موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٥٢٣] مسألة ٣٣ : يجوز المسح على الحائل (*) كالقناع والخف والجورب ونحوها في حال الضرورة من تقيّة أو برد يخاف منه على رجله ، أو لا يمكن معه نزع الخف مثلاً ، وكذا لو خاف من سبع أو عدوّ أو نحو ذلك ممّا يصدق عليه الاضطرار (١).

______________________________________________________

عدم الإطلاق في صدرها.

وأمّا ثانيهما ففيه : أن الصحيحة ظاهرة في تعيّن كون المسح من الأصابع إلى الكعبين ، وحيث قد دلّت الروايات على جواز النكس في مسح الرجلين ، فقد علم من ذلك أن ظاهر الصحيحة أعني الوجوب التعييني في كون المسح من طرف الأصابع إلى الكعبين غير مراد ، لأن له بدلاً وهو المسح نكساً فبذلك يحمل الوجوب على التخيير فتدل الصحيحة على وجوب كل من المسح إلى الكعبين وعكسه على نحو الواجب التخييري ، فلا موجب لرفع اليد عن ظهورها في الوجوب أبداً.

وبما بيّناه يظهر أن الاكتفاء في المسح بالمسح دفعة واحدة لا يخلو عن إشكال ، لأنه على خلاف ظاهر الصحيحة ، كما أن الاكتفاء في المسح بالمسح إلى نصف الرجل مقبلاً وإلى نصفها الآخر مدبراً أو بغيره من أنحاء المسح كذلك ، لظهور الصحيحة في تعيّن المسح بالمسح من الأصابع إلى الكعبين وبالعكس ، على ما دلت عليه غير واحد من الأخبار فالاجتزاء بغيره في مقام الامتثال مشكل جدّاً.

المسح على الحائل :

(١) أما المسح على الحائل تقيّة فسيأتي الكلام عليه مفصّلاً (٢) ، وأما المسح على الحائل من جهة الضرورة لبرد أو لعدم إمكان نزع الخف أو لخوف سبع ونحو ذلك‌

__________________

(*) في كفايته مع التقيّة فضلاً عن غيرها إشكال ، نعم إذا اقتضت التقيّة ذلك مسح على الحائل ولكنه لا يجتزئ به في مقام الامتثال ، وبذلك يظهر الحال في الفروع الآتية.

(١) في ص ٢١٥.

٢٠١

فالمشهور بين المتقدِّمين والمتأخِّرين جوازه ، بل لا خلاف في المسألة إلاّ من جملة من متأخِّري المتأخِّرين ، واستدلّ عليه بأُمور :

منها دعوى الإجماع على كفاية المسح على الحائل للضرورة ، لما عرفت من إطباق القدماء والمتأخِّرين على الجواز ، ولم يخالفهم في ذلك إلاّ جمع من متأخِّري المتأخِّرين ، وهو غير قادح في الإجماع كما هو ظاهر.

ويرد هذا الوجه : أنّا نحتمل استناد المجمعين في المسألة إلى أحد الوجوه الآتية ومعها لا يمكن الاعتماد على إجماعهم ، لعدم كونه تعبدياً كاشفاً عن رأي الامام عليه‌السلام.

ومنها : رواية أبي الورد قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام إن أبا ظبيان حدّثني أنه رأى عليّاً عليه‌السلام أراق الماء ثم مسح على الخفّين ، فقال : كذب أبو ظبيان أما بلغك قول علي عليه‌السلام فيكم سبق الكتاب الخفين. فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : لا ، إلاّ من عدوّ تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك » (١) وهي ظاهرة الدلالة على جواز المسح على الخفّين عند خوف الثلج ونحوه ، هذا.

وقد أورد صاحب المدارك على هذا الوجه بأن الرواية ضعيفة السند بأبي الورد لعدم توثيقه في الرجال فلا يجوز الاعتماد على روايته (٢).

وأُجيب عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أن الرجل وإن كان لم يوثق في الرجال إلاّ أن الرواية قد تلقاها الأصحاب بالقبول ، ومنه يستكشف أن الرواية كانت مقترنة بقرينة دلتهم على صحتها.

وهذا الجواب مبني على تمامية القاعدة المعروفة من أن الرواية الضعيفة ينجبر ضعفها بعمل المشهور على طبقها ، فان صحت وتمت فهو وإلاّ فللمناقشة فيه مجال واسع ، لأن عملهم على طبق رواية لا يكشف عن عثورهم على قرينة دلّتهم على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٨ / أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ٥.

(٢) المدارك ١ : ٢٢٤.

٢٠٢

صحّتها كما ذكرنا تفصيله في محلِّه (١).

الثاني : أن في سند الرواية حماد بن عثمان وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، لأنهم لا يروون إلاّ عن ثقة.

ويردّه : أنّا قد عثرنا في غير مورد على روايتهم عن غير الثقة ، ومعه ينحصر الوجه في تصحيح رواية الرجل على الإجماع المدعى على قبول رواية حماد بن عثمان فان ثبت إجماع تعبدي على ذلك فهو وإلاّ فلا مستند لذلك أبداً. والإجماع المحصل غير حاصل والإجماع المنقول مما لا اعتبار به.

الثالث : أن الرجل ممن مدحه المجلسي في الوجيزة (٢) وذكر صاحب الحدائق قدس‌سره أن شيخنا أبا الحسن روى مدحه في بلغته (٣) ، وعليه فالرجل ممدوح والرواية من الحسان فلا بدّ من الحكم باعتبارها.

