موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

التقيّة ارتفعت حرمته وبها اتصفت بالإباحة الغيرية ، ومعناه عدم مانعية التكتف أو عدم جزئية السورة في الصلاة وهكذا؟ أو أن الصحيحة لا يمكن التمسك بها في التكاليف الغيرية من الشرطية والجزئية والمانعية؟

الثاني هو التحقيق ، وذلك لأن العمل المركب من الأجزاء والشرائط وعدم المانع ارتباطي لا محالة ، فإذا فرضنا أن المكلف قد عجز عن الإتيان بتمامه واضطر إلى ترك شي‌ء من أجزائه أو شرائطه أو إلى الإتيان بشي‌ء من موانعه سقط التكليف المتعلق بالمركّب عن مجموع العمل لا محالة ، فلا يبقى تكليف بالمركب هناك ، وذلك لأنه مقتضى إطلاق أدلة الجزئية أو الشرطية أو المانعية الشامل لموارد الاضطرار إلى تركها كما هو مفروض كلامنا لأن لازمه سقوط الأمر عن مجموع العمل المركّب لعدم قدرة المكلف عليه بجميع أجزائه وشرائطه.

وإذا فرضنا سقوط الأمر والإلزام عن العمل المركب لم يبق معنى للاضطرار إلى ترك أجزائه وشرائطه أو إلى فعل شي‌ء من موانعه ، لتمكنه من ترك العمل برأسه وعدم الإتيان به من أساسه ، وقد تقدم أن مفهوم الاضطرار قد أُخذ فيه اللاّبدية وعدم التمكن من فعله أو من تركه ، وهذا غير متحقق عند تمكن المكلف من ترك الأجزاء والشرائط بترك العمل المركب رأساً ، ومع هذا الفرض أعني التمكن من ترك العمل برأسه لم يصدق الاضطرار إلى ترك الشرط أو الجزء أو إلى الإتيان بالمانع.

وعلى ذلك ، فالتقية والاضطرار يرفعان الحرمة النفسية المترتبة على ترك الواجب المركب عند الاضطرار إلى ترك شي‌ء من أجزائه وشرائطه ، وأما الجزئية والشرطية والمانعية فهي غير مرتفعة بشي‌ء من التقيّة والاضطرار ، لعدم تحقق الاضطرار إليها عند التمكّن من ترك العمل برأسه ، فلا يصح أن يقال إنه مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الإتيان بالمانع عند التمكن من ترك العمل برمته.

اللهمّ إلاّ أن يكون قوله عليه‌السلام في الرواية : « فقد أحلّه الله ... » شاملاً للتكاليف الغيرية من الجزئية والشرطية والمانعية أيضاً ، حتى يدل على وجوب العمل‌

٢٤١

الفاقد للمضطر إلى تركه من جزء أو شرط أو الواجد للمضطر إلى فعله أعني المانع لأنه وقتئذٍ مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الإتيان بالمانع ، ولا يتمكن من ترك العمل المركب برمته لقدرته من الإتيان به على الفرض ، إلاّ أن الحكم لا يكون محققاً لموضوع نفسه فكيف يعقل أن يكون الحكم بالحلية محققاً للاضطرار الذي هو موضوعه ، لأنه موضوع للحكم بالحلية وارتفاع الحرمة ، ولا مناص من أن يتحقق بنفسه أوّلاً مع قطع النظر عن حكمه حتى يحكم بالحلية ، وليس الأمر كذلك في المقام لوضوح أن المكلف مع قطع النظر عن الحكم بالحلية في مورد الاضطرار غير مضطر إلى ترك الجزء أو الشرط بالوجدان ، لتمكنه واقتداره من ترك العمل المركب رأساً. كما أن العلم الخارجي في مورد كالصلاة بأن المركب عمل لا يسقط عنه حكمه أبداً وإن لم يتمكّن المكلف من جزئه أو شرطه أو من ترك الإتيان بمانعه ، كذلك ، أي لا يحقق ذلك صدق عنوان الاضطرار وتحققه إلى ترك الجزء أو الشرط أو إلى الإتيان بالمانع حتى يحكم بارتفاع التكاليف الغيرية بالتبع ، لأن الكلام إنما هو في أنه لو كنّا نحن والأدلة الدالة على ارتفاع ما اضطر إليه وحلية العمل المأتي به تقيّة ، فهل تقتضي تلك الأدلة ارتفاع التكاليف الغيرية بالاضطرار وعدم اشتراط العمل بما اضطر إلى تركه من شرط أو جزء أو إلى فعله كالموانع ، حتى يجب الإتيان به فاقداً لما اضطر إليه ولا تجب عليه الإعادة أو القضاء ، ليكون ذلك قاعدة كلية تجري في جميع الموارد ، أو أنها لا تقتضي ذلك؟ لا فيما إذا علمنا بوجوب العمل الفاقد لما اضطر إلى تركه أو إلى فعله في مورد واحد بالدليل الخارجي كالصلاة ، لوضوح أن وجوب الفاقد حينئذٍ غير مستند إلى أدلّة التقيّة حتى نتعدى إلى جميع مواردها ، بل إنما يستند إلى الدليل الخارجي فيثبت في مورده فقط.

ومنها : صحيحة (١) أبي الصباح قال « والله لقد قال لي جعفر بن محمد ( عليه‌

__________________

(١) بناء على أنه أبو الصباح الكناني الثقة كما لا يبعد ، وأن سيف بن عميرة الواقع في سندها لم يثبت كونه واقفياً ، وإلاّ فعلى ما حكي عن بعضهم من كونه واقفياً فالرواية موثقة لا صحيحة.

٢٤٢

السلام ) ... ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة » (١) لأن إطلاق قوله عليه‌السلام « ما صنعتم » يشمل إتيان العمل فاقداً لجزئه أو شرطه أو واجداً لمانعه ، إذن فالمكلف في سعة من قبل ترك الجزء أو الشرط أو الإتيان بالمانع ، فلا يترتب عليه التكليف بالإعادة أو القضاء ، وهي نظير ما ورد من أن الناس في سعة ما لم يعلموا (٢) فكما أنه يدلنا على ارتفاع المشكوك جزئيته أو شرطيته ، لأنه معنى كونهم في سعة ما لا يعلمون ، فكذلك الحال في هذه الصحيحة فتدلّنا على ارتفاع الجزئية أو الشرطية أو المانعية عند التقيّة.

