موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

المسح بدعوى حرمة المسح على الخفين وعدم جوازه من باب التقيّة ، وعلى ما ذكرناه لا مانع من المسح على الخفين إذا اقتضت التقيّة ذلك بحسب العمومات والإطلاقات. ولمّا آل الأمر إلى هنا فمن الجدير جدّاً أن نتعرض إلى أحكام التقيّة على وجه البسط والتفصيل.

بحوث التقيّة

وذلك إنما يتم بالبحث عن جهات :

الجهة الاولى : أن التقيّة مصدر تقى يتقي ، والاسم التقوى وهي مأخوذة من الوقاية وتاؤها بدل من الواو بمعنى : الصيانة والتحفظ عن الضرر ، ومنه المتقون لأنهم صانوا أنفسهم عن سخط الله سبحانه وعقابه وقد تجي‌ء بمعنى الخوف كما إذا أُسند إلى الله سبحانه كما في قوله تعالى ( وَاتَّقُوا اللهَ ) (١).

وهي قد تستعمل ويراد منها المعنى العام وهو التحفظ عما يخاف ضرره ولو في الأُمور التكوينية ، كما إذا اتقى من الداء بشرب الدواء ، وأُخرى تستعمل ويراد منها المعنى الخاص وهو التقيّة المصطلح عليها أعني التقيّة من العامة.

أما التقيّة من الله سبحانه فمن الظاهر أنها غير محكومة بحكم شرعاً ، لأن الأمر بها مساوق للأمر بإتيان الواجبات وترك المحرمات كالأمر بالطاعة ، ومن الظاهر أنه واجب عقلي ولا حكم له شرعاً.

وأما التقيّة بالمعنى الأعم فهي في الأصل محكومة بالجواز والحلية ، وذلك لقاعدة نفي الضرر وحديث رفع ما اضطروا إليه (٢) وما ورد من أنه ما من محرم إلاّ وقد أحله الله في مورد الاضطرار (٣) وغير ذلك مما دلّ على حلية أيّ عمل عند الاضطرار إليه‌

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٤ ، ١٩٦ ، ٢٠٣ وغيرها من الآيات.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤٩ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣٠ ح ٢ ، ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٨٢ / أبواب القيام ب ١ ح ٦ ، ٧ ، ٢٣ : ٢٢٨ / أبواب الأيمان ب ١٢ ح

٢٢١

فكل عمل صنعه المكلف اتقاء لضرره واضطراراً إليه فهو محكوم بالجواز والحلية في الشريعة المقدسة.

وأمّا التقيّة بالمعنى الأخص أعني التقيّة من العامّة ، فهي في الأصل واجبة ، وذلك للأخبار الكثيرة الدالة على وجوبها ، بل دعوى تواترها الإجمالي والعلم بصدور بعضها عنهم عليهم‌السلام ولا أقل من اطمئنان ذلك قريبة جدّاً. هذا على أن في بينها روايات معتبرة كصحيحتي ابن أبي يعفور ومعمر بن خلاد (١) وصحيحة زرارة (٢) وغيرها من الروايات الدالة على وجوب التقيّة.

ففي بعضها « إن التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له » (٣) وأي تعبير أقوى دلالة على الوجوب من هذا التعبير ، حيث إنه ينفي التدين رأساً عمن لا تقيّة له ، فمن ذلك يظهر أهميتها عند الشارع وأن وجوبها بمثابة قد عدّ تاركها ممن لا دين له. وفي بعضها الآخر « لا إيمان لمن لا تقيّة له » (٤) وهو في الدلالة على الوجوب كسابقه. وفي ثالث « لو قلت إن تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً » (٥) ودلالته على الوجوب ظاهرة ، لأن الصلاة هي الفاصلة بين الكفر والإيمان كما في الأخبار وقد نزّلت التقيّة منزلة الصلاة ودلت على أنها أيضاً كالفاصلة بين الكفر والإيمان. وفي رابع « ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره » (٦). وقد عدّ تارك التقيّة في بعضها ممن أذاع سرهم وعرّفهم إلى أعدائهم (٧) إلى غير ذلك من الروايات ، فالتقيّة بحسب الأصل الأوّلي‌

__________________

١٨.

(١) الوسائل ١٦ : ٢٠٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٧ ، ٤.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ١.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٤.

(٤) كما في صحيحتي ابن أبي يعفور ومعمر بن خلاّد المتقدِّمتين آنفاً.

(٥) كما في رواية السرائر المروية في الوسائل ١٦ : ٢١١ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٧.

(٦) الوسائل ١٦ : ٢١٢ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٩.

(٧) كما في رواية الاحتجاج المروية في الوسائل ١٦ : ٢٢٨ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ١١ ،

٢٢٢

محكومة بالوجوب.

ثم إن التقيّة بالمعنى الجامع بين التقيّة بالمعنى الأعم والتقيّة المصطلح عليها قد يتصف بالوجوب ، كما إذا ترتبت على تركها مفسدة لا يرضى الشارع بوقوع المكلف فيها كالقتل ، هذا في التقيّة بالمعنى الأعم ، وأما التقيّة بالمعنى الأخص فقد عرفت أنها مطلقاً واجبة وإن لم يترتب عليها إلاّ ضرر يسير.

وقد يتصف التقيّة بالمعنى الجامع المتقدم بالحرمة التشريعية ، وهذا كما إذا أجبره الجائر على الصلاة خلف من نصبه إماماً للجماعة أو خلف رجل آخر علمنا فسقه ، فإنه إذا صلّى خلفه ناوياً بها التقرب والامتثال فقد فعل محرماً تشريعياً لا محالة ، لأن التقيّة تتأدى بصورة الصلاة معه ، وحيث إنه يعلم ببطلانها وعدم كونها مأموراً بها حقيقة فلو أتى بها بقصد القربة كان ذلك محرماً تشريعياً لا محالة. ونظيره ما إذا أتى بالعبادة تقيّة وقلنا إنها غير مجزئة عن المأمور بها ، لأن التقيّة إنما تقتضي جواز العمل فقط ولا تقتضي الاجزاء عن المأمور به كما ذهب إليه جمع ومنهم المحقق الهمداني قدس‌سره كما في المسح على الخفين مثلاً ، فإنه لو اتقى بذلك ومسح على خفيه تقيّة لم يجز له أن يقصد به التقرّب والامتثال ، لعدم كونه مصداقاً للمأمور به ، فلو قصد به ذلك كان محرماً تشريعياً كما عرفت (١).

