موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

والمتحصل : أن المسح لا بدّ وأن يكون ببلّة اللحية بعد يبوسة اليد ، بل الأقوى عدم جواز المسح بغير بلتها فيما إذا لم يكن هناك لحية أو كانت ولكنها يبست ، فلا يجوز المسح ببلّة الحاجبين أو أشفار العينين ، لعدم دلالة الدليل على كفاية المسح ببلّة غير اللحية.

نعم ، وردت في ذلك عدة روايات إلاّ أنها ضعيفة السند كما أشرنا إليه سابقاً.

ويدلُّ على ما ذكرناه موثقة مالك بن أعين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح فان كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه وإن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء » (١).

وقد يقال : إن عدم تعرض الرواية لأخذ البلّة من غير اللحية وحكمها بالإعادة عند عدم البلّة في اللحية لعله من جهة أن من البعيد عادة بقاء الرطوبة في غير اللحية من الحاجبين أو أشفار العينين أو غيرهما من الأعضاء مع يبوسة بلّة اللحية ، فلأجل التلازم العادي بين يبوسة اللحية ويبوسة الحاجبين والأشفار أو غيرهما أمر عليه‌السلام بإعادة الوضوء عند يبوسة اللحية ، لا من جهة عدم كفاية المسح ببلّة غير اللحية من الأعضاء كما لا يخفى.

وفيه : أن غلبة فقدان البلّة في غير اللحية عند ارتفاعها وزوالها عن اللحية وإن كانت صحيحة كما ذكر ، إلاّ أن بقاء الرطوبة في غيرها من الأعضاء عند يبوسة اللحية أيضاً كثير وليس من الندرة بمكان ، وذلك كما إذا تمندل ونشّف لحيته بعد الوضوء وتذكّر أنه ترك المسح قبل أن تنشف يده ، فإن الرطوبة باقية في يده وقتئذٍ مع جفاف لحيته ، والتمندل أمر متعارف لدى الناس وإن احتمل كراهته أو استحباب تركه ، ومع كون بقاء الرطوبة في غير اللحية أمراً كثيراً متعارفاً إذا حكم بوجوب الإعادة عند جفاف اللحية وارتفاع بللها ، فلا محالة يستفاد من ذلك عدم كفاية المسح بغير بلّة اللحية كما ذكرناه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٩ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٧.

١٨١

وإن كان الأحوط تقديم اللحية والحواجب على غيرهما من سائر الأعضاء. نعم الأحوط عدم أخذها ممّا خرج من اللحية عن حد الوجه ، كالمسترسل منها (١) ، ولو كان في الكف ما يكفي الرأس فقط مسح به الرأس (٢) ثم يأخذ للرجلين من سائرها على الأحوط (٣) ، وإلاّ فقد عرفت أن الأقوى جواز الأخذ مطلقاً.

______________________________________________________

أخذ البلّة من المسترسل من اللحية :

(١) هل البلّة الموجودة في المسترسل من اللحية الذي خرج عن حد الوجه كالبلة الموجودة في اللحية نفسها فيجوز المسح بها أو لا يجوز؟ فقد يقال بعدم الجواز ، نظراً إلى أن المسح لا بدّ أن يكون ببلّة الوضوء على ما تقدم وعرفت ، والبلّة الموجودة في غير مواضع الوضوء ليست من بلّة الوضوء ، وعليه فيقع الكلام في أن بلّة المسترسل من اللحية هل هي من بلّة الوضوء أو أنها ماء خارجي؟

ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره أنها من بلّة الوضوء ، لصدق أنها من نداوته لدى العرف (١) ، ولكن الصحيح أنها ليست من نداوة الوضوء ، لأن المراد بماء الوضوء إنما هو الماء الموجود في محاله دون مطلق الماء المستعمل في الوضوء ، وإلاّ لجاز المسح بالبلة الواقعة على الثوب أو البدن حال الوضوء ، أو بالماء المجتمع في الإناء عند الوضوء ، ومن الظاهر أن مسترسل اللحية ليس من محال الوضوء ، لأنه خارج عما بين القصاص والذقن فلا يجوز المسح ببلته ، وكذلك الحال فيما خرج عن حد الوضوء بحسب العرض ، لأن بلته ليست من بلل مواضع الوضوء فلا يجوز المسح ببلته.

(٢) لأنه مع وجود ما يكفي لمسح رأسه في الكف ليس له المسح ببلل غيره من الأعضاء.

(٣) بل على الأقوى كما عرفت.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٥٣ السطر ٢٥.

١٨٢

[٥١٦] مسألة ٢٦ : يشترط في المسح أن يتأثر الممسوح برطوبة الماسح (١) وأن يكون ذلك بواسطة الماسح لا بأمر آخر (٢). وإن كان على الممسوح رطوبة خارجة فإن كانت قليلة غير مانعة من تأثير رطوبة الماسح فلا بأس وإلاّ لا بدّ من تجفيفها ، والشكّ في التأثير كالظنّ لا يكفي بل لا بدّ من اليقين (٣).

______________________________________________________

شرطيّة تأثّر الممسوح :

(١) بأن تكون اليد مبتلة ببلّة الوضوء ولا تكون يابسة ، وإلاّ لم يصدق عليه المسح ببلّة ما في اليد من ماء الوضوء ، وإن كان يصدق عليه المسح باليد ، لما تقدّم (١) من أنه يعتبر في المسح أن يكون باليد وأن يكون ببلّة الوضوء.

(٢) لما عرفت من اعتبار كون آلة المسح هي اليد ، فلا مناص من أن يكون المسح باليد ، فلو نقل الرطوبة إلى جسم آخر ومسح به رأسه ورجليه فهو ليس مسحاً باليد وإن كان مسحاً ببلّة الوضوء ، وقد عرفت اعتبار كون المسح باليد وأن يكون ببلّة الوضوء ، فلا يكفي أحدهما من دون الآخر في صحته.