والظاهر أن هذا الوجه أيضاً غير تام ، لأن مدح المجلسي للرجل مستند إلى ما رواه الكليني من أن رجلاً يقال له أبو الورد قد دخل على أبي عبد الله عليه‌السلام عند مراجعته من الحج ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام يا أبا الورد أما أنتم فترجعون عن الحج مغفوراً لكم ، وأما غيركم فيحفظون في أهاليهم وأموالهم (٤) بدعوى أن الرواية ظاهرة في مدح الرجل ، لقوله عليه‌السلام إنكم مغفورون ، وإلاّ فالمجلسي لم يعاصر الرجل بوجه ، وبين عصريهما قرون ، والرواية لا يمكن الاعتماد عليها من وجهين :

أحدهما : أن قوله عليه‌السلام « إنكم مغفورون » لا يدلنا على أزيد من أن الرجل شيعي ، فان شيعة علي عليه‌السلام إذا حجوا غفرت ذنوبهم المتقدمة فليستقبلوا أعمالهم (٥) وأما غيرهم فعمله غير مقبول ، ومن هنا قال : « إنكم مغفورون » ولم يقل‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠١.

(٢) ص ٣٧١.

(٣) الحدائق ٢ : ٣١٠.

(٤) الكافي ٤ : ٢٦٣ / ٤٦ ، الوافي ١٢ : ٢٣٥.

(٥) هذا مضمون جملة من الأخبار الواردة في فضل الحج والعمرة ، بضميمة ما ورد من أن الله

٢٠٣

إنك مغفور حتى يتوهم منه توثيق الرجل.

ويؤيده أيضاً مقابلة ذلك بقوله « وغيركم » لأن ظهوره في إرادة غير الشيعة غير قابل للإنكار ، ومن الظاهر أن كون الرجل شيعياً إمامياً غير كاف في اعتبار روايته.

وثانيهما : أنّا لو سلمنا أن الرواية صريحة الدلالة على توثيق الرجل ، وأنه ثقة ومن الأتقياء وأنه معهم عليهم‌السلام في الجنة مثلاً ، إلاّ أنّا من أين نعرف أن الرجل المذكور في الرواية هو أبو الورد الراوي للرواية التي بأيدينا ، لعدم انحصار المكنى بأبي الورد براوي هذه الرواية ، ومن الجائز أن يكون هناك رجل آخر مكنى بأبي الورد قد ورد على الامام عليه‌السلام وسأله وأجاب عليه‌السلام بما تقدّم ، وليس في الرواية غير أنه كان يقال له أبو الورد ، وأما أنه الراوي لهذه الرواية فلا قرينة عليه بوجه.

بل القرينة موجودة على خلافه ، لأن أبا الورد الراوي لهذا الخبر ممن عدّوه من أصحاب الباقر عليه‌السلام وهو يروي عنه عليه‌السلام كما أن ما بأيدينا من الرواية أيضاً رواها عنه عليه‌السلام ولم يكن معاصراً لأبي عبد الله عليه‌السلام وإلاّ لعدّوه من أصحاب الصادق والباقر عليهما‌السلام كليهما ، وأبو الورد في رواية الكافي من معاصري أبي عبد الله عليه‌السلام حيث إنه ورد عليه وسأله كما في الخبر ، وهذا يوجب الظن بل الاطمئنان بأنهما متغايران وأحدهما غير الآخر ، ومعه كيف يمكن إثبات وثاقة الرجل بتلك الرواية.

وما صنعه الميرزا قدس‌سره من إيراد الرواية المتقدمة الواردة في الحج في ترجمة أبي الورد راوي هذه الرواية ، فمبني على نظره واجتهاده ولا يمكننا الاعتماد عليه في مقام الاستدلال ، إذن لا دلالة في الرواية على المدعى.

__________________

لا يتقبّل إلاّ من المؤمنين ، وفي بعضها إنهم على أصناف ثلاثة : فأفضلهم نصيباً رجل غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر ووقاه الله عزّ وجلّ عذاب القبر ، وأما الذي يليه فرجل غفر له ذنبه ما تقدم منه ويستأنف العمل مما بقي من عمره ، وأما الذي يليه فرجل حفظ في أهله وماله [ الوافي ٥ : ٨١٥ ]. وروى في الفقيه : أنه الذي لا يقبل منه الحج. الفقيه ٢ : ١٤٦ / ٩٢.

٢٠٤

ولعلّ صاحب الحدائق قدس‌سره (١) التفت إلى ما ذكرناه ومن هنا قال : قد روي في الكافي ما يشعر بمدحه (٢) فما استشكله صاحب المدارك قدس‌سره من أن الرجل لم يثبت وثاقته والرواية ضعيفة هو الصحيح ، وعليه لا بدّ من الحكم بوجوب التيمم لعدم تمكنه من الوضوء المأمور به ، ولا بأس بالاحتياط بالجمع بين التيمم والمسح على الحائل.

ومنها : أي مما يستدل به على جواز المسح على الحائل فيما إذا كان لضرورة من برد أو خوف سبع ونحوهما ، رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في من عثر فانقطع ظفره فجعل على إصبعه مرارة فكيف يصنع في الوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ قال الله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه (٣) لأنها وإن وردت في انقطاع الظفر وجعل المرارة على الإصبع ، إلاّ أن المستفاد من قوله عليه‌السلام « يعرف هذا وأشباهه ... » أنه حكم كبروي يستفاد من الكتاب ، وأن من لم يتمكّن من المسح على بشرته فوظيفته المسح على الحائل ، بلا فرق في ذلك بين الإصبع والمرارة وغيرهما.

ويرد على هذا الاستدلال أمران :

أحدهما : أن الرواية ضعيفة السند ، لأن عبد الأعلى مولى آل سام لم يوثق في الرجال.

وثانيهما : أنها ضعيفة الدلالة ، وذلك لأن ما يعرف من كتاب الله ليس هو جواز‌

__________________

(١) الحدائق ٢ : ٣١٠.

(٢) ولا يخفى أن الرجل وإن لم يوثق في الرجال إلاّ أنه ممن وقع في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم القمي ، فبناء على ما عليه سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) من وثاقة كل من وقع في سلسلة أسانيد ذلك الكتاب أعني تفسير القمي ، لا بدّ من الحكم باعتبار الرواية ، ومعه لا حاجة إلى الاستدلال على وثاقة الرجل برواية الكليني قدس‌سره المتقدمة ، فإن الرواية ضعيفة السند بسلمة بن محرز ، لعدم ثبوت وثاقته ولا يمكن إثبات وثاقة الرجل بالرواية الضعيفة بوجه.