ومن ذلك ما إذا وقف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام تقيّة وقلنا بعدم إجزائه عن الوقوف المأمور به وهو الوقوف بها يوم التاسع من الشهر المذكور مطلقاً أو فيما إذا علم بأن اليوم يوم الثامن دون التاسع ، فإنه لا يجوز أن ينوي به التقرّب والامتثال وإلاّ لارتكب عملاً محرماً تشريعياً لا محالة.

وثالثة تتصف التقيّة بالمعنى الجامع بالحرمة الذاتية ، وهذا كما إذا أجبره الجائر بقتل النفس المحترمة ، فإنه لا يجوز له أن يقتلها تقيّة ، لما دلّ على أن التقيّة إنما شرعت لحقن‌

__________________

وصحيحة معلّى بن خنيس المتقدمة المروية في الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٤.

(١) لاحظ مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٤ ، ١٦٨ ، ١٧٠.

٢٢٣

الدماء فاذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة (١) فاذا قتلها تقيّة ارتكب محرماً ذاتياً لا محالة. وقد يمثل لذلك بما إذا لم يترتب على ترك التقيّة ضرر عاجل ولا آجل ، ولكنّا قدمنا أن التقيّة من الوقاية ، وقد أُخذ في موضوعها خوف الضرر ، ومع العلم بعدم ترتب الضرر على تركها لا يتحقق موضوع للتقية.

والصحيح أن يمثل للتقية المحرمة بالقتل كما مر ، وبما إذا كانت المفسدة المترتبة على فعل التقيّة أشد وأعظم من المفسدة المترتبة على تركها ، أو كانت المصلحة في ترك التقيّة أعظم من المصلحة المترتبة على فعلها ، كما إذا علم بأنه إن عمل بالتقية ترتب عليه اضمحلال الحق واندراس الدين الحنيف وظهور الباطل وترويج الجبت والطاغوت ، وإذا ترك التقيّة ترتب عليه قتله فقط أو قتله مع جماعة آخرين ، ولا إشكال حينئذٍ في أن الواجب ترك العمل بالتقية وتوطين النفس للقتل ، لأن المفسدة الناشئة عن التقيّة أعظم وأشد من مفسدة قتله.

نعم ، ربما تكون المفسدة في قتله أعظم وأكثر ، كما إذا كان العامل بالتقية ممن يترتب على حياته ترويج الحق بعد الاندراس وإنجاء المؤمنين من المحن بعد الابتلاء ونحو ذلك ، ولكنه أمر آخر ، والتقيّة بما هي تقيّة متصفة بالحرمة في تلك الصورة كما عرفت. ولعله من هنا أقدم الحسين ( سلام الله وصلواته عليه ) وأصحابه ( رضوان الله عليهم ) لقتال يزيد بن معاوية وعرضوا أنفسهم للشهادة وتركوا التقيّة عن يزيد ، وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام بل بعض علمائنا الأبرار ( قدس الله أرواحهم ) وجزاهم عن الإسلام خيراً كالشهيدين وغيرهما.

ورابعة تتصف التقيّة بالمعنى المتقدم بالاستحباب ، وقد مثل له شيخنا الأنصاري قدس‌سره بالمداراة معهم ومعاشرتهم في بلادهم وحضور مجالسهم وعيادة مرضاهم ، وغير ذلك مما لا يترتب أيّ ضرر على تركه بالفعل ، إلاّ أن تركه كان‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٣٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٣١ ح ١ ، ٢.

٢٢٤

مفضياً إلى الضرر على نحو التدريج (١).

وفيه : ما تقدّم من أن التقيّة متقومة بخوف الضرر الذي يترتب على تركها ، ومع العلم بعدم ترتّب الضرر على ترك التقيّة لا يتحقق موضوع للتقية كما مر.

وعليه فالصحيح أن يمثل للتقية المستحبة بالمرتبة الراقية من التقيّة ، لأن لها كالعدالة وغيرها مراتب ودرجات متعددة ، وهذا كشدة المواظبة على مراعاتها حتى في موارد توهم الضرر فضلاً عن موارد احتماله لئلاّ يذاع بذلك أسرار أهل البيت عليهم‌السلام عند أعدائهم ، ولا إشكال في استحباب ذلك مع تحقق موضوع التقيّة وهو احتمال الضرر ولو ضعيفاً.

ويشهد على ذلك ما رواه حماد بن عيسى عن عبد الله بن حبيب ( جندب ) عن أبي الحسن عليه‌السلام « في قول الله عزّ وجلّ ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) قال : أشدكم تقيّة » (٢) فان ذلك وإن كان من أحد مصاديق التقيّة فإن التقيّة قد تكون من الله سبحانه وقد تكون من العامة وغيرهم ، إلاّ أن الرواية تدلنا على أن من كان شديد المواظبة على التقيّة فهو أتقى وأكرم عند الله ، وهذا كاف في رجحان شدة المواظبة على التقيّة.

ويمكن التمثيل للتقية المستحبة أيضاً بما إذا أُكره مكره على إظهار كلمة الكفر أو التبرِّي من أمير المؤمنين عليه‌السلام بناء على أن التقيّة وقتئذٍ بإظهار البراءة أرجح من تركها ومن تعريض النفس على الهلاكة والقتل كما يأتي عن قريب إن شاء الله.

وقد تتصف التقيّة بالمعنى المتقدم بالكراهة ، ومرادنا بها ما إذا كان ترك التقيّة أرجح من فعلها ، وهذا كما إذا أُكره على إظهار البراءة من أمير المؤمنين عليه‌السلام وقلنا إن ترك التقيّة حينئذٍ وتعريض النفس للقتل أرجح من فعلها وإظهار البراءة منه عليه‌السلام كما احتمله بعضهم. وكما إذا ترتب ضرر على أمر مستحب كزيارة‌

__________________

(١) رسالة في التقيّة : ٣٢٠ السطر ٢٠.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢١٢ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٣١.