إذا كانت على الممسوح رطوبة :

(٣) للمسألة صور ثلاث :

الاولى : أن تكون الرطوبة الموجودة في الممسوح قليلة جدّاً بحيث لا تمنع عن ظهور أثر المسح بالبلة في الممسوح ، كما إذا كانت الرجل رطبة بالعرق الخفيف أو رطوبة خارجية قليلة ، ولا إشكال في صحة الوضوء وقتئذٍ كما لا يجب تجفيف الموضع الممسوح بوجه ، وذلك لأنه لم يرد اعتبار الجفاف في الممسوح في آية أو رواية ، بل مقتضى إطلاقات الآية والرواية عدم الاعتبار ، وإنما التزمنا به تحقيقاً لصدق المسح ببلّة الوضوء ، وهو إنما يتحقق فيما إذا لم تكن على الممسوح رطوبة كثيرة تمتزج‌

__________________

(١) في ص ١٣٥.

١٨٣

[٥١٧] مسألة ٢٧ : إذا كان على الماسح حاجب ولو وصلة رقيقة لا بدّ من رفعه ، ولو لم يكن مانعاً من تأثير رطوبته في الممسوح (١).

______________________________________________________

برطوبة اليد وتمنع عن كون البلّة بلّة الوضوء ، وحيث إن المفروض قلة الرطوبة في هذه الصورة بحيث لا تمنع عن ظهور أثر المسح ببلّة اليد ، فلا مناص من الحكم بصحته بمقتضى الإطلاقات المذكورة وصدق المسح ببلّة الوضوء.

الصورة الثانية : ما إذا كانت رطوبة الممسوح كثيرة غالبة على رطوبة اليد أو متساوية معها أو كانت أقل إلاّ أنها في نفسها كثيرة تمتزج برطوبة اليد وتمنع عن كون المسح بخصوص بلّة الوضوء لامتزاجها بغيرها ، ولا إشكال في هذه الصورة في عدم صحة المسح ولزوم تجفيف الموضع الممسوح تحقيقاً للمسح ببلّة الوضوء.

الصورة الثالثة : ما إذا شككنا في أن الرطوبة الموجودة في الممسوح أي مقدار وهل هي بمقدار يمنع عن وصول بلّة الوضوء إلى البشرة أو أنها أقل وغير مانعة عن وصول البلّة إليها؟

ولا بدّ في هذه الصورة من تحصيل العلم بقلة الرطوبة وعدم مانعيتها عن الوصول حسب قاعدة الاشتغال ، ولا يكفي الظن بالقلة وعدم المانعية ، لأن حكمه حكم الشك ولا اعتبار به في الشريعة المقدسة بوجه ، كما أن أصالة عدم الحاجب أو المانع من وصول البلّة إلى البشرة كما قيل بها عند الشك في الحاجب لا مجال لها ، لأنها من الأُصول المثبتة ولا يثبت بها أن البلّة قد وصلت إلى نفس البشرة.

(١) وذلك لعدم صدق المسح باليد وقتئذٍ ، بل الفرض أنه قد مسح بالخرقة أو بغيرها مما هو على اليد وقد وقع المسح به لا باليد ، كما تقدم نظيره في اعتبار عدم الحاجب على الممسوح ، لعدم كون المسح حينئذٍ مسحاً على البشرة وإن كان الحاجب رقيقاً ، لأن وقوع المسح على البشرة معتبر في صحّته.

١٨٤

[٥١٨] مسألة ٢٨ : إذا لم يمكن المسح بباطن الكف يجزئ المسح بظاهرها وإن لم يكن عليه رطوبة نقلها من سائر المواضع إليه (*) ثم يمسح به ، وإن تعذّر بالظاهر أيضاً مسح بذراعه (**) ، ومع عدم رطوبته يأخذ من سائر المواضع ، وإن كان عدم التمكن من المسح بالباطن من جهة عدم الرطوبة وعدم إمكان الأخذ من سائر المواضع أعاد الوضوء ، وكذا بالنسبة إلى ظاهر الكف ، فإنه إذا كان عدم التمكّن من المسح به [ من جهة ] عدم الرطوبة وعدم إمكان أخذها من سائر المواضع لا ينتقل إلى الذراع ، بل عليه أن يعيد (١).

______________________________________________________

إذا لم يمكن المسح بباطن الكف :

(١) كما إذا كانت على باطن الكف قرحة مانعة عن المسح بالباطن وهناك مسألتان :

إحداهما : أن المسح بباطن الكف إذا كان متعذراً أجزأه المسح بظاهرها ، فاذا لم يكن رطوبة على ظاهرها أخذها من سائر المواضع أو من خصوص اللحية على الخلاف المتقدم وهذه المسألة هي التي حكم فيها صاحب المدارك بلزوم المسح بظاهر الكف وكفايته عن المسح بالباطن ، وجعله حكماً قطعياً باتاً (٣).

وثانيتهما : ما إذا تعذر المسح بظاهر الكف كباطنه ، إما لأنه فاقد اليد ولا يد له ، أو له يد إلاّ أن ظاهرها كباطنها في عدم التمكّن من المسح به ، لوجود قرحة أو غيرها من الموانع في كل منهما ، مسح بذراعه حينئذٍ ، وقد حكي عن صاحب المدارك قدس‌سره أنه جعل الحكم بالمسح بالذراع أقوى (٤) ولم يذكر في هذه المسألة أن الحكم مقطوع به كما ذكره في المسألة الأُولى.

__________________

(*) تقدّم أنه لا بدّ من أخذها من خصوص بلّة اللحية الداخلة في حدّ الوجه ، وبذلك يظهر الحال في بقية المسألة.

(**) على الأحوط لزوماً.

(١) ، (٢) المدارك ١ : ٢١٢.

١٨٥

وهناك مسألة ثالثة ، وهي ما إذا كان عدم التمكن من المسح بالباطن مستنداً إلى يبوسته وارتفاع الرطوبة عنه ولم يمكن نقلها إليه من سائر المواضع ، ولا بدّ حينئذٍ من الحكم ببطلان وضوئه ووجوب الإعادة في حقه فهذه مسائل ثلاث :

أمّا المسألة الثالثة : فالوجه فيها في الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة ، هو أن عجز المكلف عن المسح ببلّة الباطن إنما يختص بهذا الفرد الذي أتى به ، والمفروض أنه يتمكن من المسح ببلّة الباطن في غيره من أفراد الوضوء ، لعدم عجزه عن تحصيل ذلك في الطبيعي المأمور به ، ومعه لا بدّ من الحكم ببطلان الفرد المأتي به ووجوب الإعادة في ضمن فرد آخر لا محالة.

