موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

المأتي به والمأمور به واختلافهما بحسب اختلاف القصود ، فان القصد هو المناط في التمايز بين مثل الظهرين وصلاتي الفجر ونافلتها وصلاة الأداء والقضاء ، على ما استفدناه من الروايات من أنها حقوق مختلفة باختلاف القصود ، وليست طبيعة واحدة ، فقد دلّتنا صحيحة عبيد بن زرارة « إلاّ أن هذه قبل هذه » (١) على مغايرة صلاتي العصر والظهر ، حيث أشار بكل من كلمتي « هذه » إلى إحدى الصلاتين ، ولو لا مغايرتهما لم يكن معنى لقوله : هذه وهذه ، لأنهما وقتئذٍ شي‌ء واحد مركّب من ثمان ركعات وبحسب الطبع يكون إحدى الأربعة منها سابقة على الأُخرى من دون حاجة في ذلك إلى البيان والتنبيه.

وأيضاً يدلّنا على ذلك ما ورد في العدول من الفريضة إلى النافلة ومن الحاضرة إلى الفائتة ، ومن اللاّحقة إلى السابقة.

كما يمكن الاستدلال على التغاير في الأغسال بما دلّ على أنها حقوق متعدِّدة ، حيث قال عليه‌السلام « فاذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (٢) ومع التغاير بحسب الطبيعة كيف يعقل الحكم بصحة المأتي به في محل الكلام ، لأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، وإن كان لو علم بالحال لأتى بما هو المأمور به في حقه وترك ما بيده ، غير أنّ كونه كذلك لا يقتضي الحكم بصحة عمله بعد عدم انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، اللهمّ إلاّ أن يقصد الفريضة الواقعية بحسب الواقع ، كما إذا أتى بها بقصد ما هو فريضة الوقت غير أنه أخطأ وطبّقها على صلاتي الظهر والعصر فإنها حينئذٍ تقع صحيحة ، لأن الواجب الواقعي مقصود وقتئذٍ إجمالاً وهو يكفي في الحكم بصحة العمل وإن أخطأ في تطبيقه.

وما سردناه هو الميزان الكلي في باب الامتثال ولا معنى فيه للداعي والتقييد ، فإن المأمور به إذا كان بحيث ينطبق على المأتي به في الخارج ، فلا مناص معه من الحكم‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢٦ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٥ ، ٢١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

٢١

بالصحّة ولا موجب للحكم بالبطلان ، وإذا لم ينطبق على المأتي به لكونهما طبيعتين متغايرتين فلا مناص من الحكم بالبطلان ، هذا كله بحسب كبرى المسألة.

وأمّا تطبيقها على المقام ، فالمكلف إذا توضأ بنية التجديد ثم ظهر أنه كان محدثاً بالأصغر واقعاً ، أو توضأ بنية رفع الكراهة عن الأكل أو الجماع لاعتقاده بجنابته ثم ظهر أنه كان محدثاً بالأصغر ، فقد عرفت أنه لا يأتي فيه احتمال التقييد والداعي بوجه فان باب الامتثال أجنبي عن ذلك بالكلية ، بل المدار فيه على ملاحظة أن المأتي به هل يتحد مع ما هو المأمور به في حق المكلف وينطبق عليه أو لا.

إذن لا بدّ من النظر إلى أن الوضوء التجديدي هل يتغاير مع الوضوء الرافع للحدث حقيقة ، وأن كلاًّ منهما طبيعة مغايرة مع الأُخرى حتى يحكم بفساد وضوئه لعدم انطباق المأمور به على المأتي به ، أو أنهما متحدان ولا تغاير بينهما وحينئذٍ يحكم بصحّته؟

الثاني هو الأظهر ، لعدم الفرق في الوضوء بين المتجدد منه وغيره إلاّ في الأولية والثانوية ، والتقديم والتأخير ، وذلك لوضوح أن حقيقة الوضوء إنما هي الغسلتان والمسحتان مع إتيانهما بنية صالحة ، ولا يعتبر في حقيقته شي‌ء زائد عليه ، وارتفاع الحدث به حكم شرعي مترتب عليه ، لا أنه من مقوّماته وأركانه ، إذن فالمتجدد متحد مع غيره وينطبق عليه الطبيعة المأمور بها وإن قصد به التجديد ، لأن التجديد كغير التجديد ، هذا كله في الوضوء المتجدد.

وأما الوضوء بنية رفع الكراهة ممن هو محدث بالحدث الأكبر ، فقد حكى المحقِّق الهمداني قدس‌سره عن صاحب الحدائق أن إطلاق الوضوء على الوضوء المجامع للحدث الأكبر أعني الوضوء الذي أتى به المكلف بنية رفع الكراهة مثلاً وهو محدث بالحدث الأكبر إنما هو من باب المجاز ، لأنه لا يرفع الحدث فلا يكون بوضوء حقيقة ، وهو نظير إطلاق الصلاة على صلاة الميت. إذن فهو طبيعة مغايرة للوضوء الصادر من المحدث بالأصغر (١).

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١١٥ السطر ٤.

٢٢

وهذه الدعوى على تقدير صحتها تقتضي الحكم ببطلان الوضوء فيما إذا قصد به رفع الكراهة مثلاً ، لعدم انطباق المأمور به على المأتي به حينئذٍ ، واختلافهما بحسب الحقيقة ، ومعه لا بدّ من الحكم بالبطلان.

ولكن هذه الدعوى مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن الوضوء ليس إلاّ مسحتان وغسلتان مع الإتيان بهما بنية صالحة ، وهما متحققان في الوضوء الصادر من المحدث بالحدث الأكبر أيضاً ، وأما ارتفاع الحدث به وعدمه فقد عرفت أنه حكم شرعي طارئ عليه ، لا أنه من مقومات الوضوء ، ومعه كيف يقاس ذلك بصلاة الميت التي لا يعتبر فيها شي‌ء من الركوع والسجود وغيرهما مما يعتبر في الصلاة ، وقد استفدنا من الروايات أنهما من مقومات الصلاة.