(٣) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.

٢٠٥

المسح على الحائل عند عدم التمكن من المسح على البشرة حتى يقال إن ذلك حكم كبروي ولا اختصاص له بمن انقطع ظفره وجعل على إصبعه مرارة ، بل الذي يستفاد من الكتاب إنما هو عدم وجوب المسح على البشرة لأنه عسر ، وأما وجوب المسح على المرارة والحائل فلا يستفاد من الكتاب ، وكيف يمكن أن يستفاد منه أن المسح على المرارة ميسور المسح على البشرة مع أنهما متغايران.

نعم ، يستفاد ذلك من قوله عليه‌السلام « فامسح على المرارة » وعليه فهي كسائر الأخبار الواردة في الجبائر كما يأتي في محلِّها ، وعليه فهو حكم يختص بالجبائر أعني من انقطع ظفره مثلاً وجعل على إصبعه مرارة ، فلا يمكننا التعدي عن موردها إلى المقام أعني ما إذا لم يتمكن المتوضئ من المسح على بشرته لضرورة من الخوف ونحوه.

فالصحيح أنه إذا اضطر إلى عدم مسح البشرة وجب عليه التيمم لعدم تمكنه من الوضوء المأمور به ، ومن عجز عن الطهارة المائية انتقلت وظيفته إلى الطهارة الترابية لا محالة. نعم الأحوط الجمع بينه وبين المسح على الخفين ، هذا.

ثم إنّا إذا قلنا باعتبار رواية أبي الورد ، إمّا من جهة انجبارها بعمل الأصحاب ، وإمّا من جهة وقوع حماد بن عثمان في سندها ، وإمّا من جهة كون الرجل ممدوحاً أو لغير ذلك من الوجوه ، لا بدّ من أن يعمم الحكم أعني جواز المسح على الخفين إلى ما إذا ترتب الضرر من المسح على البشرة على ما هو أعظم وأهم من الرجلين ، كالبدن إذا استلزم مسحهما طروء الحمى على بدنه ، أو كانت القافلة على شرف الحركة والنفر فاستلزم المسح على رجليه بقاءه منفرداً ومنفصلاً عن القافلة في قفر من القفار ، أو غير ذلك مما هو أعظم من إصابة البرد أو الثلج على رجليه ، بل نتعدى إلى ما إذا ترتب على المسح ما هو مساو لاصابة البرد والثلج ، كما إذا خاف من إصابة الحر على رجليه ، وذلك لأن ظاهر الرواية أن إصابة الثلج مما لا خصوصية له في الحكم ، وإنما ذكره عليه‌السلام من باب أنه أقل أفراد الضرر المترتب على مسح الرجلين.

وعلى الجملة أن مقتضى المناسبة بين الحكم وموضوعه عدم اختصاص الحكم‌

٢٠٦

من غير فرق بين مسح الرأس والرجلين (١)

______________________________________________________

المذكور بمن خاف على رجليه من الثلج خاصة ، بل يعم ما إذا خاف على رجليه من الحر أو ما هو أعظم من ذلك كما مر ، كما أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي التعدِّي إلى غير الخفّين من الموانع المتحققة في الرجل كالجورب ونحوه ، لأن مورد الرواية وإن كان هو الخف إلاّ أن المورد لا يكون مخصصاً ، بل الظاهر منها بمناسبة الحكم والموضوع جواز المسح على كل حائل عند الضرورة وعدم التمكن العرفي من المسح على البشرة.

(١) لا يخفى أن رواية أبي الورد على تقدير القول باعتبارها تختص بالرجلين ، كما أن الإجماع على تقدير تماميته منعقد فيما إذا خاف على رجليه من البرد ، وعليه فالتعدي إلى مسح الرأس يحتاج إلى دليل.

ودعوى القطع بعدم الفرق بين مسح الرجلين ومسح الرأس ، عهدتها على مدعيها لعدم علمنا بملاكات الأحكام ، ويحتمل اختصاص الملاك بالرجلين لموافقة المسح على الخفين مع العامّة بخلاف مسح الحائل في الرأس.

نعم ، قد يستدل على جواز المسح بالحائل في الرأس عند الضرورة بالروايتين الواردتين في الحناء.

إحداهما : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة ، فقال : لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه » (١).

وثانيتهما : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء ، قال : يمسح فوق الحناء » (٢). بدعوى أن الظاهر منهما إرادة الضرورة والتداوي بالحناء.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٥٦ / أبواب الوضوء ب ٣٧ ح ٣.

٢٠٧

ولو كان الحائل متعدِّداً لا يجب نزع ما يمكن وإن كان أحوط (١) ، وفي المسح على‌

______________________________________________________

ولا يمكن الاستدلال بشي‌ء من الروايتين ، أمّا الرواية الاولى ، فلأنّ ظاهرها كما قدّمناه أن طلي الحناء بعد الحلق إنما كان مستنداً إلى التداوي بالحناء ، وعليه فلا مانع من المسح عليه ، لأن كفاية المسح على الدواء عن المسح على البشرة منصوصة على ما يأتي تفصيله عند الكلام على أحكام الجبائر إن شاء الله تعالى (١) فلا دلالة لها على كفاية المسح على كل حائل على الرأس عن المسح بالبشرة.

وأما الرواية الثانية ، فللقطع الوجداني بعدم خصوصية للحناء في ذلك ، فلو جاز المسح عليه جاز المسح على كل حائل على الرأس ، وعليه فلا مناص من حمل الرواية على التقيّة لموافقتها للعامة ، اللهمّ إلاّ أن تحمل على صورة التداوي بالحناء فيتحد مع الرواية السابقة ، وقد عرفت أن كفاية المسح على الدواء منصوصة.