وأمّا المسألة الأُولى ، فالحق فيها هو الذي حكم به الماتن قدس‌سره وجعله في المدارك مقطوعاً به ، وذلك لا لأجل قاعدة الميسور التي ناقشنا في سندها ودلالتها في محله ، ولا لدعوى التسالم على جريان القاعدة في خصوص المقام ، لأن دون إثبات ذلك خرط القتاد ، ولا لأصالة الاحتياط ، لما مر غير مرة من أن الأصل عند الشك في اعتبار شي‌ء زائد في الوضوء إنما هو البراءة دون الاحتياط ، بل الوجه في ذلك أن الحكم بوجوب كون المسح بباطن الكف لم يرد في شي‌ء من الأخبار المتقدمة ، بل إن مقتضى إطلاق الآية المباركة والروايات عدم اعتبار كون المسح بالكف ، وإنما قلنا باعتباره من جهة ما استفدناه من الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، وحاصل ذلك :

أن الرواة لم ينقلوا في رواياتهم خصوصية مسح الامام عليه‌السلام وأنه كان يمسح بغير باطن الكف ، مع أنهم عليهم‌السلام لو كانوا مسحوا بظاهر الكف لوجب على الرواة ونقلة الآثار أن ينقلوا تلك الخصوصية ، لأنها خصوصية زائدة غير متعارفة ، ومثلها يحتاج إلى عناية لا محالة ، ونقل ذلك أمر لازم على الرواة ، فمن سكوتهم عن نقل تلك الخصوصية يستكشف أن مسحهم عليهم‌السلام قد كان على النحو المتعارف الدارج عندنا ، وهو المسح بباطن الكف ، والأمر المتعارف العادي لا يحتاج إلى النقل.

١٨٦

وعلى ذلك يندرج المقام في كبرى كلية تعرضنا لتفصيلها في بحث الأُصول ، وهي أنه إذا كان لدليل المطلق إطلاق ولم يكن لدليل التقييد ذلك ، كما إذا كان المقيد هو السيرة والإجماع ونحوهما من الأُمور اللبية التي لا إطلاق لها ، فعند الشك في سعة التقييد وضيقه لا بدّ من الأخذ بإطلاق دليل المطلق (١) وبما أن الأخبار الآمرة بمسح الرأس والرجلين باليد مطلقة وغير مقيدة بأن يكون بباطن الكف ، ودليل التقييد بالباطن لبي لا إطلاق له لأنه أمر استفدناه من فعلهم عليهم‌السلام وهو كالسيرة والإجماع مما لا إطلاق له ، فلا مناص من الاقتصار في التقييد بالقدر المتيقن وهو صورة التمكن من المسح بباطن الكف ، وفي غير تلك الصورة يرجع إلى إطلاق الدليل الذي دلنا على لزوم كون المسح باليد كقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك ... » (٢) ومقتضى إطلاقها كفاية المسح بكل من ظاهر الكف وباطنه ، لصحة إطلاق اليد عليهما حقيقة.

وأمّا المسألة الثانية ، فالتحقيق فيها هو الذي ذكره الماتن قدس‌سره وجعله صاحب المدارك أقوى حسب ما ينقل عنه قدس‌سره والسر في ذلك هو أنّا إنما قيدنا المطلقات الآمرة بمسح الرأس والرجلين بأن يكون المسح باليد أي بما دون الزند ، للأخبار الواردة في الوضوءات البيانية من أنه عليه‌السلام يمسح رأسه ورجليه بيده وذلك لوجوه ثلاثة :

الأوّل : أن اليد وإن كان لها إطلاقات متعددة إلاّ أن الظاهر منها عند إطلاقها في مقابل الذراع إنما هو ما دون الزند ، وقد ذكرت كلمة اليد في الأخبار المذكورة في مقابل الذراع (٣) وهو قرينة على إرادة ما دون الزند من اليد.

__________________

(١) أشار إلى ذلك في موارد منها في مصباح الأُصول ٢ : ٤٦٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

(٣) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « ... ثم أخذ كفاً آخر بيمينه فصبه على يساره ثم غسل به ذراعه الأيمن ، ثم أخذ كفاً آخر فغسل به ذراعه الأيسر ، ثم

١٨٧

الثاني : ما ورد في بعض تلك الأخبار وهو روايتان أنه مسح بكفه رأسه ورجليه (١) ولا يطلق الكف إلاّ على ما دون الزند ، وحيث إن الروايات المذكورة كلها تحكي عن أمر واحد وهو فعله عليه‌السلام ووضوءه في الخارج ، فيعلم منها أن المراد باليد في بقية الروايات أيضاً هو ما دون الزند أعني الكف.

الثالث : مناسبة الحكم والموضوع ، لأن لفظة اليد وإن صح إطلاقها على ما دون الزند تارة وعلى ما دون المرفق ثانياً وعلى ما دون المنكب ثالثاً ، غير أن المحمولات المترتبة عليها ربما تعيّن المراد منها بحسب المناسبات وهي تختلف باختلاف ما يحمل عليها لا محالة ، فإذا قيل : قطعت يد فلان فلا يظهر من ذلك أنها قطعت من أي موضع منها ، فهل إنها قطعت مما دون الزند أو ما دون المرفق أو ما دون المنكب ، إذ القطع يناسب الجميع ، إذن فهي مجملة كحالها قبل حمل القطع عليها. ولكن إذا قيل : كتبت بيدي أو ضربت أو مسحت بها ، يتعيّن أن يكون المراد بها خصوص ما دون الزند ، لعدم مناسبة المحمولات المذكورة لغيره من معاني اليد ، وهذا ظاهر.