لا يقال : إنّ مجرّد الشك في أن الوضوء من المحدث بالأكبر متّحد مع الوضوء الصادر من غيره حقيقة أو أنهما طبيعتان متعددتان ، كاف في الحكم بالبطلان وعدم جواز الاقتصار عليه.

لأنّه يقال : إنّ مجرّد الشك في ذلك وإن كان يكفي في ذلك ، إلاّ أنّ إطلاق أدلّته ، أعني ما دلّ على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان مع النية الصالحة لا تبقي مجالاً للشك في أنهما متحدتان بحسب الطبيعة أو متغايرتان.

وعلى الجملة : إن الوضوء حقيقة واحدة سواء أصدر من المحدث بالأكبر أم من المحدث بالأصغر ، فإذا كانت الطبيعة متحدة تنطبق المأمور به على المأتي به ، وبذلك يحكم بصحة الوضوء وارتفاع الحدث بكل من الوضوء المتجدِّد والوضوء المأتي به بنيّة رفع الكراهة مثلاً فيما إذا ظهر أنه محدث بالحدث الأصغر واقعاً ، وإن كان الحكم بالارتفاع في الوضوء التجديدي أظهر من ارتفاعه في الوضوء المأتي به بنيّة رفع الكراهة.

٢٣

[٤٨٨] مسألة ٤ : لا يجب في الوضوء قصد موجبه ، بأن يقصد الوضوء لأجل خروج البول ، أو لأجل النوم ، بل لو قصد أحد الموجبات وتبين أن الواقع غيره صحّ (١) ، إلاّ أن يكون على وجه التقييد (*) (٢).

[٤٨٩] مسألة ٥ : يكفي الوضوء الواحد للأحداث المتعدِّدة إذا قصد رفع طبيعة الحدث ، بل لو قصد رفع أحدها صح وارتفع الجميع ، إلاّ إذا قصد رفع عدم اعتبار قصد الموجب :

______________________________________________________

(١) وذلك لما تقدم من أن الوضوء هو الغسلتان والمسحتان مع الإتيان بهما بنيّة صالحة ، وهذا هو الذي يترتب عليه الحكم بارتفاع الحدث أو إباحة الدخول في الغايات المترتبة عليه ، ولا اعتبار بقصد كونه رافعاً لحدث النوم أو البول أو غيرهما.

(٢) وهذا منه قدس‌سره إما بمعنى الجزم بالبطلان عند الإتيان به على وجه التقييد ، وإما بمعنى عدم الحكم فيه بصحة الوضوء للاستشكال فيه ، والاحتمال الثاني أظهر لمطابقته لاستشكاله قدس‌سره في المسألة المتقدمة.

وكيف كان فقد عرفت أن في أمثال المقام أعني باب الامتثال لا سبيل إلى التقييد بل المناط فيه إنما هو انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، وعدم مدخلية شي‌ء من القيود المقصودة في صحته ، وبما أن الوضوء هو الغسلتان والمسحتان مع إضافتهما إلى الله سبحانه نحو إضافة ، فلا محالة ينطبق على الوضوء المأتي به بنية رفع الحدث البولي دون النومي مثلاً ، وأما قصد كونه رافعاً للحدث من جهة دون جهة فهو مما لا مدخلية له في صحة الوضوء ، لما مرّ من أن ارتفاع الحدث به وعدمه حكم شرعي طرأ على الوضوء ، وليس أمراً راجعاً إلى المكلف ليقصده أو لا يقصده ، فان ما هو تحت قدرته واختياره إنما هو الإتيان بالغسلتين والمسحتين بنية صالحة ، والمفروض تحقّقه في المقام ، ومع انطباق المأمور به على المأتي به لا موجب للتوقّف في الحكم بصحّته.

__________________

(*) لا أثر للتقييد في أمثال المقام.

٢٤

البعض دون البعض فإنّه يبطل (*) ، لأنّه يرجع إلى قصد عدم الرفع (١).

[٤٩٠] مسألة ٦ : إذا كان للوضوء الواجب غايات متعدِّدة فقصد الجميع حصل امتثال الجميع وأُثيب عليها كلها ، وإن قصد البعض حصل الامتثال بالنسبة إليه ويثاب عليه ، لكن يصح بالنسبة إلى الجميع ، ويكون أداء بالنسبة إلى ما لم يقصد ، وكذا إذا كان للوضوء المستحب غايات عديدة.

وإذا اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبة أيضاً يجوز قصد الكل ويثاب عليها ، وقصد البعض دون البعض ، ولو كان ما قصده هو الغاية المندوبة ، ويصح معه إتيان جميع الغايات ، ولا يضر في ذلك كون الوضوء عملاً واحداً لا يتصف (٢)

______________________________________________________

كفاية الوضوء الواحد للأحداث المتعددة :

(١) ولنفرض الكلام فيما إذا حدثت الأحداث المتعددة في زمان واحد من دون تقدّم شي‌ء منها على الآخر بحسب الزمان ، كما إذا بال وتغوّط معاً ، وقد ظهر حكم هذه المسألة مما سردناه في الفروع المتقدمة ، وذكرنا غير مرة أن ارتفاع الحدث حكم شرعي قد طرأ على الوضوء وغير راجع إلى اختيار المكلف أبداً ، إذن فلا أثر لقصد المكلف الرفع من جهة دون جهة ، لأنه إذا أتى بطبيعة التوضؤ قاصداً بها ربّه فقد ارتفعت الأحداث بأجمعها بذلك ، اللهمّ إلاّ أن يُشرّع في امتثاله تشريعاً بأن يقصد امتثال الأمر بالوضوء الرافع للحدث البولي دون النومي وهو تشريع محرم ، لوضوح أنه ليس لنا أمر شرعي مختص بالوضوء الرافع لبعض الأحداث دون بعض ، وهذا فرض خارج عن محل الكلام.