٢٢٥

الحسين عليه‌السلام فيما إذا كانت ضررية ، فإن ترك التقيّة حينئذٍ بإتيان المستحب الضرري أرجح من فعلها وترك العمل الاستحبابي ، وهذا بناء على ما قدمناه عند التكلم على حديث لا ضرر من أنه كحديث الرفع وغيره مما دلّ على ارتفاع الأحكام الضررية على المكلف ، ومعه يكون ترك التقيّة بإتيان المستحب أرجح من فعلها وترك العمل المستحب ، هذا كله في هذه الجهة.

الجهة الثانية : بيان مورد التقيّة بالمعنى الأخص ، مقتضى الإطلاقات الكثيرة الدالة على أن من لا تقيّة له لا دين له ، أو لا ايمان له ، وأنه ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره ، وأن التقيّة في كل شي‌ء ، والتقيّة ديننا ، إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة (١) أن التقيّة تجري في كل مورد احتمل ترتّب ضرر فيه على تركها.

بل الظاهر مما ورد من أن التقيّة شرعت ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة (٢) أن التقيّة جارية في كل شي‌ء سوى القتل ، وقد أشرنا آنفاً أن التقيّة بالمعنى الأخص واجبة ، فتجب في كل مورد احتمل فيه الضرر على تقدير تركها ، وقد استثنى الأصحاب قدس‌سرهم عن وجوب التقيّة موارد :

موارد الاستثناء :

الأوّل : ما إذا أُكره على قتل نفس محترمة ، وقد تقدم أن التقيّة المتحققة بقتل النفس المحترمة محرمة ، وذلك لما ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنما جعل التقيّة ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فليس تقيّة » (٣) وصحيحة أبي حمزة الثمالي قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام ... إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فاذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة ... » (٤).

الثاني : ما إذا لم يترتب على ترك التقيّة أيّ ضرر عاجل أو آجل فقد ذكروا أن‌

__________________

(١) في ص ٢١٥.

(٢) ، (٣) الوسائل ١٦ : ٢٣٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٣١ ح ١.

(٤) الوسائل ١٦ : ٢٣٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٣١ ح ٢.

٢٢٦

التقيّة محرمة وقتئذٍ ، وبيّنا نحن أن التقيّة قد أُخذ في موضوعها احتمال الضرر فاذا لم يترتب هناك ضرر على تركها فهي خارجة عن موضوع التقيّة رأساً ، وعلى الجملة إن خروج مثلها تخصصي موضوعي لا تخصيصي.

الثالث : مسح الخفين ، حيث ذكروا أن التقيّة غير جارية في مسح الخفين ، وذكرنا نحن أن عدم جريان التقيّة في مسح الخفين ومتعة الحج وشرب المسكر يختص بالأئمة عليهم‌السلام ولا يعم غيرهم ، وعلى تقدير التنازل عن ذلك وفرض شمول الحكم لغيرهم عليهم‌السلام كما إذا كانت الكلمة الواردة في صحيحة زرارة المتقدمة « لا يتقى » لا « لا نتقي » ذكرنا أن الظاهر أن خروج الموارد الثلاثة عن التقيّة خروج موضوعي غالباً ، لا أنها خارجة عنها حكماً على ما فصلنا الكلام عليه سابقاً (١).

فعلى ذلك ، لو فرضنا أن موضوع التقيّة في المسح على الخفين قد تحقق في مورد على وجه الندرة والاتفاق ، كما إذا خاف من العامة على نفسه من الإتيان بالمأمور به أعني المسح على الرجلين فمسح على الخفين تقيّة ، فالظاهر جريان التقيّة فيه ، لانصراف الأخبار إلى الغالب وأنه الذي لا يتحقق فيه موضوع التقيّة.

الرابع : ما إذا أُكره على التبري من أمير المؤمنين عليه‌السلام لما ورد في عدة من الأخبار من الأمر بمد الأعناق والنهي عن التبري منه عليه‌السلام لأنه على الفطرة أو مولود على الفطرة.

فمن جملتها ما رواه الشيخ في مجالسه (٢) بإسناده عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ستدعون إلى سبي فسبوني ، وتدعون إلى البراءة منّي فمدوا الرقاب فاني على الفطرة » (٣).

__________________

(١) في ص ٢١٨ ٢١٩.

(٢) أمالي الطوسي ١ : ٢١٣.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢٢٧ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٨ ، ١٠.

٢٢٧

ومنها : ما رواه الشيخ أيضاً في مجالسه بإسناده عن علي بن علي أخي دعبل بن علي الخزاعي عن علي بن موسى عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام انه قال « إنكم ستعرضون على سبي ، فإن خفتم على أنفسكم فسبّوني ، ألا وإنكم ستعرضون على البراءة منِّي فلا تفعلوا فانِّي على الفطرة » (١).

ومنها : ما في نهج البلاغة (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال « أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السب فسبوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تبرؤوا ( تتبرّءوا ) منّي فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان والهجرة » (٣) إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة. ولا ينبغي الإشكال في دلالتها على المدعى ، أعني تعريض النفس للهلاك عدا الإكراه على التبري منه عليه‌السلام.

ولا يعارضها رواية مسعدة بن صدقة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الناس يروون أن عليّاً عليه‌السلام قال على منبر الكوفة : أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ، ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرؤوا منّي ، فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه‌السلام ثم قال : وإنما قال : إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منّي واني لعلى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل ولا تبرؤوا منّي. فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ، فقال : والله ما ذلك عليه وما له إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ( إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها : يا عمار إن عادوا فعد ، فقد أنزل الله عذرك وأمرك‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٢٨ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٩ ، أمالي الطوسي ١ : ٣٧٤.

(٢) ص ٩٢ الخطبة ٥٧ بتفاوت.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢٢٧ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٨ ، ١٠.

٢٢٨

أن تعود إن عادوا » (١).