فالمتحصل : أنه لا دليل على جواز المسح على الحائل عند الضرورة إلى ترك مسح الرأس ، فلا مناص حينئذٍ من التيمم ، والاحتياط بالجمع بينه وبين المسح على الحائل أولى كما لا يخفى.

تعدّد الحائل :

(١) كما إذا لبس جورباً زائداً على الخفين أو جورباً ثانياً وهكذا ، وكما إذا لبس العرقجين تحت العمامة ، فهل يجب نزع ما يمكن نزعه من أفراد الحائل؟ الصحيح لا وذلك لإطلاق الرواية وكلمات الأصحاب ، لأن الظاهر من قوله عليه‌السلام « لا ، إلاّ من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك » أنه في هاتين الصورتين لا مانع من المسح على الخفين ، سواء كان معهما حائل آخر أم لم يكن ، رقيقاً كان أم غليظاً ، واحداً كان أم متعدِّداً.

__________________

(١) في المسألة [٦٠٨].

٢٠٨

الحائل أيضاً لا بدّ من الرطوبة المؤثرة في الماسح ، وكذا سائر ما يعتبر في مسح البشرة (١).

[٥٢٤] مسألة ٣٤ : ضيق الوقت عن رفع الحائل أيضاً مسوّغ للمسح عليه لكن لا يترك الاحتياط بضم التيمم أيضاً (٢).

______________________________________________________

اعتبار الرطوبة المؤثرة في المسح على الحائل :

(١) لأن ظاهر الرواية المتقدمة أن المسح على الحائل كالمسح على البشرة ، فيراعى فيه ما روعي في المسح على البشرة ، فهي توسعة في الممسوح ولا دلالة لها على إلغاء الشرائط المعتبرة في المسح ، من لزوم كونه بنداوة الوضوء وأن يكون على نحو التدريج ، وأن يكون بإمرار اليد على الرأس والرجلين وغيرها من الشرائط المتقدمة فلا بدّ من مراعاتها حسب إطلاق أدلتها ، وهذا ظاهر.

ضيق الوقت غير مسوّغ للمسح على الحائل :

(٢) ما سردناه إلى هنا من جواز المسح على الخفين أو غيرهما من أفراد الحائل إنما يختص بما لم يتمكن المتوضئ من المسح على بشرته خوفاً مما يترتب على مسحها من برد أو حر أو غيرهما من المضار على ما تقدّم تفصيله.

وأمّا إذا فرضنا أنه متمكن من مسح البشرة ولم يترتّب عليه أيّ ضرر إلاّ أنه عجز عن مقدّمته كنزع الخفين مثلاً لما في يده من الشلل ، أو أن يده قد أصابها البرد بحيث لا يمكنه نزعهما ، أو لم يتمكن من نزعهما لضيق الوقت لكن لو نزعهما أحد أو نزعهما بنفسه لم يترتب على مسح الرجلين أيّ ضرر من برد أو حر أو غيرهما ، فهل يجوز له المسح على الخفين حينئذٍ أيضاً أو لا يجوز؟

الصحيح عدم الجواز خلافاً للماتن قدس‌سره وذلك لأن الرواية مختصة بما إذا ترتّب على مسح البشرة ضرر من برد أو حر ، وقد تعدّينا عن موردها وهو خوف‌

٢٠٩

[٥٢٥] مسألة ٣٥ : إنما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ما عدا التقيّة إذا لم يمكن رفعها ولم يكن بدّ من المسح على الحائل ولو بالتأخير (١)

______________________________________________________

الثلج على الرجلين إلى صورة الخوف على ما هو أعظم منهما كالبدن إذا خيف عليه من الحمى مثلاً ونحو ذلك ، وأما صورة عدم ترتّب أي ضرر على مسحهما وعدم تمكنه من النزع ولو لأجل ضيق الوقت فلم يدلنا فيها دليل على كفاية المسح على الخفين حينئذٍ ، بل لا بدّ معه من التيمم ، فلو جمع بينه وبين المسح على خفيه لكان أولى وأحسن ، والاقتصار في هذه الصورة بخصوص المسح على الخفين خلاف الاحتياط جدّاً.

شرطية عدم التمكن من رفع الضرورات :

(١) والوجه في ذلك أن الاضطرار إلى المسح على الخفين في محل الكلام نظير بقية موارد الاضطرار ، فهو إنما يكفي ويجتزئ به في مقام الامتثال ، فيما إذا لم يتمكن من المسح على نفس الرجلين في الطبيعي المأمور به في شي‌ء من الأفراد الواجبة ما بين المبدأ والمنتهى ، دون ما إذا لم يتمكّن منه في فرد أو فردين ولكن كان متمكناً في غيره من الأفراد العرضية ، كما إذا لم يتمكّن من المسح عليهما في ساحة الدار خوفاً من البرد على رجليه وتمكن منه في داخل الغرفة لأن الهواء فيها متدافئ ، أو من الأفراد الطولية كما إذا تمكن من المسح على بشرته إذا صبر وأخّر الوضوء إلى آخر الوقت فإنه حينئذٍ متمكن من المسح المأمور به فلا يجزئ عنه غيره.

وبعبارة اخرى : الشي‌ء الذي وجب في حق المكلف إنما هو الطبيعي الواقع بين المبدأ والمنتهى ، فلا بدّ في تحقّق الاضطرار من العجز عن المسح المأمور به في ذلك الطبيعي الواقع بين الحدين ، فلو عجز عن المسح المأمور به في فرد دون بقية الأفراد فهو يتمكّن من المسح الواجب لا محالة ، ومعه كيف يمكن الاجتزاء بغيره ، والعجز‌

٢١٠

إلى آخر الوقت ، وأما في التقيّة فالأمر أوسع فلا يجب الذهاب إلى مكان لا تقيّة فيه ، وإن أمكن بلا مشقة ، نعم لو أمكنه وهو في ذلك المكان ترك التقيّة وإراءتهم المسح على الخف مثلاً ، فالأحوط بل الأقوى ذلك (١) ولا يجب بذل المال لرفع التقيّة بخلاف سائر الضرورات (٢) والأحوط في التقيّة أيضاً الحيلة في رفعها مطلقاً.

