موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ذلك استكشفنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام كانوا يمسحون بباطن الكف ، إذن فهو أمر معتبر في صحة الوضوء.

ومنها : أن المسح لا بدّ أن يكون بالأصابع ، ذهب جماعة إلى اعتبار ذلك في الوضوء إلاّ أنه مما لا شاهد له من النصوص ، لأن الأخبار البيانية غير مشتملة على أنهم عليهم‌السلام قد مسحوا رؤوسهم بأصابعهم ، بل مقتضى إطلاقاتها عدم لزوم كون المسح بالأصابع ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمة عليهم‌السلام لو كانوا مسحوا بأصابعهم لنقلته الرواة ، لوجوب نقل الخصوصيات الدخيلة في الأحكام الشرعية على الرواة ، وحيث لم ينقلوها في رواياتهم وهي مطلقة فيستكشف من ذلك عدم اعتبار المسح بالأصابع.

واحتمال أن المطلقات منصرفة إلى المسح بالأصابع ، لأنه الفرد المتعارف من المسح بعيد ، لعدم كون المسح بغير الأصابع فرداً نادراً فإنه أيضاً كثير ، وغاية الأمر أن يكون المسح بالأصابع أكثر ، هذا.

على أنّا لو سلمنا ندرة ذلك في الوضوء مع أن الأمر ليس كذلك فلا ينبغي التأمل في أن المسح في غير الوضوء بغير الأصابع ليس من الأفراد النادرة قطعاً.

مثلاً إذا قيل : مسح فلان على رأس طفل أو مسحت رأسه ، كان ظاهراً في أنه مسحه بيده وكفه لا بأصابعه ، فإنه الفرد الغالب في مسح الرأس وأمثاله ، وحيث إن نزول الآية المباركة وصدور الأخبار متأخران عن استعمال المسح في المحاورات العرفية ، فلا مناص من حمله فيهما على إرادة ما هو الظاهر منه في الاستعمالات ، وقد عرفت أنه بحسب المحاورات العرفية كما يطلق على المسح بالأصابع كذلك يطلق على المسح باليد ، فالانصراف مما لا أساس له.

نعم ، سبق أن احتملنا انصراف المطلقات في المسح إلى المسح باليد ، ولكنه مستند إلى ندرة المسح بغير اليد ، وليس المسح بغير الأصابع نادراً كما مرّ. فتحصل أن تعيّن المسح بالأصابع مما لا وجه له ، نعم لا بأس بالقول بالأولوية الاستحبابية لاحتمال اعتباره شرعاً.

١٤١

[٥١٤] مسألة ٢٤ : في مسح الرأس لا فرق بين أن يكون طولاً أو عرضاً أو منحرفاً (١)

______________________________________________________

ومنها : أن يكون مسح الرأس باليد اليمنى ، وقد نسب إلى المشهور القول بالاستحباب في المسألة ، بل ذكر صاحب الحدائق قدس‌سره أن ظاهرهم الاتفاق عليه (١). ولعل الوجه في ذلك هو إطلاقات الأدلة ، لأنها غير مقيّدة بأن يكون المسح باليد اليمنى ، بل في بعضها التصريح بالإطلاق كما في صحيحة زرارة : « ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه » (٢) ولم يرد في قبال تلك المطلقات دليل يدلّنا على التقييد باليمنى.

نعم ، يمكن أن يستدل على وجوب ذلك بما ورد في صحيحة زرارة المتقدمة من قوله عليه‌السلام « وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك » (٣) لما قدّمناه (٤) من أن جملة « وتمسح ببلّة ... » جملة مستقلّة قد دلّت على لزوم كون المسح ببلّة اليد اليمنى ، فان ظاهرها هو الوجوب ، ومن هنا قدّمنا أنها معارضة لما دلّ على اعتبار كون المسح على مقدم الرأس.

واحتمال كون هذه الجملة معطوفة على فاعل « يجزئك » في قوله المتقدم « إن الله وتر يحب الوتر فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات ، واحدة للوجه واثنتان للذراعين » ضعيف كما تقدّم ، لأنه يحتاج إلى التقدير والإضمار بأن تكون الجملة هكذا : وأن تمسح ... وهو على خلاف الأصل فلاحظ.

التسوية بين أنحاء المسح :

(١) لإطلاقات الأدلة ، فكما أن للمكلف أن يمسح نكساً كذلك له المسح‌

__________________

(١) الحدائق ٢ : ٢٨٧.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٧ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ٤٣٦ / أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢.

(٤) في ص ١١٠.

١٤٢

الرابع : مسح الرِّجلين (١)

______________________________________________________

بالانحراف ، كما إذا مسح من إحدى زوايا المثلث إلى ما يقابله من الضلع ، فان مقدّم الرأس مثلث الشكل لا محالة.

وأمّا ما ورد من أن الأمر في المسح موسع (١) فلعله ناظر إلى أن المسح ليس كالغسل الذي يعتبر أن يكون من الأعلى إلى الأسفل ، بل يجوز فيه النكس أيضاً ، وأما أن الانحراف فيه سائغ أو لا فهو مما لا يستفاد من الرواية. على أنها إنما وردت في مسح الرجلين دون الرأس.