وذلك أمّا أوّلاً : فلأنها ضعيفة السند بمسعدة لعدم توثيقه في الرجال (٢).

وأمّا ثانياً : فلقصور دلالتها على حرمة القتل ووجوب التبري عند الإكراه ، لأنه عليه‌السلام إنما نفى كون القتل على ضرره وبيّن أن ما ينفعه ليس إلاّ ما مضى عليه عمار ، ولم تدل على حرمة التعرّض للقتل حينئذٍ بوجه ، بل التعرّض للقتل والتبرِّي كلاهما سيّان.

والظاهر أن هذا مما لا كلام فيه ، وإنما الكلام في أنه هل يستفاد من تلك الروايات المستفيضة وجوب اختيار القتل وعدم جواز التبري وإظهاره باللسان للصيانة عن القتل ، أو أنه لا يستفاد منها ذلك؟

الثاني هو الصحيح ، وذلك لعدم دلالتها على تعيّن اختيار القتل حينئذٍ ، لأنها إنما وردت في مقام توهّم الحظر ، لأن تعريض النفس على القتل حرام ، وبهذه القرينة يكون الأمر بمدّ الأعناق واختيار القتل ظاهراً في الجواز دون الوجوب ، وعليه فالأخبار إنما تدلنا على الجواز في كل من التقيّة بإظهار التبري منه عليه‌السلام باللسان وتركها باختيار القتل ومدّ الأعناق.

ويدلّنا على ذلك ما رواه عبد الله بن عطاء قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجلان من أهل الكوفة أُخذا فقيل لهما : ابرءا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فبرئ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ، فقال : أمّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة » (٣) وقد دلّت على جواز‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٢٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٢.

(٢) الرجل ممن وقع في سلسلة أسانيد كامل الزيارات وتفسير القمي ، فعلى ما سلكه سيِّدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) من وثاقة كل من وقع في سلسلة أحاديث الكتابين المذكورين إذا لم يضعف بتضعيف معتبر ، لا بدّ من الحكم بوثاقته واعتباره.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢٢٦ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٤.

٢٢٩

كل من التبري منه عليه‌السلام تقيّة والتعرض للقتل ، وأن كلاًّ من الرجلين من أهل الجنّة وقد تعجّل أحدهما إلى الجنة وتأخّر الآخر.

وما رواه محمد بن مروان قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام ما منع ميثم رحمه‌الله من التقيّة؟ فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه « ( إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) » (١) لدلالتها على جواز كل من البراءة واختيار القتل ، لأنه عليه‌السلام لم يتزجر عما فعله ميثم وإنما سأل عن وجهه ، هذا.

وقد يقال : إن ترك التقيّة أرجح من التقيّة بإظهار التبري منه عليه‌السلام وعليه فيكون المقام من موارد التقيّة المكروهة والمرجوحة ، وإذا قلنا بعكس ذلك وأن التقيّة بإظهار التبري أرجح من تركها فيكون المقام مثالاً للتقيّة المستحبّة لا محالة.

والصحيح أن الأمرين متساويان ولا دلالة لشي‌ء من الروايات على أرجحية أحدهما من الآخر ، أمّا رواية عبد الله بن عطاء ، فلأنها إنما دلت على أن من ترك التقيّة فقتل فقد تعجّل إلى الجنة ، ولا دلالة لذلك على أن ترك التقيّة باختيار القتل أرجح من فعلها ، وذلك لأن العامل بالتقيّة أيضاً من أهل الجنّة وإنما لم يتعجل بل تأجّل فلا يستفاد منه إلاّ تساويهما.

وأما ما رواه محمد بن مروان ، فلأنها إنما تدل على أرجحية التقيّة بإظهار التبري منه عليه‌السلام فيما إذا كانت كلمة « ميثم » غير منصرفة ، فيصح وقتئذٍ أن تقرأ كلمة « منع » مبنيّة للفاعل والمفروض أن كلمة « ميثم » لا تكتب منصوبة ميثماً لعدم انصرافها ، فتدلنا الرواية حينئذٍ على توبيخ ميثم لتركه التقيّة وتعرّضه للقتل والهلاك إلاّ أن كلمة « ميثم » منصرفة ، لوضوح عدم اشتمالها على موانع الصرف ، وعليه فلا يصح قراءة كلمة « منع » مبنية للفاعل وإلاّ للزم أن تكون كلمة « ميثم » منصوبة وأن تكون العبارة هكذا : ما منع ميثماً ، ولم تذكر الكلمة في شي‌ء من النسخ التي وقفنا عليها منصوبة ، بل هي في جميع النسخ مكتوبة بالرفع « ميثم » ومعه لا بدّ من قراءة‌

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٢٦ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٩ ح ٣.

٢٣٠

كلمة « منع » مجهولة ومبنية للمفعول هكذا « ما منع ميثم » أي لم تكن التقيّة ممنوعة وغير سائغة في حقه ، بل كانت مرخصة بالنسبة إليه وهو أيضاً كان عالماً بجوازها ومع ذلك اختار القتل باختياره ، إذن فلا يستفاد منها توبيخ ميثم على عمله بل معناها أحد أمرين :

أحدهما : أن تكون هذه الجملة « ما منع ميثم » دفعاً للاعتراض على ميثم بأنه لماذا اختار القتل ولم يتّق ، وهل كان ممنوعاً عن التقيّة فأجاب عليه‌السلام عن ذلك بأنه ما كان ممنوعاً عن التقيّة ، وإنما اختار القتل لتساوي التقيّة وتركها في الرجحان عند الله سبحانه ، وحينئذٍ لا يستفاد منها مدح ميثم ولا قدحه.

وثانيهما : أن تكون الجملة دالة على مدح ميثم ، وأنه مع علمه بالحال وأن التقيّة جائزة في حقه قد اختار القتل ، لعدم طيب نفسه بالتبري عن سيده ومولاه ولو بحسب الظاهر واللسان ، لقوة إيمانه وشدة حبه وعلاقته لمولاه عليه‌السلام إذن تكون الرواية دالة على مدحه ( رضوان الله عليه ) وعلى كل لا يستفاد منها أرجحية التقيّة عن القتل.

