موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

إذن لا إطلاق للصحيحة من حيث المقدار الذي لا بدّ من مسحه ، فلو كنّا نحن والصحيحة لاحتملنا أن يكون الواجب مسح تمام الربع المقدّم من الرأس أو تمام المؤخر مثلاً ، فان مسح ذلك بتمامه أو ببعضه مما لا يمكن استفادته من الصحيحة ، نعم إطلاق الآية المباركة في نفسها تام ولا مانع من الاستدلال به على التقريب المتقدم فلاحظ.

بقي الكلام في وجه استفادة التبعيض من الآية المباركة ، وأنه من جهة استعمال كلمة الباء في التبعيض أو لأجل تضمينها معنى « من » أو لأجل استعمالها في التبعيض مجازاً أو لغير ذلك من الوجوه ، ولكن تحقيق ذلك مما لا يترتب عليه ثمرة عملية ، لأن ما يهمنا إنما هو معرفة الأحكام الشرعية ، والصحيحة كما تقدم صريحة في الحكم ، وأن الواجب إنما هو مسح بعض الرأس ، وأما أنه من أية جهة فلا ثمرة في تحقيقه.

نعم ، أنكر سيبويه مجي‌ء الباء بمعنى التبعيض (١) وعليه استند العلاّمة قدس‌سره في إنكاره ذلك كما حكي (٢) ولكنه لا ينافي الصحيحة المتقدِّمة ، لأنّ دلالتها على وجوب مسح البعض يمكن أن تكون مستندة إلى مجي‌ء الباء بمعنى التبعيض كما صرح النحاة بجوازه عدا سيبويه أو مستندة إلى التضمين أو المجاز ، وكيف كان لا إشكال في دلالة الصحيحة على ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّ نظره عليه‌السلام في قوله : « لمكان الباء » إلى أن استفادة التبعيض من الآية المباركة إنما هي من جهة الإتيان بالباء وتغيير أسلوب الكلام لا أنها من جهة استعمال الباء في التبعيض. إذن فالباء يدلنا على التبعيض ، لا أنها مستعملة فيه ، وبيان ذلك : أن المسح والغسل ممّا يتعدّى إلى المفعول بنفسه من دون حاجة إلى الاستعانة بالباء ، فيصح أن يقال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) كما في الآية المباركة ( وَامْسَحُوا ) رؤوسكم ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، من دون الإتيان بالباء ، فالإتيان بها مع عدم‌

__________________

(١) كما حكى عنه في مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٤٥ السطر ١٩.

(٢) حكى عنه في مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٤٥ السطر ١٩ ، لاحظ المنتهي ١ : ٤٠ ، ٤١ والمختلف ١ : ١٢٢ والتذكرة ١ : ١٦٢.

١٢١

الحاجة إلى إتيانها ، وتغيير أُسلوب الكلام يدلنا على أن المراد في الأمر بمسح الرأس إنما هو مسح البعض ، بخلاف الأمر بالغسل في الوجه واليدين فان المراد منه غسل الجميع دون البعض ، هذا.

ويحتمل قوياً أن يكون الوجه في استفادة البعض من الآية المباركة أمراً آخر وراء ذلك كلّه ، وإن احتاج إلى العناية في الكلام.

وتقريب ذلك أن يقال : إن الماسح حقيقة وإن كان هو اليد والممسوح هو الرأس ، إلاّ أن الإتيان بكلمة الباء والعناية بذكرها في الكلام يدلنا على أن المراد بالعكس ، وأن الرأس جعل آلة وسبباً لمسح اليد ، بمعنى أن الماسح هو الرأس والممسوح هي اليد نظير قولنا : مسحت يدي بالحائط ، فإن معناه أن الحائط قد صار سبباً لمسح ما بيدي من الرطوبة أو الدهن أو غيرهما ، وهذا وإن كان على خلاف الواقع في المقام إلاّ أن مقتضى العناية الواقعة في الكلام هو ما ذكرناه فيقال : إن الرأس صار سبباً لمسح ما بيد المتوضئ من الرطوبة ، فإذا صار الماسح هو الرأس يتعيّن أن يكون المسح ببعضه لا بتمامه كما هو الحال في المثال المتقدم ، فإن صحة قولك : مسحت يدي بالحائط غير متوقفة على مسح جميع الحائط باليد ، بل يصح ذلك بمسح اليد بشي‌ء من الحائط. إذن فالمسح بالرأس بنفسه يقتضي المسح بالبعض لا بتمامه ، هذا تمام الكلام في هذه الصحيحة.