تعدّد غايات الوضوء :

(٢) قد تكون الغايات واجبة كلها ، وقد تكون مستحبة كذلك ، ففي هاتين الصورتين لا إشكال في أن المكلف إذا أتى به بغاية واجبة أو مستحبة ترتبت عليه‌

__________________

(*) لا تبعد صحته ولغوية القصد المزبور.

٢٥

بالوجوب والاستحباب معاً ، ومع وجود الغاية الواجبة لا يكون إلاّ واجباً ، لأنه على فرض صحّته لا ينافي جواز قصد الأمر الندبي ، وإن كان متصفاً بالوجوب فالوجوب الوصفي لا ينافي الندب الغائي ، لكن التحقيق صحّة اتصافه (*) فعلاً بالوجوب والاستحباب من جهتين.

______________________________________________________

الغايات الواجبة أو المستحبة كلها ، إلاّ أنه لا يقع امتثالاً إلاّ لخصوص الغاية الواجبة التي أتى به لأجلها ، أعني الغاية المقصودة له ، وأما غيرها من الغايات غير المقصودة له فلا تقع امتثالاً لها ، لعدم قصدها على الفرض ، وإن كانت تقع صحيحة لتحقق ما هو مقدّمتها على الفرض.

وكذلك الحال في الغايات المستحبة ، لأنه إنما يثاب بخصوص الغاية المندوبة التي قصدها دون غيرها لعدم قصد امتثالها ، وإن كانت كالواجبة تترتب عليه لا محالة لحصول ما هو مقدمتها كما مر.

وثالثة تختلف الغايات المقصودة من الوضوء المأتي به ، فيكون بعضها من الغايات الواجبة المستحبة وذلك كالوضوء بعد الفجر ، حيث إن له غايتان : إحداهما : نافلة الفجر المستحبة. وثانيتهما : صلاة الفجر الواجبة ، وفي هذه الصورة قد يأتي به المكلف بقصد كلتا الغايتين ، ولا إشكال في صحته وقتئذٍ ، ويجوز له الدخول في كل من الغايتين المذكورتين ، لاندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ، وقد يأتي به بقصد الغاية الواجبة ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في صحته وجواز دخوله في كلتا الغايتين.

أمّا دخوله في الغاية الواجبة فالوجه فيه ظاهر ، وأمّا دخوله في المستحبة ، فلأجل حصول ما هو مقدّمتها في نفسها ، وإنما الخلاف والنزاع فيما إذا أتى به بقصد الغاية المستحبة فهل يحكم حينئذٍ بصحة وضوئه ، ويسوغ له الدخول في كلتا الغايتين‌

__________________

(*) بل التحقيق انّ المقدمة لا تتصف بشي‌ءٍ من الوجوب أو الاستحباب الغيري ، وأنّ عبادية الوضوء انما هي لاستحبابه في نفسه ، ولو سلّم ، فالأمر الاستحبابي يندك في الوجوبي فيمكن التقرّب به بذاته لا بحدّه.

٢٦

المترتبتين عليه ، أو لا بدّ من الحكم بالبطلان ، ولا يترتب عليه شي‌ء من غايتيه؟

يبتني الإشكال في صحّة الوضوء حينئذٍ على استحالة اجتماع الوجوب والاستحباب في شي‌ء واحد ، لأنهما ضدّان لا يجتمعان في محل واحد ، ومع فرض أن الوضوء مقدمة للغاية الواجبة يتصف لا محالة بالوجوب ، وبعد ذلك يستحيل أن يتصف بالاستحباب ، وبما أنه قد قصد به الغاية المستحبة له فيحكم على الوضوء بالفساد ، لأن ما قصده من الأمر الاستحبابي لم يقع ، والأمر الوجوبي الذي اتصف به الوضوء لم يقصد ، فلا مناص من الحكم بالفساد كما مر.

ثم إن الاستشكال في المسألة بما تقدم تقريبه يبتني على القول بوجوب مقدمة الواجب شرعاً ، وأما إذا أنكرنا ذلك وقلنا بأنه لا دليل على وجوب مقدمة الواجب شرعاً على ما قوّيناه في محلِّه (١) فلا إشكال في المسألة بوجه ، وذلك لأن وجوب المقدمة عقلاً ، أعني اللاّبدية العقلية غير منافٍ للحكم باستحباب المقدمة فعلاً ، فيقال إنها لما كانت مقدمة للغاية المستحبة فلا محالة تكون مستحبة فعلاً من غير أن يكون ذلك منافياً لشي‌ء.

كما أنه يبتني على القول بوجوب المقدمة مطلقاً ، وأما بناءً على أن الواجب من المقدمة هي التي يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة ، كما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) وقوّاه شيخنا المحقِّق قدس‌سره (٣) فلا محالة يرتفع الإشكال في المسألة ، نظراً إلى أن المفروض عدم قصد المتوضي التوصل به إلى الواجب ، وحيث إن الواجب من المقدمة ليس هو الطبيعي على إطلاقه ، بل إنما هو حصة خاصة منه ، وهي المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب فلا يتصف الوضوء بالوجوب في المقام ، ومعه لا مانع من الحكم باستحبابها فعلاً.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بوجوب المقدمة على نحو الإطلاق ، فإنه حينئذٍ يمكن أن‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

(٢) مطارح الأنظار : ٧٢ السطر ٨.

(٣) نهاية الدراية ٢ : ١٣٣.