ويحتمل أن يكون الوجه في اختيار ميثم القتل على التقيّة هو علمه بانتفاء موضوع التقيّة في حقه ، لأنه كان يقتل على كل حال لمعروفيّته بالولاء واشتهاره بالتشيّع والإخلاص لأمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ).

وعلى الجملة ، الرواية إما أن تدلنا على أرجحية القتل من التقيّة ، وإما أن تدل على تساوي التعرض للقتل والتقيّة ، وأما أن التقيّة بالتبري عنه عليه‌السلام أرجح من التعرّض للقتل فلا يكاد يستفاد من الرواية بوجه ، فالحكم بأرجحية التقيّة من القتل في نهاية الإشكال ، هذا كله في هذه الجهة.

الجهة الثالثة : أن الاضطرار والتقيّة هل يقتضيان ارتفاع الآثار المترتبة على الفعل الاضطراري لولا الاضطرار والتقيّة إذا كان لدليل ثبوتها إطلاق أو عموم أو أن الآثار المترتبة على الفعل لا ترتفع من جهة الاضطرار إليه وإتيانه تقيّة؟ استشكل‌

٢٣١

شيخنا الأنصاري قدس‌سره في ارتفاع الآثار من جهة التقيّة والاضطرار ، نظراً إلى أن المرفوع في حديث الرفع ليس هو جميع الآثار المترتبة على الفعل المأتي به بداعي التقيّة أو الاضطرار ، وإنما المتيقن رفع خصوص المؤاخذة على الفعل ، وأما ارتفاع جميع آثاره بالاضطرار فلم يقم عليه دليل ثم أمر بالتأمل (١).

ولا بدّ لنا في المقام من التكلم على جهات ثلاث :

الجهة الاولى : أن التقيّة والاضطرار هل يوجبان ارتفاع الأحكام التكليفية المتعلقة بالفعل المأتي به تقيّة أو اضطراراً أو لا يوجبان؟ كما إذا اضطر إلى ارتكاب فعل حرام كشرب الخمر ونحوه ، أو إلى ترك واجب من الواجبات كترك صوم يوم من شهر رمضان.

الجهة الثانية : أن التقيّة والاضطرار هل يرفعان الأحكام المترتبة على الفعل المأتي به تقيّة ، أعني الأحكام التي نسبتها إلى الفعل المأتي به نسبة الحكم إلى موضوعه المترتب عليه لا نسبة الحكم إلى متعلقه كما في الجهة الأُولى ، بلا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والوضعية؟ وذلك كوجوب الكفارة المترتبة على ترك الصوم في نهار شهر رمضان ، أو على إتيان بعض المحرمات على المحرم في الحج ، وكالضمان المترتب على إتلاف مال الغير من جهة الاضطرار كالمخمصة ونحوها أو من جهة التقيّة ، كما إذا قسم الحاكم السنِّي مال شيعي وأعطى له حصته فقبلها وأتلفها تقيّة.

الجهة الثالثة : أن الجزئية أو الشرطية إذا اضطر إلى ترك جزء أو شرط أو تركهما تقيّة أو المانعية إذا اضطر إلى إتيان ما هو مانع من العمل أو أتى به تقيّة ، هل ترتفع للتقية والاضطرار حتى يحكم بصحة ما أتى به لمطابقته المأمور به ويسقط عنه وجوب الإعادة والقضاء ، أو لا ترتفع؟

أمّا الجهة الاولى : فلا ينبغي الإشكال في أن الاضطرار إلى فعل المحرم أو ترك الواجب يرفع الإلزام عن ذلك الفعل ، لحديث الرفع وغيره مما دلّ على حلية الفعل‌

__________________

(١) رسالة في التقيّة : ٣٢٠ السطر ٢٦.

٢٣٢

عند الاضطرار ، وليس المرتفع في حديث الرفع خصوص المؤاخذة أو استحقاق العقاب ، لأنهما أمران خارجان عما تناله يد الجعل والتشريع رفعاً ووضعاً ، ولا مناص من أن يكون المرفوع أمراً تناله يد التشريع وهو منشأ لارتفاع المؤاخذة واستحقاق العقاب وليس هذا إلاّ الإلزام ومع ارتفاعه يبقى الفعل على إباحته.

كما أن الأمر كذلك عند الإتيان بالمحرم أو ترك الواجب تقيّة ، حيث إن التقيّة واجبة كما عرفت ومع وجوبها لا يعقل أن يكون الفعل باقياً على حرمته أو وجوبه ، بل ترتفع حرمته إذا أتى به تقيّة كما يرتفع وجوبه إذا تركه كذلك ، بل هذا هو المقدار المتيقن من حديث الرفع وغيره من أدلّة التقيّة ، وهذا ظاهر.

وأمّا الجهة الثانية : فالذي تقتضيه القاعدة في نفسها ، أن العمل الاضطراري أو الذي أتى به تقيّة كلا عمل ، لأنه معنى رفعه فكأنه لم يأت به أصلاً ، كما أنه لازم كون العمل عند التقيّة من الدين ، فاذا كان الحال كذلك فترتفع عنه جميع آثاره المترتبة عليه لارتفاع موضوعها تعبداً ، فلا تجب عليه الكفارة إذا أفطر في نهار شهر رمضان متعمداً ، لأن إفطاره كلا إفطار ، أو لأن إفطاره من الدين ولا معنى لوجوب الكفّارة فيما يقتضيه الدين والتشريع.

هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة ، فلو كنّا نحن وهذه القاعدة لحكمنا بارتفاع جميع الآثار المترتبة على الفعل عند التقيّة والاضطرار ، سواء أكانت الآثار حكماً تكليفياً أم كانت حكماً وضعياً.

ويؤيد ذلك صحيحة أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعاً عن أبي الحسن عليه‌السلام « في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع عن أُمتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا » (١) لأن الحلف بالأُمور المذكورة وإن لم يكن صحيحاً حال الاختيار أيضاً ، إلاّ أن قوله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٦ / أبواب كتاب الايمان ب ١٢ ح ١٢.