فبهذه الوجوه الثلاثة قيدنا الإطلاقات الآمرة بمسح الرأس والرجلين ، غير أنها إنما تقتضي تقييدها بما دون الزند فيما إذا أمكن المسح باليد أي بما دون الزند ، ولا دلالة لها على القيدية المطلقة في كلتا حالتي التمكن والاضطرار حتى يوجب سقوط الأمر بالمسح عند عدم التمكّن من المسح بما دون الزند. وعلى الجملة أنها إنما تقتضي القيدية في حالة التمكّن من المسح بما دون الزند فحسب ، وذلك لأن الأخبار البيانية إنما تحكي عن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعني مسحه بما دون الزند ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واجد اليد أي ما دون الزند ومتمكناً من المسح به ، ولا إشكال في أن المسح به هو المتعيّن وقتئذٍ ، ولا دلالة لفعله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )

__________________

مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه » المروية في الوسائل ١ : ٣٩١ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٧.

(١) كما في صحيحتي زرارة وبكير المرويتين في الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣ ، ١١.

١٨٨

على أنه قيد معتبر مطلقاً ولو عند عدم التمكن من المسح بما دون الزند ، لعدم اليد أصلاً أو لوجود قرحة فيها أو لمانع آخر.

وحمل المسح عليها وإن كان يقتضي إرادة ما دون الزند منها ، إلاّ أنه يختص بمن كان له ما دون الزند وكان متمكناً من المسح بها ، وأما من لا يدله أعني ما دون الزند فقوله : مسحت بيدي لا يناسب إرادة ما دون الزند بوجه. وعليه فإطلاق الأخبار والآية المباركة في حق من لا يد له ، أو له يد ولا يتمكّن من المسح بما دون زنده باق بحاله ، فيدلنا على إرادة المسح بذراعه حينئذٍ ، فالتقييد بخصوص ما دون الزند إنما هو فيما إذا تمكن من المسح به.

وعليه فما جعله صاحب المدارك أقوى وذهب إليه الماتن قدس‌سره من تعيّن المسح بالذراع عند عدم التمكن من المسح بما دون الزند هو الصحيح ، إلاّ أن ظهور الحكم في هذه المسألة ليس بمثابة ظهوره في المسألة الأُولى المتقدمة ، ومن هنا ذكر قدس‌سره أن الحكم هناك مقطوع به وأما هنا فقد جعله أقوى حسبما حكي عنه.

وليس مستند الحكم هنا وهناك قاعدة الميسور أو أصالة الاحتياط لتكون المسألتان من واد واحد ، ويستشكل على صاحب المدارك بعدم ظهور الفرق بين المسألتين ، فلما ذا جعل الحكم في أحدهما مقطوعاً به دون الأُخرى ، وذلك لأن المستند في كلتا المسألتين وإن كان هو الرجوع إلى المطلقات والتمسك بإطلاق دليل المطلق في غير المقدار المتيقن من دليل المقيد لعدم إطلاق دليل التقييد ، إلاّ أن بينهما فرقاً من جهة أن المطلقات في المسألة الأُولى مما لا خدشة فيه لقوله عليه‌السلام « وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك » (١) وغيرها من الأخبار الآمرة بالمسح باليد التي قيدناها بخصوص باطن الكف في صورة التمكن من المسح بالباطن ، وأما المطلقات في هذه المسألة أعني الآية المباركة والأخبار الآمرة بمسح الرأس والرجلين المقيدتين بما دون الزند بمقتضى الوجوه المتقدمة فهي محل إشكال وكلام ، ولم يثبت على وجه الجزم والتأكيد ، لما مر وعرفت من أن المطلقات المذكورة يدور أمرها بين احتمالات ثلاثة :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

١٨٩

أحدها : أن يقال بإهمالها وعدم كونها في مقام البيان من هذه الناحية.

ثانيها : أن يقال إنها تنصرف إلى المسح المتعارف وهو المسح بما دون الزند.

ثالثها : أن يقال إنها في مقام البيان فهي مطلقة وتدل على كفاية المسح ببلّة الوضوء ولو كان بواسطة الأجسام الخارجية ، كما إذا جعل الخشبة مبلّلة ببلّة الوضوء ومسح بها رأسه ورجليه ، فأمرها يدور بين تلك الاحتمالات ولا إطلاق لها على التقديرين الأوّلين ، وإنما يثبت لها الإطلاق على الاحتمال الثالث فقط ، ونحن وإن قوينا إطلاقها والتزمنا بكونها مطلقة ، إلاّ أنه محل الكلام والنزاع ، وهذا بخلاف الإطلاق في المسألة الأُولى ، لأنه مما لا كلام في ثبوته كما مر ، ومن هنا ذكرنا أن تعيين المسح بالذراع أقوى كما حكي عن صاحب المدارك قدس‌سره.

وأما الحكم في المسألة الأُولى ، فهو كما قدّمناه مقطوع به بحسب مقام الإثبات ولعل هذا هو الذي دعا صاحب المدارك قدس‌سره إلى جعل الحكم في المقام أقوى كما حكي ، أو أنه قدس‌سره لا يرى ثبوت الإطلاق لتلك المطلقات باختيار أحد المحتملين الأولين ويتمسك بقاعدة الاشتغال كما هو الحال عند عدم الإطلاق لدليلي المطلق والمقيد ، بناء على أن المقام من موارد التمسك بقاعدة الاشتغال دون البراءة ، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة ، فإن الإطلاقات فيها هي المحكمة ولا تصل النوبة فيها إلى الأصل العملي ليختار أصالة الاشتغال ، ونحن وإن قوينا الإطلاق في المقام أيضاً ولم نراجع أصالة الاشتغال ، لأن المورد من موارد البراءة ، إلاّ أن ظهور الحكم في هذه المسألة ليس بمثابة ظهوره في تلك المسألة ، فما نسب إلى صاحب المدارك قدس‌سره من ذهابه إلى الفرق بين المسألتين هو الصحيح.

هذا كله بناء على صحة الحكاية المتقدمة عن صاحب المدارك قدس‌سره وأنه فصّل بين المسألتين المتقدمتين بجعل الحكم في الأُولى مقطوعاً به وفي الثانية أقوى ولكننا راجعنا المدارك في تلك المسألة وظهر أن ما حكي عنه في المسألة الاولى من جعله وجوب المسح بظاهر اليد قطعياً صحيح ومطابق لما في المدارك ، وأما ما حكي عنه في المسألة الثانية من جعله المسح بالذراع أقوى فهو غير موجود في المدارك‌

١٩٠

[٥١٩] مسألة ٢٩ : إذا كانت رطوبة على الماسح زائدة بحيث توجب جريان الماء على الممسوح لا يجب تقليلها بل يقصد المسح بإمرار اليد وإن حصل به الغسل ، والأولى تقليلها (١).