٢٧

يقال : إن الوضوء الذي له غايتان إحداهما واجبة والأُخرى مستحبة إذا أتى به بقصد الغاية المستحبّة وقع فاسداً ، وذلك لأن الاستحباب إنما نشأ عن عدم المقتضي للوجوب ولا ينشأ من المقتضي لعدم الوجوب ، فان الاستحباب إنما ينشأ عن الملاك غير البالغ حد الإلزام ، أعني عدم كون الملاك ملزماً ، ولا ينشأ عن الملاك الملزم لعدم الوجوب ، إذن فهو لا يقتضي عدم الوجوب ، وأما الوجوب فهو مقتض لعدم الاستحباب لنشوه عن الملاك الملزم للوجوب وهو يمنع عن تركه ، ومعه لا يبقى أيّ نزاع في البين ، لوضوح أنه لا تنافي بين المقتضي واللاّمقتضي ، فاذا تحقق الوجوب ارتفع الاستحباب لا محالة.

وعلى الجملة : الوضوء إذا كان مقدمة للواجب اتصف بالوجوب لا محالة ، وهذا يمنع عن اتصافه بالاستحباب ، ويصح معه أن يقال : إن ما قصده من الاستحباب لم يقع ، وما وقع من الأمر الوجوبي لم يقصد ، فلا بدّ من الحكم بالفساد.

والجواب عن ذلك : أن المكلف قد يأتي بالوضوء قاصداً به الغاية المستحبة من دون أن يقصد الأمر الندبي المتعلق بالوضوء ، وهذا مما لا إشكال في صحّته ، بل هو خارج عن محل الكلام ، لوضوح أن قصد الغاية المندوبة غير مناف لوجوب الوضوء فان للمكلف أن يأتي بالوضوء الواجب بداعي الوصول به إلى تلك الغاية المندوبة كنافلة الفجر فإنها مستحبة سواء أكان الوضوء أيضاً مستحباً أم لم يكن ، فلا ينافي الوجوب الوصفي في الوضوء للندب الغائي بوجه كما أشار إليه الماتن قدس‌سره وما أفاده في المتانة بمكان ، فان المكلف حينئذٍ قد أتى بالغسلتين والمسحتين متقرباً بهما إلى الله سبحانه ، فلا مناص معه من أن يحكم بصحته ، كما أنه يصح أن يؤتى به الغاية الواجبة المترتبة عليه أيضاً لتحقق الطهارة التي هي المقدمة للصلاة الواجبة.

وأُخرى يأتي بالوضوء ويقصد به الأمر الندبي المتعلق به دون الغاية المندوبة المترتبة عليه ، وهذا هو الذي وقع الكلام في صحته وفساده ، بدعوى أن مع الوجوب المقدمي الغيري شرعاً لا يعقل ان يتصف الوضوء بالاستحباب.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بأنه لا مانع من اجتماع الحكمين ، أعني الوجوب والاستحباب في مورد واحد بعنوانين ، لجواز اجتماع الأمر والنهي إذا كان‌

٢٨

المجمع معنوناً بعنوانين وجهتين ، فإذا أمكن اجتماع الحرمة والوجوب في محل واحد أمكن اجتماع الوجوب والاستحباب أيضاً إذا كان بعنوانين متعددين ، والأمر في المقام كذلك ، فيقال باستحباب الوضوء بعنوان أنه مقدمة للمستحب كما يحكم بوجوبه من حيث إنه مقدمة للواجب ، هذا.

وما أجاب به قدس‌سره عن الاشكال ساقط رأساً ، وذلك لأن اجتماع الأمر والنهي وإن كان ممكناً على ما حقّقناه في محلِّه (١) غير أنه إنما يجوز فيما إذا كان التركّب انضمامياً والجهتان تقييديتين ، والعنوانان في المقام ليسا كذلك ، بل إنما هما تعليليان والحكمان واردان على مورد واحد حقيقي بعلتين إحداهما : كون الوضوء مقدّمة للمستحب. وثانيتهما : كونه مقدّمة للواجب ، ومعه لا يمكن الحكم بجواز الاجتماع ونظيره ما إذا أوجب المولى إكرام العالم وحرّم إكرام الفساق ، وانطبق العنوانان على زيد العالم الفاسق في الخارج ، فإنه يستحيل أن يتصف إكرامه بالحرمة والوجوب لفرض أنه موجود شخصي لا تعدّد فيه ، فلا مناص إما أن يحكم بحرمة إكرامه ، وإما بوجوبه ، والجهتان التعليليتان غير مفيدتين لجواز الاجتماع ، فهذا الجواب ساقط.

والصحيح في الجواب عن الاشكال بناء على القول بوجوب المقدمة مطلقاً أن يقال : إنّ الوجوب إنما ينافي الاستحباب بحده وهو الترخيص في الترك ، لما قدّمناه في محلِّه (٢) من أن الاستحباب إنما ينتزع عن الأمر المتعلق بشي‌ء فيما إذا قامت قرينة على الترخيص في الترك ، ومن الواضح أن الوجوب لا يجتمع مع الترخيص في الترك ، وأما ذات الاستحباب أعني المحبوبية والطلب فهي غير منافية للوجوب أبداً ، لجواز اجتماع الوجوب مع المحبوبية فيندك ذات الاستحباب في ضمن الوجوب ، ومن الظاهر أن المقرب إنما هو ذات الاستحباب دون حده ، كما أن الداعي إلى إتيانه هو ذلك دون الحد ، لوضوح أنه يأتي به لمحبوبيته لا لكونه مرخصاً في الترك ، وهذا هو المراد باندكاك الاستحباب في الوجوب ، ولا يراد به اندكاك الاستحباب بحده في الوجوب‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٥٧.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣١.

٢٩

لضرورة أنه بحده مباين للوجوب ، بل المراد هو اندكاك ذات الاستحباب في الوجوب ، وعليه فلا مانع من أن يكون الوضوء واجباً بالفعل ومستحباً أيضاً ، أي محبوباً وذا ملاك للطلب.