٢٣٣

السلام ) في ذيل الصحيحة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشهاده بحديث الرفع أقوى شاهد على أن الرفع غير مختص بالمؤاخذة بل يشمل الآثار كلّها.

وما ورد من قوله عليه‌السلام « اي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن يضرب عنقي » (١).

وقوله « فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله » (٢) حيث إن عدم ذكره عليه‌السلام إعطاء الكفارة بعد الإفطار يدل على أن وجوب الكفارة يرتفع بالإفطار تقيّة ، وإلاّ لكان المتعيّن التعرض له ، لأنه أشد وأعظم من وجوب القضاء.

وما رواه الأعمش عن جعفر بن محمد عليه‌السلام في حديث شرائع الدين قال : « ولا يحل قتل أحد من الكفّار والنصّاب في التقيّة إلاّ قاتل أو ساع في فساد ذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك ، واستعمال التقيّة في دار التقيّة واجب ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقيّة يدفع بذلك ظلماً عن نفسه » (٣).

وعلى الجملة : إن مقتضى القاعدة المؤيدة بعدّة من الروايات أن الاضطرار والتقيّة يوجبان ارتفاع جميع الآثار المترتبة على الفعل المأتي به بداعيهما ، بلا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، نعم يستثني عن ذلك موردان :

أحدهما : ما إذا كان نفي الآثار عن العمل المأتي به عن تقيّة أو اضطرار خلاف الامتنان على نفس الفاعل ، كما إذا اضطر لا سمح الله إلى بيع داره أو ثيابه لصرف ثمنهما في معالجة أو معاش ، فان الحكم وقتئذٍ ببطلان بيعه على خلاف الامتنان في حقه ، بل مستلزم لتضرره ومشقته ، بل ربما يؤدي إلى موته مرضاً أو جوعاً في بعض الموارد.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ١٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٠ : ١٣٢ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٧ ح ٥.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٢.

٢٣٤

وثانيهما : ما إذا كان نفي الآثار عن العمل المأتي به بداعي الاضطرار أو التقيّة على خلاف الامتنان في حق غيره ، كما إذا أتلف مال غيره لاضطرار كما في المخمصة أو للتقية كما مثلناه سابقاً ، فان الحكم بعدم ضمانه لمال الغير تستلزم تضرر مالك المال المتلف وهو على خلاف الامتنان في حقه ، والحديث لا يجري في الموارد الفاقدة للامتنان.

وأمّا الجهة الثالثة : أعني ما إذا ترك جزءاً أو شرطاً تقيّة أو للاضطرار ، كما إذا صلّى بلا سورة أو من دون البسملة لعدم كونهما جزءاً من المأمور به عند المخالفين مثلاً ، أو صلّى مع المانع تقيّة ، كما إذا صلّى في شي‌ء من الميتة لطهارتها عندهم بالدبغ ، فهل يقتضي التقيّة أو الاضطرار سقوط الجزئية أو الشرطية أو المانعية حينئذٍ أو لا يقتضي؟ وكلامنا في المقام إنما هو فيما لو كنّا نحن والأخبار الواردة في التقيّة عموماً كحديث الرفع ، أو خصوصاً كما ورد في التقيّة بخصوصها ، مع قطع النظر عمّا دلّ على صحّة الصلاة الفاقدة لشي‌ء من أجزائها أو شرائطها عند الاضطرار ، فهل تقتضي أدلّة التقيّة صحّة العمل وقتئذٍ بحيث لا تجب إعادته أو قضاؤه أو لا تقتضي؟

التنبيه على أمرين :

وقبل الخوض في تحقيق ذلك ننبه على أمرين :

الأمر الأوّل : أن محل الكلام في المانعية إنما هو المانعية المنتزعة عن النواهي الغيرية ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل أو النهي عن الصلاة في الحرير ونحوها ، وأما المانعية المنتزعة عن النهي المستقل فهي غير داخلة في محل النزاع ، وهذا كاعتبار عدم كون المكان أو اللباس مغصوباً في الصلاة أو عدم كون الماء مغصوباً في الوضوء ، لأنه لم يرد اعتبار ذلك في شي‌ء من الأدلة اللفظية وغيرها ، بل إنما نشأ اعتباره من النهي النفسي الدال على حرمة التصرف في مال الغير من غير رضاه ، نظراً إلى استحالة اجتماع الحرمة والوجوب في شي‌ء واحد ، وعدم معقولية كون المحرم مصداقاً للواجب فمانعية الغصب في الصلاة والوضوء ناش من النهي النفسي المستقل بمعونة الحكم‌

٢٣٥

العقلي واستقلاله في عدم إمكان كون المحرم مصداقاً للواجب.

والوجه في خروج هذا القسم من المانعية عن محل النزاع ، هو أن المكلف إذا اضطر إلى إتلاف ماء الغير أو إلى التصرف في ماله تقيّة أو اضطراراً سقطت عنه حرمته ، لما قدمناه آنفاً من أن الاضطرار والتقيّة يرفعان الأحكام المتعلقة بالفعل الاضطراري لا محالة ، ومع سقوط الحرمة النفسية ترتفع المانعية أيضاً ، لأنها ناشئة ومسببة عنها فاذا زالت زالت.

وأمّا ما ذهب إليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من أن الاضطرار والتقيّة وغيرهما من الروافع والأعذار إنما يقتضي ارتفاع الحرمة فحسب ، وأما الملاك المقتضي للحرمة فهو بعد بحاله ولا موجب لارتفاعه بالاضطرار أو التقيّة أو غيرهما ، ومع بقاء الملاك المقتضي للحرمة تبقى المانعية أيضاً بحالها ، لأن للملاك والمفسدة الملزمة معلولين أحدهما : الحرمة النفسية. وثانيهما : المانعية ، وإذا سقط أحدهما وهو الحرمة بالتقية أو بالاضطرار فيبقى معلوله الثاني بحاله لا محالة ، فالمانعية المستفادة من النهي النفسي كالمانعية المستفادة عن النواهي الغيرية ولا ترتفع بالاضطرار إلى التصرف في مال الغير بوجه ،

