موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ويجزئ الابتداء بالأصابع وبالكعبين (١) ،

______________________________________________________

البلل من لحيته وحاجبيه ونحوهما.

الرابع : السيرة المتحققة بين المتشرعة ، فإنها حجة ممضاة من غير نقاش ، والسر في ذلك ظاهر ، فان المكلف يبتلي بالوضوء في كل يوم ثلاث مرات على الأقل فلو كان الاستيعاب في مسح الرجلين واجباً في مثله كما ادّعاه الصدوق قدس‌سره لظهر وبان ، ولكان ذلك من الأُمور الواضحة عندهم ، فالتسالم القطعي بين أصحابنا قدس‌سرهم كاشف قطعي عن عدم وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين ، حيث لم ينقل ذلك عن غير الصدوق قدس‌سره نعم مال إليه المحقق الأردبيلي قدس‌سره على ما حكي كما عرفت. وعلى ذلك لا مناص من رفع اليد عن صحيحة البزنطي وتقييدها بمقتضى الأدلّة الأربعة المتقدمة ، والاكتفاء في مسح الرجلين بالمسمّى عرضاً.

فقد اتضح بما ذكرناه أن الحق هو ما ذهب إليه المشهور في المسألة بعد ما قدمناه من بطلان الأقوال الأُخر كما مر.

جواز المسح مقبلاً ومدبراً :

(١) وقد يعبّر عن ذلك بالمسح مقبلاً ومدبراً ، والوجه في كفاية المسح من طرف الكعب إلى الأصابع صحيحة حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروية تارة في خصوص مسح القدمين قال « لا بأس بمسح القدمين مقبلاً ومدبراً » (١) وأُخرى في مسح الوضوء قال : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً » (٢) ومن هنا احتمل اتحاد الروايتين على ما أشرنا إليه في مسح الرأس.

ومرسلة يونس قال : « أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسّع ، من شاء مسح مقبلاً ومن شاء مسح مدبراً ، فإنه من الأمر الموسع‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٠٦ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ٢ ، ١.

١٦١

إن شاء الله » (١) وقوله « من أعلى القدم » أُريد منه الأصابع بقرينة قوله « إلى الكعب ».

هذا على أن جواز النكس هو المطابق للقاعدة ، لإطلاق الآية المباركة والأخبار الآمرة بمسح الرجلين إلى الكعبين من دون تقييده بشي‌ء ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار البيانية الواردة في الوضوء. وليس في البين ما يقتضي وجوب المسح من الأصابع إلى الكعبين غير قاعدة الاشتغال بناء على أن المورد مورد الاشتغال دون البراءة إلاّ أن من الواضح أن أصالة الاشتغال مما ليس له معارضة الأخبار والدليل.

وقد جاء في كلام المحقق الهمداني قدس‌سره : والوضوءات البيانية (٢) ولم نقف نحن على شي‌ء من الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية يدلنا على أن المسح لا بدّ أن يكون من طرف الأصابع إلى الكعبين.

وأما ما ورد في الآية المباركة وبعض الأخبار المتقدمة من تحديد مسح الرجلين إلى الكعبين ، فقد تقدم أن قوله ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) غاية للممسوح دون المسح ، كما أن الغاية في غسل الوجه واليدين غاية للمغسول دون الغسل ، هذا كله في جواز المسح نكساً.

هل يجوز المسح بسائر الكيفيات :

فهل يجوز المسح بغير ذلك من الأنحاء والكيفيات ، كما إذا مسح نصف رجله مقبلاً ونصفها الآخر مدبراً ، بأن مسح إلى منتصف القدم من طرف الأصابع ، ومسح النصف الآخر من طرف الكعبين فتلاقيا في الوسط ، أو مسح من اليمين إلى الشمال وبالعكس أو مسح مؤرباً أو لا يجوز؟

فيه خلاف بين الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) وذهب المحقق الهمداني قدس‌سره إلى عدم الجواز (٣). ويبتني هذه المسألة على تحقيق أن مقتضى الإطلاقات وصحيحة البزنطي أعني القاعدة الأولية مع قطع النظر عن صحيحة حماد أي‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٧ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ٣.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦١ السطر الأخير.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٢ السطر ٢.

١٦٢

والأحوط الأوّل كما أن الأحوط (*) تقديم الرِّجل اليمنى على اليسرى وإن كان الأقوى جواز مسحهما معاً. نعم لا يقدِّم اليسرى على اليمنى (١)

______________________________________________________

شي‌ء؟ فهل مقتضى القاعدة عدم جواز المسح إلاّ من طرف الأصابع إلى الكعبين ، وقد خرجنا عن مقتضى القاعدة والإطلاقات في خصوص المسح نكساً بدلالة صحيحة حماد المتقدمة ، فتبقى بقية الكيفيات تحت القاعدة وإطلاقات المنع ، أو أن القاعدة والإطلاقات لا يقتضيان عدم جواز المسح بسائر الكيفيات؟

الثاني هو الصحيح ، وذلك لأن الآية المباركة والأخبار الواردة في الوضوءات البيانية لا تعرض في شي‌ء منهما على الكيفية المعتبرة في المسح المأمور به ، وقد أسلفنا أن التحديد في الآية المباركة وفي بعض الأخبار البيانية بقوله ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) إنما يرجع إلى الممسوح دون المسح.

وصحيحة البزنطي المتقدمة أيضاً كذلك ، لأنها بصدد بيان المقدار المعتبر بحسب الكم ، ومن هنا سأله الراوي عن جواز المسح بإصبعين ، وليس لها نظر إلى بيان الكيفية المعتبرة في المسح ، فعلى ذلك مقتضى إطلاق قوله عزّ من قائل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (٢) وإطلاق الأخبار الآمرة بمسح الرأس والرجلين كما في الأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، جواز المسح كيف ما اتفق ، فلا مانع من مسح مقدار من الرجل مقبلاً ومقدار آخر مدبراً ، والمسح من اليمين إلى الشمال أو بالعكس أو المسح مؤرباً.