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية : أنها وإن كانت تامّة بحسب السند ، غير أنها بحسب الدلالة غير تامّة ولا دلالة لها على ذلك المدعى ، والوجه في ذلك : أن السعة إنما هي في مقابل الضيق ، فمدلول الصحيحة أن العمل المأتي به في الخارج إذا كان فيه ضيق في نفسه لولا التقيّة فيرتفع عنه ضيقه ويتبدل بالسعة فيما إذا اتي به لأجل التقيّة والاضطرار ، مثلاً شرب المسكر أمر فيه ضيق من ناحيتين لولا التقيّة وهما جهتا حرمته وحدّه ، لأن من شربه متعمداً بالاختيار ترتب عليه العقوبة والحد ويحكم بفسقه لارتكابه الحرام بالاختيار ، فيقع المكلف في الضيق من جهتهما ، فاذا صدر منه ذلك من أجل التقيّة أو الاضطرار ، لأنه لو لم يشربه لقتله السلطان أو أخذ أمواله أو مات في وقته لمرضه ، ارتفعت عنه الجهتان ولا يترتب عليه الحرمة ولا الحد فيكون المكلّف في سعة من قبلهما ، وكذلك الحال فيما إذا تناول ما لا يراه العامّة مفطراً للصوم ، فإنه مما يترتب عليه الحكم بالحرمة كما أنه موجب للكفّارة لا محالة ، لأنه إفطار عمدي على الفرض ، إلاّ أنهما ترتفعان عن ذلك فيما إذا استند إلى التقيّة والاضطرار ، ويكون المكلّف في سعة من جهة الحرمة والكفارة.

وعلى الجملة : إن مقتضى الصحيحة أن أيّ أثر كان يتعلق بالعمل أو يترتب عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٤ / أبواب كتاب الايمان ب ١٢ ح ٢.

(٢) المستدرك ١٨ : ٢٠ / ٤ ، وورد مضمونها في الوسائل ٢٥ : ٤٦٨ / أبواب اللقطة ب ٢٣ ح ١.

٢٤٣

ترتّب الحكم على موضوعه لولا التقيّة يرتفع عنه عند التقيّة والاضطرار ، فيكون المكلف في سعة من ناحيته ، وهذا المعنى غير متحقق عند ترك الجزء أو الشرط أو الإتيان بالمانع ، وذلك لأنه لا يترتب على تلك التكاليف الغيرية أيّ ضيق حتى يتبدل إلى السعة للتقية والاضطرار.

أمّا بطلان العمل بتركها أو بإتيانها ، فلأن البطلان كالصحة أمران واقعيان خارجان عن اختيار الشارع وتصرفاته وليس له رفعهما ولا وضعهما ، فان البطلان عبارة عن مخالفة المأتي به للمأمور به كما أن الصحة عبارة عن موافقة المأتي به للمأمور به.

وأمّا وجوب الإعادة أو القضاء بترك الإتيان بالجزء أو الشرط أو بالإتيان بالمانع فلأن الإعادة غير مترتبة على الإتيان بالعمل الفاسد ، بل موضوع الإعادة عدم الإتيان بالمأمور به ، لأن الأمر بالإعادة هو بعينه الأمر بالإتيان بالمأمور به وامتثاله كما أن القضاء كذلك فإنه مترتب على فوات الواجب وغير مترتب على الإتيان بالعمل الفاسد ، وعليه فلا ضيق على المكلف في مخالفة التكاليف الغيرية حتى يرتفع عنه بالتقية ويكون المكلف في سعة من جهته ، وينتج ذلك وجوب الإتيان بالعمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه.

وممّا يوضح ذلك بل يدل عليه : ملاحظة غير العبادات من المعاملات بالمعنى الأعم ، فإنه إذا اضطر أحد إلى غسل ثوبه المتنجس بالبول مرة واحدة ولم يتمكن من غسله مرتين ، أو لم يتمكن من غسله بالماء فغسله بغير الماء ، أو لم يتمكن من طلاق زوجته عند عدلين فطلقها عند فاسقين اضطراراً ، لم يمكن أن يحكم بحصول الطهارة للثوب أو بوقوع الطلاق على الزوجة بدعوى أنه أمر قد صدر عن تقيّة أو اضطرار فهذا أقوى شاهد ودليل على عدم ارتفاع الشرطية أو الجزئية أو المانعية في حال الاضطرار والتقيّة. إذن لا يكون العمل الفاقد لشي‌ء من ذلك ، أي من الجزء أو الشرط مجزياً في مقام الامتثال.

ومن هنا يظهر أن قياس محل الكلام بما ورد من أن الناس في سعة ما لم يعلموا (١)

__________________

(١) المستدرك ١٨ : ٢٠ / ٤.

٢٤٤

قياس غير قريب ، وذلك لأن المشكوك فيه في ذلك الحديث إنما هو نفس الجزئية وعدليها ، ومن البديهي أن في جزئية المشكوك فيه أو شرطيته أو مانعيته ضيقاً واضحاً على المكلف ، لأنه تقييد لإطلاق المأمور به وموجب للكلفة والضيق ، فيكون في رفعها عند الشك توسعة له ورفعاً للتضيق الناشئ من جزئية الجزء أو شرطية الشرط أو مانعية المانع ، وأين هذا مما نحن فيه ، لأن الصحيحة ناظرة إلى ما أتى به المكلف من العمل في الخارج كما هو مفاد قوله « ما صنعتم » إذن لا بدّ من ملاحظة أن العمل الخارجي الفاقد لجزئه أو شرطه أو الواجد لمانعه ، أي ضيق يترتب عليه من ناحية ترك الجزء أو الشرط أو الإتيان بالمانع حتى يرتفع بالتقية ويتبدل ضيقه بالسعة ، وقد عرفت أنه لا يوجد أي ضيق يترتب عليه ، فلا موضوع للسعة في التكاليف الغيرية بوجه.

وعلى الجملة : إن الصحيحة قد دلت على التوسعة مما يؤتى به تقيّة ، والتوسعة إنما يكون بأحد أمرين : إما برفع الإلزام المتعلق بالفعل المتقى به كالتحريم في شرب الخمر أو في ترك العبادة الواجبة ، وإما برفع الأحكام المترتبة عليه كوجوب الكفارة في ترك الصيام تقيّة أو في حنث اليمين كذلك وكالحد في شرب المسكر وهكذا ، ولا يوجد شي‌ء من هذين الأمرين في التكاليف الغيرية كما مر.

وكيف كان لا يمكن أن يستفاد من شي‌ء من الأدلة أن العمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه واجب بوجه.