هذا كلّه إذا لم نقل باختصاص الوجوب الغيري المقدمي بالمقدمة الموصلة ، وهي التي يقع في سلسلة علة الفعل والواجب ، وقلنا بوجوب المقدمة على نحو الإطلاق وأما إذا خصصنا الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة إلى الواجب كما قوّيناه في محلِّه (١) فان كان قد أتى المكلف بالوضوء بداعي الغاية المستحبة ولم يوصل ذلك إلى الصلاة الواجبة فلا إشكال في صحّته ، لأن هذه الحصة الحاصلة من الوضوء ليست متصفة بالوجوب المقدمي لعدم كونها موصلة ومع عدم اتصافها بالوجوب فأيّ مانع من استحبابها ، لأنها مقدمة لغاية مستحبة ، وهذا ظاهر.

وإن كان قد أتى به المكلف بداعي الغاية المستحبة وكان موصلاً إلى الواجب ، فعلى القول بوجوب المقدمة الموصلة لا بدّ من الحكم بوجوبه ، وحينئذٍ إن قلنا بما أسلفناه آنفاً من أن الوجوب غير منافٍ للاستحباب في ذاته وإنما ينافي الاستحباب بحدّه فلا تنافي بين الحكم بوجوب الوضوء واستحبابه فلا كلام ، وأما إذا لم نقل بصحته لتنافي الوجوب مع الاستحباب مطلقاً ، فلا يمكننا الحكم حينئذٍ بفساد الوضوء ، لأن الحكم بفساد الوضوء يستلزم عدم الفساد ، وكل ما استلزم وجوده عدمه فهو محال.

بيان ذلك : أن الوضوء الذي أتى به بداعي الأمر الاستحبابي وهو مقدّمة موصلة إلى الواجب على هذا باطل في نفسه ، لأن ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد ، فاذا كان فاسداً لم يكن مقدمة موصلة إلى الواجب ، لأن الموصلة هي المقدمة الصحيحة دون الفاسدة ، إذ لا إيصال في الفاسدة ، ومعه لا يتصف بالوجوب لاختصاصه بالموصلة ، وإذا لم يكن واجباً فلا محالة يقع صحيحاً ، لأن المانع عن صحّته إنما هو الوجوب ، ومع عدمه فهو أمر مستحب ، لمكان أنه مقدمة للمستحب وقد أتى به المكلف بداعي الأمر الاستحبابي المتعلق به ، فلا مناص من الحكم بصحّته.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٢٤.

٣٠

فصل في بعض مستحبّات الوضوء

الأوّل : أن يكون بمدّ وهو ربع الصاع وهو ستمائة وأربعة عشر مثقالاً وربع مثقال فالمدّ مائة وخمسون مثقالاً وثلاثة مثاقيل ونصف مثقال وحمصة ونصف.

الثاني : الاستياك بأي شي‌ء كان ولو بالإصبع ، والأفضل عود الأراك.

الثالث : وضع الإناء الذي يغترف منه على اليمين.

الرابع : غسل اليدين قبل الاغتراف مرة في حدث النوم والبول ومرتين في الغائط.

الخامس : المضمضة والاستنشاق ، كل منهما ثلاث مرات بثلاث أكف ، ويكفي الكف الواحدة أيضاً لكل من الثلاث.

السادس : التسمية عند وضع اليد في الماء ، أو صبّه على اليد وأقلّها : بسم الله والأفضل بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وأفضل منهما : بسم الله وبالله اللهمّ اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين.

السابع : الاغتراف باليمنى ولو لليمنى ، بأن يصبّه في اليسرى ثم يغسل اليمنى.

الثامن : قراءة الأدعية المأثورة عند كل من المضمضة والاستنشاق ، وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين.

التاسع : غسل كل من الوجه واليدين مرتين.

______________________________________________________

فصل في بعض مستحبّات الوضوء‌

تنبيه : استحباب أكثر الأُمور التي ذكرها الماتن قدس‌سره في المقام لما لم يثبت إلاّ بروايات ضعافٍ كان الحكم باستحبابها لا محالة متوقفاً على تمامية قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، وحيث إنها لم تثبت عندنا بدليل ولم يمكن استفادتها من الروايات المشتهرة بأخبار من بلغ ، لم يسعنا الحكم باستحبابها ، فلو أتى بها رجاءً كان أحسن‌

٣١

العاشر : أن يبدأ الرجل بظاهر ذراعيه في الغسلة الأُولى ، وفي الثانية بباطنهما والمرأة بالعكس.

الحادي عشر : أن يصب الماء على أعلى كل عضو ، وأما الغسل من الأعلى فواجب.

الثاني عشر : أن يغسل ما يجب غسله من مواضع الوضوء ، بصب الماء عليه لا بغمسه فيه.

الثالث عشر : أن يكون ذلك مع إمرار اليد على تلك المواضع وإن تحقّق الغسل بدونه.

الرابع عشر : أن يكون حاضر القلب في جميع أفعاله.

الخامس عشر : أن يقرأ القدر حال الوضوء.

السادس عشر : أن يقرأ آية الكرسي بعده.

السابع عشر : أن يفتح عينه حال غسل الوجه.

______________________________________________________

وأولى ، لترتّب الثواب عليه حينئذٍ على كل حال.