تقديم الرجل اليمنى على اليسرى :

(١) ذهب جمع كثير من الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) إلى عدم اعتبار الترتيب في مسح الرجلين ، وأن للمتوضئ أن يمسحهما معاً ، كما له أن يمسح على اليسرى مقدماً‌

__________________

(*) هذا الاحتياط لا يترك.

(١) المائدة ٥ : ٦.

١٦٣

على مسح اليمنى وبالعكس. وذهب جماعة آخرون من قدماء أصحابنا ومتأخريهم قدس‌سرهم إلى اعتبار الترتيب بينهما ، وأنه لا بدّ من تقديم مسح اليمنى على اليسرى ، بل ادعي على ذلك الإجماع في بعض الكلمات ، وهذا القول وإن ذهب إليه جمع كثير إلاّ أن القائل بالقول الأول أكثر فهو الأشهر وذاك مشهور.

والتزم جماعة قليلون بالتخيير بين مسح الرجلين معاً ومسح إحداهما قبل الأُخرى إلاّ أنه على تقدير عدم مسحهما معاً يقدم اليمنى على اليسرى كما اختاره الماتن قدس‌سره هذه هي أقوال المسألة ومنشأ الخلاف هو اختلاف الأنظار فيما يستفاد من الروايات.

ويدلُّ على القول الأشهر إطلاق الآية المباركة والأخبار الواردة في الوضوءات البيانية ، حيث اشتملت على الأمر بمسح الرجلين من دون أن يتعرض إلى اعتبار الترتيب بينهما ، بل وسكوته عليه‌السلام عن بيان ذلك مع كونه بصدد البيان وناظراً إلى اعتبار الترتيب بين أفعال الوضوء ، حيث قال عليه‌السلام « ابدأ بما بدأ الله به فاغسل وجهك أوّلاً ، ثم اغسل اليدين ، ثم امسح على رأسك ورجليك » (١) ولكنه سكت عن بيان اعتبار الترتيب في مسح الرجلين.

وبإزاء ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « امسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن » (٢) مؤيدة ببعض الأخبار الضعاف كرواية أبي هريرة وغيرها (٣) كما ورد في قباله أيضاً التوقيع المروي عن الاحتجاج عن الحميري عن صاحب الزمان عليه‌السلام « أنه كتب إليه يسأله عن المسح على الرجلين بأيهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعاً معاً؟ فأجاب عليه‌السلام يمسح‌

__________________

(١) هذا مضمون صحيحة زرارة المروية في الوسائل ١ : ٤٤٨ / أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ١ ، وقد صرح بجملة « ابدأ بما بدأ الله » في ذيل هذه الصحيحة وصحيحة زرارة الأُخرى المروية في الوسائل ١ : ٤٥٠ / أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ١.

(٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٤٤٩ / أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ٣.

١٦٤

عليهما جميعاً معاً ، فان بدأ بإحداهما قبل الأُخرى فلا يبدأ إلاّ باليمين » (١) إذا عرفت ذلك فليتكلم في جهتين :

الجهة الاولى : في أن صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة هل تصلح أن يقيد بها الإطلاقات المتقدمة الدالّة على عدم اعتبار الترتيب في مسح الرجلين ، أو أنها غير صالحة لذلك ، فعلى تقدير كونها صالحة للتقييد بها يسقط بذلك القول الأشهر لا محالة. ثم بعد ذلك نتكلم في الجهة الثانية ، في أن خبر الاحتجاج هل يرفع به اليد عن إطلاق صحيحة محمد بن مسلم فنقيدها لأجله بما إذا لم يمسحهما جميعاً ، أو أنه غير صالح لذلك؟ فعلى الأول يثبت به ما ذهب إليه الماتن ( قدس الله سره ) كما أنه على الثاني يثبت به قول المشهور في المسألة ، فتجب مراعاة الترتيب في مسح الرجلين بتقديم مسح اليمنى على اليسرى.

أمّا الجهة الأُولى : فقد ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره أن الصحيحة ومؤيداتها لا تصلح أن تكون مقيدة لتلك المطلقات الكثيرة الواردة في محل الحاجة ، وأن رفع اليد عن إطلاق الآية والروايات بالتزام إهمالهما أو احتفائهما بقرائن حالية أو مقالية ، أو بالتزام كونها مسوقة لبيان الحكم الظاهري دون التكليف الواقعي ، أو غير ذلك مما يصحح به تأخير ذكر القيد عن وقت الحاجة في مثل هذا الحكم العام البلوى ، ليس بأهون من حمل الأمر في هذه الصحيحة ومؤيداتها على الاستحباب (٢).

ولكن الظاهر أن الأمر ليس كما أُفيد ، لأنه لا محذور في تقديم الصحيحة على كل من إطلاقي الآية والروايات ، أما إطلاق الآية المباركة فلأنه ما من إطلاق كتابي إلاّ وهو مقيد بشي‌ء ، حيث إنه سبحانه لم يتعرّض للخصوصيات المعتبرة في كل عبادة أو معاملة ، بل إنما أوكل بيانها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام فلا مانع من رفع اليد عن إطلاق الآية المباركة بتلك الصحيحة أبداً.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٠ / أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ٥ ، الاحتجاج : ٤٩٢.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦٢ السطر ١٦.

١٦٥

وأمّا إطلاقات الأخبار البيانية الآمرة بمسح الرأس والرجلين فهي كإطلاق الآية المباركة ، وقد عرفت أنه لم ترد لبيان الكيفيات المعتبرة في المسح ، فلا محذور في تقديم الصحيحة عليها.