ومن هنا يظهر عدم صحّة التمسّك في المقام بحديث رفع الاضطرار (١) بدعوى دلالته على أن ما أتى به المكلف في الخارج بالاضطرار كأنه مما لم يأت به وأنه كالعدم حقيقة ، فإذا شرب خمراً بالاضطرار أو تكتف في الصلاة تقيّة فكأنه لم يشرب الخمر من الابتداء أو لم يتكتف في صلاته أصلاً ، ومعنى ذلك أن المانعية أعني مانعية التكتف مرتفعة حال التقيّة أو حال الاضطرار فبذلك ترتفع أحكامه وآثاره ، سواء أكانت من الأحكام النفسية أم كانت من الأحكام الغيرية.

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

٢٤٥

والوجه في عدم صحّة التمسّك به في المقام هو أن ما أتى به المكلف اضطراراً لا معنى لرفعه وهو موجود بالتكوين إلاّ بلحاظ الأُمور المترتبة على وجوده ، كالالزام المتعلق به من وجوب أو تحريم أو حد أو كفارة كما في شرب الخمر وترك الصيام والحنث في اليمين ، وليس شي‌ء من ذلك متحققاً في التكاليف الغيرية كما عرفت ، فلا دلالة للحديث إلاّ على رفع ما يترتب على وجود العمل الصادر بالاضطرار من الآثار والأحكام ، وأما أن العمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه واجب ومجزئ في مقام الامتثال ، فهو مما لا يمكن استفادته من الحديث ، وقد قدّمنا الكلام على حديث الرفع مفصّلاً (١) فليجعل هذا تتميماً لما تقدّم.

ومنها : ما رواه أبو ( ابن ) عمر الأعجمي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « إن التقيّة في كل شي‌ء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفّين » (٢) بدعوى دلالتها على أن التقيّة ترفع الأحكام المتعلقة بالعمل المأتي به تقيّة مطلقاً ، سواء أكان ذلك من الأحكام النفسية أو من الأحكام الغيرية ، وذلك لمكان استثناء مسح الخفين وهو من المحرّمات الغيرية ، لوضوح عدم حرمة المسح على الخفين حرمة نفسية ، وهذا يدلنا على أن قوله عليه‌السلام « كل شي‌ء » يعم التكاليف النفسية والغيرية. فالمتحصل منها أن الجزئية والشرطية والمانعية ترتفع كلها بالتقية والاضطرار ، نظير غيرها من الأحكام النفسية إلاّ في موردين وهما شرب المسكر والمسح على الخفين ، فاذا تكتف في صلاته تقيّة ارتفع عنه المنع الغيري وهو المانعية ، ومعناه عدم مانعية التكتف في الصلاة حال التقيّة.

__________________

(١) في مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٧.

(٢) كما نقله شيخنا الأنصاري قدس‌سره عن أُصول الكافي في رسالة التقيّة [ ص ٣٢٣ السطر ٢٥ ] ناسباً للرواية إلى أبي جعفر عليه‌السلام ولكن الموجود في الوسائل منسوب إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ومشتمل على النبيذ بدل المسكر ، كما أنه مشتمل على جملة أُخرى في صدرها وهي قوله عليه‌السلام « لا دين لمن لا تقيّة له » وكذلك الحال في الكافي [ ٢ : ٢١٧ / ٢ ] والوافي [ ٥ : ٦٨٥ / ٣ ] وغيرهما ، فالظاهر أن ما في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره من اشتباه القلم فليلاحظ. راجع الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٣.

٢٤٦

ويرد عليه أوّلاً : أن الرواية ضعيفة السند كما تقدّم (١).

وثانياً : أن حمل الرواية على هذا المعنى ، أعني ارتفاع الأحكام المتعلقة بالفعل المأتي به تقيّة ، مضافاً إلى أنه خلاف الظاهر في نفسه ، مما لا يمكن المساعدة عليه لوجود القرينة في نفس الرواية على عدم إرادته ، والقرينة هو استثناء شرب المسكر وذلك لأن حمل الرواية على المعنى المدعى يستلزم الحكم بعدم ارتفاع الحرمة في شرب المسكر عند التقيّة والاضطرار كعدم ارتفاع الحرمة الغيرية في المسح على الخفّين لمكان استثنائهما عن العموم ، وهو مما لا يمكن التفوّه به ، كيف والتقيّة والاضطرار يحللان ما هو أعظم من شرب المسكر كترك الصلاة فيما إذا أجبره الجائر عليه وترتّب ضرر على ترك التقيّة كالقتل ، فكيف يحكم بحرمته حال الاضطرار إلى شربه ، فان حفظ النفس من الهلكة أولى من ترك شرب المسكر فلا وجه لحمل الرواية على هذا المعنى.

بل الصحيح كما هو ظاهرها أن الرواية ناظرة إلى أن تشريع التقيّة وحكمها من الجواز والوجوب جار في كل شي‌ء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفين ، فإن التقيّة غير مشرعة فيهما فلا يجب أو لا يجوز التقيّة فيهما ، لا أن الحرمة غير مرتفعة عن شرب المسكر في حال التقيّة والاضطرار ، والوجه في ذلك أي عدم تشريع التقيّة في الموردين على ما قدّمناه مفصّلاً عدم تحقّق موضوعها فيهما ، أما في شرب المسكر فلأن حرمته من الضروريات في الإسلام وقد نطق بها الكتاب الكريم ولم يختلف فيها سنِّي ولا شيعي فلا معنى للتقية في شربه.

وأمّا في المسح على الخفّين ، فلأنا لم نعثر فيما بأيدينا من الأقوال على من أوجبه من العامّة ، وإنما ذهبوا إلى جواز كل من مسح الخفين وغسل الرجلين ، نعم ذهبت جماعة منهم إلى أفضليته كما مرّ (٢) وعليه فلا يحتمل ضرر في ترك المسح على الخفّين بحسب الغالب ، نعم يمكن أن تتحقّق التقيّة فيهما نادراً ، كما إذا أجبره جائر على شرب المسكر‌

__________________

(١) في ص ٢١٦.

(٢) قد مرّ الكلام في ذلك في ص ١١٢ وأشرنا إليه في ص ٢٢٠.