______________________________________________________

أصلاً. نعم المسألة الثانية ذكرها الشهيد في الذكرى وقال : فالأقوى جوازه بالذراع (١) وصاحب الجواهر قدس‌سره قد نقل كلتا المسألتين متصلتين فنقل المسألة الأُولى عن المدارك والثانية عن الشهيد قدس‌سره في الذكرى (٢) وتوهم من ذلك أن المسألتين منقولتان عن المدارك فلاحظ.

إذا كانت على الماسح رطوبة زائدة :

(١) لا ينبغي الإشكال في أن الغسل في الرأس والرجلين لا يجزئ عن المسح المأمور به فيهما على ما نطق به غير واحد من الروايات ، وإنما الكلام في أن الغسل والمسح أمران متباينان ولا يجتمعان في مورد واحد ، ليحكم بعدم تحقق المسح عند العلم بتحقّق الغسل ، أو أن بينهما عموماً من وجه ، فهما متخالفان كالحلاوة والحمرة فقد يكون غسل ولا مسح ، وأُخرى بكون مسح ولا غسل ، وثالثة يجتمعان ، وحيث إن الغسل لم يثبت كونه مانعاً عن المسح وإنما ثبت عدم إجزائه عن المسح فلا مانع من الاكتفاء بالمسح مع تحقق الغسل معه؟

الثاني هو الصحيح ، لأن الغسل عبارة عن جريان الماء أو أسرائه من محل إلى محل مع الغلبة ، والمسح عبارة عن إمرار اليد على الممسوح وهما أمران قد يجتمعان والغسل غير مانع عن تحقق المسح كما عرفت ، فالتقليل غير واجب. نعم هو أولى خروجاً عن شبهة الخلاف وتحصيلاً للجزم بالامتثال.

__________________

(١) الذكرى : ٨٧ السطر ٨.

(٢) الجواهر ٢ : ١٨٦.

١٩١

[٥٢٠] مسألة ٣٠ : يشترط في المسح إمرار الماسح على الممسوح ، فلو عكس بطل. نعم الحركة اليسيرة في الممسوح لا تضر بصدق المسح (١).

______________________________________________________

شرطية إمرار الماسح على الممسوح :

(١) اعلم أن للمسح معنيين :

أحدهما : إزالة الوسخ والعلة ونحوهما ، كما إذا قيل : مسحت يدي بالحجر ، أي أزلت الوسخ عنها ، كما يقال في مقام الدعاء مسح الله ما لك من علة ، ومنه الدرهم الممسوح وهو الذي زالت نقوشه فصار أملس ، ومنه إطلاق المسح على الكذّاب لأنه يزيل الحق ويقيم الباطل مقامه ، ولعل له معنى آخر به أُطلق على المسيح ( على نبيِّنا وآله وعليه‌السلام ) ومن البيّن الظاهر أن المسح بهذا المعنى لم يؤخذ فيه الإمرار ، ولا دلالة له على أن الإزالة كانت بإمرار اليد على الحجر أم كانت بإمرار الحجر على اليد أو أن زوال نقوش الدرهم من جهة إمراره على شي‌ء أو لإمرار الشي‌ء على الدرهم وهذا ظاهر.

وثانيهما : الإمرار ، كما إذا قيل مسحت برأس التيمم ، فان معناه : أمررت يدي على رأسه ، لا أنه أمرّ رأسه على يده ، وهو نظير قولنا : مسحت الحجر بالدهن أي أمررت يدي على الحجر وفيها دهن ، وعلى ذلك فمعنى مسحت رأسي أو رجلي بالبلّة : أمررت يدي عليهما وفيها بلّة الوضوء ، ومن الواضح أن المسح في المقام إنما هو بالمعنى الثاني دون الأوّل ، لوضوح أنه لا وسخ ولا علّة في الرأس أو الرجلين ليراد إزالتها باليد.

بل يصح استعمال كلمة المسح مع جفاف كل من اليد والرأس فضلاً عن كون أحدهما وسخاً أو مشتملاً على أمر يراد إزالته باليد ، فيصح أن يقال : مسحت رأسي أي أمررت يدي على رأسي مع جفافهما ، وعليه فلا مناص من اعتبار إمرار الماسح وهو اليد على الممسوح بإسكانه وإمرار اليد عليه ، فلو عكس فأسكن يده وأمرّ رأسه أو رجليه عليها بطل.

١٩٢

[٥٢١] مسألة ٣١ : لو لم يمكن حفظ الرطوبة في الماسح من جهة الحر في الهواء أو حرارة البدن أو نحو ذلك ولو باستعمال ماء كثير بحيث كلما أعاد الوضوء لم ينفع ، فالأقوى جواز المسح (*) بالماء الجديد ، والأحوط المسح باليد اليابسة ثم بالماء الجديد ثم التيمم أيضاً (١).

______________________________________________________

نعم ، الحركة اليسيرة في الممسوح غير مضرة بصدق المسح ، فما أفاده الماتن قدس‌سره هو الصحيح.

إذا لم يمكن حفظ الرطوبة :

(١) المشهور بينهم أنه إذا لم يمكن حفظ الرطوبة في اليد جاز المسح بالماء الجديد بل في الجواهر أنه لم يعثر على مفت بالتيمم في حقه (٢). والماتن قدس‌سره بعد الحكم بجواز المسح بالماء الجديد احتاط بالجمع بين المسح باليد اليابسة والمسح بالماء الجديد والتيمم. والكلام في هذه المسألة يقع من جهتين :

إحداهما : ما ذكره الماتن من احتمال وجوب المسح باليد اليابسة ، لأنه لو لم يحتمل ذلك لم يحتط بالجمع بينه وبين المحتملين الآخرين ، فنتكلم في أن ذلك محتمل في المسألة أو أنه غير محتمل في محل الكلام.

وثانيتهما : في أن الواجب في المسألة هل هو التيمم أو المسح بالماء الجديد.