ومما يدلنا على ما سلكه المشهور في المسألة ، صحيحة الأخوين أعني زرارة وبكيراً أنهما سألا أبا جعفر عليه‌السلام عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن قال : « فاذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ... » (١).

وصحيحتهما الأُخرى أيضاً عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال في المسح : « تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٨ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٣.

١٢٢

من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك » (١) فان مقتضى إطلاقهما صحة الاجتزاء بأقل ما يتحقق به المسح عرفاً ، وعليه فلا دليل على أن يكون المسح بمقدار عرض إصبع واحدة كما يحكى عن جماعة.

وقد تصدّى بعض الأصحاب لتأويله بأنهم لم يريدوا بذلك التحديد ، وإنما قصدوا به بيان أقل ما يتحقّق به المسمّى ، ويردّه : أن كلماتهم آبية عن هذا التأويل ، فقد حكي عن الشيخ في التهذيب ما مضمونه : أنّا لو خلينا وأنفسنا لقلنا بجواز مطلق المسح واكتفينا بمجرّد تحقّق المسمّى ، إلاّ أن السنّة منعتنا عن ذلك (٢) فان هذا الكلام كالصريح في أن غرضه إنما هو تحديد المسح الواجب بالإصبع الواحدة.

وكيف كان فقد استدلوا على ذلك بمرسلة حماد عن أحدهما عليهما‌السلام « في الرجل يتوضأ وعليه العمامة ، قال : يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدّم رأسه » (٣).

وبما رواه عن الحسين قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد ، فقال : ليدخل إصبعه » (٤) ويحتمل اتحاد الروايتين.

ويدفع الاستدلال بهما على تقدير اعتبار سندهما أن إدخال الإصبع الواحدة تحت العمامة للمسح ليس مستنداً إلى وجوب كون المسح بمقدار الإصبع الواحدة ، بل من أجل أنه أقل المقدار الميسور لدى المسح ، إذ لا يتحقق إلاّ بإدخال الإصبع الواحدة أو الإصبعين تحت العمامة لا محالة ، فالإصبع الواحدة أقل الميسور في المسح فقوله عليه‌السلام : « يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه » لا دلالة له على كونه مستنداً إلى وجوب كون المسح بمقدار الإصبع الواحدة.

وبعبارة اخرى : لا كلام لنا فيما يتحقّق به المسح ، وإنما الكلام في المقدار الذي يجب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤١٤ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٨٩.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٤١٦ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٢.

١٢٣

مسحه من الرأس ، ولا دلالة للروايتين على أنه لا بدّ أن يكون بمقدار عرض الإصبع الواحدة ، هذا على أن الإصبع شبه المدورات كما أن الرأس أيضاً كذلك ، ومن الظاهر أن مسح باطن الإصبع الذي هو من قبيل المدور على ما يماثله مما يشبه بالمدورات لا يمكن أن يكون بمقدار عرض الإصبع الواحدة كما أشار إليه المحقق الهمداني قدس‌سره في مطاوي كلامه (١) ، إذن الرواية لا دلالة لها على لزوم كون المسح بقدر عرض الإصبع الواحدة.

وأمّا وجوب كون المسح بمقدار عرض ثلاث أصابع مضمومة كما ربما يحكى القول به عن جماعة منهم الصدوق قدس‌سره في الفقيه (٢) فهو أيضاً كسابقه مما لا دليل عليه ، وما استدلوا به على ذلك من صحيحة زرارة قال « قال أبو جعفر عليه‌السلام المرأة يجزئها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ، ولا تلقي عنها خمارها » (٣) وما رواه معمر بن عمر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع وكذلك الرجل » (٤). مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن الرواية الثانية مضافاً إلى ضعف سندها بمعمر بن عمر إذ لم يوثق في الرجال (٥) إنما تدل على أن المسح بثلاث أصابع مجزي في الوضوء ، وأما أن ما يجزئ عنه أعني ما هو الواجب في الوضوء أيّ شي‌ء فلا يكاد يستفاد منها أبداً ، ولعله يجزئ عن مسح تمام الربع المقدم من الرأس ، أو عن المسح بمقدار عرض إصبع واحدة أو غير ذلك من المحتملات ، فلا دلالة للرواية على أن ذلك هو المقدار الواجب مسحه بحيث لا يجزئ الأقل منه ، وعليه لا بدّ من حملها على الاستحباب وكونه أفضل أفراد المسح.

