا دين لمن لا تقيّة له أو لا إيمان له وأمثال ذلك ، أن التقيّة وإظهار الموافقة معهم واجبة وأن تركها أمر غير مشروع ، وأمّا أن عمله مقيّد ومشروط بما يراه العامّة شرطاً أو جزءاً للعمل فهو مما لم يقم عليه دليل. وعلى الجملة مقتضى سقوط الجزئية والشرطية والمانعية إنما هو الحكم بصحّة العمل عند ما ترك المكلف قيده وشرطه رأساً ولم يأت به على نحو يوافق مذهب العامّة ولا على نحو تقتضيه الوظيفة الواقعية.

الصورة الثانية : ما إذا ترك المكلف العمل على طبق مذهبهم وأتى به على طبق الوظيفة الواقعية فيما تقتضي التقيّة إظهار الموافقة معهم ، وهذا قد يتصوّر في المعاملات بالمعنى الأعم أو بالمعنى الأخص ، وقد يتصوّر في العبادات.

أمّا ترك العمل بالتقية في المعاملات والإتيان بها حسبما يقتضيه الحكم الواقعي ، كما إذا فرضنا أن التقيّة اقتضت الطلاق من غير شهادة العدلين والمكلف قد ترك التقيّة وطلّق زوجته عند العدلين وشهادتهما ، فلا ينبغي الإشكال في وقوع المعاملات صحيحة عندئذٍ ، لأن ترك التقيّة وإن كان محرماً كما عرفت إلاّ أن النهي في المعاملات لا بعنوانها بل بعنوان آخر لا دلالة له على الفساد ، وحيث إن المعاملة مشتملة على جميع القيود والشروط فلا محالة تقع المعاملة صحيحة وإن كان المكلف قد ارتكب معصية كما عرفت.

٢٨٠