مسح الرِّجلين :

(١) للآية المباركة والأخبار المتضافرة ، بل لا يبعد دعوى تواترها ، أما الآية المباركة فهو قوله عزّ من قائل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (٢) بالجر أو النصب على اختلاف القراءتين ، فإن قرأنا أرجلكم بالجر فيكون معطوفة على رؤوسكم ومعناه : فامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم ، وإذا قرأنا بالنصب كما هو قراءة عاصم في رواية حفص وهو الذي كتب القرآن على قراءته فيكون معطوفة على محل رؤوسكم والمعنى حينئذٍ : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) وامسحوا أرجلكم ، وعلى كلا التقديرين تدلّنا الآية المباركة على وجوب مسح الرجلين.

واحتمال أن تكون وأرجلكم على قراءة النصب معطوفة على أيديكم ووجوهكم ليكون معنى الآية المباركة ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) و( امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) واغسلوا ( أَرْجُلَكُمْ ) ، فهو مما لا يناسب الأديب ، لعدم جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة الأجنبية ، فضلاً عن كلام الخالق الذي هو في أرقى درجات البلاغة والإعجاز.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٧ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ٣.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

١٤٣

من رؤوس الأصابع إلى الكعبين (١)

______________________________________________________

وأمّا الأخبار فقد ورد الأمر بالمسح على الرجلين في جملة من الأخبار الكثيرة حتى بالغ فيها السيد قدس‌سره في الانتصار حيث قال : إنها أكثر من عدد الرمل والحصى (١) ، على ما نقله صاحب الجواهر (٢) وغيره.

مبدأ المسح في الرجلين :

(١) كما هو المشهور بين أصحابنا ، بل ادعي عليه الإجماع في كلماتهم. وعن الشهيد في الذكرى احتمال عدم وجوب المسح إلى الكعبين (٣). واختاره صريحاً في المفاتيح (٤). ونفى عنه البعد في رياض المسائل (٥) ومال إليه واختاره صاحب الحدائق قدس‌سره وإن ذكر أخيراً أن المسح إلى الكعبين هو الأحوط (٦).

ويدلُّ على مسلك المشهور قوله عزّ من قائل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (٧) فإن قوله عزّ من قائل ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) غاية للممسوح وحد للمسح ، وليس غاية له ، إذ لا يعتبر الانتهاء في المسح إلى الكعبين ، لجواز النكس والانتهاء إلى الأصابع كما ذكرناه في الغسل ، فان قوله تعالى ( إِلَى الْمَرافِقِ ) غاية للمغسول وحد للغسل ، لا أنه غاية له وهو نظير قولنا : اكنس الدار من هنا إلى هنا فان معناه أن وجوب الكنس إنما هو في هذا المقدار الواقع بين المبدأ والمنتهى من دون نظر إلى المبدأ والمنتهى ، فله أن يكنس من هذا الطرف إلى الطرف الآخر كما له العكس‌

__________________

(١) الانتصار : ١١١.

(٢) الجواهر ٢ : ٢٠٦.

(٣) الذكرى : ٨٩ السطر ١.

(٤) لاحظ مفاتيح الشرائع ١ : ٤٤.

(٥) لاحظ رياض المسائل ١ : ٢٣٨.

(٦) لاحظ الحدائق ٢ : ٢٩٥.

(٧) المائدة ٥ : ٦.

١٤٤

فلم يتعلّق الغرض بالابتداء والانتهاء وإنما الغرض بيان المقدار الذي يجب غسله أو مسحه.

ومن هنا لو كنّا نحن وهذه الآية المباركة لقلنا بجواز الغسل من الأعلى إلى الأسفل وعكسه ، ولكن الأخبار منعتنا عن الأخذ بإطلاقها ، ولأجلها خصصنا الغسل الواجب بالغسل من المرافق إلى الأصابع.

وأما الإطلاق في طرف الأمر بالمسح فهو باق على حاله ولم يدلنا دليل على تقييده ، إذن لا مانع من الأخذ به والحكم بجواز المسح في الرجلين من الكعبين إلى الأصابع وبالعكس ، ولم يتعلق الغرض بتعيين المبدأ والمنتهى ، وإنما الغرض بيان مقدار المسح وأن الممسوح لا بدّ أن يكون بالمقدار الواقع بين الأصابع والكعبين ، سواء أكان المبدأ هو الأصابع والمنتهى هو الكعبان أو كان الأمر بالعكس.

وأيضاً تدل على ذلك الأخبار البيانية وغيرها مما اشتملت على الأمر بمسح الرجلين إلى الكعبين فليراجع.

وأما ما ذهب إليه صاحب الحدائق والمفاتيح وغيرهما ، فقد استدل عليه بعدة روايات.

منها : الأخبار الدالة على أن مسح شي‌ء من الرأس والرجلين مجزي في الوضوء كصحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال في المسح : « تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك ، أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك » (١).

وصحيحتهما الأُخرى ثم قال : « ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، فاذا مسح بشي‌ء من رأسه ، أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه » (٢) وبمضمونهما روايات اخرى قد دلّت على كفاية المسح بشي‌ء من الرأس والرجلين فلا يجب مسحهما إلى الكعبين ، هذا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

١٤٥

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة عليه ، لأن الاستدلال بتلك الأخبار على كفاية المسمّى في المسح يتوقف على أن تكون تلك الروايات ناظرة إلى كفاية المسح ببعض الرجلين بحسب كل من الطول والعرض ، ولا تكون ناظرة إلى كفاية ذلك بحسب العرض فقط ، وهذا يتوقف على تحقيق أن قوله عليه‌السلام « ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع » بيان لأي شي‌ء ، وهل هو بيان للشي‌ء في قوله : « أو بشي‌ء من قدميك » ليكون معناه : إذا مسحت بما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع من قدميك أجزأك ، أو أنه بيان للقدمين ومعناه : أنه إذا مسحت بشي‌ء مما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك.