ومن هنا يظهر الجواب عن الرواية الأُولى أيضاً ، لأنها وإن كانت صحيحة بحسب‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ٢ : ٣٤٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٤١٦ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ٥.

(٥) راجع معجم رجال الحديث ١٩ : ٢٩٠.

١٢٤

والأفضل بل الأحوط أن يكون بمقدار عرض ثلاث أصابع (١) بل الأولى أن يكون بالثلاث (٢)

______________________________________________________

السند ، إلاّ أنها قاصرة الدلالة على هذا المدعى ، لأن ظاهرها أن المسح بثلاث أصابع تحت الخمار مجزي في مقام الامتثال ، وأما أنه هو الواجب على نحو لا يجزئ الأقل منه فلا يكاد يستفاد منها أبداً ، ويحتمل أن يكون الاجزاء راجعاً إلى عدم إلقاء الخمار.

ومن ذلك يظهر ضعف التفصيل بين الرجل والمرأة بالحكم بوجوب كون المسح بثلاث أصابع في المرأة دون الرجل لصحيحة زرارة المتقدمة ، وذلك إذ قد عرفت أن الصحيحة لا دلالة لها على أن المسح بثلاث أصابع هو الواجب في الوضوء حتى يكون دليلاً على التفصيل بين الرجل والمرأة فيما يعتبر في الوضوء.

وبما سردناه يظهر أن ما ذهب إليه المشهور في المسألة من أن الواجب إنما هو مسمّى المسح في الوضوء سواء أكان بقدر عرض الإصبع الواحد أو أقل منه هو الصحيح ، والسيرة الخارجية أيضاً جارية على ذلك فلاحظ.

أفضليّة المسح بعرض ثلاث أصابع :

(١) للروايتين المتقدمتين ، ولا يلزم أن يكون بالأصابع الثلاث ، بل يكفي المسح بإصبع واحد إذا كان بمقدار عرض الأصابع الثلاث ، لأن الظاهر من التقدير في جميع الموارد أن المطلوب هو نفس هذا المقدار من دون مدخلية الآلة فيه. مثلاً إذا قيل : يجب المشي عشرة أمتار ، فالظاهر منه أن المشي بهذا المقدار هو المطلوب للمولى من دون أن يكون للآلة والسبب مدخلية في ذلك ، فظاهر الروايتين مع قطع النظر عما يأتي بيانه أن المقدار الممسوح لا بدّ أن يكون بمقدار عرض الأصابع الثلاث ، سواء أكان بنفس الأصابع الثلاث أم بإصبع واحد بمقدار عرض الأصابع الثلاث.

أولويّة كون المسح بالثلاث :

(٢) وذلك لأنّ الظاهر من التقدير في الروايتين وإن كان هو ما ذكرناه من أن‌

١٢٥

ومن طرف الطول أيضاً يكفي المسمّى (١) وإن كان الأفضل أن يكون بطول إصبع (٢) وعلى هذا فلو أراد إدراك الأفضل ينبغي أن يضع ثلاث أصابع على الناصية ، ويمسح بمقدار إصبع من الأعلى إلى الأسفل ، وإن كان لا يجب كونه‌

______________________________________________________

الاعتبار بالمقدار دون الآلة والسبب فلا خصوصية للأصابع الثلاث ، إلاّ أن هذا فيما إذا لم تقم قرينة على خلافه ، والقرينة على الخلاف موجودة في المقام ، وهي أن المسح لا بدّ وأن يكون بواسطة اليد ولحاظ ذلك يوجب ظهور التقدير في إرادة المسح في المقدار المذكور بنفس الأصابع واليد.