فمما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّا لو سلمنا أن الاضطرار وغيره من الأعذار غير مقتض لارتفاع المفسدة والملاك كما لا يبعد ، حيث إن الرفع إنما يتصوّر فيما إذا كان هناك مقتض للتكليف كما قدمناه عند التكلّم على حديث الرفع ، فلا نسلم عدم ارتفاع المانعية عند سقوط الحرمة النفسية بالاضطرار ، وذلك لأن الملاك على تقدير بقائه غير مؤثر في المنع عن الفعل المضطر إليه وحرمته ، لأن الشارع قد رخّص في فعله ، ومع عدم تأثير الملاك في المنع والتحريم وجواز التصرف في مال الغير بترخيص الشارع نفسه لا معنى للمانعية في الصلاة ، لضرورة أن العمل إذا كان مباحاً ومرخّصاً فيه في غير الصلاة فهو مباح ومرخّص فيه في الصلاة أيضاً ، فإن الصلاة وغيرها سيان من هذه الجهة ، فإذا جاز له لبس لباس الغير في غير الصلاة جاز له لبسه في الصلاة أيضاً ، إذ لا فرق بينها وبين غيرها من ناحية الترخيص في التصرف في مال الغير.

٢٣٦

ولا يقاس محل الكلام بما إذا اضطر إلى لبس الحرير لبرد أو غير برد ، حيث إنه مع سقوط الحرمة النفسية في لبس الحرير بالاضطرار لا يمكنه لبسه في الصلاة ، بل يجب عليه إيقاع الصلاة في غير الحرير لعدم سقوط المانعية عن لبس الحرير بسقوط حرمته النفسية ، وذلك لأن المانعية في لبس الحرير لم ينشأ عن حرمة لبسه النفسية وإنما هي منتزعة عن النهي عن الصلاة في الحرير وهذا باق بحاله ، وهذا بخلاف المقام فإن المانعية إنما نشأت عن النهي النفسي ومع سقوطه بالتقية والاضطرار ترتفع المانعية المنتزعة عنه بالتبعية لا محالة.

الأمر الثاني : أن محل الكلام ومورد النقض والإبرام إنما هو ما إذا كان لدليل كل من الجزئية والشرطية والمانعية إطلاق أو عموم يشمل حال الاضطرار إلى تركها وأما إذا لم يكن كذلك كما إذا ثبتت الأُمور المذكورة بإجماع أو سيرة أو بدليل لفظي لا إطلاق ولا عموم له فهو خارج عن محل النزاع ، وذلك لأن الواجب إذا كان لدليله عموم أو إطلاق يتمسك بإطلاقه أو عمومه ، وبه يثبت عدم جزئية الشي‌ء أو شرطيته أو مانعيته للواجب حال الاضطرار إليه ، وإذا فرضنا عدم الإطلاق أو العموم لدليل الواجب يتمسك بأصالة البراءة في نفي الجزئية والشرطية والمانعية في حال الاضطرار ، فمورد الكلام ومحل النقض والإبرام منحصر بما إذا كان لأدلة التكاليف الغيرية عموم أو إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكن والاضطرار. إذا عرفت ذلك فنقول :

قد يقال بأن التقيّة والاضطرار كما أنهما يرفعان التكاليف النفسية من الحرمة والوجوب كذلك يرفعان التكاليف الغيرية من الشرطية والجزئية والمانعية ، ويستدل على ذلك بوجوه :

وجوه الاستدلال في محل الكلام :

الأوّل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع عن أُمّتي تسعة ... » حيث إنه يقتضي ارتفاع الشرطية أو الجزئية بالاضطرار إلى تركهما كما يقتضي ارتفاع المانعية للاضطرار إلى الإتيان بها ، وبذلك يثبت أن العمل غير مشترط بما تعلّق به الاضطرار‌

٢٣٧

إلى تركه أو فعله ، وأنه لا بدّ من الإتيان به فاقداً للجزء أو للشرط المضطر إلى تركه أو واجداً للمانع المضطر إلى الإتيان به.

ويدفعه : ما قدّمناه في محلِّه من أن الاضطرار إلى ترك شي‌ء من الأجزاء والشرائط أو إلى الإتيان بالموانع إن كان مختصّاً بفرد من الأفراد الواجبة ولم يستوعب الوقت كله فهو مما لا يترتب عليه ارتفاع ما اضطر إليه في صلاته ، وذلك لأن ما اضطر إلى تركه أو إلى فعله أعني الفرد مما لم يتعلق به الأمر ، وما تعلق به الأمر وهو طبيعي الصلاة لم يتعلق به الاضطرار ، لأنه إنما اضطر إلى ترك شي‌ء من الأجزاء والشرائط في الفرد لا في طبيعي الصلاة.

وأمّا إذا استوعب الوقت كلّه أو كان الوقت ضيقاً ولم يكن له إلاّ فرد واحد فاضطر إلى ترك شي‌ء من الجزء أو الشرط في طبيعي المأمور به ، فالحديث أيضاً لا يقتضي ارتفاع شي‌ء من الجزئية أو الشرطية ، وذلك لأن الجزئية والشرطية والمانعية إنما تنتزع عن الأمر بالعمل المركب من الشي‌ء المضطر إليه وغيره ، وهي بأنفسها مما لا تناله يد الوضع والرفع وإنما ترتفع برفع منشأ انتزاعها ، مثلاً إذا اضطر المكلّف إلى ترك السورة في الصلاة أو إلى الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، فمقتضى الحديث إنما هو ارتفاع الأمر عن المجموع المركّب مما اضطر إليه وغيره ، أعني الصلاة مع السورة أو الصلاة فيما يؤكل لحمه بالنسبة إليه ، لأنه المنشأ لانتزاع الجزئية أو المانعية ، وأما الأمر بالصلاة الفاقدة للسورة أو الواجدة للمانع كما لا يؤكل لحمه فهو مما لا يمكن استفادته من الحديث ، بل يحتاج إثبات الأمر بالعمل الفاقد المضطر إليه إلى دليل ، هذا.

على أن الحديث إنما يقتضي ارتفاع التكليف عند الاضطرار ولا تتكفّل إثبات التكليف بوجه ، فهذا الوجه ساقط.