٢٤٧

أو على مسح الخفّين إلاّ أنه من الندرة بمكان ولا كلام حينئذٍ في مشروعية التقيّة ، فإن الرواية المانعة ناظرة إلى ما هو الغالب. ولعلّ الشيخ قدس‌سره لم يلفت نظره الشريف إلى ملاحظة استثناء شرب المسكر ، لتوجهه إلى استثناء مسح الخفّين ، ومن هنا حمل الرواية على غير المعنى الذي ذكرناه ، والله العالم بحقيقة الحال ، فعلى ما بيّناه الرواية أجنبية عما نحن بصدده.

ومنها : موثقة سماعة قال « سألته عن رجل كان يصلي فخرج الامام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال : إن كان إماماً عدلاً فليصل اخرى وينصرف ويجعلهما تطوعاً وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلي ركعة أُخرى ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع ، فإن التقيّة واسعة ، وليس شي‌ء من التقيّة إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله » (١).

أمّا الجملة الاولى أعني قوله : « إن كان الامام عدلاً » فمضمونها هو ما دلّ عليه غيرها من الأخبار ، من أن من دخل في الفريضة ثم أُقيمت الجماعة استحب له أن يجعل ما بيده من الفريضة تطوعاً ويسلّم في الركعة الثانية حتى يدرك ثواب الجماعة بائتمامه من أول الصلاة.

وأمّا الجملة الثانية أعني قوله : « وإن لم يكن إمام عادل » فقد حملها شيخنا الأنصاري قدس‌سره على ما قدّمناه في الجملة الاولى من أنه يجعل ما بيده من الفريضة تطوعاً ويسلم في الثانية ويأتم بالإمام ويأتي من أجزاء الصلاة وشرائطها على ما استطاع ، فان تمكن من أن يأتي بتمامهما مع الامام فهو ، وإن لم يستطع إلاّ من بعضهما فيكتفي بالبعض لأن التقيّة واسعة (٢).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٠٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٦ ح ٢.

(٢) رسالة في التقيّة : ٣٢٤ السطر ٢.

٢٤٨

فقد استدلّ قدس‌سره بقوله : « على ما استطاع » على أن ما أتى به المكلف من الأجزاء والشرائط تقيّة كاف ومجزئ في مقام الامتثال ، سواء كان ما أتى به تمام الأجزاء والشرائط أم كان بعضهما.

ولا يخفى غرابة ذلك منه قدس‌سره لأن مضمون الرواية على ما هو ظاهرها ، أن الامام إذا لم يكن إمام عدل فلا يجعل المأموم صلاته تطوعاً كما كان يجعلها كذلك في الصورة الاولى ، بل يظهر للناس أنه جعلها تطوعاً بأن يصلي ركعة أُخرى ثم يتشهد من دون أن يسلم بعدها ، ويقوم بعد ذلك ويصلي صلاته بنفسه مظهراً للغير الائتمام والاقتداء بالإمام الحاضر بقدر يستطيعه من الإظهار والإبراز ، لأن التقيّة واسعة وهذا لا اختصاص له بالائتمام من أول الصلاة ، بل لو أظهر الائتمام في أثناء الصلاة أيضاً كان ذلك تقيّة ، كما أن لها طريقاً آخر غيرهما ، وما من شي‌ء من أنحاء التقيّة إلاّ وهو واجب أو جائز وصاحبه مأجور عليه ، وعلى ذلك لا دلالة للرواية على جواز الاكتفاء في الصلاة معهم بما يتمكن منه من الأجزاء والشرائط ، هذا.

على أن الرواية مضمرة وللمناقشة في سندها أيضاً مجال ، لأن مضمرها وهو سماعة ليس كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما من الأجلاء والفقهاء الذين لا يناسبهم السؤال عن غير أئمتهم عليهم‌السلام بل هو من الواقفة ومن الجائز أن يسأل غير أئمتنا عليهم‌السلام.

ولقد صرّح بما ذكرناه في معنى الرواية صاحب الوسائل قدس‌سره وعنون الباب باستحباب إظهار المتابعة حينئذٍ في أثناء الصلاة مع المخالف تقيّة فلاحظ (١). ولعل الشيخ قدس‌سره لم يلفت نظره الشريف إلى عنوان الباب في الوسائل.

ومنها : ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « ... وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شي‌ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة مما لا يؤدي إلى الفساد في‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٠٤.

٢٤٩

الدين فإنه جائز » (١) بدعوى أن جواز كل شي‌ء بحسبه ، فالرواية تعم الأشياء المحرمة النفسية لولا التقيّة وتجعلها جائزة نفسية ، كما تعم الأشياء المحرمة بالحرمة الغيرية فتقلبها إلى جواز الغيري لا محالة. إذن تدلنا الرواية على صحة الصلاة المقترنة بالتكتّف أو بغيره من الموانع ، لأنها جائزة جوازاً غيرياً بمقتضى التقيّة ، وكذا الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط.

ويرد عليه أوّلاً : أنها ضعيفة السند بمسعدة ، لعدم توثيقه في الرجال (٢).

وثانياً : أن الرواية لا دلالة لها على المدعى ، لأن الجواز فيما إذا أُسند إلى الفعل كان ظاهره الجواز النفسي فحسب ، أي كون الفعل بما هو وفي نفسه أمراً جائزاً ، لا أنه جائز لدخالته في الواجب وجوداً أو عدماً ، أو عدم دخالته فيه وهو المعبّر عنه بالجواز الغيري.

وثالثاً : أن ملاحظة صدر الرواية تدلنا على أن المراد بالجواز في الرواية إنما هو جواز نفس التقيّة لا جواز الفعل المتقى به ، فلا دلالة لها على جواز الفعل حتى يقال إنه أعم من الجواز النفسي والغيري ، وقد ورد في صدرها : « إن المؤمن إذا أظهر الايمان ثم ظهر منه ما يدل على نقضه خرج مما وصف وأظهر وكان له ناقضاً ، إلاّ أن يدعي أنه إنما عمل ذلك تقيّة ، ومع ذلك ينظر فيه فان كان ليس مما يمكن أن تكون التقيّة في مثله لم يقبل منه ذلك ، لأن للتقية مواضع مَن أزالها عن مواضعها لم تستقم له ، وتفسير ما يتقى مثل أن يكون ... » وهذا يدلنا على أنه عليه‌السلام بصدد بيان المواضع التي تستقيم فيها التقيّة وتجوز ، وأراد تمييز تلك الموارد عما لا يجوز التقيّة في مثله ، كما إذا شرب المسكر سرّاً وادّعى أنه كان مستنداً إلى التقيّة ، فلا دلالة للرواية على وجوب الإتيان بالعمل مقترناً بمانعه أو فاقداً لجزئه وشرطه.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٦ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٦.