إذن ليس هنا أمر قابل للبحث عنه إلاّ مسألة واحدة وهي استحباب الغسل في الوجه واليدين مرّتين ، فإنها قد وقعت محل الخلاف ومورد الكلام بين الأصحاب قدس‌سرهم فنقول :

استحباب الغسل ثانياً :

المعروف المشهور بينهم هو استحباب الغسل مرتين في كل من الوجه واليدين وذهب بعضهم إلى عدم مشروعية التثنية في الغسل ، وعن ثالث القول بالمشروعية فحسب ، وقال إن تركه أفضل من فعله نظير صلاة النافلة والصوم في الأوقات المكروهة ، والصحيح هو ما ذهب إليه المشهور في المسألة ، وذلك لما ورد في عدة روايات فيها الصحيحة والموثقة وغيرهما من أن الوضوء مثنى مثنى أو مرتين‌

٣٢

مرّتين ، ففي صحيحتي معاوية بن وهب وصفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الوضوء مثنى مثنى » (١) وفي رواية زرارة أيضاً ذكر ذلك وزاد « من زاد لم يؤجر عليه » (٢) ، وفي موثقة أو صحيحة يونس بن يعقوب « يتوضّأ مرّتين مرّتين » (٣).

ثم إن معنى « مثنى مثنى » هو الإتيان بالشي‌ء مرتين من دون فصل ، وهو المعبر عنه في الفارسية بـ « جفت جفت » إذن فهذه الروايات واضحة الدلالة على استحباب الغسل مرتين ، ومعها لا مجال للاستشكال في المسألة ، وأما ما ذهب إليه الصدوق قدس‌سره من حمل المرتين على التجديد ، ودعوى دلالتها على استحباب الإتيان بالوضوء بعد الوضوء (٤) فلا يمكن المساعدة عليه بوجه ، كيف والوضوء المتجدد إنما هو بعد الوضوء الأول بزمان لا محالة ، ومعه لا يصدق « مثنى مثنى » كما عرفت فالأخبار المتقدمة ظاهرة الدلالة على استحباب الغسل مرتين في كل من الوجه واليدين.

وأما ما ورد في مقابلها مما دلّ على عدم استحباب الغسل مرتين أو عدم جوازه فهي أيضاً عدّة روايات ، ففي بعضها : « والله ما كان وضوء رسول الله إلاّ مرّة مرّة » (٥) غير أنها ضعاف وغير قابلة للاعتماد عليها في شي‌ء ، ومن الممكن حملها على ما إذا اعتقد المكلف وجوب الغسل ثانياً بقرينة ما في رواية ابن بكير من أن من لم يستيقن أن واحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين (٦) وذلك لأنه من التشريع المحرم ، ولا يبقى بعد ذلك شي‌ء مما ينافي استحباب الغسل مرتين إلاّ أُمور :

ما توهّم منافاته لاستحباب الغسل ثانياً :

الأوّل : الوضوءات البيانية ، لأنها على كثرتها وكونها واردة في مقام البيان غير‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٤١ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٨ ، ٢٩ ، ٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣١٦ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٢٦.

(٥) ، (٦) الوسائل ١ : ٤٣٨ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٠ ، ٤.

٣٣

متعرضة لاستحباب الغسل مرتين ، وإنما اشتملت على اعتبار غسل الوجه واليدين ولزوم المسح على الرأس والرجلين ، فلو كانت التثنية مستحبة في غسل الوجه واليدين لكانت الأخبار المذكورة مشتملة على بيانها لا محالة.

الثاني : موثقة عبد الكريم بن عمرو قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوضوء ، فقال : ما كان وضوء علي عليه‌السلام إلاّ مرّة مرّة » (١) وبمضمونها غيرها من الروايات ، فلو كان الغسل ثانياً أمراً مستحباً وأفضل في الشريعة المقدسة فكيف التزم علي عليه‌السلام بالوضوء مرة مرة طيلة حياته؟.

الثالث : صحيحة زرارة قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام إن الله وتر يحب الوتر فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ... » (٢) وهذه الأُمور هي التي تبعّد الاستدلال بالأخبار المتقدمة على استحباب الغسلة الثانية في كل من الوجه واليدين.

ولكن الصحيح أن الوجوه المتقدمة غير منافية للمدعى ، وذلك لأن الأخبار البيانية ناظرة إلى بيان ما يعتبر في كيفية الوضوء ، من غسل اليدين إلى الأصابع ومسح الرأس والرجلين على النحو الدائر المتعارف لدى الشيعة ، إيذاناً بأن وضوء العامة أجنبي عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه ليس بوضوئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل إن وضوءه ليس إلاّ ما هو الدائر عند الشيعة ، وإلى ذلك يشير بقوله عليه‌السلام في جملة من الروايات « إلا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » أو ما هو بمعناه فليلاحظ (٣) وليست ناظرة إلى بيان الكم والعدد واعتبار الغسل الواحد فيه أو المتعدد ، فهذا الوجه ساقط.

وأمّا صحيحة زرارة فهي بقرينة اشتمالها على كلمة يجزئك واردة لبيان اعتبار الغسل الواحد في مقام الإجزاء ، بمعنى أن الله وتر وقد أمر بالغسل مرة وهو الغسل الواجب في الوضوء ، ويجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، وأما الغسل الزائد على ذلك‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٣٧ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٧ ، ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥.

٣٤

ـ أعني الغسل الثاني فهو أمر مستحب ، وقد زاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في بعض الروايات (١).

وأمّا ما دلّ على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان ملتزماً بالغسل مرة في وضوئه فليس إلاّ حكاية فعل صادر عنه وهو مجمل غير مبين الوجه في الرواية ، فلا ينافي الأخبار المعتبرة الدالة على أن الغسل ثانياً أمر مندوب في الشريعة المقدسة ، وغاية الأمر أنّا لا نفهم الوجه في فعله عليه‌السلام وأنه لماذا كان ملتزماً بالغسل الواحد ولا يمكننا رفع اليد عن الأخبار الظاهرة بالفعل المجمل ، وهذا ظاهر. ولعل فعله هذا من جهة أن له ( سلام الله عليه ) كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحكاماً اختصاصية ، كعدم حرمة دخوله المسجد في حال جنابته على ما اشتملت عليه الروايات ، فليكن هذا الحكم أيضاً من تلك الأحكام المختصة به.