والعمدة في المقام هي الروايات المتكفلة لبيان الترتيب المعتبر بين أفعال الوضوء لأنها مع كونها في مقام البيان لم يتعرض للترتيب المعتبر في مسح الرجلين ، بل إنما أمرت بالبدء بما بدأ الله به من غسل الوجه أوّلاً ثم غسل اليدين ثم مسح الرأس والرجلين.

ويمكن الجواب عن ذلك بأن عدم تعرض الرواة لكيفية مسح الامام عليه‌السلام مع أنه قد مسحهما بكيفية من الكيفيات لا محالة ، لاستحالة تحقق المسح المطلق خارجاً ، إنما هو من جهة عدم كون مسحه عليه‌السلام مغايراً عن الطريقة المتعارفة المرسومة عند الناس ، أعني مسح اليمنى قبل مسح اليسرى ، فلعله لأجل كونه على الوجه المتعارف لم يتعرضوا لنقل كيفيته ، فلو كان عليه‌السلام قد مسحهما على النحو غير المتعارف كمسحهما معاً مثلاً ، أو بتقديم اليسرى على اليمنى لنقلوها لا محالة. فلو ادّعى مدّعٍ القطع بأن الترتيب المعتبر لو كان على غير الطريقة المتعارفة لنقله الرواة لا محالة ، لم يكن دعواه دعوى بعيدة ، وعليه فإطلاق هذه الروايات وسكوتها عن التعرض للترتيب وهي في مقام البيان دليل على ما أشرنا إليه من اعتبار الترتيب المتعارف في مسح الرجلين ، ومع الإغماض عن ذلك فالقدر المتيقن أنها غير متكفلة إلاّ للترتيب الوارد في الكتاب ، وليست بصدد بيان غيره من الكيفيات المعتبرة في الوضوء. ومن هنا لم يتعرّض في جملة من الروايات لبيان الترتيب المعتبر في غسل اليدين ، مع أن الترتيب بينهما مما لا كلام في اعتباره.

فالمتحصل أنه لا مانع من تقييد الإطلاقات المذكورة بالصحيحة المتقدمة ، وبذلك يظهر ضعف القول الأشهر وسقوطه عن الاعتبار.

١٦٦

والأحوط (*) أن يكون مسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى (١) وإن كان لا يبعد جواز مسح كليهما بكل منهما‌

______________________________________________________

وأمّا الجهة الثانية : وأن خبر الاحتجاج هل يصلح أن يقيد به صحيحة محمد بن مسلم أو أنه غير صالح لذلك ، فيبتني ذلك على أن طريق الطبرسي إلى الحميري طريق معتبر كما التزم به بعضهم ، أو أنه مما لم يثبت اعتباره؟ وقد ناقشنا فيه سابقاً وقلنا إن طريقه لم يعلم اعتباره ، فعلى الأول لا مناص من تقييد الصحيحة بذلك ، ولا يضره عدم عمل المشهور على طبقه ، لاحتمال أن يكون الوجه في ذلك عدم عثورهم عليه لعدم نقله في الجوامع المعتبرة كالتهذيب والكافي والفقيه ، وبه يثبت ما ذكره الماتن قدس‌سره من أن المكلف مخيّر بين مسح الرجلين معاً ومسح إحداهما قبل الأُخرى ، إلاّ أنه إذا مسح إحداهما دون الأُخرى لا بدّ من أن يقدّم مسح اليمنى على اليسرى.

وأما على الثاني كما هو الصحيح ، فالخبر ضعيف وبه تبقى الصحيحة خالية عن المعارض ، فالأخذ بها والحكم بثبوت الترتيب بين مسح الرجلين لو لم يكن أقوى فلا أقل من أنه أحوط.

ما هو الأحوط في المقام :

(١) بل هذا هو المتعيّن ، وذلك لأن الدليل على جواز المسح في كل من الرجلين بكل من اليدين كمسح اليسرى باليمنى وبالعكس أو مسح كليهما باليمنى أو كلتيهما باليسرى ، إنما هو الإطلاق في الكتاب العزيز والأخبار البيانية الآمرة بمسح الرأس والرجلين من غير تعيين آلة المسح ، ولكنّا قيدنا إطلاقهما من هذه الجهة بما تقدم من الروايات الواردة في لزوم أن يكون المسح باليد ، وأما إطلاقهما من حيث كونه باليد اليمنى أو اليسرى فهو باق بحاله ، ومقتضاه جواز المسح في كل من الرجلين بكل واحدة من اليدين.

__________________

(*) لا يترك هذا الاحتياط.

١٦٧

وكذا يدل عليه سكوتهم عليهم‌السلام في مقام البيان كما في الأخبار المتعرضة لاعتبار بعض الخصوصيات في الوضوء ، حيث لم يتعرض لاعتبار مسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى ، فلو كان ذلك أيضاً معتبراً في المسح والوضوء لبيّنه الامام عليه‌السلام كغيره ، لأنه كان في مقام البيان.

نعم ، ورد في صحيحة زرارة « وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى » (١) وهي وإن كانت واضحة الدلالة على التعيين ، إلاّ أن الماتن قدس‌سره حملها على الاستحباب وبيان أفضل الأفراد ، تقديماً لإطلاق الكتاب والأخبار الكثيرة المتقدمة وسكوت بعضها عن اعتبار ذلك وهي في مقام البيان.

ويردّه : ما أشرنا إليه في المسألة المتقدمة ، من أنه ليس هناك أي مانع من تقييد الإطلاقات المذكورة بالرواية المعتبرة ، لأن المطلقات ليست بصدد البيان من تلك الناحية ، وحيث إن الصحيحة ظاهرة في التعيين ووجوب مسح اليمنى باليد اليمنى واليسرى باليد اليسرى ، لأن قوله عليه‌السلام « وتمسح » جملة فعلية ظاهرة في الوجوب ، لكونها في مقام الإنشاء وقد تقدم أنها جملة مستقلة وغير معطوفة على فاعل « يجزئك » المتقدم في صدر الصحيحة ، فلا مانع من تقديمها على إطلاقات الكتاب والسنّة بوجه.