______________________________________________________

والاضطرار في جميع أفراد الطبيعة هو الذي يستفاد من رواية أبي الورد المتقدمة (١) ولا إطلاق لها بالإضافة إلى كفاية العجز عن مسح البشرة في فرد من أفراد الواجب حتى يتمسك به في الحكم بكفاية مجرد الاضطرار في فرد واحد من أفراد الطبيعة المأمور بها.

(١) يأتي الكلام على التقيّة مفصّلاً (٢) بعد بيان الفروع المترتبة على الاضطرار إلى المسح على الخفين إن شاء الله.

لا يجب بذل المال لرفع التقيّة :

(٢) كما إذا توقّف المسح المأمور به أعني المسح على البشرة على بذل مال لنزع الخفين من رجلي المتوضي ، أو لإدخاله مكاناً متدافئاً لا يخاف فيه من البرد على رجليه ، أو لغيرهما مما يتمكن به من المسح المأمور به.

ولعلّ الماتن قدس‌سره استفاد وجوب بذل المال على ذلك مما ورد في بعض الروايات ، من وجوب بذل المال على ماء الوضوء ولو كان كثيراً ، وذكر في ذيله : وما يسوؤني ( يسرني ) بذلك مال كثير (٣).

ولا يمكن المساعدة على ذلك بوجه ، لأن إيجاب الوضوء ليس كإيجاب سائر الواجبات المالية أو البدنية كالخمس والزكاة والجهاد والحج ، إيجاباً مبنياً على الضرر‌

__________________

(١) في ص ٢٠٢.

(٢) في ص ٢١٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٨٩ / أبواب التيمم ب ٢٦ ح ١.

٢١١

[٥٢٦] مسألة ٣٦ : لو ترك التقيّة في مقام وجوبها ومسح على البشرة ففي صحة الوضوء إشكال (*) (١).

[٥٢٧] مسألة ٣٧ : إذا علم بعد دخول الوقت أنه لو أخّر الوضوء والصلاة يضطر إلى المسح على الحائل ، فالظاهر وجوب المبادرة إليه في غير ضرورة التقيّة وإن كان متوضئاً وعلم أنه لو أبطله يضطر إلى المسح على الحائل لا يجوز له الإبطال (٢).

______________________________________________________

المالي أو البدني من الابتداء ، ليقال إن المال فيها لا بدّ من بذله وإن كان موجباً للضرر ولا يتوقف تحصيله على بذل مال ، وعليه فاذا استلزم امتثال إيجاب الوضوء ضرراً مالياً أو بدنياً على المكلف فمقتضى قاعدة نفي الضرر عدم وجوب الوضوء في حقه لأنه أمر ضرري ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فإذا لم يجب عليه الوضوء وجب عليه التيمم لا محالة بمقتضى تلك القاعدة ، وقد خرجنا عن عمومها في خصوص ما إذا توقّف تحصيل ماء الوضوء على بذل مال ، فان مقتضى أدلة نفي الضرر عدم وجوب البذل وعدم وجوب الوضوء عليه. ولم يرد هناك تخصيص للقاعدة ، وعليه ففي مفروض المسألة لا مناص من الحكم بوجوب التيمم من دون أن يجب عليه بذل المال لرفع الضرورة في المسح على الخفين.

(١) تأتي هذه المسألة عند التعرّض لأحكام التقيّة بعد التكلّم على فروع الاضطرار إلى مسح الخفّين (٢) فانتظر.

وجوب المبادرة في محل الكلام :

(٢) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين :

أحدهما : ما إذا علم المكلف بعد دخول وقت الصلاة أنه لو أخّر الوضوء ولم يتوضأ فعلاً لم يتمكّن من الوضوء المأمور به والمسح على البشرة بعد ذلك ، أو كان متوضئاً‌

__________________

(*) أظهره عدم الصحة.

(١) في ص ٢٧٨.

٢١٢

وإن كان ذلك قبل دخول الوقت فوجوب المبادرة أو حرمة الإبطال غير معلوم (*) (١).

______________________________________________________

على النحو المأمور به وعلم بأنه لو أبطله لم يتمكّن من الوضوء مع المسح على البشرة بعد ذلك ، فهل يجب عليه المبادرة إلى الوضوء في المسألة الأُولى ويحرم عليه إبطال الوضوء في المسألة الثانية أو لا؟

الصحيح كما أفاده الماتن في المتن وجوب المبادرة وحرمة الابطال ، وذلك لأنه حينئذٍ يتمكن من الإتيان بالمأمور به الأولي حال وجوبه ، وبه يتنجّز عليه وجوب الصلاة مع الوضوء المأمور به في حقِّه ، لتمكّنه من امتثاله ، وعليه فلو أخرج نفسه عن التمكّن والقدرة إلى العجز بإراقة الماء أو بترك المبادرة أو بإبطال وضوئه كان ذلك عصياناً ومخالفة لذلك الأمر المتنجز ، فلا محالة يعاقب على تفويته وتركه للواجب بالاختيار.

وأدلّة الأبدال إنما تدل على البدلية لمن لم يتمكّن من المأمور به الأوّلي وكان عاجزاً عن الماء أو غيره ، والمفروض أنه متمكِّن من الماء ومن الوضوء الصحيح فلا يجوز في حقِّه الإتيان ببدله إلاّ بتفويت قدرته وتمكّنه وإخراج نفسه عن التمكّن وإدخالها في العجزة وغير القادرين ، وهذا أمر غير سائغ ، بل لو كنّا نحن وأدلّة وجوب الوضوء لقلنا بسقوط الأمر بالوضوء والصلاة عمن عجّز نفسه بتفويت قدرته على الماء أو المسح المأمور به بالعصيان ومعاقبته بترك الواجب اختياراً ، إلاّ أن الأدلة دلت على أن الصلاة لا تسقط بحال ولا بدّ من إتيانها بالطهارة الترابية ، وهذا لا ينافي العقاب من جهة تركه المأمور به بالاختيار ، هذا كله فيما إذا علم بذلك بعد دخول الوقت.