فعلى الأوّل تدلّنا الصحيحتان على ما سلكه المشهور ووجوب الاستيعاب فيما بين الكعبين إلى الأصابع بالمسح ، كما أنهما على الثاني تدلنا على ما ذهب إليه الجماعة من كفاية المسح بشي‌ء مما بين الكعبين إلى الأصابع ، والظاهر هو الأول ، لأن « من قدميك » جار ومجرور ويبعد أن يكون ما الموصولة بياناً له فهي بيان للشي‌ء ، وقد عرفت أن الصحيحة حينئذٍ تدلنا على ما ذهب إليه المشهور ، أعني وجوب الاستيعاب فيما بين الكعبين إلى الأصابع في المسح ، هذا.

بل لو لم يثبت ما ذكرناه واحتملنا رجوع قوله عليه‌السلام « ما بين ... » إلى كل من كلمة بشي‌ء ومن قدميك أيضاً لا يمكن الاستدلال بها على مدعى الجماعة لأنها تصبح مجملة حينئذٍ وتخرج عن قابلية الاستدلال بها في المقام ، ومعه لا بدّ من الرجوع إلى مقتضى إطلاق الآية المباركة والروايات ، والإطلاق يقتضي وجوب كون الممسوح بمقدار ما بين الكعبين إلى الأصابع.

ومنها : الأخبار الواردة في عدم وجوب استبطان الشراكين في المسح ، كصحيحة الأخوين المتقدمة حيث ورد في صدرها : « تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك » (١) وحسنة زرارة بل صحيحته عن الباقر عليه‌السلام « إن عليّاً عليه‌السلام مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين » (٢) وغيرهما من الأخبار.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٤١٨ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٦.

١٤٦

وهما قبّتا القدمين على المشهور ، والمفصل بين الساق والقدم على قول بعضهم وهو الأحوط (١).

______________________________________________________

وتقريب الاستدلال بها : أن الشراكين إنما يقعان فيما دون الكعبين ، وعدم وجوب استبطانهما حينئذٍ إما لأجل أن لهما خصوصية من بين أفراد الحائل وأقسامه كالدواء والحناء على ما ورد في الروايات ، حيث إن مسحه كمسح البشرة ، ولأجل ذلك لم يجب استبطانهما بإدخال الإصبع تحتهما ، وإما لأجل عدم وجوب الاستيعاب في المسح من الأصابع إلى الكعبين وكفاية مسمّى المسح طولاً ، وهذا يحصل بالمسح إلى الشراكين ، وحيث إن الأوّل غير محتمل ، لأنه على خلاف الإجماع والضرورة كان الثاني متعيناً لا محالة.

ويدفعه : أن الاستدلال بهذه الروايات إنما يتم بناء على تفسير الكعبين بمفصل الساق والقدم وملتقاهما كما عن العلاّمة قدس‌سره (١) وجمع ممن تأخّر عنه ، وعلى هذا يتم الاستدلال بها بالتقريب المتقدم كما عرفت.

وأما بناء على ما سلكه المشهور من تفسير الكعبين بالعظم الناتئ فوق ظهر القدم وهو المختار ، فلا وجه للاستدلال المذكور أصلاً ، وذلك لأن الكعب وقتئذٍ إنما يقع فيما دون الشراك أو تحته على نحو يستر الشراك مقداراً من الكعبين ، إذن لا يكون عدم وجوب استبطان الشراك دليلاً على عدم وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين طولاً لاستناده إلى خروج موضع الشراك عن مورد المسح وموضعه.

بيان معنى الكعبين :

(١) المشهور عند أصحابنا أن الكعبين هما العظمان الناتئان فوق ظهر القدم وهو المعبّر عنه بقبّة القدمين ، لأن كل عال يسمّى كعباً ومنه تسمية الكعبة كعبة. وخالفهم‌

__________________

(١) المختلف ١ : ١٢٥.

١٤٧

في ذلك العامّة وفسّروا الكعبين بالعظمين الناتئين من يمين الساق وشماله (١).

والتحقيق أنه لا يمكننا تشخيص مفهوم الكعبين بالرجوع إلى تفاسير أهل اللغة وكلمات أصحابنا قدس‌سرهم للاختلاف في تفسيرهما ، ومن الظاهر أن الرجوع إلى أهل اللغة إنما هو من جهة كونهم أهل الخبرة والاطلاع ، وكونهم من غير الشيعة لا يمنع عن الرجوع إليهم والأخذ بأقوالهم ، وحيث إن المفسرين لمفهومهما من الشيعة وغيرهم مختلفون في تفسيرهما فلا يمكننا الاعتماد على أقوالهم وآرائهم ، ولا يتعيّن أنه قبّة القدم أو العظمان الواقعان عن يمين الساق وشماله ، لاحتمال أن يكون كلاهما كعباً قد يطلق على هذا وقد يطلق على ذاك كما احتمله شيخنا البهائي قدس‌سره (٢).

إذن لا بدّ من المراجعة إلى الروايات ، فان ظهر منها أن الكعب أي شي‌ء فهو وإلاّ فتصل النوبة إلى الأصل العملي.