وأمّا الأخبار الساكتة عن بيان ذلك وهي في مقام البيان ، فالتحقيق كما قدمناه أن عدم تعرّض الرواة لنقل هذه الخصوصية من جهة أن مسحهم عليهم‌السلام كان على النحو المتعارف عندنا ، أعني مسح اليمنى باليد اليمنى واليسرى باليد اليسرى ، وإلاّ فلو كان مسحهم عليهم‌السلام على غير الطريقة المتعارفة ، بأن كان كالأكل من القفا أعني مسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى ، لوجب على الرواة نقل تلك الخصوصية لا محالة ، لأنها خصوصية زائدة يجب نقلها في مقام الحكاية والاخبار. إذن لا تبقى دلالة في ذلك على كفاية المسح مطلقاً.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

١٦٨

وإن كان شعر على ظاهر القدمين فالأحوط الجمع بينه (*) وبين البشرة في المسح (١)

______________________________________________________

نعم ، يمكن أن يقال إن عملهم عليهم‌السلام لا يدل على وجوب ذلك وتعينه لاحتمال أن يكون مسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى مستنداً إلى استحبابه ولأجله لم يهتم الرواة بنقله ، ولكن هذا الاحتمال غير مانع عن الأخذ بظاهر الصحيحة في الوجوب كما هو ظاهر.

فالمتحصل أن المتعيّن مسح الرجل اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

الأحوط الجمع في المسح :

(١) قد مرّ وعرفت أن الشعر النابت على الوجه لا بدّ من غسله في الوضوء ، ولا يجزئ غسل البشرة عن غسله ، وأما النابت على اليدين فقد عرفت أنه لا بدّ من غسله مع اليدين كوجوب غسل غيره من التوابع كاللحم الزائد ، إذ الإصبع الزائدة النابتة بين الأصابع والمرافق وإن لم يكن غسله مجزئاً عن غسل البشرة ، إلاّ أنه تبعاً للبشرة لا بدّ من غسله معها.

وأما النابت على الرأس فهو أيضاً لا بدّ من مسحه ويجزئ عن مسح نفس البشرة لأن الشعر وإن كان جسماً خارجياً غير الرأس الواجب مسحه ، إلاّ أن الرأس لما لم يكن خالياً عن الشعر غالباً أو دائماً كان الأمر بمسح الرأس راجعاً إلى الأمر بمسح ما عليه من الشعر ، لغلبة وجوده معه.

وأما الشعر النابت على الرجلين ، فقد وقع محل الخلاف بين الأعلام ، فمنهم من ذهب إلى عدم إجزاء مسح الشعر عن مسح البشرة فلا بدّ من مسح بشرتهما ، نظراً إلى‌

__________________

(*) إذا كان الشعر بالمقدار المتعارف فلا ريب في جواز المسح على ظاهر القدم على ما هي عليه ، وإذا كان خارجاً عن المتعارف فلا ريب في تعيّن المسح على البشرة.

١٦٩

أن كلمة الرِّجل موضوعة لنفس البشرة ، والشعر جسم خارجي قد ينبت على الرجلين وقد لا ينبت ، فالأمر بمسح الرجلين يقتضي وجوب مسح بشرتهما وعدم كفاية مسح الشعر عن مسحهما.

ومنهم من قال بكفاية مسح الشعر عن مسح البشرة ، لأنه معدود من توابعهما والأمر بمسحهما أمر بمسح التوابع لا محالة ، وأن إنكار ذلك مكابرة للوجدان وتكذيب لما أطبقت عليه كلمة العرف ، ومن هنا لو أمر السيد عبده بإمرار يده على ساقه أو ساعده أو غيرهما من أعضائه لم يخطر بباله إزالة شعرهما أوّلاً مقدمة للامتثال.

والماتن قدس‌سره لما لم يرجّح أحد الأمرين على الآخر توقف في المسألة واحتاط احتياطاً لزومياً بالجمع بين مسح كل من الشعر والبشرة ، هذا.

ولكن الاحتياط لا نرى له وجهاً في محل الكلام ، لأنه إنما يحسن فيما إذا دار الأمر بين وجوب مسح البشرة على نحو لا يجزئ عنه مسح شعرها ، ووجوب مسح الشعر على نحو لا يجزئ عنه مسح البشرة ، مع أن الأمر ليس كذلك ، لأن الشعر النابت على الرجلين إن كان خفيفاً بحيث لا يمنع عن رؤية البشرة كما هو الموجود في كل إنسان متعارف حيث ينبت الشعر على أصابعه بل وعلى كعبه وأطرافه من دون أن يمنع عن وقوع الابصار على بشرته ، فلا إشكال في جواز المسح عليه وإجزاء ذلك عن مسح البشرة نفسها ، لأن الشعر وإن كان جسماً خارجياً غير البشرة ، إلاّ أن الرجل لما لم تكن خالية عن الشعر المتعارف كما عرفت كان الأمر بمسحها أمراً بمسح شعرها المتعارف أيضاً على ما تقدّم تفصيله (١) عند التكلّم على مسح الرأس ، والمسح على مثل ذلك لو لم يكن مجزئاً عن المأمور به في مقام الامتثال للزم أن ينبه عليه في الكلام فعدم البيان في مثله دليل على كفاية المسح على الشعر لا محالة.

ودعوى أن الشعر قد لا ينبت على الرجل ويبقى موضع المسح خالياً عن الشعر ومعه لا يكون وجود الشعر على الرجل أمراً دائمياً بل ولا غالبياً ، مندفعة بأنها لو‌

__________________

(١) في ص ١٢٩.