وثانيهما : ما إذا علم بذلك قبل دخول وقت الوجوب ، وهو الذي أشار إليه الماتن بقوله : وإن كان ذلك قبل دخول الوقت ....

(١) والصحيح في هذه المسألة عدم وجوب المبادرة إلى الوضوء وعدم حرمة‌

__________________

(*) بل الظاهر عدم وجوب المبادرة وجواز الابطال.

٢١٣

الإبطال ، وذلك لأن وجوب الوضوء والصلاة مشروط في الشريعة المقدسة بدخول وقتها كما دلّ عليه قوله عزّ من قائل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ... ) (١) وقوله عليه‌السلام « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور » (٢) وعلى ذلك لا حكم متنجز بشي‌ء من الطهور والصلاة قبل الوقت ، فلو ترك المكلف المبادرة إلى الوضوء أو أبطله قبل دخول الوقت لم يكن في ذلك أية مخالفة وعصيان للتكليف المتنجز عليه ، لأن المفروض أن التكليف قد اشترط بالوقت وهو غير متحقق بعد ، فلا وجه للحكم بوجوب المبادرة إليه ولا لحرمة إبطاله.

نعم ، قد يتوهم أن في ترك المبادرة قبل الوقت أو في إبطال الوضوء حينئذٍ تفويتاً للملاك الملزم وهو بالنظر العقلي كعصيان التكليف المنجّز في القبح ، فلا مناص معه من الحكم بوجوب المبادرة وحرمة الابطال ، وهذا الكلام وإن كان بحسب الكبرى صحيحاً ومما لا مناقشة فيه ، لما ذكرناه غير مرة من أن تفويت الملاك الملزم ومخالفة التكليف المنجّز سيان عند العقل وكلاهما عصيان ومخالفة لديه ، إلاّ أن الكلام كله في صغرى ذلك في المقام ، وأن الصلاة مع الوضوء التام هل فيها ملاك ملزم بالإضافة إلى العاجز عن الوضوء المأمور به من أوّل الوقت ، أو أن الملاك الملزم يخص القادرين وحيث لا سبيل لنا إلى استكشاف ملاكات الأحكام الشرعية على ما ذكرناه غير مرّة إلاّ بالأمر والتكليف شرعاً ، ولا تكليف على العاجز ومن لم يتمكن من الوضوء التام بالإضافة إلى الوضوء قبل الوقت ولا بعده ، فلا يمكننا تحصيل العلم بوجود الملاك الملزم في حقه ، ومن الجائز وجداناً أن تكون القدرة دخيلة في تحقق الملاك ، ومعه لا يمكن الحكم بحرمة إبطال الوضوء أو بوجوب المبادرة إليه قبل الوقت ، بدعوى أنه تفويت للملاك الملزم ، هذا كلّه في الفروع المترتبة على ترك المسح المأمور به أعني المسح على غير البشرة بشي‌ء من الضرورات المتقدمة غير التقيّة.

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٢) الوسائل ١ : ٣٧٢ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ١.

٢١٤

وأمّا إذا كان الاضطرار بسبب التقيّة فالظاهر عدم وجوب المبادرة وكذا يجوز الابطال وإن كان بعد دخول الوقت لما مرّ من الوسعة في أمر التقيّة (*) لكن الأولى والأحوط فيها أيضاً المبادرة أو عدم الإبطال (١)

______________________________________________________

إذا كانت الضرورة هي التقيّة :

(١) وأما إذا كانت الضرورة هي التقيّة ، فالمعروف المشهور بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) جواز المسح على الخفّين تقيّة ، وتدل عليه العمومات والإطلاقات الواردة في وجوب التقيّة ومشروعيتها كقوله عليه‌السلام « التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له » (٢) « التقيّة في كل شي‌ء » (٣) على ما سيأتي فيها الكلام ، وأيضاً تدل عليه رواية أبي الورد المتقدمة (٤) حيث صرح فيها بجواز المسح على الخفين تقيّة وقال : « لا ، إلاّ من عدو تتّقيه » (٥).

وفي قبال ذلك عدة روايات دلت على عدم جواز المسح على الخفين تقيّة.

الأُولى : صحيحة زرارة قال : « قلت له : في مسح الخفين تقيّة؟ فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً ، شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج » (٦). وهي كالصريحة في عدم جريان التقيّة في المسح على الخفين. نعم الراوي فهم من قوله « لا أتقي » الاختصاص وأن عدم جواز التقيّة في الأُمور الثلاثة من خصائصه عليه‌السلام على ما صرح به في ذيل الرواية حيث قال : قال زرارة : « ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً » وهو على جلالته وعلو مقامه لا مناص من رفع اليد عما فهمه بقرينة صحيحته الثانية التي رواها الكليني قدس‌سره ولم نعثر عليها في أبواب التقيّة من الوسائل.

__________________

(*) التوسعة في التقيّة إنما هي في غير المسح على الحائل.

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٠ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ح ٢٤.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢١٤ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٢.

(٣) في ص ٢٠٢.

(٤) الوسائل ١ : ٤٥٨ / أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ٥.

(٥) الوسائل ١ : ٤٥٨ / أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ١.

٢١٥

والثانية : ما أشرنا إليه آنفاً ، أعني صحيحة زرارة التي رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عن غير واحد قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام في المسح على الخفّين تقيّة؟ قال : لا يتقى في ثلاثة ، قلت : وما هنّ؟ قال : شرب الخمر أو قال : شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج » (١) فإنها صريحة في عدم اختصاص الحكم بهم عليهم‌السلام بقوله : عليه‌السلام « لا يتقى » ومعه لا بدّ من حمل قوله عليه‌السلام في الصحيحة الاولى « لا أتقي » على المثال.