والأخبار الواردة في تفسيرهما ظاهرة الدلالة على ما ذكره المشهور ، عدا صحيحة الأخوين التي استدلّ بها العلاّمة قدس‌سره ومن تبعه من الأعلام على أن الكعب عبارة عن مفصل الساق والقدم (٣) وإليك نصها :

عن زرارة وبكير « أنهما سألا أبا جعفر عليه‌السلام عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه إلى أن قال ـ : فاذا مسح بشي‌ء من رأسه ، أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ، قال : فقلنا أين الكعبان؟ قال : ها هنا يعني المفصل دون عظم الساق ، فقلنا : هذا ما هو؟ فقال : هذا من عظم الساق والكعب أسفل من ذلك ... » الحديث (٤).

ويرد الاستدلال بها : أن الصحيحة غير ظاهرة في إرادة مفصل الساق والقدم‌

__________________

(١) المبسوط للسرخسي ١ : ٩٠ ، الام ١ : ٢٧ ، المغني ١ : ١٥٥ ، وحكاه في التذكرة ١ : ١٧٠.

(٢) حبل المتين : ١٨.

(٣) المنتهي ٢ : ٧٢ ، المختلف ١ : ١٢٦.

(٤) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

١٤٨

لاحتمال أن يراد بالمفصل قبّة القدم ، لأنه قد يطلق عليه المفصل نظراً إلى أنه مفصل الأشاجع وسائر العظام ، والدليل عليه قوله عليه‌السلام « والكعب أسفل من ذلك » فان المفصل عبارة عن خط موهومي وليست فيه مسافة بعد أو قرب ، وقوله هذا يدلنا على أن بين المفصل والكعب مسافة ، ولا يستقيم هذا إلاّ بأن يكون الكعب هو المفصل الواقع في قبّة القدم ، فان بينه وبين مفصل الساق والقدم مسافة ، هذا كله.

على أنّا لو سلمنا ظهور الصحيحة فيما ادعاه العلاّمة وتابعوه فلا مناص من رفع اليد عن ظهورها بحملها على معنى آخر ، جمعاً بينها وبين الأخبار الآتية الدالة على ما سلكه المشهور في تفسير الكعب ، لأن الصحيحة لا تقاوم الأخبار الآتية في الظهور ، وإليك جملة من الأخبار الدالّة على ما ذكره المشهور.

منها : موثقة ميسر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أخذ كفاً من ماء فصبها على وجهه إلى أن قال ـ : ثم مسح رأسه وقدميه ، ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال : هذا هو الكعب وقال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ثم قال : إن هذا هو الظنبوب » (١) ودلالتها على ما ذهب إليه المشهور غير قابلة للإنكار ، وقوله أخيراً : « إن هذا هو الظنبوب » ورد ردا على العامة المعتقدين أنه هو الكعب.

ومنها : صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم » (٢) فان ظاهر القدم إما عبارة عن أول الأصابع إلى الساق ، أو أنه عبارة عن خصوص العظم الناتي في قبّة القدم ، والأول غير محتمل في الرواية لمكان قوله : « إلى ظاهر القدم » فإنه بيان لقوله : « إلى الكعبين » والمفروض أنّه قد مسح رجله من أول أصابعه إلى ظاهر القدم ، فكيف يمكن معه إرادة أوّل‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩١ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٩.

(٢) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٤.

١٤٩

الأصابع إلى الساق ، فالمعنى الثاني هو المتعيّن في الرواية.

ثم إن هذا على تقدير كون النسخة ظاهر القدم ، وأما بناء على أنها ظهر القدم فالأمر أوضح ، لأن ظهر القدم صحيح الإطلاق على قبّة القدم ، وإذا تمت دلالة الروايتين على ما سلكه المشهور في بيان المراد من الكعب أمكن الجمع بينهما وبين الصحيحة المتقدمة ، بأن الكعب عبارة عن العظم الناتئ في قبّة القدم إلى المفصل ، أعني مفصل الساق والقدم ، بأن تكون الصحيحة واردة لبيان منتهى الكعب والروايتان واردتين لبيان أوّله ، فلا تعارض بين الطائفتين.

هل الغاية داخلة في المغيى؟

بقي الكلام في أن الغاية داخلة في المغيى حكماً أو غير داخلة فيه؟

قد نسب إلى العلاّمة (١) والمحقق الثاني (٢) أن الكعبين داخلان في المغيى فيجب مسح الكعبين أعني الغاية كما يجب المسح فيما بينهما إلى الأصابع وهو المغيى.

والتحقيق أن هذا النزاع بناء على أن الكعب هو مفصل الساق والقدم لا يرجع إلى محصل ، فان المفصل خط موهومي غير قابل للتجزية كالنقطة الموهومة ، فكيف يمكن مسحه ببعضه أو بتمامه. نعم لا بأس بهذا النزاع بناء على أن الكعب هو العظم الناتي في قبّة القدم.

إلاّ أن الصحيح أنه مجرّد نزاع علمي من دون أن يترتب عليه أية ثمرة عملية ، وذلك لأنه إن أُريد من دخول الغاية أعني الكعبين في المغيى دخولها بتمامها ، بأن يجب مسح قبّة القدم بتمامها ، ففيه : أن لازم ذلك وجوب الاستيعاب في مسح القدم ، وقد عرفت أن مسح ظاهر القدم بتمامه غير معتبر في الوضوء ، وقد أبطلنا القول بذلك في المباحث السابقة بما لا مزيد عليه للأدلّة المتقدمة في محلِّها (٣) ، ولا أقل من الأخبار‌

__________________

(١) المنتهي ٢ : ٧٦.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٢٢١.

(٣) في ص ١٤٥.