(٢) قد قدمنا غير مرة أن الرجل وإن لم يوثق في الرجال إلاّ أنه ممن ورد في أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمي ، فعلى مسلك سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) من وثاقة كل من وقع في شي‌ء من الكتابين المذكورين ولم يضعّف بتضعيف معتبر ، لا بدّ من الحكم بوثاقة الرجل.

٢٥٠

فالمتحصل إلى هنا : أنه لا دلالة في شي‌ء من الأخبار المتقدمة على وجوب إتيان العمل فاقداً لشرطه أو لجزئه أو مقترناً بمانعه إذا استند إلى التقيّة حتى لا يجب إعادته أو قضاؤه.

ما يُستفاد من الأخبار الآمرة بالتقيّة :

إذن لا بدّ من عطف عنان الكلام إلى أنه هل يستفاد من الأخبار الآمرة بالتقية صحّة العمل لدى الإتيان به فاقداً لشي‌ء من أجزائه وشرائطه أو واجداً لشي‌ء من موانعه للتقيّة أو لا يستفاد منها ذلك؟ فنقول :

الصحيح أن يقال : إن الاضطرار إذا كان مستنداً إلى غير جهة التقيّة المصطلح عليها ، وهي التقيّة من العامة فيما يرجع إلى الأُمور الدينية ، فمقتضى القاعدة حينئذٍ سقوط الأمر بالمركب عند الاضطرار إلى ترك شي‌ء مما اعتبر في المأمور به ، لأن ذلك مقتضى إطلاق أدلة الجزئية والشرطية أو المانعية ، وهو يشمل كلا من صورتي التمكن من الإتيان بها وعدمه ، وبما أن المكلف غير متمكن من إتيان العمل واجداً لشرطه أو جزئه أو فاقداً لمانعه ، فلا محالة يسقط الأمر بالمركب رأساً في حقه فلا يجب عليه شي‌ء وقتئذٍ ، إلاّ في خصوص الصلاة فيما إذا لم يتمكن من شي‌ء من أجزائها وشرائطها في غير الطهور فإنه يجب فيها الإتيان بالمقدار الممكن من الصلاة لأنها لا تسقط بحال.

وأمّا إذا كان الاضطرار من جهة التقيّة المصطلح عليها ، فان كان العمل المتقى به مورداً للأمر به بالخصوص في شي‌ء من رواياتنا كما في غسل الرجلين والغسل منكوساً وترك القراءة في الصلاة خلفهم ونحو ذلك مما ورد فيه الأمر بالعمل بالخصوص ، فلا ينبغي الإشكال في صحته بل وإجزائه عن المأمور به الواقعي بحيث لا تجب عليه الإعادة ولا القضاء ، وذلك لأن الظاهر من الأمر بالإتيان بالعمل الفاقد لبعض الأُمور المعتبرة في المأمور به إنما هو جعل المصداق للطبيعة المأمور بها تقيّة ، ومع جعل الشارع شيئاً مصداقاً للمأمور به لا بدّ من الحكم بسقوط الأمر المتعلق بالطبيعة‌

٢٥١

لأن الإتيان بذلك الشي‌ء إتيان لما هو مصداق وفرد للطبيعة المأمور بها ، فيسقط به الأمر المتعلق بها لا محالة.

وأمّا إذا لم يكن العمل المتقى به مورداً للأمر بالخصوص ، فالتحقيق أن يفصّل حينئذٍ بين الأُمور التي يكثر الابتلاء بها لدى الناس ، أعني الأُمور عامة البلوى التي كانوا يأتون بها بمرأى من الأئمة عليهم‌السلام والأُمور التي لا يكون الابتلاء بها غالباً وبمرأى منهم عليهم‌السلام بل يندر الابتلاء به.

فان كان العمل من القسم الأوّل ، كما في التكتف في الصلاة وغسل الرجلين في الوضوء مع قطع النظر عن كونه مورداً للأمر به بالخصوص لكثرة الابتلاء به في كل يوم مرات متعددة ، فلا مناص فيه من الالتزام بالصحة والإجزاء ، أي عدم وجوب الإعادة أو القضاء ، لأن عدم ردعهم عما جرت به السيرة من إتيان العمل تقيّة أقوى دليل على صحته وكونه مجزياً في مقام الامتثال ، فلو لم تكن التقيّة مفيدة للإجزاء في مثله فلا بدّ من بيانه ، ونفس عدم بيان البطلان وترك التنبيه على عدم إجزائها مع كون العمل مورداً للابتلاء وبمرأى منهم عليهم‌السلام يدلنا على إمضائهم لما جرت به السيرة. ولم يرد في شي‌ء من رواياتنا أمر بإعادة العمل المتقى به أو قضائه ولو على نحو الاستحباب.

نعم ، عقد صاحب الوسائل قدس‌سره باباً وعنونه باستحباب إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده (١) إلاّ أن شيئاً مما نقله من الروايات غير مشتمل على الأمر بالإعادة أو القضاء فيما أتى به تقيّة ولو على وجه الاستحباب ، بل قد ورد في بعض الروايات ما لا تقبل المناقشة في دلالته على الإجزاء ، وهذا كما دلّ على أن « من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) أفيحتمل عدم كون الصلاة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجزئة عن المأمور به الأوّلى. وفي بعض آخر « إن المصلي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٠٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب الجماعة ب ٥ ح ١.

٢٥٢

سبيل الله » (١) وفي جملة من الروايات الأمر بالصلاة معهم في مساجدهم (٢) والحث على الصلاة في عشائرهم (٣) ، وفي بعضها الصلاة في عشائركم (٤) فليلاحظ.

وكيف كان ، فلم يرد في رواياتنا أمر بإعادة الصلاة أو الوضوء أو غيرهما من الأعمال المتقى بها من العامة على كثرة الابتلاء بها ، لكونهم معاشرين لهم في أسواقهم ومساجدهم وفي محلاتهم وأماكنهم حتى في بيت واحد ، إذ ربما كان الابن عاميا والأب على خلافه أو بالعكس ، أو أحد الأخوين شيعي والآخر عامي ، وكانوا يصلون أو يتوضئون بمرأى منهم ومشهد ، فالسيرة كانت جارية على التقيّة في تلك الأفعال كثيرة الدوران ، ومع عدم ردعهم عليهم‌السلام يثبت صحتها لا محالة.