وحيث إنك عرفت حمل الروايتين المتقدمتين على بيان الفضيلة والاستحباب دون الوجوب ، فلا جرم كان المسح بنفس الأصابع الثلاث أولى وأفضل.

كفاية المسمّى في الطول :

(١) لعين ما قدّمناه في كفاية المسمّى في العرض من إطلاق الآية المباركة والروايات ، لعدم التقييد فيهما بالمقدار الخاص ، وقد ادعى بعضهم الإجماع على كفاية المسمّى في الطول ، وذكر أن محل الخلاف إنما هو كفاية المسمّى في العرض ، وبعضهم ادعى الإجماع على عكس ذلك فلاحظ.

أفضليّة كون المسح بطول إصبع :

(٢) والسر في ذلك أن الروايتين المتقدمتين الدالتين على إجزاء المسح بثلاث أصابع في الرأس كما يحتمل أن يراد بهما إجزاء ذلك المقدار بحسب العرض فقط كذلك يحتمل أن يراد بهما إجزاء المسح بمقدار ثلاث أصابع بحسب كل من الطول والعرض ، ومن البديهي أن مقدار طول الأصابع الثلاث إنما هو مقدار طول الإصبع الواحد ، وهذا إن تمّ فهو ، وإلاّ فلا دليل على أفضلية كون المسح بطول إصبع واحدة.

١٢٦

كذلك فيجزئ النكس (١) وإن كان الأحوط خلافه (*) ، ولا يجب كونه على البشرة

______________________________________________________

إجزاء النكس في مسح الرأس :

(١) نسب إلى المعروف عدم كفاية النكس في مسح الرأس ، بدعوى أن المقدار المتيقن من المسح المأمور به في الوضوء هو المسح من الأعلى إلى الأسفل والنكس مشكوك الجواز ، ومقتضى قاعدة الاشتغال عدم جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال.

ويردّه : أن النوبة لا تصل إلى الأصل العملي في المسألة حتى يتكلم في أن الأصل الجاري في المقام هل هو الاشتغال أو البراءة ، على ما قدمناه في بعض الأبحاث السابقة من أنه لا مانع من إجراء البراءة عند الشك في اعتبار شي‌ء في الوضوء ، وذلك لأن مقتضى إطلاق الآية المباركة والروايات عدم الفرق بين المسح من الأعلى إلى الأسفل والنكس ، ولم يقيد المسح فيهما بأن يكون من الأعلى إلى الأسفل ، بل بعض الأخبار كالصريح في عدم اعتبار كون المسح من الأعلى إلى الأسفل ، وذلك كالروايتين المتقدمتين (٢) الواردتين في من يتوضأ وعليه العمامة ، فإن الأسهل لمن أدخل إصبعه تحت العمامة لأجل المسح إنما هو أن يمسح رأسه نكساً ، إذ المسح من الأعلى إلى الأسفل يحتاج إلى رفع العمامة زائداً على مقدار رفعها عند المسح نكساً وهو أصعب.

ودعوى : أن المتعارف مسح الرأس من الأعلى إلى الأسفل وهو يوجب انصراف المطلقات إلى الفرد المتعارف ، مندفعة صغرى وكبرى :

أمّا بحسب الصغرى ، فلأن المتعارف في غسل الوجه واليدين ولو لغير داعي الوضوء وإن كان هو الغسل من الأعلى إلى الأسفل كما ذكر ، إلاّ أن الأمر في المسح ليس كذلك قطعاً ، إذ ليس المتعارف فيه هو المسح من الأعلى إلى الأسفل فحسب ، بل كل من ذلك والنكس متعارفان.

__________________

(*) لا يترك.

(١) في ص ١٢٣.

١٢٧

وأمّا بحسب الكبرى ، فلأجل أن تعارف أحد الفردين وغلبته غير موجبين لانصراف المطلق إلى الفرد الغالب ، فلو كان هناك انصراف فلا إشكال في أنه انصراف بدوي يزول بأدنى تأمل والتفات ، فالمطلق يشمل الفرد المتعارف وغيره على حد سواء ، هذا.