أمّا الجهة الأُولى ، فالصحيح أن وجوب المسح باليد اليابسة غير محتمل في المسألة ، وذلك لأن المسح بالماء الجديد إما واجب كما إذا تم أحد الوجوه المستدل بها على وجوبه وعمدتها قاعدة الميسور ، بدعوى أن المسح بالماء الجديد ميسور المسح بالبلّة الوضوئية المفروض تعذره كما يأتي تفصيله.

__________________

(*) بل الأقوى وجوب التيمّم عليه ، والاحتياط أولى.

(١) الجواهر ٢ : ١٩٤.

١٩٣

وإمّا أنه غير مانع عن المسح الواجب ، كما إذا لم يتم شي‌ء من الوجوه المستدل بها على وجوب المسح بالماء الجديد ، وقلنا بوجوب المسح مطلقاً ولو باليد اليابسة ، وذلك لأنه لم يدلّنا أيّ دليل على وجوب كون المسح باليد اليابسة بحيث لو مسح بيده وهي متعرِّقة مثلاً أو مبتلّة بالماء الخارجي بطل مسحه ، فإن الأخبار البيانية التي منعت عن المسح بالماء الجديد بقوله عليه‌السلام « ولم يعدهما في الإناء » (١) ونحو ذلك ، فإنما تختص بما إذا كانت اليد مبتلة ببلّة الوضوء ، إذ المستفاد من الروايات المتقدمة على اختلاف في متنها أنه عليه‌السلام إنما لم يعد يديه في الإناء لكونهما مبتلتين ببلّة الوضوء ، وقد عرفت أنه مع التمكن منها لا يجوز المسح بالماء الجديد ، ولا دلالة في الروايات المذكورة على أن اليد إذا لم تكن مبتلة ببلّة الوضوء وجب أن يمسح باليد اليابسة ، بحيث لو مسح بيده وهي رطبة بطل مسحه ، بل لا مانع عن المسح باليد حينئذٍ ولو كانت مبتلة بالماء الجديد أو بغيره من المياه المضافة ، فإن اللازم وقتئذٍ إنما هو مطلق المسح باليد سواء أكانت رطبة أم يابسة ، وعليه فهذا الاحتمال ساقط والأمر يدور بين وجوب المسح بالماء الجديد ووجوب التيمم في حقه.

وأمّا الجهة الثانية : فقد استدل للمشهور بوجوه :

الأوّل وهو العمدة : قاعدة الميسور ، بتقريب أن الواجب في المسح المأمور به في الوضوء أن يكون المسح بالبلة المقيدة بكونها بلّة الوضوء ، وحيث إن تلك الخصوصية متعذرة فلا محالة يسقط التقييد ويجب المسح بمطلق البلّة ولو كانت بلّة خارجية ، لأن المسح بالبلة الخارجية ميسور البلّة المقيدة بكونها من بلّة الوضوء ، ولا يسقط الميسور بالمعسور أبداً.

ويندفع بالمنع عن كل من الكبرى والصغرى المذكورتين. أما الكبرى فلما ذكرناه في محلِّه من أن تلك القاعدة مضافاً إلى ضعف مدركها ، لأنه نبوي وعلوي وكلاهما ضعيف ، أن إخبارها قاصرة الدلالة على أن المركّب إذا تعذّر شرط أو جزء منه‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩٠ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٦ ، ١٠.

١٩٤

وجب الإتيان بما تيسّر من أجزائه وقيوده ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلِّه (١).

وأمّا بحسب الصغرى ، فلأن الخصوصيات المتعذرة مختلفة ، فقد تكون الخصوصية المتعذرة غير مقومة للمأمور به بالنظر العرفي ، كما إذا أمره بالصلاة في المسجد فصلّى في غيره ، أو أمره بإتيان ماء بارد وتعذر عليه تحصيل البارد فأتى بماء غير بارد ، فإن الصلاة في غير المسجد ميسور الصلاة في المسجد عرفاً ، وكذلك الإتيان بالماء غير البارد متيسر الإتيان بالماء البارد حسب النظر العرفي كما هو واضح ، وفي مثله لا مانع من دعوى عدم سقوط الميسور بالمعسور إذ تمت أدلته بحسب السند والدلالة.

وقد تكون الخصوصية المتعذرة مقومة للمأمور به لدى العرف ، بحيث إنهم يرون فاقدها مغايراً لواجدها فضلاً عما إذا اشتمل على خصوصية أُخرى مغايرة للخصوصية المتعذرة عندهم ، كما إذا أمره السيد بالإتيان بماء الرمان وتعذرت عليه خصوصية كون الماء مضافاً إلى الرمان فأتى بماء البطيخ أو الرقي أو بالماء المطلق بدعوى أنه ميسور ذلك المعسور ، أو أمره بالإتيان بغلام زيد أو ابنه ولم يتمكن المكلف من ذلك فأتى بغلام عمرو أو ابنه مدعياً أن خصوصية إضافة الغلام إلى زيد متعذرة فغلام عمرو ميسور لذلك المعسور ، لم يسمع منه ذلك لدى المحاكم العرفية ، لأن للخصوصيات المتعذرة مدخلية في تحقّق المأمور به وفاقدها مغاير عندهم لواجدها لا أنه ميسور لذلك المعسور كما لا يخفى.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ المأمور به هو المسح بالبلّة المضافة إلى الوضوء وهي مع البلّة المضافة إلى النهر الجاري متباينان ولا يعد إحداهما ميسوراً من الأُخرى.

فتحصل أن دعوى وجوب المسح بالماء الجديد نظراً إلى أنّه ميسور للمأمور به المتعذر خصوصيته ، ساقطة بحسب الكبرى والصغرى.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٧٧.

١٩٥

وأمّا رواية عبد الأعلى مولى آل سام (١) فهي مضافاً إلى ضعف سندها (٢) فإنما دلت على أن المسح على البشرة غير واجب ، لأجل كونه حرجاً في مقابل ما توهمه السائل من وجوبه. وأما قوله « فامسح على المرارة » فهو حكم جديد وغير مستند إلى أنه ميسور للمعسور ، فلا دلالة لها على تلك القاعدة.