١٧٠

وتجب إزالة الموانع والحواجب (١) واليقين بوصول الرطوبة إلى البشرة ولا يكفي‌

______________________________________________________

تمّت فإنما تختص بغير الأصابع ، لأن الأصابع ينبت عليها الشعر دائماً ولا يوجد بحسب المتعارف إنسان إلاّ وقد نبت الشعر على أصابعه ، بل وعلى كعبه وأطراف كعبه ، بحيث لو مسح من أوّل أصابعه إلى كعبيه على نحو الخط المستقيم لم يصل الخط إلى كعبيه إلاّ بالمرور على الشعر في مقدار من رجله. نعم ، لو مسح على نفس البشرة أيضاً كان كافياً في مقام الامتثال ، هذا كلّه فيما إذا كان الشعر خفيفاً لا يمنع عن وقوع الابصار على البشرة.

وأمّا إذا كان الشعر كثيراً وخارجاً عن المتعارف ، كما إذا نبت على تمام رجله أو أكثره على نحو يمنع عن رؤية البشرة تحته ، فلا ريب في جواز المسح على نفس البشرة وقتئذٍ ، لأن الشعر خارج عن الرجل وليس أمراً متعارفاً ليشمله الأمر بمسح الرجل ولا دليل على أن مسحه يجزئ عن المسح المأمور به.

وأما صحيحة زرارة « كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد ( للعباد ) أن يبحثوا عنه ، ولكن يجرى عليه الماء » (١) ، فقد قدّمنا (٢) أنها تختص بالوجه ولا يعم غيره. على أن الكلام في المقام إنما هو في المسح والصحيحة مختصة بالغسل بلا كلام ، لما في ذيلها من قوله عليه‌السلام : « يجرى عليه الماء » وذلك لأن الجريان لا يتحقق إلاّ في الغسل ، وهذا ظاهر.

فالمتحصل أن مسح البشرة مجزئ على كل حال ، ومعه لا مجال لما صنعه الماتن قدس‌سره من الاحتياط بالجمع في المسح بين البشرة والشعر.

يجب إزالة الموانع :

(١) لظاهر الكتاب والسنّة ، لدلالتهما على وجوب مسح الرجلين ، ومن الظاهر أن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧٦ / أبواب الوضوء ب ٤٦ ح ٢ ، ٣.

(٢) في ص ٨٤.

١٧١

الظن ، ومن قطع بعض قدمه مسح على الباقي (١)

______________________________________________________

الرجل لا تصدق على الخف أو غيره من الموانع ، إذن لا يكون المسح عليهما مسحاً على الرجلين وهو المأمور به على الفرض. وفي رواية الكلبي النسابة عن الصادق عليه‌السلام « إذا كان يوم القيامة وردَّ الله كل شي‌ء إلى شيئه وردَّ الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوءهم » (١).

وظيفة من قطع بعض قدمه :

(١) وهذا لا لقاعدة أن الميسور لا يسقط بالمعسور ، لنناقش فيها بما ناقشنا به في محلِّه ، ولا للتسالم المدعى في المقام حتى يناقش فيه باحتمال استناد المتسالمين إلى قاعدة أن الميسور لا يسقط بالمعسور ، بل لدلالة الكتاب والسنّة فان قوله عزّ من قائل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) من تقابل الجمع بالجمع ، فيدلنا على أن كل واحد منكم يمسح رأسه ورجليه ، لوضوح أن كل أحد ليس له إلاّ رأس واحد ورجلان وليس له رؤوس وأرجل ، فاذا كان معنى الآية ذلك فتدلّنا على أن الرجل يجب مسحها على حسب اختلافها بحسب الصغر والكبر وكونها مقطوعة أو غير مقطوعة ، إذ الرجل كما تصدق على الرجل غير المقطوعة كذلك تصدق على المقطوعة ولا مناص معه من مسحها.

ويؤيد ذلك صحيحة رفاعة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الأقطع فقال : يغسل ما قطع منه » (٢) وصحيحته الثانية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ذلك المكان الذي قطع منه » (٣) وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « سألته عن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٨ / أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ٤ ، وهي ضعيفة بمحمد بن علي لأنه الهمداني.

(٢) الوسائل ١ : ٤٧٩ / أبواب الوضوء ب ٤٩ ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ٤٨٠ / أبواب الوضوء ب ٤٩ ح ٤.

١٧٢

ويسقط مع قطع تمامه (١).

______________________________________________________

الأقطع اليد والرجل قال : يغسلهما » (١).

ويستفاد من الأمر بغسلهما بقاء مقدار من مقطوعهما ، والمراد بالغسل في الصحيحتين أعم من المسح ، ومعناه غسل المقدار الباقي من اليد ومسح المقدار الباقي من الرجل ، وإنما عبّر بالغسل للتغليب والازدواج ، هذا ولكن مستند الحكم في المقام هو الكتاب والسنّة والروايتان مؤيدتان للمدعى.

يسقط المسح عند قطع الرجل تماماً :

(١) وذلك لإطلاق الكتاب والسنة ، ومقابلة الجمع بالجمع وإن اقتضت الانحلال كما مرّ ودلّت على أن كل أحد مأمور بأن يمسح رأسه ورجليه ، إلاّ أنه على نحو القضية الحقيقية لا محالة ، ومقتضاها حينئذٍ أنه يجب على كل أحد أن يمسح رأسه ورجليه على تقدير أن يكون له رجل ورأس ، لما ذكرناه غير مرة من أن القيود الخارجة عن الاختيار المأخوذة في المأمور به لا بدّ أن تكون مفروضة الوجود ، ومع عدمه لا يجب عليه مسح إحدى رجليه أو كلتيهما إذا قطعتا معاً ، ويبقى إطلاق الأمر بغسل الوجه واليدين في الآية المباركة بحاله ، هذا أولاً.