١٥٠

الدالّة على عدم وجوب الاستبطان تحت الشراكين الصريحة في عدم وجوب الاستيعاب في مسح تمام ظاهر القدم ، وإن أُريد منه إدخال شي‌ء من العظم الناتئ في قبّة القدم في الممسوح ، بأن يمسح ما بين الأصابع إلى مقدار من الكعبين فهو مما لا مناص من الالتزام به من باب المقدمة العلمية وتحصيل الجزم بالامتثال والإتيان بالمأمور به ، لعدم إمكان المسح من الأصابع إلى الكعبين بحده على نحو لا يدخل شي‌ء من المبدأ والمنتهى في المحدود على ما قدمناه في غسل الوجه واليدين. وبهذا تصبح المسألة خالية عن الثمرة العملية ويتمحض النزاع في البحث العلمي الصرف.

وعلى أي تقدير قد اتضح مما سردناه عدم إمكان الاستدلال على وجوب مسح الكعبين بقوله عزّ من قائل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) بدعوى أن إلى بمعنى مع في الآية المباركة وأن معنى الآية وجوب مسح الأرجل مع الكعبين ، والوجه في عدم تمامية هذا الاستدلال أنه على تقدير تسليم أن إلى بمعنى مع ، إن أُريد بذلك وجوب مسح الكعبين من أوّلهما إلى آخرهما فهو باطل جزماً ، لعدم وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين كما مرّ. وإن أُريد به وجوب المسح بشي‌ء منهما فقد عرفت أنه مما لا مناص من الالتزام به من باب المقدمة العلمية ، سواء أكانت الغاية داخلة في المغيّا أم كانت خارجة.

كما أن الاستدلال على دخولهما فيما يجب مسحه بأن الغاية داخلة في المغيى مما لا وجه له ، والوجه فيه عدم كون ذلك من القواعد المسلمة حتى يمكننا الاعتماد عليه في محل الكلام ، لضرورة أنها بعد أول الكلام.

على أنّا لو أغمضنا عن ذلك فلا إشكال في أن الغاية لو كانت داخلة في المغيى فإنما يدخل فيه شي‌ء من أجزائها ، ولم يتوهم أحد كونها داخلة في المغيى بتمامها ، مثلاً إذا قيل : صم من أول النهار إلى الليل ، لم يكن معنى ذلك : صم من أول النهار إلى آخر الليل ، بل معناه بناء على أن الغاية داخلة في المغيى صم من أول النهار إلى مقدار من الليل ، وهذا مما لا مناص من الالتزام به في جميع موارد التحديد من باب المقدمة العلمية كما تقدّم.

١٥١

ويكفي المسمّى عرضاً ولو بعرض إصبع أو أقلّ (١) ، والأفضل أن يكون بمقدار‌

______________________________________________________

وأمّا الاستدلال على وجوب مسح الكعبين بمرسلة يونس المتضمنة على أن أبا الحسن عليه‌السلام بمنى مسح ظهر قدميه من الكعب إلى أعلى القدم (١) نظراً إلى أن ظاهرها أنه عليه‌السلام قد مسح رجليه من نفس الكعبين ، فيدفعه : ما قدّمناه آنفاً من أن مسح شي‌ء من الكعبين من باب المقدّمة العلمية مما لا مناص من الالتزام به ، سواء قلنا بدخول الغاية في المغيى أم لم نقل ، بعد عدم احتمال مسحه عليه‌السلام الكعبين بتمامهما ، لوضوح عدم وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين ، ولأجل هذا ذكرنا أن بحثنا هذا مجرد بحث علمي لا يترتب عليه أية ثمرة عملية ، هذا.

والإنصاف أن الحق في هذا البحث العلمي مع القائلين بعدم وجوب مسح الكعبين ، وذلك لصحيحة الأخوين حيث ورد فيها : « فاذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه » (٢) لصراحة ذلك في أن المقدار الذي يجب مسحه إنما هو المقدار الواقع بين الكعبين وأطراف الأصابع ، دون الكعبين بعينهما ، وهذا واضح.

وفي طهارة المحقق الهمداني : فإذا مسحت بشي‌ء مما بين كعبيك إلى آخر أطراف أصابعك (٣) وهو اشتباه فليلاحظ ، هذا كله في مسح الرجلين بحسب الطول ، وأما عرضاً فقد أشار إليه الماتن قدس‌سره بقوله : ويكفي المسمى عرضاً.

كفاية المسمّى عرضاً :

(١) هذا هو المعروف بين أصحابنا ( قدس الله أسرارهم ) وعن الصدوق في الفقيه‌

__________________

(١) قال أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم ، ويقول الأمر في مسح الرجلين موسع من شاء مسح مقبلاً ومن شاء مسح مدبراً. فإنه من الأمر الموسع إن شاء الله. المروية في الوسائل ١ : ٤٠٧ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٦١ السطر ٢٨.

١٥٢

عرض ثلاث أصابع ، وأفضل من ذلك مسح تمام ظهر القدم (*) ،

______________________________________________________

وجوب المسح على جميع الأصابع بمقدار الكف (٢) ، وإليه مال المحقق الأردبيلي قدس‌سره فيما حكي عنه (٣) وعن المفاتيح أنه لولا الإجماع لجزمنا به (٤) ، ونسب إلى ظاهر النهاية (٥) والمقنعة (٦) وجوب المسح بمقدار عرض إصبع واحدة. وعن الإشارة (٧) والغنية (٨) أن الأقل إصبعان. وعن بعضهم لزوم كون المسح بمقدار ثلاث أصابع ، هذه هي أقوال المسألة.