ونظيرها دعوى وجوب المسح المطلق عند تعذر المسح ببلّة الوضوء مستنداً إلى تلك القاعدة ، لأنها أيضاً ضعيفة لما مر ، إلاّ أنها دون الدعوى المتقدمة في الضعف ، لأن مغايرة المسح ببلّة الوضوء مع المسح بالبلة المتخصصة بخصوصية اخرى كبلة ماء النهر أظهر وأوضح من مغايرته مع المسح المطلق.

الثاني : استصحاب وجوب المسح ، فقد استدلّ به بعضهم على وجوب المسح ببلّة الوضوء أو المسح باليد اليابسة ، وذلك لأن المتوضئ قد كان المسح واجباً عليه قبل أن تحدث الحرارة في بدنه أو في الهواء أو قبل طروء القلّة على الماء فنستصحب بقاءه على الوجوب بعد تعذّر المأمور به أعني حالة حدوث الحرارة أو القلّة وهو يقتضي الحكم بوجوب المسح باليد اليابسة أو بالماء الجديد وعدم وجوب التيمم في حقه.

ويندفع هذا الوجه ، مضافاً إلى أنه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية ولا نقول بها ، بأنه من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي ولا مجال‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.

(٢) بعبد الأعلى مولى آل سام لعدم توثيقه في الرجال ، وما وقع في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم القمي هو عبد الأعلى بن أعين العجلي دون مولى آل سام ، ولم يثبت اتحادهما ، وأما ما ورد في رواية الكليني في الحديث الأول من باب فضل الأبكار من كتاب النكاح من التصريح بأن عبد الأعلى بن أعين هو عبد الأعلى مولى آل سام ، حيث قال : عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام [ الكافي ٥ : ٣٣٤ / ١ ] فلا دلالة له على الاتحاد ، لأن غاية ما يثبت بذلك هو أن عبد الأعلى مولى آل سام هو ابن أعين ، وهذا لا يكفي في الحكم بالاتحاد ، لأن من الجائز أن يكون عبد الأعلى العجلي غير عبد الأعلى مولى آل سام ، ويكون والد كل منهما مسمّى بأعين ، ولعلّه لأجل ذلك يراهما الشيخ متعدِّداً ، لأنه قد عدَّ كلاًّ منهما مستقلا في أصحاب الصادق عليه‌السلام فلاحظ [ رجال الطوسي : ٢٤٢ ].

١٩٦

للاستصحاب في مثله ، وذلك لأن الوجوب المتعلق بالمسح ببلّة الوضوء قد زال وارتفع يقيناً ونشك في حدوث فرد آخر من الوجوب متعلقاً بالمسح باليد اليابسة أو بالماء الجديد وعدمه ، ولا مجال للاستصحاب في القسم الثالث من الكلي على ما برهنا عليه في محلِّه (١).

الثالث : التمسك بإطلاق الأخبار الآمرة بالمسح ، لأنها وإن كانت مقيدة بأن يكون المسح بالبلة الباقية من الوضوء في اليد ، بمقتضى صحيحة زرارة وغيرها مما دلّ على اعتبار كون المسح ببلّة الوضوء ، إلاّ أن تلك المقيدات مختصة بحال التمكن من المسح ببلّة الوضوء ولا إطلاق لها حتى يشمل صورة تعذّر المسح ببلّته ، فلا بدّ وقتئذٍ من التمسّك بإطلاق ما دلّ على أصل وجوب المسح في الوضوء ، وحينئذٍ إما أن يمسح باليد اليابسة أو بالماء الجديد ، هذا.

ويمكن المناقشة في ذلك بأن الروايات التي ورد فيها الأمر بالمسح في الوضوء لم ترد في مقام البيان من هذه الجهة ولا نظر لها إلى كيفية المسح بوجه ، وذلك نظراً إلى أن المسح في الوضوء في تلك الأزمنة كعصر الصادقين عليهم‌السلام كان من الأُمور الواضحة الجلية عند الجميع ، وكان يعرف كيفيته الصبيان والصغار فضلاً عن الأكابر والرجال ، بل إنما هي بصدد البيان من الجهات المختلف فيها بين العامّة والخاصّة ، كبيان أن الرجل لا بدّ من أن يمسح لا أن يغسل ، وأن الرأس يمسح مقدمه لا جميعه. إذن فلا إطلاق في الأخبار المذكورة حتى نتمسّك بإطلاقها.

نعم ، يمكن التمسك بإطلاق الآية وهو العمدة في المقام وتقريب إطلاقها أن يقال : إنها قد اشتملت على الأمر بمسح الرأس والرجل ولم يقيده ببلّة الوضوء ، بل مقتضى إطلاقها جواز المسح بالماء الجديد أو باليد اليابسة ، وإنما رفعنا اليد عن إطلاقه عند التمكن من المسح ببلّة الوضوء بمقتضى الأخبار الدالّة على ذلك ، وأما إذا لم يتمكّن المتوضئ من المسح ببلّة الوضوء ، فمقتضى إطلاق الآية المباركة جواز المسح بالماء‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١١٤.

١٩٧

الخارجي أو المسح باليد اليابسة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالإطلاق في محل الكلام ، ومع هذا كلّه يمكن المناقشة فيه من وجهين :

أحدهما : أن المسح المأمور به في الآية المباركة يحتمل أن يكون بالمعنى الأوّل من المعنيين المتقدمين للمسح أعني إزالة الأثر ، على ما أشرنا إليه (١) عند التكلّم على دلالة الآية المباركة على التبعيض ، حيث احتملنا أن يكون إدخال كلمة الباء في أثناء الكلام مع تماميته بغيرها من جهة إرادة كون اليد ممسوحة والرأس والرجلين ماسحاً.

وهذا لا بمعنى إسكان اليد وإمرار الرأس أو الرجل بها ، لما عرفت من أن المعنى الأوّل للمسح لا يعتبر فيه إمرار الممسوح على الماسح ولا إمرار الماسح على الممسوح فإنه أمر يتأتى بكل منهما ، بل بمعنى إزالة الأثر الموجود في اليد بمسح الرأس أو الرجلين ، ومعناه أن الرأس أو الرجلين قد أزال الأثر عن اليد.