وأضف إلى ذلك صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً » (١) لأنها كالصريحة في جواز المسح نكساً بلا فرق في ذلك بين مسح الرأس وغيره.

ولا يمنع عن الاستدلال بهذه الصحيحة روايته الأُخرى بعين السند المذكور في الصحيحة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بمسح القدمين مقبلاً ومدبرا » (٢) وذلك لأن وحدة السند لا يقتضي الحكم بوحدة المروي أبداً ، لجواز أن يكون حماد قد سمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام روايتين : إحداهما عدم البأس في مسح الوضوء مطلقاً مقبلاً ومدبراً ، وثانيتهما : عدم البأس في مسح القدمين مقبلاً ومدبراً. ولا نلتزم بمفهوم اللقب ليتوهم أن الحكم بكفاية المسح مقبلاً ومدبراً في مسح القدمين دليل على عدم كفايتهما في مسح الرأس حتى يتحقق التنافي بين الروايتين وعليه فهما روايتان لا بدّ من العمل بكلتيهما في موردهما ، هذا كله بناء على أن الراوي في كلتا الروايتين هو حماد بن عثمان على ما هو الموجود في الطبعة الأخيرة من الوسائل.

وأما بناء على أن الراوي في الرواية الاولى هو حماد بن عيسى كما هو الموجود في غير الطبعة الأخيرة من الوسائل ، وبه صرح المحقق الهمداني قدس‌سره (٣) بل ربما يحكى عن بعض نسخ التهذيب أيضاً ، فالأمر أسهل وأوضح لأنهما وقتئذٍ روايتان : إحداهما عن حماد بن عثمان ، وثانيتهما : عن حماد بن عيسى ، ولا نقول بمفهوم اللقب‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠٦ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٠٦ / أبواب الوضوء ب ٢٠ ح ٢.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٥٥ السطر ٢٨.

١٢٨

فيجوز أن يمسح على الشّعر النابت في المقدّم بشرط أن لا يتجاوز بمدّه عن حدّ الرأس فلا يجوز المسح على المقدار المتجاوز وإن كان مجتمعاً في الناصية (١)

______________________________________________________

كي يتحقّق المعارضة بينهما ، إذن لا بدّ من العمل بكل منهما في موردهما.

ونظير رواية حماد بن عيسى غيرها مما ورد في جواز النكس في مسح الرجلين ، لوضوح أنها غير منافية لصحيحة حماد بن عثمان الدالة على جواز النكس في مسح الوضوء. وعلى الجملة سواء صحت الطبعة القديمة من الوسائل ، ولم يقع خطأ من النساخ ، أو لم تصح بل كانت الطبعة الحديثة صحيحة والراوي في كلتا الروايتين كان هو حماد بن عثمان ، وكان الخطأ والاشتباه من النساخ ، لا بدّ من الأخذ بكلتا الروايتين ، والاستدلال بالصحيحة قد وقع في محلِّه ، هذا كله في أصل جواز النكس في المسح.

وبعد ذلك يقع الكلام فيما ذكره بعضهم ، من أن المسح من الأعلى إلى الأسفل أفضل ، وهذا بظاهره مما لا دليل عليه ، اللهمّ إلاّ أن يراد كونه أفضل بحسب العنوان الثانوي أعني الاحتياط ، ولا سيما إذا قلنا إن الاحتياط مستحب ، أو أحرزنا سيرة الأئمة عليهم‌السلام كما إذا علمنا أنهم كانوا مداومين في وضوءاتهم بالمسح من الأعلى إلى الأسفل ، فإن التأسي بالأئمة عليهم‌السلام أمر راجح ولا إشكال في أنه أفضل من غيره ، إلاّ أن الكلام في إحراز ذلك وثبوت سيرتهم عليهم‌السلام على ذلك ، ودون إثباتها خرط القتاد.

وأما ما عن بعضهم من الحكم بكراهة النكس في المسح ، فإن أراد بذلك الكراهة في العبادات بمعنى أقلية الثواب فقد عرفت صحته ، لأن المسح من الأعلى إلى الأسفل أفضل وأكثر ثواباً وأرجح من النكس ولو بالعنوان الثانوي ، وإن أراد بالكراهة المرجوحية في نفسه فهو مما لم يقم دليل عليه.