أمّا القول بوجوب المسح بالإصبع الواحدة في الرجلين ، فلم يدلنا عليه أي دليل نعم ورد في بعض الأخبار مسح الرأس بالإصبع الواحدة ، ولكنّا قدّمنا هناك أن المسح بها من باب أنه أقل ما يمكن به المسح المأمور به ، لا من جهة أنه المأمور به بالخصوص.

على أنّا ذكرنا أن باطن الإصبع شبيه بالدائرة ، فالمسح به أقل من عرض الإصبع الواحدة ، ولعل القائل بذلك أراد كفاية المسمى في المسح المأمور به.

وأمّا القول باعتبار كون المسح بالإصبعين فهو أيضاً مما لم نعثر عليه بدليل ولو كان رواية ضعيفة.

وأمّا اعتبار كون المسح بثلاثة أصابع فيأتي أن مدركه هو ما رواه معمر بن عمر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع‌

__________________

(*) بتمام الكفّ.

(١) الفقيه ١ : ٢٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٠٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٤٤.

(٤) النهاية : ١٤.

(٥) المقنعة : ٤٨.

(٦) الإشارة : ٧١.

(٧) الغنية : ٥٦.

١٥٣

وكذلك الرجل » (١) وسيأتي أنها رواية ضعيفة غير قابلة للاستدلال بها على شي‌ء. على ان القائل بذلك غير معلوم. إذن العمدة في المقام هو ما نسب إلى الصدوق قدس‌سره من وجوب مسح الجميع بالكف (٢).

وقد يستدل عليه بصحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ، فقلت : جعلت فداك لو أن رجلاً قال بإصبعين من أصابعه هكذا ، فقال : لا ، إلاّ بكفيه ( بكفه ) كلّها » (٣) وقد دلت على أن المسح لا بدّ أن يكون بالكف على الأصابع.

ويؤيد ذلك برواية عبد الأعلى مولى آل سام قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ ، قال الله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه » (٤).

والوجه في التأييد واضح ، لأن المسح على جميع الأصابع إذا لم يكن مأموراً به في الوضوء لم يكن وجه لسؤال الراوي بعد ما عثر وانقطع ظفره وجعل عليه مرارة بقوله : كيف أصنع ، لوضوح أنه وقتئذٍ يمسح على بقية أصابعه فما الموجب لتحيره وسؤاله. فمن ذلك ومن جوابه عليه‌السلام « امسح عليه » يظهر بوضوح أن مسح الأصابع بأجمعها أمر معتبر في المأمور به وأنّ وجوبه من الأُمور المرتكزة في أذهانهم ، ومن هنا أوجب عليه‌السلام المسح على المرارة بدلاً من الإصبع من دون أن يردع السائل عما كان مرتكزاً في ذهنه.

واحتمال أن سؤاله : كيف أصنع ، سؤال عن المسح المستحب ، كاحتمال وجود المانع‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨.

(٣) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.

١٥٤

في بقية أصابعه بعيد غايته ، ومقتضى الصحيحة المتقدمة المؤيدة بتلك الرواية هو ما ذهب إليه الصدوق قدس‌سره من وجوب كون المسح بالكف على جميع الأصابع.

وقد يقال : إن الصحيحة معارضة بعدة روايات دلتنا على كفاية المسمى في مسح الرجلين بحسب العرض.

منها : صحيحة الأخوين « وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك » (١) أو « إذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه » كما في صحيحتهما الأُخرى (٢) بدعوى أن ظاهرهما كفاية المسمى من المسح في القدمين.

ويدفعه : أن ذلك يبتني على أن يكون قوله عليه‌السلام « ما بين ... » بياناً للقدمين ، ليكون حاصله أنه إذا مسح بشي‌ء مما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ، فيدلنا على كفاية المسح عرضاً ، بل وعلى كفايته بحسب الطول أيضاً ، وأما إذا كان بياناً للشي‌ء كما لعلّه الظاهر منه ، لأنه يقتضي أن يكون قوله عليه‌السلام « ما بين ... » توضيحاً للشي‌ء ، وحاصله أنه إذا مسح بما بين كعبيه إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه فلا دلالة للروايتين على كفاية المسمّى بوجه ، بل مقتضاها لزوم المسح في تمام ما بين الكعبين إلى الأصابع.

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ألا تخبرني من أين علمت وقلت إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين إلى أن قال فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما ... » (٣) وهي صريحة الدلالة على كفاية المسمّى في مسح الرجلين.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ٤١٢ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ١.

١٥٥

ويرده : أن الظاهر من الصحيحة إنما هي بصدد الردع عما التزم به المخالفون ، من وجوب كون المسح على باطن الرجل وظاهرها ، كما ورد الأمر بذلك في بعض رواياتنا أيضاً (١).

وقد دلتنا على أن مسح كل من باطن الرجل وظاهرها غير واجب في المأمور به بل يكفي المسح ببعضهما أعني ظاهرهما ، وذلك لأن ظاهر الرجل بتمامه بالإضافة إلى المجموع من ظاهرها وباطنها مما يصدق عليه بعض الرجل ، فإطلاق البعض في الصحيحة يحتمل أن يكون في قبال الظاهر والباطن ، ومن الواضح أن تمام ظاهر الرجل في مقابل الباطن والظاهر بعض الرجل. إذن لا دلالة للصحيحة على كفاية مسمّى المسح أعني مسح بعض الظاهر من الرجل ، ومعه كيف يصح أن تكون معارضة لصحيحة البزنطي المتقدمة.