ويؤكِّد هذا الاحتمال رواية داود الرقي عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث قال : « ما أوجبه الله فواحدة وأضاف إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدة لضعف الناس » (٢) إذ الناس لا يبالون ولا يهتمون بأفعالهم فقد يتسامحون فلا يغسلون موضعاً من وجوههم وأيديهم فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغسل ثانياً لاسباغ الوضوء.

ومن هنا يظهر أن استحباب الغسل الثاني من الوضوء إنما يختص بالرعايا ، لأنهم الذين لا يبالون في أفعالهم وواجباتهم وهم الضعفاء في دينهم دون المعصومين عليهم‌السلام إذ لا ضعف في أيمانهم ولا يتصوّر فيهم الغفلة أبداً ، وعلى هذا تحمل الأخبار الدالّة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوضأ مرّة مرّة (٣) على تقدير صحّة أسانيدها.

وكيف كان فسواء صح هذا الاحتمال أم لم يصح لا يسوغ لنا رفع اليد عن الروايات‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٣٩ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٥ ، ٤٤٣ / أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٤٣ / أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٤٣٦ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٥ ، ١٠ ، ٢١.

٣٥

الظاهرة لأجل حكاية فعل مجمل الوجه ، فإنه نظير ما إذا شاهدنا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام يتوضأ مرّة مرّة وسمعنا عن الصادق عليه‌السلام مشافهة أن الغسل الثاني مستحب ، فهل كنّا نطرح قول الصادق عليه‌السلام بمجرّد رؤية أن عليّاً عليه‌السلام توضأ مرّة مرّة ، بل كنّا نأخذ بقوله وإن لم ندر الوجه في عمل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

إذن لا مانع من أن يؤخذ بالأخبار الظاهرة في الدلالة على المدعى ، وهو استحباب الغسلة الثانية في كل من الوجه واليدين.

نعم ، رواية ابن أبي يعفور قد دلت على مرجوحية الغسلة الثانية في الوضوء حيث روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الوضوء أنه قال : « اعلم أن الفضل في واحدة ... » (١) فان مقتضى كون الفضل في الواحدة أن الغسلة الثانية مرجوحة ومما لا فضل فيها ، فتكون معارضة للأخبار الدالة على استحباب الغسلة الثانية في الوضوء ، إلاّ أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاعتماد عليها ، لأن محمد بن إدريس رواها عن نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر وطريقه إلى كتاب النوادر مجهول عندنا ، إذن فلا معارض للأخبار المتقدمة ومقتضاها هو استحباب الغسلة الثانية في كل من الوجه واليدين.

ولكن شيخنا الأنصاري قدس‌سره قد احتاط بترك الغسلة الثانية في اليد اليسرى ، لاحتمال عدم مشروعية الغسلة الثانية ، ومعه يقع المسح ببلة الغسلة غير المشروعة وليست هي من الوضوء فلا بدّ من الحكم ببطلانه (٢).

واحتاط سيد أساتيذنا الشيرازي قدس‌سره بترك الغسلة الثانية حتى في اليد اليمنى ، فيما إذا كان غسل اليد اليسرى على نحو الارتماس الذي لا يحتاج معه إلى إمرار اليد اليمنى عليها ، حتى تكون البلة الموجودة في اليمنى مستندة إلى بلة اليد اليسرى والمفروض أن بلتها بلة الغسلة الأُولى التي هي من الوضوء ، لفرض أنّا تركنا الغسلة‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤١ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٧.

(٢) كتاب الطهارة : ١٣٩ السطر ٢٥.

٣٦

فصل في مكروهاته

الأوّل : الاستعانة بالغير في المقدّمات القريبة ، كأن يصب الماء في يده ، وأمّا في نفس الغسل فلا يجوز.

الثاني : التمندل بل مطلق مسح البلل.

الثالث : الوضوء في مكان الاستنجاء.

الرابع : الوضوء من الآنية المفضضة أو المذهبة أو المنقوشة بالصور.

الخامس : الوضوء بالمياه المكروهة كالمشمّس ، وماء الغسالة من الحدث الأكبر ، والماء الآجن ، وماء البئر قبل نزح المقدرات ، والماء القليل الذي ماتت فيه الحيّة أو العقرب أو الوزغ ، وسؤر الحائض والفأر والفرس والبغل والحمار والحيوان الجلال وآكل الميتة ، بل كل حيوان لا يُؤكل لحمه.

______________________________________________________

الثانية في اليسرى للاحتياط.

واحتاط المحقق الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس‌سره بترك الغسلة الثانية في الوجه أيضاً فيما إذا احتيج في المسح إلى بلته ، وهذه الاحتياطات كلها بملاك واحد وهو أن لا يقع المسح ببلة الغسلة التي ليست هي من الوضوء ، ولا إشكال في أنها احتياط والاحتياط حسن على كل حال.

فصل في مكروهاته

الكلام في مكروهات الوضوء هو الكلام في مستحباته ، وقد عرفت أن أكثرها تبتني على القول بالتسامح في أدلة السنن ، فكذلك الحال في مكروهاته بناء على تعميم القاعدة للمكروهات أيضاً فليلاحظ.

٣٧

فصل في أفعال الوضوء‌

الأوّل : غسل الوجه (١) وحدّه من قصاص الشعر إلى الذقن طولاً ، وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً (٢) ، والأنزع والأغم ومن خرج وجهه أو يده عن

______________________________________________________

فصل في أفعال الوضوء‌

(١) لأن الوضوء غسلتان ومسحتان ، وأُولى الغسلتين غسل الوجه ، ولا إشكال في وجوبه على ما يأتي في ضمن أخبار المسألة.