وثانياً : أن قوله عزّ من قائل في ذيل الآية المباركة ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (٢) يدلّنا على أن الأمر بغسل الوجه واليدين أعني الوضوء إنما يختص بالواجدين ، لوضوح أن التفصيل قاطع للشركة ، فالوضوء وظيفة الواجد للماء ، كما أن التيمم وظيفة الفاقد ، والفقدان إنما يتحقق بأحد أمرين : إمّا بفقدان ذات الماء كما هو‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٠ / أبواب الوضوء ب ٤٩ ح ٣.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

١٧٣

[٥١٥] مسألة ٢٥ : لا إشكال في أنه يعتبر أن يكون المسح بنداوة الوضوء فلا يجوز المسح بماء جديد (١) ، والأحوط (*) أن يكون بالنداوة الباقية في الكف فلا يضع يده بعد تمامية الغسل على سائر أعضاء الوضوء لئلاّ يمتزج ما في الكف‌

______________________________________________________

الغالب في المسافرين ولا سيما في الأزمنة القديمة في الصحاري والقفار ، وإما بعدم التمكن من استعماله لمرض أو نحوه ، إذ المريض كثيراً ما يكون واجداً للذات إلاّ أنه عاجز عن استعماله لمرضه ، وحيث إن مقطوع الرجل أو الرجلين لا ينطبق عليه الفاقد بأحد المعنيين ، لوجود الماء عنده وتمكنه من استعماله وإن لم تكن له رجل ، فلا محالة يصدق عليه عنوان واجد الماء ومعه يجب عليه الوضوء ، لأنه فريضة الواجد كما مرّ.

على أن الصلاة واجبة في حقه من دون شك ، ولا صلاة إلاّ بطهور ، والتيمم غير سائغ في حقِّه لعدم صدق الفاقد عليه ، فيتعيّن عليه الوضوء لا محالة ، فإذا وجب فيجب من غير مسح لاستحالة التكليف بما لا يطاق. ثم إن المعتمد عليه في المسألة إنما هو ما قدّمناه من إطلاق الكتاب والسنة ، دون التسالم حتى يناقش فيه باحتمال استناد المجمعين إلى قاعدة أن الميسور لا يسقط بالمعسور.

اعتبار كون المسح بنداوة الوضوء :

(١) لما تقدّم (٢) عند التكلّم على وجوب مسح الرأس ، وقلنا إن المسح بالماء الجديد غير مسموح ، وما دلّ على جوازه وأنه عليه‌السلام أمر بالمسح بالماء الجديد (٣) محمول على التقيّة كما تقدّم.

__________________

(*) بل هو الأظهر ، وبه يظهر الحال في بقيّة المسألة.

(١) في ص ١٠٨.

(٢) الوسائل ١ : ٤٠٨ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٤ ، ٥ ، ٦.

١٧٤

بما فيها ، لكن الأقوى جواز ذلك (١)

______________________________________________________

(١) هذا الذي ذكره الماتن قدس‌سره قد ذهب إليه جماعة من الأعلام ( قدس الله أسرارهم ) وذهب آخرون إلى عدم جوازه إلاّ مع جفاف بلّة اليد ، ومنشأ الخلاف في ذلك أن الروايات الدالة على لزوم كون المسح بالبلّة الباقية كما ورد في الوضوءات البيانية من أنه عليه‌السلام « مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه ولم يجدّد ماء أو لم يحدث لهما ماء جديداً » على ما رواه زرارة وبكير (١) أو أنه « مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء » كما في صحيحة زرارة (٢) أو أنه « مسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه » كما في صحيحته الأُخرى (٣) وغيرها من الروايات ، هل تصلح أن تكون مقيدة للمطلقات من الآية المباركة والأخبار الواردة بمضمونها كما اشتمل على الأمر بمسح الرأس والرجلين من دون تقييد بشي‌ء؟ (٤) ، أو أنها غير صالحة لتقييدها ، وإن قيدناها بأن يكون المسح بواسطة اليد لا بآلة أُخرى بمقتضى الأخبار التي قدمناها في محلِّها ، إلاّ أن إطلاقها من حيث كون المسح ببلّة ما في اليد أو غيرها من الأعضاء بحاله ، وتلك الأخبار غير موجبة لتقييد إطلاقاتها من هذه الجهة كما هو ظاهر.

والصحيح أن الأخبار المذكورة غير صالحة لتقييد المطلقات ، وذلك لأن الأخبار المذكورة إنما هي حكاية فعل من الامام عليه‌السلام وفعله بما هو فعل لا دلالة له على الوجوب ، وإنما يستفاد الوجوب من اهتمام الرواة بنقله مثلاً أو غير ذلك من القرائن ، ولا قرينة في تلك الأخبار على أن فعله عليه‌السلام مستند إلى الوجوب‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٣٩٢ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١١ ، ٣ ، ٦ ، ٢.

(٤) وهي عدة روايات منها صحيحة زرارة وبكير « إذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك » المروية في الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٤ ، وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال وذكر المسح فقال : « امسح على مقدم رأسك وامسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن » المروية في الوسائل ١ : ٤١٨ / أبواب الوضوء ب ٢٥ ح ١.

١٧٥

إذ من الجائز أن يكون مسحه ببلّة يده من جهة استحبابه ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن الاستدلال بها على الوجوب ، هذا.

بل يمكن أن يقال : القرينة قائمة على أن تلك الروايات ليست ناظرة إلى بيان أن المسح يجب أن يكون بالبلة الباقية في اليد ، وذلك لأنها ناظرة إلى بيان أن المسح لا بدّ أن يكون ببلّة الوضوء ، وأنه لا يجوز المسح بالماء الجديد كما عليه الجمهور ، فهذه الروايات غير صالحة للتقييد.