ومنها : رواية معمر بن عمر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل » (٢) وهي أيضاً صريحة الدلالة على كفاية المسح موضع ثلاث أصابع في الرجل ، وعدم وجوب المسح في تمامها ، وعلى هذه الرواية اعتمد القائلون بوجوب كون المسح بمقدار ثلاث أصابع.

ولكن يردها : أن الرواية وإن كانت صريحة الدلالة على المدعى ، وأن مسح جميع الأصابع بالكف غير معتبر في الوضوء ، إلاّ أنها ضعيفة السند ، لأن معمر بن عمر مجهول لم يوثقه أهل الرجال. وفي طهارة المحقق الهمداني قدس‌سره معمر بن خلاد بدل معمر بن عمر (٣) وهو من الثقات إلاّ أنه مبني على الاشتباه ، لأن الراوي لها في‌

__________________

(١) كرواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « إذا توضأت فامسح قدميك ظاهرهما وباطنهما » والمرفوعة إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في مسح القدمين ومسح الرأس ، فقال : مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره ، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما » المرويتين في الوسائل ١ : ٤١٥ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٦ ، ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٥.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٥٧ السطر ٣٥.

١٥٦

كتب الحديث معمر بن عمر دون غيره.

ومنها : ما رواه جعفر بن سليمان عمه (١) أو عن عمه (٢) قال « سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام قلت : جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقاً فيدخل يده فيمسح ظهر قدميه أيجزئه ذلك؟ قال : نعم » (٣) ودلالتها على المدعى أعني كفاية مسمّى المسح ، وعدم وجوب مسح الأصابع كلها بالكف كدلالة الرواية المتقدمة عليها ظاهرة ، لأن الخرق بحسب العادة المتعارفة أي مقدار فرضنا له من السعة لا تبلغ حداً يدخل فيه الكف بتمامه ليمسح به الأصابع وظهر القدم ، بل إنما يكون مقداراً يدخل فيه الإصبع الواحدة ويمسح بها مقداراً من ظهره.

إلاّ أنها أيضاً كسابقتها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها على شي‌ء ، لعدم توثيق جعفر بن سليمان وجهالة حاله ، هذا على تقدير أن تكون النسخة جعفر بن سليمان عمّه أي عم الراوي المتقدم عليه في السند ، وهو القاسم بن محمد ، وأما بناء على أن النسخة جعفر بن سليمان عن عمه فالأمر أشكل لأن عم الرجل مجهول. وفي سند الرواية علي بن إسماعيل ، وقد وقع الكلام في أن المراد به أي شخص ، فنقل الكشي عن نصر بن الصباح أنه علي بن إسماعيل السندي وحكم بوثاقته (٤) ، وهذه الدعوى منه غير ثابتة إذ لم نرَ رواية يقع في سندها علي بن إسماعيل السندي ، وشهادة نصر بن الصباح على أنه هو السندي لا اعتداد بها كما لا يخفى.

واستظهر سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) أن علي بن إسماعيل المذكور في سند روايات كثيرة من هذه الطبقة منصرف إلى علي بن إسماعيل بن عيسى الثقة ، وقال : سيجي‌ء الكلام في اتحاده مع علي بن السندي وعدمه. وذكر في ترجمة علي بن السندي أن‌

__________________

(١) كما في التهذيب [ ١ : ٦٥ / ١٨٥ ] عن الكافي.

(٢) نُسب ذلك إلى الكافي في هامش الحدائق ٢ : ٢٩٢ ولكن ليس في الكافي ٣ : ٣١ / ١٠ كلمة ( عن ).

(٣) الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٢.

(٤) رجال الكشي : ٥٩٨ / ١١١٩.

١٥٧

الاتحاد لم يثبت ، لاحتمال تعددهما واشتراكهما في بعض الرواة والمروي عنهم لوحدة الطبقة ، فعلى هذا لا بدّ من الحكم بوثاقة السند من هذه الجهة وإن كان ضعيفاً من جهة جعفر بن سليمان.

نعم ، ذكر ( مدّ ظله ) عند التعرض لترجمة علي بن السندي أنه قد تقدم في ترجمة علي بن إسماعيل بن شعيب أن علي بن إسماعيل في هذه الطبقة ينصرف إلى علي بن إسماعيل بن شعيب ، وهذا ينافي ما قدّمنا نقله فراجع تمام كلامه وتأمّل في جهاته وأطرافه (١).

وإلى هنا تحصل أن صحيحة البزنطي المؤيدة برواية عبد الأعلى مما لا معارض لها ومن هنا مال المحقق الأردبيلي قدس‌سره إلى وجوب مسح الأصابع كلها بالكف (٢) ، وذكر صاحب المفاتيح أنه لولا الإجماع على خلافه لكان القول به متيقناً (٣) ، هذا.

ومع ذلك كله الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور في المسألة ، من كفاية المسمّى في مسح ظاهر الرجلين بحسب العرض ، وذلك لعدم إمكان الاعتماد على صحيحة البزنطي من وجوه :

الأوّل : أن الصحيحة على ما في الوسائل المطبوعة جديداً مشتملة على لفظة « بكفيه » (٤) كما أن نسخة التهذيب أشبه أن تكون كذلك (٥) وقد نقلت الرواية في الوافي مشتملة على لفظة « بكفه » (٦) ، فعلى تقدير أن تكون الرواية مشتملة على لفظة « بكفيه » يتعيّن حملها على التقيّة ، لأن الظاهر المتفاهم لدى العرف من مسح الرجل‌

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٣ : ٥٠ ٥٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٠٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٤٤.

(٤) الوسائل ١ : ٤١٧ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٤.