الثالثة : ما رواه الكليني قدس‌سره أيضاً عن درست عن محمد بن الفضيل الهاشمي قال « دخلت مع إخوتي على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلنا إنّا نريد الحج وبعضنا صرورة ، فقال : عليكم بالتمتع فانّا لا نتقي في التمتع بالعمرة إلى الحج سلطاناً واجتناب المسكر والمسح على الخفين » (٢).

الرابعة : ما رواه الكليني والبرقي والصدوق ( قدس الله أسرارهم ) عن أبي ( ابن ) عمر الأعجمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنه قال : « لا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كل شي‌ء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفين » (٣) وزاد في الخصال « إن تسعة أعشار الدين في التقيّة » ولم يذكر في هذه الرواية متعة الحج كما لم يذكر في شي‌ء من روايات الكليني والبرقي والصدوق لهذه الرواية ولا نقل ذلك عنهم قدس‌سرهم في الوسائل ولا في غيره من كتب الحديث.

فما في كلام المحقق الهمداني قدس‌سره من نقل الرواية مشتملة على متعة الحج (٤) من سهو القلم.

هذه هي الأخبار الواردة في المقام وقد عرفت استدلالهم بها على عدم جواز التقيّة‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٥.

(٢) الكافي ٤ : ٢٩٣.

(٣) الوسائل ١٦ : ٢١٥ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٥ ح ٣ ، الكافي ٢ : ١٧٢ / ٢ ، المحاسن : ٢٥٩ / ٣٠٩ ، الخصال : ٢٢ / ٧٩.

(٤) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٤ السطر ٢٢.

٢١٦

في المسح على الخفّين.

ويرد الاستدلال بالرواية الأخيرة أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها على شي‌ء ، لأن أبا عمر الأعجمي ممن لم يتعرضوا لحاله فهو مجهول الحال من جميع الجهات ، حتى من حيث التشيع وعدمه فضلاً عن الوثاقة وعدمها ، فالرواية ساقطة عن الاعتبار. وكذلك الرواية الثالثة لضعفها بمحمد بن الفضيل الهاشمي ، لعدم توثيقه في الرجال ، وكذلك درست الواقع في سندها لأنه لم يوثق في الرجال.

وأما الرواية الاولى أعني صحيحة زرارة الأُولى فهي أيضاً غير صالحة للاستدلال بها على المدعى ، لاحتمال أن يكون الحكم الوارد فيها من مختصاته عليه‌السلام ومع هذا الاحتمال كيف يسوغ الاستدلال بها على عدم جواز التقيّة في مسح الخفين على المكلفين ، فلا تبقى في البين رواية إلاّ الصحيحة الثانية لزرارة وهي العمدة في المقام فان قلنا باعتبار رواية أبي الورد المتقدمة ولو بأحد الوجهين المتقدمين من عمل المشهور على طبقها ، أو لكون حماد بن عثمان الواقع في سندها من أحد أصحاب الإجماع فلا إشكال في المسألة ، لأن الرواية ناصة في الجواز والصحيحة ظاهرة في حرمة التقيّة في محل الكلام فيجمع بينهما بحمل الظاهر على النص. ونتيجة هذا الجمع أن التقيّة في الأُمور الثلاثة الواردة في الرواية أمر مكروه ، أو يحمل الصحيحة على غير الكراهة مما لا ينافي الرواية.

وأما إذا لم نقل باعتبار الرواية ولم نعتمد عليها في الاستدلال ، فهل يمكننا رفع اليد بصحيحة زرارة عن الإطلاقات والعمومات الواردة في التقيّة ، نظراً إلى أن الصحيحة أخص منها مطلقاً فهي توجب تقييدها لا محالة ، أو أن الأمر بالعكس فلا بدّ من أن يرفع اليد عن الصحيحة بهذه الإطلاقات والعمومات؟

الثاني هو التحقيق ، وذلك لأن الظاهر أن الصحيحتين المتقدمتين لزرارة متحدتان والوجه في هذا الاستظهار أُمور :

منها : أن زرارة بعد ما نقل الصحيحة الأُولى وعقّبها بما فهمه منها ، من أن عدم جواز التقيّة في الموارد الواردة في الصحيحة من خصائص الإمام عليه‌السلام حيث‌

٢١٧

قال : ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا ، كيف يسوغ له أن يروي رواية أُخرى بعين ذلك السند يدل على خلاف ما استفاده من الصحيحة الاولى ، أعني حرمة التقيّة في الأُمور الثلاثة الواردة في الصحيحة.

ومنها : أن السند في كلتا الروايتين واحد كما تقدم.

ومنها : أن الرواية قد نقلها في الوافي (١) بلفظة « لا نتقي » لا « لا يتقى » ولعله هو الصحيح ، وإن كانت نسخ الكافي كلّها حتى النسخة التي بهامش مرآة العقول (٢) وهكذا نسخ غير الكافي بلفظة « لا يتقى » وعلى ذلك فالاتحاد بين الروايتين ظاهر حيث لا فرق بين « نتقي » و« أتقي » لأنهم عليهم‌السلام بمنزلة شخص واحد.

وكيف كان فبهذه الأُمور نستظهر اتحاد الروايتين ولا أقل من احتمال ذلك كما لا يخفى. إذن لا دلالة في الصحيحة على عدم جواز التقيّة في الأُمور الثلاثة لغيرهم عليهم‌السلام.

ولعل هذا هو السر في أن صاحب الوسائل قدس‌سره لم ينقل الصحيحة الثانية في شي‌ء من الأبواب المناسبة لها ، فإنه لولا اتحاد الروايتين وكون الصحيحة بلفظة « لا نتقي » لم يكن لما صنعه صاحب الوسائل من ترك نقل الصحيحة الثانية وجه صحيح لصحة سندها ووضوح دلالتها ، مع أنه قد التزم بنقل الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة في الوسائل.