نعم ، ورد في صحيحة زرارة : « وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى » (١) ودلالتها على الوجوب واضحة ، حيث دلّت على أن مسح الرجل اليمنى باليد اليمنى لا بدّ من أن يكون ببللها كما أن مسح اليسرى باليد اليسرى لا بدّ أن يكون كذلك. وبهذه الصحيحة نقيّد المطلقات المتقدمة ، لأن قوله عليه‌السلام « وتمسح » جملة فعلية قد وردت في مقام الإنشاء ، فلا محالة يدلّنا على الوجوب ، وليست معطوفة على فاعل « يجزئك » على ما مرّ مفصّلاً (٢).

ودعوى أنها إنما وردت لبيان أمر آخر وهو اعتبار تقدم مسح الرجل اليمنى على اليسرى ولا نظر لها إلى لزوم كون المسح بالبلة الباقية في اليد غير مسموعة ، لأنها كما وردت لبيان الجهة الأُولى كذلك وردت لبيان الجهة الثانية ، فهي ناظرة إلى كلتيهما ومن هنا قيدت المسح بأن يكون بالبلة الباقية في اليد. ونظيرها صحيحة عمر بن أذينة الواردة في معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى كعبيك » (٣) فإن الأمر ظاهر في الوجوب ، وهي أيضاً قابلة للتقييد ، وبهاتين الصحيحتين نقيد المطلقات المتقدمة.

وأمّا الروايات الواردة في أخذ البلل من اللحية أو الحاجبين أو أشفار العينين فلم‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

(٢) في ص ١١٠.

(٣) الوسائل ١ : ٣٩٠ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٥.

١٧٦

نجد فيها ما يدلنا على ما نحن بصدده ، إلاّ رواية واحدة وهي مرسلة الصدوق قدس‌سره كما يأتي ذكرها.

وأما بقية الروايات المذكورة فلا دلالة لها على ذلك بوجه ، لأنها إنما تدل على وجوب أخذ البلّة من اللحية أو الحاجبين لمن نسي المسح حتى دخل في الصلاة ، وأما وجوب الأخذ من بلّة اليد ما دامت مبتلة فلا يكاد يستفاد منها بوجه ، فلا دلالة لها على أن الأخذ من بلّة اللحية مثلاً إنما هو فيما إذا لم تكن اليد مبتلة وأما إذا كانت مبتلة فلا يجوز المسح ببلّة اللحية مثلاً فلا يمكن استفادتها منها كما عرفت ، فالاستدلال بها على تقييد المطلقات غير تام ، هذا.

على أن التمسك بإطلاقاتها غير صحيح في نفسه ، وذلك مضافاً إلى أن الغالب يبوسة بلّة اليد في من نسي المسح ودخل في الصلاة ، أن الروايات المذكورة قد دلت على وجوب الأخذ من بلّة اللحية والحاجبين ، وهذا مما يلائم الإطلاق أبداً ، لوضوح أن في صورة وجود البلّة في اليد لا يجب أخذ البلّة من اللحية أو غيرها بلا كلام ، وإنما الكلام في جوازه وعدمه ، وأما الوجوب فهو مقطوع العدم حينئذٍ كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك أن أكثرها ضعيفة الاسناد فلاحظ ، فاطلاقات تلك الروايات غير قابلة للاعتماد عليها أبداً.

وأما مرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام « إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك ، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي‌ء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، وإن لم يكن لك لحية ، فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك ، وإن لم يبق من بلّة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء » (١) فلا بأس بدلالتها على المدعى مع الغض عن سندها.

نعم ، الأصحاب غير ملتزمين بالترتيب الوارد في الرواية ، أعني الترتيب بين الأخذ من بلّة اللحية والحاجبين ، ولعل ذكر اللحية أوّلاً من جهة أن بقاء البلّة فيها‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٩ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٨.

١٧٧

وكفاية كونه برطوبة الوضوء وإن كانت من سائر الأعضاء ، فلا يضر الامتزاج المزبور ، هذا إذا كانت البلّة باقية في اليد ، وأما لو جفت فيجوز الأخذ من سائر الأعضاء (*) بلا إشكال من غير ترتيب بينها على الأقوى (١) ،

______________________________________________________

أزيد من بقائها في الحاجبين ، لأنها تأخذ الماء أكثر مما يأخذه الحاجبان أو أشفار العينين ، ولأجل ذلك قال عليه‌السلام « وإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك » إلخ ، ولم يقل وإن لم تكن بلّة في لحيتك ، لاستحالة فقدان البلّة من اللحية وبقائها في الحاجبين عادة ، هذا.

وقد جاء في كلام صاحب الحدائق قدس‌سره بعد ذكر هذه المرسلة : ومثلها رواية زرارة (٢) والظاهر أنه من سهو القلم والاشتباه ، إذ ليست لزرارة رواية مثل مرسلة الصدوق قدس‌سره نعم له رواية كبقية الأخبار الواردة في من نسي المسح ودخل في الصلاة ، والآمرة بالمسح من بلّة اللحية فليراجع (٣).

أخذ البلل من سائر الأعضاء :

(١) لا إشكال ولا كلام في جواز أخذ البلل من اللحية عند جفاف اليد كما ورد في غير واحد من الروايات ، وهي وإن كان أكثرها ضعيفة السند إلاّ أن بينها رواية واحدة قابلة للاعتماد عليها في الاستدلال وهي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « إذا ذكرت وأنت في صلاتك أنك قد تركت شيئاً من وضوئك إلى أن قال ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدّم رأسك » (٤) وهي بظاهرها وإن كانت مطلقة من حيث جفاف اليد‌

__________________

(*) الأظهر الاقتصار على الأخذ من بلّة اللحية الداخلة في حدّ الوجه ، وبذلك يظهر الحال في بقية المسألة.