(٥) لاحظ التهذيب ١ : ٦٤ / ١٧٩ ، ٩١ / ٢٤٣.

(٦) الوافي ٦ : ٢٨٤.

١٥٨

بكفين إنما هو مسح ظاهر الرجل بإحداهما ومسح باطنها بالأُخرى ، وهذا موافق لمذهب المخالفين ومخالف للمذهب الحق عندنا ، فلا مناص من حمل الرواية على التقيّة وقتئذٍ ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الرواية مشتملة على لفظة « بكفه » إذ لا موجب للحمل على التقيّة معه ، وهذا ظاهر. إذن فلا مناص من الفحص التام عن النسخ الصحيحة حتى يظهر أن الرواية مشتملة على أيتهما ، فإن ظهرت إحداهما فهو ، وإلاّ أصبحت الرواية مجملة وسقطت عن الاعتبار ، لجهالة أنها مشتملة على أية لفظة.

الثاني : أن مقتضى قانون الإطلاق والتقييد تقييد صحيحة البزنطي بمثل صحيحة زرارة وغيرها مما دلّ على أن الواجب إنما هو مسح بعض الرجلين لا تمامهما ، وحمل المسح في المجموع على الندب والاستحباب ، وذلك لأنّا قد أثبتنا بمقتضى الأخبار الواردة في المقام أن المراد بالكعب هو قبّة ظاهر القدم دون العظمين الناتئين عن يمين الساق وشماله. وقد أسلفنا أن المسح في الرجل لا بدّ أن ينتهي إلى الكعبين بحسب الطول ، ولا يكفي مسمّى المسح طولاً ، وعليه لا بدّ من أن يكون المراد بالأرجل في الآية المباركة خصوص ظاهر الرجلين ، لأن الظاهر هو المشتمل على الكعب دون الباطن بالخصوص ، ولا ما هو أعم من الظاهر والباطن ، حيث ليس في باطن الرجل كعب ينتهي إليه المسح المأمور به.

اللهمّ إلاّ أن يراد بالكعب في الباطن المحل المحاذي لقبة القدم في ظاهر الرجل ولكنه إضمار وتقدير ، ولا قرينة على ارتكابه بوجه ، فإذا أُريد بالرجل ظاهرها ودخلت عليه كلمة الباء فلا محالة تدلنا على إرادة بعض ظاهر الرجل ، فقوله عليه‌السلام « فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما » أي على بعض ظاهر الرجلين ، ومعه تصبح الصحيحة كالصريحة في كفاية المسمى في مسح الرجلين بحسب العرض ، لعدم إمكان إرادة البعض بحسب الطول بمقتضى الأخبار المتقدمة الدالة على لزوم انتهاء المسح إلى الكعبين طولاً.

وبعبارة أُخرى : تارة تكون كلمة الباء داخلة على الرجلين من دون تقييدهما بشي‌ء ، وتدل حينئذٍ على إرادة البعض منهما ، ومعه يمكن أن يقال إن ظاهرهما إرادة‌

١٥٩

بعض من الرجلين فلا دلالة لمثله على كفاية مسح بعض ظاهرهما. وأُخرى تدخل الباء على الرجلين المقيدتين بالكعبين ، وحينئذٍ تدلنا على إرادة بعض ظاهرهما فقط لأنه لا وجود للكعب في باطنهما ، فذكره يكون قرينة على إرادة الظاهر فحسب ، وكلمة الباء تقتضي حينئذٍ إرادة بعض ذلك الظاهر ، وبذلك نقيد صحيحة البزنطي لا محالة.

الثالث : أن عدة من الروايات دلتنا على أن من نسي مسح رأسه حتى دخل في الصلاة لم تجب عليه إعادة الوضوء من أوله ، بل إذا كانت في لحيته أو حاجبيه أو أشفار عينيه بلّة بقدر ما يمسح به رأسه ورجليه أخذ البلل من لحيته أو أشفار عينيه أو غيرهما ثم يصلي ، ومن جملتها موثقة مالك بن أعين (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح رأسه ، فإن كان في لحيته بلل ، فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وإن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء » (٢).

ومقتضى هذه الروايات كفاية المسمى في مسح الرجلين ، لقضاء العادة على أن البلل المتخلف في الحاجبين أو الأشفار أو اللحية لا يكون بمقدار يفي لمسح جميع ظاهر الرجلين ، فبهذا أيضاً نقيد إطلاق الصحيحة المتقدمة فلاحظ.

نعم ، قد يحتمل أن تكون هذه الروايات مختصة بمن نسي مسح رأسه فليكن المسمّى كافياً في حقه في مسح الرجلين ، ولا دلالة لها على كفاية المسمى في غير ناسي المسح. ويندفع بأن الأخبار المتقدمة وإن كانت واردة في خصوص ناسي المسح ، غير أن المستفاد منها أنه لا خصوصية للناسي في الحكم المذكور ، بل إنما هو يمسح بالمقدار الذي يعتبر في المسح لولا النسيان ، وذلك لقوله عليه‌السلام في بعضها : « إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه ورجليه ، فليفعل ذلك وليصل » (٣) فالمقدار الذي يعتبر مسحه في الوضوء مقدار واحد في كل من الناسي وغيره ، إلاّ أن الناسي له أن يأخذ‌

__________________

(١) موثقة بعثمان بن عيسى الواقفي.

(٢) الوسائل ١ : ٤٠٩ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ٤٠٨ / أبواب الوضوء ب ٢١ ح ٣ ، ضعيفة بالقاسم بن عروة.

١٦٠