نعم ، ورد في بعض الروايات الأمر بالصلاة قبل الإمام أو بعده إذا لم يكن مورداً للوثوق ، حيث نهى عليه‌السلام السائل عن الصلاة خلفه ولو بجعلها تطوّعاً ، لعدم جواز الصلاة خلف من لا يوثق به ، ثم أمره بالصلاة قبله أو بعده ، ولعلّه إلى ذلك أشار صاحب الوسائل قدس‌سره في عنوان الباب المتقدم نقله ، غير أن الرواية خارجة عمّا نحن بصدده ، لورودها في الصلاة خلف من لا يثق به ، وهو أعم من أن يكون عاميا أو شيعياً ، والرواية لم تشتمل على الأمر بالصلاة معه ثم إتيانها إعادة أو قضاء بعده.

وممّا يؤيد ما قدمناه ، ما فهمه زرارة في الصحيحة المتقدمة (٥) المشتملة على قوله عليه‌السلام « ثلاثة لا أتقي فيهنّ أحداً ... » (٦) حيث قال أعني زرارة ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهنّ أحداً ، وذلك لأن المسح على الخفين ليس من المحرّمات النفسية ليكون جريان التقيّة فيه موجباً لارتفاع حرمته ، بل إنما هو محرم‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب الجماعة ب ٥ ح ٧ ، ١ ، ٤ ، ٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٩٩ / أبواب الجماعة ب ٥ ح ٧ ، ١ ، ٤ ، ٨.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٩ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٦ ح ٢.

(٤) الوسائل ١٢ : ٨ / أبواب أحكام العشرة ب ١ ح ٨.

(٥) في ص ٢١٥.

(٦) الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٥.

٢٥٣

غيري ، فلو جازت التقيّة فيه أو وجبت لدل على ارتفاع المنع الغيري أعني المانعية في الوضوء ، وكون الوضوء المشتمل على مسح الخفين صحيحاً ، هذا كلّه في الصلاة والوضوء.

ومن هذا القبيل الصيام ، لأنه أيضاً من الأُمور العامة البلوى وقد كانوا يصومون معهم ويفطرون بما لا يراه العامة مفطراً في نهار شهر رمضان أو في اليوم الذي لا يرونه من شهر رمضان ، وذلك كله للتقية والمعاشرة معهم.

الوقوف بعرفات في اليوم الثامن :

ومن هذا القبيل الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام ، لأن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يحجون أغلب السنوات ، وكان أصحابهم ومتابعوهم أيضاً يحجون مع العامة في كل سنة ، وكان الحكم بيد المخالفين من بعد زمان الأمير عليه‌السلام إلى عصر الغيبة ، ولا يحتمل عاقل توافقهم معهم في هلال الشهر طوال تلك السنوات وتلك المدة التي كانت قريبة من مائتين سنة وعدم مخالفتهم معهم في ذلك أبداً ، بل نقطع قطعاً وجدانياً أنهم كانوا مخالفين معهم في أكثر السنوات ، ومع هذا كله لم ينقل ولم يسمع عن أحدهم عليهم‌السلام ردع الشيعة ومتابعيهم عن تبعيّة العامّة في الوقوف بعرفات وقتئذٍ ، وقد كانوا يتبعونهم بمرأى ومسمع منهم عليهم‌السلام بل كانوا بأنفسهم يتبعون العامة فيما يرونه من الوقوف.

وعلى الجملة قد جرت سيرة أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ومتابعيهم على التبعية في ذلك للعامّة في سنين متمادية ، ولم يثبت ردع منهم عليهم‌السلام عن ذلك ولا أمر التابعين للوقوف بعرفات يوم التاسع احتياطاً ، ولا أنهم تصدّوا بأنفسهم لذلك ، وهذا كاشف قطعي عن صحّة الحج المتقى به بتلك الكيفية وإجزائه عن الوظيفة الأوّلية في مقام الامتثال ، بلا فرق في ذلك بين كون الحج في سنة الاستطاعة وكونه في غير تلك السنة ، لوجوب الحج في كليهما وعدم كونه مطابقاً للوظيفة الأولية أيضاً في كليهما ، وقد عرفت أن السيرة قد جرت على التقيّة في ذلك كما جرت على الحج في سنة‌

٢٥٤

الاستطاعة كثيراً ، وهي سيرة قطعية ممضاة بعدم الردع عنها مع كونه بمرأى منهم عليهم‌السلام فلم يردعوهم عن ذلك ولا أمروهم بالوقوف يوم التاسع احتياطاً كما مرّ ، وفي مثل ذلك إذا لم يكن عملهم مجزئاً عن الوظيفة الواقعية لوجب التنبيه على ذلك وردعهم عما يرتكبونه حسب سيرتهم.

هذا كلّه فيما إذا لم يعلم المخالفة بالوجدان ، كما إذا علم علماً وجدانياً أن اليوم الذي تقف فيه العامّة بعرفات يوم الثامن دون التاسع ، وأما إذا حصل للمكلف علم وجداني بذلك ، فالظاهر عدم صحة الوقوف حينئذٍ ووجوب إعادة الحج في السنة المقبلة ، إلاّ فيما إذا أدرك وقوف اختياري المشعر ، بل وكذا فيما إذا أدرك وقوف اضطراري المشعر والوجه في ذلك هو أن الوقوف بعرفات مع العلم الوجداني بالخلاف ليس من الأُمور كثيرة الابتلاء ليقال إن الأئمة عليهم‌السلام مع جريان السيرة بذلك بمرأى منهم لم يردعوا عنه ولم يأمروهم بالوقوف يوم التاسع ، ليكون ذلك كاشفاً قطعياً عن كون عملهم مجزياً في مقام الامتثال ، بل إنما هو أمر نادر الاتفاق أو لعله أمر غير واقع وعدم الردع في مثله لا يكون دليلاً قطعياً على صحّة ذلك الوقوف وإجزائه في مقام الامتثال.

نعم ، يمكن الحكم بصحة الوقوف حتى مع العلم الوجداني بالمخالفة فيما إذا ثبت أمران :

أحدهما : كون حكم الحاكم المخالف نافذاً في حق الجميع وواجب الاتباع حسب مذهبهم حتى في حق العالم بالخلاف.