الثاني : ما استدل به شيخنا الأنصاري من قوله عليه‌السلام « التقيّة في كل شي‌ء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له » (١) وقد ورد ذلك في عدّة روايات :

__________________

(١) رسالة في التقيّة : ٣٢٣ السطر ١٥.

٢٣٨

منها : ما رواه إسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى بن سالم (١) ومحمد بن مسلم وزرارة وهي رواية صحيحة ، بتقريب أن لفظة « كل » من أداة العموم فقد دلت الرواية على أن التقيّة جائزة أو واجبة في كل أمر اضطر إليه ابن آدم ، ثم فرّعت عليه قوله عليه‌السلام « فقد أحلّه الله ... » ودلّنا ذلك على أن كل أمر اضطر إليه العباد فهو محلّل في حقِّه ، وأن الاضطرار والتقيّة رافعان لحرمته على تقدير كونه محرماً في نفسه. ومن الظاهر أن حلية كل حرام بحسبه ، فإذا كان العمل محرماً نفسياً في نفسه مع قطع النظر عن التقيّة فهي تجعله مباحاً نفسياً لا يترتب على فعله العقاب والمؤاخذة ، كما أنه إذا كان محرّماً غيرياً فالتقية تجعله مباحاً غيرياً ومعناه عدم كون العمل مشروطاً بذلك الشي‌ء ، مثلاً إذا اضطر المكلف إلى التكفير في صلاة أو إلى ترك البسملة أو إلى استعمال التراب للتيمم في صلاته وهي من المحرمات الغيرية لاشتراط الصلاة بعدم التكفير وعدم ترك البسملة فالتقية تجعلها مباحة غيرية بمعنى عدم اشتراط الصلاة بعدم التكفير أو بعدم ترك البسملة وهكذا ، ونتيجة ذلك : أن الصلاة الواجبة في حقِّه غير مشروطة بعدم التكفير وعدم ترك البسملة ، وبذلك يثبت وجوب الصلاة الفاقدة لبعض أجزائها أو شرائطها أو الواجدة لبعض موانعها.

وعلى الجملة : إن الصحيحة كما تشمل التكاليف النفسية من الوجوب والحرمة النفسيين ، كذلك تشمل التكاليف الغيرية أعني الوجوب والحرمة الغيريين ، هذا.

وفيه : أن الظاهر من الصحيحة أن كل عمل كان محرماً بأيّ عنوان من العناوين المفروضة تزول عنه حرمته بواسطة التقيّة ، فيصير العمل المعنون بذلك العنوان متصفاً بالحلية لأجلها ، لا أن الحلية توجب التغيّر والتبدل في موضوعها ، لوضوح أن الحكم لا يكون محققاً لموضوعه ولا مغيراً له ، مثلاً التكتف في الصلاة لما كان بعنوان كونه مبطلاً محرّماً في الصلاة فتقتضي التقيّة كون التكتف المبطل حلالاً في الصلاة ، ومعنى‌

__________________

(١) هكذا في الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢ وهو غلط ، والصحيح سام كما في نسخة الكافي ٢ : ٢٣٠ / ١٨ ، أو بسام كما احتمله بعضهم.

٢٣٩

ذلك أن الإبطال أمر محلل لأجل التقيّة وقد ارتفعت حرمته ، وليس معنى ذلك أن التكتف يخرج عن كونه مبطلاً للصلاة بسبب التقيّة حتى تصح معه الصلاة ، بل التكتف المعنون بالمبطلية في الصلاة يحكم عليه بالحلية لأجلها ، فيصير إبطال الصلاة جائزاً بالتقيّة ، وأما أن التكتف لأجل الحكم بحليته وارتفاع حرمته يخرج عن كونه مبطلاً للصلاة فلا يكاد يستفاد من الروايات بوجه.

وعلى الجملة : الصحيحة إنما تختص بالتكاليف النفسية ولا تشمل التكاليف الغيرية أبداً ، لأن الحكم لا يحقق موضوع نفسه ولا يتصرف فيه بوجه ، إذن لا بدّ من ملاحظة أن العمل بأي عنوان كان محرماً لولا الاضطرار حتى يحكم بحليته ورفع حرمته لطروء الاضطرار عليه ، فالتكتف قد حكم عليه بالحرمة بعنوان إبطاله الصلاة مع قطع النظر عن التقيّة والاضطرار ، وكذلك ترك السورة أو غيرها من الأجزاء والشرائط متعمِّداً بناء على حرمة إبطال الصلاة ، فإذا طرأت عليه التقيّة والاضطرار رفعا حرمة الإبطال وأوجبا حلِّيّته ، والنتيجة أن إبطال الصلاة حلال للتقيّة والاضطرار ، لا أن التكتف أو ترك الجزء أو الشرط متعمداً غير مبطل للصلاة. وكذا الحال في الصوم المعيّن ، لأن إبطاله بتناول المفطرات حرام مطلقاً ، وفي الصوم غير المعيّن حرام إذا كان بعد الزوال إلاّ أن ذلك العمل المحرم بعنوان الابطال محلل فيما إذا كان للاضطرار والتقيّة ، وكذا في غير ذلك من الموارد التي حكم فيها بحرمة الإبطال في نفسه.

وأمّا إذا لم يكن الابطال محرماً في نفسه كما في إبطال الصلاة على الأظهر ، وكما في إبطال الوضوء والغسل ونحوهما من العبادات ، لعدم حرمة إبطالهما جزماً ، فهل يمكن أن يُقال إن مثل المسح على الخفين في الوضوء أو التكتف في الصلاة أو ترك البسملة والسورة وغيرها من الموانع والأجزاء والشرائط أعني المحرمات الغيرية ترتفع حرمتها الغيرية بالتقية والاضطرار ، ويقال إن التكتف في الصلاة محرم بالحرمة الغيرية في نفسه لولا التقيّة والاضطرار ومحلل غيري عند التقيّة والاضطرار ، وكذا ترك السورة أو غيرها من الأجزاء والشرائط ، لحرمته الغيرية في نفسه فإذا طرأت عليه‌

٢٤٠