وعليه فقد فرض في الآية المباركة وجود أثر في اليد حتى يزيله الرأس أو الرجل وليس ذلك إلاّ البلل ورطوبة الوضوء ، فلا إطلاق في الآية المباركة حتى يدلنا على كفاية المسح باليد اليابسة أو بالماء الخارجي.

ثم إن ما ذكرناه في المقام لا ينافي ما قدّمناه (٢) من أن المسح المأمور به في الوضوء ليس بمعنى إزالة الأثر بل بمعنى الإمرار ، وذلك لأنه إنما كان كذلك بالنظر إلى دلالة الأخبار وهو غير مدلول الآية المباركة ، فالآية دلت على أن اليد لا بدّ أن تكون مبتلة ببلّة الوضوء والأخبار دلت على إمرار اليد على الرأس والرجلين ، فاذا ضممنا أحدهما إلى الآخر فيكون حاصل مدلولهما أن الوضوء يعتبر فيه أن تكون اليد مبتلة ببلّة الوضوء ، وأن تكون اليد المبتلة مارة على الرأس والرجلين دون العكس.

وثانيهما : أنّا لو سلمنا إطلاق الآية المباركة والروايات فلا نسلم اختصاص الأدلة‌

__________________

(١) في ص ١٩٢.

(٢) في ص ١٩٢.

١٩٨

[٥٢٢] مسألة ٣٢ : لا يجب في مسح الرجلين أن يضع يده على الأصابع ويمسح إلى الكعبين بالتدريج ، فيجوز أن (*) يضع تمام كفه على تمام ظهر القدم من طرف الطول إلى المفصل ويجرها قليلاً بمقدار صدق المسح (١).

______________________________________________________

المقيدة بصورة التمكن من المسح ببلّة الوضوء ، لأن صحيحة زرارة وعمر بن أُذينة الدالتين على اعتبار كون المسح ببلّة الوضوء مطلقتان ، وقوله عليه‌السلام « وتمسح » خطاب للمكلفين ، وهو أمر في مقام الإرشاد إلى جزئية المسح بالبلة الوضوئية في الوضوء ، ولم يقيد الجزئية بحالة التمكن والاختيار.

ومقتضى جزئية المسح ببلّة الوضوء في كلتا صورتي التمكن والتعذر سقوط الأمر بالمسح والوضوء عند عدم التمكن من المسح ببلّة الوضوء ، فيدخل بذلك تحت عنوان فاقد الماء فيجب عليه التيمم بمقتضى الآية المباركة ، لأن فقدان الماء ليس بمعنى عدم الماء مطلقاً ، بل لو تمكن من استعماله في مقدار من أجزاء الوضوء ولم يتمكن من استعماله في بعضها الآخر كفى ذلك في تحقق العجز عن استعمال الماء في الوضوء ، لأنه عبارة عن غسلتين ومسحتين ولا بدّ في كليهما من الماء ، فاذا عجز عن الاستعمال في إحدى الغسلتين أو في إحدى المسحتين فلا محالة يندرج تحت كبرى فاقد الماء ويجب عليه التيمم وقتئذٍ.

وهذا هو الأقوى في المسألة ، ولا يضره ما حكي من عدم وجدان من يفتي بوجوب التيمم حينئذٍ ، لأن الإجماع في المسائل الاجتهادية والنظرية يحتمل أن يكون مستنداً إلى أحد المدارك المذكورة فيها ، فيحتمل أن يستندوا في عدم الحكم بوجوب التيمم إلى قاعدة الميسور مثلاً ، ومعه لا يكون الإجماع تعبدياً ولا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام نعم الأحوط الجمع بين المسح بالماء الخارجي والتيمم.

عدم لزوم وضع اليد على الأصابع :

(١) أي لا يجب أن يكون المسح تدريجياً بأن يقع مسح الأجزاء المتأخرة بعد‌

__________________

(*) الأحوط أن لا يمسح بهذه الكيفية.

١٩٩

الأجزاء المتقدمة ، بل له أن يمسح جميع أجزاء الرجل دفعة واحدة كما أشار إليه الماتن قدس‌سره والدليل على ذلك إطلاق الآية المباركة والأخبار ، لعدم تقييدهما المسح بالتدريج ، ولا معارض لاطلاقهما غير صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ، فقلت : جعلت فداك لو أن رجلاً قال بإصبعين من أصابعه هكذا ، قال : لا ، إلاّ بكفيه ( بكفه ) كلها » (١) لأنها ظاهرة في لزوم التدرج في المسح ، إلاّ أنها غير صالحة لتقييد المطلقات ولا دلالة لها على الوجوب ، بل لا بدّ من حملها على الاستحباب وأفضل الأفراد لوجهين :

أحدهما : أن الصحيحة بقرينة قول السائل في ذيلها لو أن رجلاً قال بإصبعين ... ناظرة إلى بيان مقدار الممسوح ، وأنه لا بدّ من أن يكون بمقدار الكف عرضاً ولا نظر لها إلى البدأة والانتهاء.

وثانيهما : أنها ظاهرة في وجوب كون المسح من الأصابع إلى الكعبين ، مع أن النكس جائز في المسح بلا كلام ، لما مرّ من أن الأمر موسع في مسح الرجلين فيجوز مسحهما مقبلاً كما يجوز مدبراً ، ومعه لا بدّ من حملها على الاستحباب وبيان أفضل الأفراد ، ولا يمكن العمل بظاهرها من وجوب كون المسح من الأصابع إلى الكعبين متدرجاً ، فالصحيحة غير صالحة لأن يقيد بها المطلقات.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في تقريب ما ذهب إليه الماتن قدس‌سره إلاّ أن الاحتياط يقتضي أن يكون المسح متدرجاً لظهور الصحيحة في ذلك.

وأمّا ما ذكر من الوجهين في عدم دلالتها على الوجوب فيرد على أوّلهما : أن ظاهر الصحيحة أنها في مقام بيان الكيفية المعتبرة في المسح من جميع الجهات ، ويدلُّ عليه قول السائل سألته عن المسح ... كيف هو؟ أي من جميع الجهات ، وأما قوله في ذيلها : لو أن رجلاً قال بإصبعين ... فهو سؤال من جهة أُخرى ، ولا يكون ذلك قرينة على‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٤.

٢٠٠