وثانيهما : أن يتم شي‌ء من الأدلة اللفظية المتقدمة المستدل بها على سقوط الجزئية والشرطية والمانعية عند التقيّة ، فإنه بعد ثبوت هذين الأمرين يمكن الحكم بصحة الوقوف مع العلم بالخلاف ، لأنه من موارد التقيّة من العامة على الفرض من أن حكم الحاكم نافذ عندهم حتى بالنسبة إلى العالم بالخلاف ، كما أن كل عمل أتى به تقيّة مجزي في مقام الامتثال على ما دلّت عليه الأدلّة اللفظية المتقدمة ، فإن الفرض تماميتها.

٢٥٥

إلاّ أن الأمرين ممنوعان : أما الأمر الأول ، فلعدم ثبوت أن حكم الحاكم عندهم نافذ حتى في حق العالم بالخلاف. وأما الأمر الثاني فلما عرفت تفصيله.

وكيف كان ، لا دليل على صحّة الحج والوقوف مع العلم الوجداني بالخلاف ، هذا كلّه فيما إذا كان العمل المأتي به تقيّة كثير الابتلاء وبمرأى من الأئمة عليهم‌السلام.

وأمّا إذا لم يكن العمل من هذا القبيل ، بل كان نادراً وغير محل الابتلاء ، فلا دليل في مثله على كون العمل الفاقد لشي‌ء من الاجزاء والشرائط أو الواجد للمانع صحيحاً مجزياً في مقام الامتثال ، فان الدليل على ذلك ينحصر بالسيرة ولا سيره في أمثال ذلك على الفرض.

ومن هذا القبيل الوضوء بالنبيذ ولا سيما النبيذ المسكر على ما ينسب إلى بعض المخالفين من تجويزه التوضؤ بالنبيذ ، فإنه إذا توضأ بالنبيذ تقيّة فهو وإن كان جائزاً أو واجباً على الخلاف ، إلاّ أنه لا يجزئ عن المأمور به الأوّلي بوجه ، لأن التوضؤ بالنبيذ أمر نادر التحقّق ولم يتحقّق سيره في مثله حتى يقال إن الأئمة عليهم‌السلام لم يردعوا عنها مع كون العمل بمرأى منهم عليهم‌السلام وهذا بخلاف ما إذا تمّت الأدلّة اللفظية المتقدمة المستدل بها على سقوط الجزئية والشرطية والمانعية عند التقيّة ، لأن مقتضاها صحّة الوضوء في الصورة المفروضة كما هو واضح.

ومن هذا القبيل المسح على الخفّين ، وذلك لندرة الابتلاء به في مقام التقيّة ، حيث إن العامّة غير قائلين بوجوبه تعييناً ، وعليه فان قلنا بتمامية رواية أبي الورد المتقدمة (١) المشتملة على الترخيص في المسح على الخفّين فيما إذا كان مستنداً إلى التقيّة ، فلا مناص من الحكم بصحّته وكونه مجزياً في مقام الامتثال ، لعدم كون المسح على الخفّين من المحرّمات النفسية ، وإنما هو من المحرّمات الغيرية ، فالترخيص في مثله بمعنى رفع المانعية لا محالة.

وأمّا إذا لم نعتمد على الرواية ، لعدم توثيق أبي الورد ولا مدحه للوجوه المتقدمة‌

__________________

(١) في ص ٢٠٢.

٢٥٦

سابقاً (١) ، فلا يمكننا الحكم بصحته وإجزائه ، إذ لا سيرة عملية حتى يدعي أنها كاشفة عن الصحّة والإجزاء لعدم ردعهم عليهم‌السلام عن ذلك مع كونه بمرأى منهم.

وأمّا قضية ما فهمه زرارة من الصحيحة المتقدِّمة (٢) وهو الذي جعلناه مؤيداً للمدّعى ففهمه إنما يتبع بالإضافة إلى كبرى المسألة ، أعني التقيّة في المحرّمات الغيرية ، وأما خصوص مورد الصحيحة ، أعني المسح على الخفين فلا ، لما مرّ من أن العامة على ما وقفنا على أقوالهم غير ملتزمين بوجوبه التعييني كما تقدم ، هذا بل نفس إطلاق الروايات الآمرة بغسل الرجلين المحمولة على التقيّة يقتضي الحكم ببطلان المسح على الرجلين وعدم كونه مجزياً ، لأن مقتضى إطلاقها أن غسل الرجلين واجب تعييني مطلقاً ولو في حال التقيّة ولا يجزئ عنه أمر آخر ، أي أنه ليس بواجب تخييري ليتخيّر المكلف بينه وبين المسح على الخفين ، فلو اقتضت التقيّة المسح على الخفين في مورد على وجه الندرة فهو لا يكون مجزئاً عن المأمور به الأوّلي.

ومن هذا القبيل الوقوف بعرفات يوم الثامن مع العلم بالمخالفة ، لأنه أمر يندر الابتلاء به ، ومع الندرة لا مجال لدعوى السيرة ولا لكشفها عن الإجزاء في مقام الامتثال ، لأجل عدم ردع الأئمة عليهم‌السلام عنها ، اللهمّ إلاّ أن يتم شي‌ء من الأدلة اللفظية على التفصيل المتقدم آنفاً.

الجهة الرابعة : في مَن يتّقى منه : لا ينبغي التردد في أن التقيّة المحكومة بالوجوب أو الجواز لا يختص بالعامة على وجه الخصوص ، بل تعم كل ظالم وجائر إذا خيف ضرره وهو مورد للتقية الواجبة أو الجائزة ، ويدلنا على ذلك مضافاً إلى العمومات (٣)

__________________

(١) في ص ٢٠٢.

(٢) في ص ٢١٥.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥.

٢٥٧

وإلى حديث رفع الاضطرار (١) ما دلّ على أنه ما من محرم إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه (٢) وحديث لا ضرر ولا ضرار (٣) وموثقة أبي بصير قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام التقيّة من دين الله؟ قلت من دين الله؟ قال : إي والله من دين الله ولقد قال يوسف ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) والله ما كانوا سرقوا شيئاً ، ولقد قال إبراهيم ( إِنِّي سَقِيمٌ ) والله ما كان سقيماً » (٤) حيث إن تطبيقه عليه‌السلام التقيّة التي هي من دين الله على قولي يوسف وإبراهيم عليهما‌السلام دليل قطعي على أن التقيّة التي هي من دين الله سبحانه غير مختصة بالعامة ، بل كل أحد خيف من ضرره وجبت عنه التقيّة أو جازت. وما رواه محمد بن مروان قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام ما منع ميثم رحمه‌الله من التقيّة؟ فو الله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه : ( إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) » (٥) وغير ذلك من الأخبار.