(٢) لصحيحة زرارة قال لأبي جعفر عليه‌السلام : « أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ الذي قال الله عزّ وجلّ؟ فقال : الوجه الذي قال الله وأمر الله عزّ وجلّ بغسله ، الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم ، ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن ، وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديراً فهو من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه ، فقال له : الصدغ من الوجه؟ فقال : لا » (١).

ورواه الكليني قدس‌سره أيضاً وزاد لفظة « السبابة » وقال : ما دارت عليه السبّابة والوسطى والإبهام (٢).

ولكن ذكر السبابة مستدرك ومما لا ثمرة له ، لوضوح أن الوسطى أطول من السبابة ، فإذا دارت الوسطى والإبهام على شي‌ء دارت عليه السبابة أيضاً لا محالة لأنها تقع في وسط الإبهام والوسطى ، ولعل ذكرها من جهة جريان العمل في الخارج على إدارة السبابة مع الوسطى عند غسل الوجه فإنها لا تنفك عن الوسطى وقتئذٍ ، لا من جهة أن إدارة السبابة أيضاً معتبرة شرعاً. والذي يشهد على عدم اهتمام الشارع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٣ / أبواب الوضوء ب ١٧ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧ / ١.

٣٨

بإدارة السبابة ، وأن ذكرها من جهة جريان العمل في الخارج بذلك ، قوله عليه‌السلام « وما جرت عليه الإصبعان » فلو كانت إدارة السبابة أيضاً معتبرة للزم أن يقول : وما جرت عليه الأصابع الثلاث.

ثم إنّ هذه الصحيحة وغيرها ممّا وردت في هذا المقام إنما هي بصدد توضيح المفهوم المستفاد من الوجه لدى العرف ، وليست فيها أية دلالة على أن للشارع اصطلاحاً جديداً في معنى الوجه وأنه حقيقة شرعية في ذلك المعنى ، وذلك لأن الله سبحانه قد أمر عباده بغسل وجوههم وكانوا يغسلونها من لدن زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عصر الصادقين عليهما‌السلام ولم ينقل إلينا أنهم كانوا يسألون عمّا هو المراد بالوجه لدى الشارع ، بل كانوا يغسلونه على ما هو معناه المرتكز لدى العرف ، ولكن زرارة أراد أن يصل إلى حقيقته فسأله عليه‌السلام وأجابه بما قدمنا نقله.

وكيف كان المعروف المشهور وجوب غسل الوجه من القصاص إلى الذقن طولاً وبمقدار ما بين الوسطى والإبهام عرضاً ، هذا هو المعروف في تحديد الوجه الواجب غسله في الوضوء ، بل عن بعضهم أن هذا التحديد مجمع عليه بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ).

مناقشة شيخنا البهائي ( قدس‌سره ):

وقد أورد عليه شيخنا البهائي قدس‌سره بأن مبدأ الغسل إن كان هو القصاص بعرض ما بين الإصبعين لدخل النزعتان بذلك تحت الوجه الواجب غسله وهما البياضان فوق الجبين ، وذلك لأن سعة ما بين الإصبعين تشمل النزعتين قطعاً ، مع أنهما خارجتان عن المحدود جزماً ، بل وتدخل الصدغان فيه أيضاً مع عدم وجوب غسلهما على ما صرح به في الصحيحة المتقدمة. ولأجل هذه المناقشة لم يرتض قدس‌سره بهذا التفسير المعروف عند الأصحاب ، وفسّر الرواية بمعنى آخر يناسب الهندسة ولا يلائم الفهم العرفي أبداً وحاصله :

٣٩

أنّ المقدار الواجب غسله إنما هو ما تشتمل عليه الإصبعان على وجه الدائرة الهندسية ، بأن توضع إحداهما على القصاص والأُخرى على الذقن من دون أن يتحرك وسطهما ، بل يدار كل من الإصبعين على الوجه أحدهما من طرف الفوق إلى الأسفل وثانيهما من الأسفل إلى الفوق ، وبهذا تتشكل شبه الدائرة الحقيقية وتخرج النزعتان عن المحدود الواجب الغسل ، لأن الإصبع الموضوع على القصاص ينزل إلى الأسفل شيئاً فشيئاً ، والنزعتان تقعان فوق ذلك ، ويكون ما زاد عليه خارجاً عن المحدود كما تخرج الصدغان (١).

وإنّما عبّر قدس‌سره بشبه الدائرة ، مع أن المتشكل من إدارة الإصبعين مع إثبات الوسط هو الدائرة الحقيقية لا ما يشبهها ، من جهة أن الوجه غير مسطح ، فلو كان مسطحاً لكان الأمر كما ذكرناه وتشكلت من إدارة الإصبعين دائرة حقيقية ، ولعل الذي أوقعه في هذا التفسير الهندسي هو كلمتا « دارت » و« مستديرا » فحسب من ذلك أن المراد بهما هو الدائرة ، وهي إنما تتشكل بما تقدم من وضع إحدى الإصبعين على القصاص ، والأُخرى على الذقن وإدارة إحداهما من الأعلى إلى الأسفل ، وإدارة الأُخرى من الأسفل إلى الأعلى ، هذا.

الجواب عن مناقشة البهائي ( قدس‌سره ):

والصحيح هو ما ذكره المشهور ، ولا يرد عليه ما أورده البهائي قدس‌سره وذلك لأن القصاص إن أخذناه بمعنى منتهى منبت الشعر مطلقاً ولو كان محاذياً للجبينين أعني منتهى منابت الشعر في النزعتين فهو وإن كان يشمل النزعتين لا محالة ، إلاّ أن الظاهر المتفاهم منه عرفاً هو خصوص منتهى منبت الشعر من مقدم الرأس المتصل بالجبين ، ومن الواضح أن وضع الإصبعين من القصاص بهذا المعنى غير موجب لدخول النزعتين في الوجه ، لأنهما تبقيان فوق المحدود الذي يجب غسله من الوجه.

__________________

(١) حبل المتين : ١٤.

٤٠