والظاهر أن النسخة عند صاحب الحدائق قدس‌سره أيضاً « لا نتقي » لأنه بعد ما نقل الصحيحة الأُولى عن زرارة وحمل الشيخ لها في التهذيبين على اختصاص عدم جواز التقيّة في الأُمور الثلاثة به عليه‌السلام قال : ومثل خبر زرارة المذكورة أيضاً ما رواه في الكافي ، ثم نقل الصحيحة الثانية إلى آخرها (٣).

ولو لا كون النسخة عنده « لا نتقي » لم تكن هذه الصحيحة مثلاً للصحيحة الاولى‌

__________________

(١) الوافي ٢٠ : ٦٤٣.

(٢) مرآة العقول ٢٢ : ٢٧٥ / ١٢.

(٣) الحدائق ٢ : ٣١١.

٢١٨

بل كانت مغايرة معها ، لأن إحداهما مشتملة على كلمة « لا أتقي » الدالة على الاختصاص ، وثانيتهما مشتملة على كلمة « لا يتقى » وهي تدل على عمومية الحكم وعدم اختصاصه له عليه‌السلام.

فالمتحصل : أن عدم التقيّة في تلك الأُمور من خصائصهم عليهم‌السلام هذا أوّلاً.

ثم لو سلمنا أن الصحيحة « لا يتقى » وأنها مغايرة مع الصحيحة الأُولى ، فالظاهر أنها غير ناظرة إلى أن التقيّة غير جارية في الأُمور الثلاثة بحسب الحكم ، بأن تكون الصحيحة دالة على حرمة التقيّة فيها ومخصصة للعمومات والإطلاقات الواردة في التقيّة ، بل إنما هي ناظرة إلى عدم جريان التقيّة فيها بحسب الموضوع أو الشرط وذلك :

أمّا بالإضافة إلى شرب الخمر فلأنا لم نجد أحداً يفتي من العامة بجواز شرب الخمر في الشريعة المقدسة كيف وحرمته من الضروريات والمسلمات ، ومع عدم ذهابهم إلى الجواز لا معنى للتقية المصطلح عليها في شربها ، لأنها إنما تتحقق فيما إذا كان الأمر على خلاف مذهبهم ، وأما مع الموافقة فلا موضوع للتقية وهذا ظاهر ، نعم يمكن أن يجبر السلطان أو حاكم أحداً على شربها إلاّ أنه خارج عن التقيّة المصطلح عليها ويندرج في عنوان الاضطرار أو الإكراه على شرب الخمر ، لأن التقيّة إنما تتحقق بإظهار الموافقة معهم فيما يرجع إلى الدين ، وإظهار الموافقة معهم لا بعنوان الدين والحكم الشرعي خارج عن التقيّة بالكلية.

وأمّا متعة الحج ، فلأجل أنها وإن كانت من مختصات الطائفة المحقة على ما هو المعروف بيننا إلاّ أن التقيّة فيها فاقدة لشرطها وهو خوف ترتب الضرر على خلاف التقيّة أعني الإتيان بمتعة الحج ، لإمكان الإتيان بها من دون أن يترتب عليها أي ضرر بحسب الغالب ، وذلك من جهة أن حج التمتع بعينه حج القران لاشتراكهما في الأُمور المعتبرة فيهما ويمتاز التمتع عنه بأمرين :

أحدهما : النية لأنّا ننوي التمتع وهم ينوون القرآن.

٢١٩

وثانيهما : التقصير ، وأما في غيرهما من الإحرام من المواقيت ودخول مكة والطواف فهما مشتركان لا يمتاز أحدهما عن الآخر. والنية أمر قلبي لا معنى للتقية فيه لعدم ظهورها في الخارج وهذا ظاهر ، والتقصير مما يتمكن منه أغلب الناس ، لأن أخذ شي‌ء من شعر الرأس أو الأظافر أمر متيسّر للأغلب ولو في الخلوة ، فالتمتع في الحج فاقد لشرط التقيّة. نعم ، إنها إحدى المتعتين اللتين حرمهما الخليفة الثاني إلاّ أن تابعيه قد قبلوا منه تحريم متعة النساء ولم يقبلوا منه تحريم متعة الحج ، بل وقع فيه الخلاف بينهم ، فعن مسند أحمد : أن عبد الله بن عمر حج متمتعاً فقيل له هل تخالف سنة أبيك؟ فقال : يا سبحان الله سنة أبي أحق أن يتبع أم سنة رسول الله (ص) وفي خبر آخر سنة الله ، فليراجع.

فالتقية في متعة الحج فاقدة للشرط بحسب الأغلب ، فلو وجد مورد ولم يتمكن فيه من التمتع على طريقة الشيعة فهو من النذرة بمكان ، والأخبار منصرفة عن مثله إلى ما هو الغالب لا محالة.

وأما المسح على الخفين ، فلأجل أن وجوب المسح عليهما ليس من المسائل الاتفاقية عندهم ، بل الأكثر منهم ذهبوا إلى التخيير بين المسح عليهما وغسل الرجلين ، وذهب بعضهم إلى أفضلية المسح على الخفّين (١) إذن فلا موضوع للتقية في المسح على الخفين ، بل ينتزع الخفين عن رجليه من غير خوف ولكنه يغسلهما تقيّة كما ورد الأمر بغسلهما في بعض الأخبار وقد حملناه على التقيّة (٢).

وعلى الجملة : أن عدم جريان التقيّة في الأُمور المذكورة إنما هو من جهة خروجها عن التقيّة بحسب الموضوع أو الشرط ، فإن شئت قلت بحسب الموضوع فقط لأنه الجامع بين الموضوع الذي أشرنا إليه والشرط ، ولا نظر للرواية إلى عدم جريان التقيّة فيها بحسب الحكم حتى تكون مخصصة للعمومات والإطلاقات ، وذلك للقطع بأن الأمر إذا دار بين المسح على الخفين وضرب أعناق المؤمنين لم يرض الشارع بترك‌

__________________

(١) راجع تعليقة ص ١١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٢١ / أبواب الوضوء ب ٢٥ ح ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

٢٢٠