(١) الحدائق ٢ : ٢٨١.

(٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٤٠٨ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٢.

١٧٨

ورطوبتها ، إلاّ أنه بالنظر إلى أن الأغلب جفاف نداوة اليد فيما إذا ترك المتوضئ المسح ودخل في الصلاة ، وتكون الصحيحة كالمختصة بصورة جفاف اليد وتدلنا على أن من جفت يده ثم تذكر أنه ترك مسح الوضوء جاز له أن يأخذ من بلّة لحيته ، وهذا مما لا كلام فيه.

وإنما الكلام في أن الأخذ من اللحية هل يتعيّن حينئذٍ أو أنه بعد جفاف اليد لا ترتيب بين أعضاء الوضوء ، فله أن يأخذ البلل من لحيته كما أن له أخذ البلل من يده اليسرى أو من سائر أعضائه كحاجبيه وأشفار عينيه؟ فيه كلام وخلاف بين الأصحاب قدس‌سرهم.

وقد يستدل على الثاني بإطلاقات ما دلّ على وجوب مسح الرأس والرجلين من دون تقييده بشي‌ء ، كما في الآية المباركة وغيرها من الروايات الآمرة بمسح الرأس والرجلين بعد تقييدهما بأن يكون المسح ببلّة اليد ، إذ القدر المتيقن من التقييد إنما هو صورة وجود البلّة في اليد ، إذ حينئذٍ لا يجوز المسح ببلّة غيرها من الأعضاء بلا كلام وأما إذا جفت ويبست فلا مناص من الرجوع إلى المطلقات ، وحيث إنه لا دليل على تقييد المطلقات المذكورة بشي‌ء فمقتضاها جواز المسح ببلّة الوضوء ، سواء أكانت البلّة بلّة اللحية أو بلّه غيرها من أعضاء الوضوء.

ويدفعه أمران : أحدهما : ما حققناه في المباحث الأُصولية من أن إطلاق دليل المقيد مقدّم على إطلاق دليل المطلق (١) ، وبما أن ما دلّ على لزوم كون المسح بالبلة الموجودة في اليد غير مقيد بحالة رطوبة اليد وعدم جفافها فلا مناص من رفع اليد بذلك عن المطلقات في كلتا صورتي رطوبة اليد ويبوستها ، والحكم بأن المسح ببلّة اليد مطلقاً جزء معتبر في الوضوء ، وذلك لأن صحيحة زرارة وغيرها مما قدّمنا (٢) دلالته على التقييد قد وردت إرشاداً إلى اعتبار المسح ببلّة اليد وجزئية ذلك في الوضوء ، بلا فرق في ذلك بين صورتي التمكّن من المسح ببلّة اليد وعدمه ، ومعه لا إطلاق للمطلقات بعد‌

__________________

(١) راجع مصباح الأُصول ٢ : ٤٦٢.

(٢) في ص ١٣٦.

١٧٩

يبوسة اليد حتى نتمسك بها في إثبات جواز المسح ببلّة أعضاء الوضوء ، لوضوح أن كفاية المسح ببلّة غير اليد وقتئذٍ يحتاج إلى دليل ، ولم يقم دليل إلاّ على كفاية المسح ببلّة اللحية فحسب ، فلا مناص من الاقتصار عليه والحكم بعدم جواز المسح ببلّة غيرها من الأعضاء.

ثانيهما : أنه على تقدير التنازل وتسليم صحة الرجوع إلى المطلقات في غير الصورة المتيقنة من تقييدها ، وهي صورة رطوبة اليد ، أعني ما إذا لم يتمكّن المتوضئ من المسح ببلّة اليد ، فالمطلقات غير منطبقة على ما نحن فيه ، وذلك لضرورة أن عدم التمكن من المسح ببلّة اليد الذي عرفت أنه جزء للمأمور به يختص بالوضوء المأتي به ولا يعم طبيعي الوضوء ، لوضوح أن المكلف يتمكّن من أن يأتي بفرد آخر من الوضوء ويمسح فيه ببلّة يده ، وما سلمناه من شمول المطلق لصورة العجز من الجزء أو القيد فإنما هو فيما إذا كان العجز وعدم التمكن من إتيانه غير مختص بفرد دون فرد ، كما إذا عجز عن إتيانه بين المبدأ والمنتهى على ما شرحنا تفصيله في بحث الأُصول ، وحيث إن المكلّف في المقام متمكن من إتيان الجزء المعتبر في المأمور به في ضمن فرد آخر من أفراد الطبيعي المأمور به فلا وجه لدعوى شمول المطلقات للفرد الناقص بوجه.

وأُخرى يستدل على عدم تعيّن المسح ببلّة اللحية بمرسلة الصدوق المتقدِّمة (١) بتقريب أن ظاهرها أن المدار على المسح ببلّة الوضوء كما في قوله « فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك » بلا فرق في ذلك بين بلّة عضو وبلّة عضو آخر. وأما الترتيب الذي أُشير إليه في المرسلة من المسح ببلّة اللحية أوّلاً ، فالظاهر أنه من جهة أن اللحية تشتمل على البلّة أكثر مما يشتمل عليه غيرها من الأعضاء ، فيكون جفافها بعد جفاف بقية الأعضاء ، ومن هنا لم يقل : فاذا لم تكن بلّة في لحيتك فخذ من حاجبيك ، لأنه بعيد عادة ، وإنما قال : « وإن لم يكن لك لحية » ، هذا.

وظهور المرسلة في المدعى وإن كان غير قابل للإنكار ، غير أن ضعف سندها بالإرسال مانع عن الاعتماد عليها في مقام الاستدلال.

__________________

(١) في ص ١٧٧.

١٨٠