وإنما الكلام في الأحكام الوضعية المترتبة على التقيّة كالحكم بصحة العمل مع التقيّة وإجزائها ، فهل الصحة والإجزاء يترتبان على كل تقيّة أو يختصان بالتقية من العامة بالخصوص؟

والصحيح أن يقال : إنه إن تمّ هناك شي‌ء من الأدلة اللفظية المستدل بها على سقوط التكاليف الغيرية عند التقيّة ، فلا مناص من الحكم بالصحة والإجزاء في جميع موارد التقيّة ولو كانت من غير العامة ، بمقتضى عموم الأدلة المذكورة كقوله عليه‌السلام « التقيّة في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله » (٦).

وقد ادّعى شيخنا الأنصاري قدس‌سره أن الحلية أعم من الحلية النفسية‌

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١ ، ٣.

(٢) الوسائل ٢٣ : ٢٢٨ / أبواب الأيمان ب ١٢ ح ١٨.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٩٩ / أبواب الشفعة ب ٥ ح ١ ، ٤٢٠ / أبواب إحياء الموات ب ٧ ، ح ٢.

(٤) الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٤.

(٥) الوسائل ١٦ : ٢٢٦ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٣.

(٦) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢.

٢٥٨

والحلية الغيرية (١) ، وأما إذا لم يتم شي‌ء من تلك الأدلة وانحصر دليل صحة التقيّة والإجزاء بالسيرة كما هو الحق ، فالظاهر اختصاص الحكمين بخصوص التقيّة من العامّة ، لأنها التي تحققت فيها السيرة ولم يردع عنها الأئمة عليهم‌السلام ولا علم لنا بتحقق السيرة في غيرها.

كما أنه بناء على ما ذكرناه لا يجرى الحكم بالصحة والإجزاء في التقيّة من جميع العامة ، بل يختص بالتقية من العامة المعروفين القائلين بخلافة الخلفاء الأربعة ، وأما التقيّة من الخوارج الملتزمين بخلافة الخليفتين الأولين فهي خارجة عن الحكم بالصحة والإجزاء ، وذلك لعدم كثرة الابتلاء بالتقية منهم في تلك الأزمنة حتى نستكشف من عدم ردعهم عليهم‌السلام صحة العمل المأتي به تقيّة وإجزائه عن المأمور به الواقعي. هذا على أن التقيّة من النواصب داخلة في التقيّة من غير العامة من الكفّار ، لأن النواصب محكومة بالكفر.

ثم إن التقيّة مختصة بالأحكام ، وأما التقيّة من العامة المعروفين الذين هم محل الابتلاء كثيراً في الموضوعات الخارجية ، كما إذا اعتقد عامي أن ثوباً من الحرير وكانت الصلاة واجبة في الثوب الحرير في مذهبهم ، فإن التقيّة حينئذٍ في لبس الثوب الذي يعتقده العامي حريراً تقيّة في الموضوع الخارجي قد اشتبه أمره على العامي وغير راجعة إلى التقيّة في الأحكام ، ولم يتحقق في مثلها سيرة من المتدينين على التبعية حتى يحكم بصحة التقيّة وإجزائها.

نعم ، بناء على تمامية الأدلة اللفظية المتقدمة فمقتضى عمومها وإطلاقها عدم الفرق في صحة التقيّة وإجزائها بين التقيّة في الأحكام والتقيّة في الموضوعات.

والظاهر عدم التزام الفقهاء قدس‌سرهم بصحة التبعية في الموضوعات ، وهذا من أحد المفاسد المترتبة على القول بسقوط الجزئية والشرطية والمانعية في موارد التقيّة اعتماداً على الأدلة اللفظية المتقدمة.

__________________

(١) رسالة في التقيّة : ٣٢٣ السطر ١٥.

٢٥٩

تنبيه : ما قدمناه من أن العمل المأتي به تقيّة إذا كان مما يبتلي به غالباً وهو بمرأى من الأئمة عليهم‌السلام فسكوتهم وعدم ردعهم عن ذلك العمل وعدم تعرضهم لوجوب إعادته أو قضائه يكشف كشفاً قطعياً عن صحته وإجزائه عن الإعادة والقضاء وسقوط المأمور به الأوّلي بسببه وارتفاع جميع آثاره ، إنما يختص بما إذا كانت الآثار المترتبة عليه من الآثار التي تترتب على فعل المكلف بما هو فعله ، كما في غسل اليد منكوساً أو غسل رجليه أو التكتف في الصلاة إلى غير ذلك من الأفعال المترتبة عليها آثارها ، فإن أمثالها إذا استندت إلى التقيّة ارتفعت عنها آثارها كما عرفت.

وأما إذا لم تكن الآثار المترتبة عليه من آثار فعل المكلف ، فالتقية في مثله لا يرفع عنه آثارها بوجه ، سواء استندنا في الحكم بصحة العمل المتقى به وإجزائه إلى السيرة العملية أم إلى الأدلّة اللفظية كقوله عليه‌السلام « ما صنعتم من شي‌ء ... » (١) لاختصاصها بما إذا أتى المكلّف بعمل وصنع صنعاً يترتب عليه آثاره ، وعليه فلو فرضنا أنه غسل ثوبه المتنجس مرة فيما يجب غسله مرتين تقيّة أو غسله من دون تعفير فيما يجب تعفيره أو من غير إزالة عين النجس ، لعدم كونه نجساً عندهم كما في المني على ما ينسب إلى بعضهم ، لم يحكم بذلك على ارتفاع نجاسة الثوب أو الإناء ، ولا بسقوط اعتبار الغسل مرة ثانية أو التعفير أو غير ذلك مما يعتبر في التطهير واقعاً وذلك لأن النجاسة ووجوب الغسل مرتين أو مع التعفير أو غيرهما ليست من الآثار المترتبة على فعل المكلّف بما هو فعله ، وإنما هي من الآثار المترتبة على ملاقاة النجس وهي ليست من أفعال المكلّفين. نعم لو صلّى في ذلك الثوب تقيّة أو اضطراراً حكمنا بصحّتها.

وهذا نظير ما قدمناه في محله عند التعرض لحديث الرفع من أن الاضطرار والإكراه إنما يوجبان ارتفاع الآثار المترتبة على الفعل المكره عليه أو المضطر إليه ، ولا يرتفع بهما الآثار المترتبة على أمر آخر غير الفعل ، كما إذا اضطر إلى تنجيس شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٤ / أبواب كتاب الأيمان ب ١٢ ح ٢.

٢٦٠