جواز المسح على الشّعر :

(١) المسألة متسالم عليها بين الأصحاب قدس‌سرهم بل هي من المسائل‌

١٢٩

الضرورية ، والوجه فيه : أن الرأس ومقدمه وإن كان كالوجه واليدين وغيرهما من أسامي الأعضاء اسماً لنفس العضو والبشرة ، والشعر خارج عنهما لا محالة ، لأنه قد ينبت عليها الشعر وقد لا ينبت ، فلو كنّا نحن والدليل الدال على وجوب مسح الرأس أو مقدّمة لحكمنا بلزوم مسح البشرة نفسها وعدم كفاية المسح على الشعر النابت عليها ، ولكن القرينة الخارجية دلّتنا على جواز مسح الشعر وأنه كمسح نفس البشرة ، والقرينة هي أن الغالب الأكثر وجود الشعر على الرأس ومقدّمه بحيث يقع المسح على الشعر دائماً ، إلاّ في الأصلع ومن حلق رأسه قريباً ، فوقوع المسح على الشعر في الأغلب قرينة على إرادة الأعم من مسح الرأس ، ولو لا هذه القرينة لما ساغ الاكتفاء بمسح الشعر أبداً كما لا يكتفى بغسله في الوجه واليدين إلاّ بدلالة دليل خارجي.

وأمّا مرفوعة محمد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء ، قال لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء » (١) فهي مضافاً إلى ضعف سندها بالرفع ، قاصرة الدلالة على لزوم مسح البشرة وعدم كفاية المسح على شعرها ، وذلك لأن البشرة في الرواية إنما ذكرت في مقابل الجسم الخارجي أعني الحناء ، لا في قبال الشعر النابت عليها ، فالمراد بالبشرة أعم من البشرة وشعرها قبالاً للجسم الخارجي هذا كلّه في الشعر النابت على مقدّم الرأس الذي لا يخرج بمدّه عن حدّ الرأس.

وأمّا الشعور النابتة على حوالي المقدم المتدلية إليه بطبعها وفي نفسها الخارجة بمدها عن حد الرأس والمسح كما إذا كانت مجعدة ، فربما يستشكل في الحكم بعدم الاجتزاء بمسحها بأنها معدودة من توابع المقدم والرأس ، فاطلاقات المسح على المقدم تعمها لا محالة ، لما عرفت من أن المراد منها ليس هو خصوص البشرة.

ولكن الصحيح عدم جواز الاقتصار بمسحها ، لما عرفت من أن مقتضى الأدلة الآمرة بمسح الرأس والمقدّم إنّما هو وجوب مسح البشرة في نفسها ، والشعر خارج‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥٥ / أبواب الوضوء ب ٣٧ ح ١.

١٣٠

وكذا لا يجوز على النابت في غير المقدّم وإن كان واقعاً على المقدّم (١) ولا يجوز المسح على الحائل من العمامة أو القناع أو غيرهما وإن كان شيئاً رقيقاً لم يمنع عن وصول الرطوبة إلى البشرة (٢).

______________________________________________________

عن العضو كما مرّ ، إلاّ أن القرينة الخارجية دلتنا على كفاية المسح على الشعر النابت على المقدم والرأس ، ولا قرينة على جواز الاجتزاء بمسح الشعر النابت على أطرافه إذا تدلّى إليه بنفسه ونزل على المقدّم.

فما ربما يظهر من المحقق الهمداني قدس‌سره من الميل إلى الحكم بالاجتزاء (١) فمما لا يمكن المساعدة عليه.

وأما الشعور النابتة على أطرافه المتدلية إلى المقدم بواسطة العلاج كالخرقة واليد ونحوهما فلا كلام في عدم كفاية المسح عليها ، لعدم كونها معدودة من شعور المقدم ولا من توابعه عرفاً.

(١) ظهر الوجه في ذلك مما بيّناه في التعليقة المتقدمة فلاحظ.

عدم جواز المسح على الحائل :

(٢) للأدلة الدالة على وجوب مسح المقدم والرأس ، لأنها تدلنا بأنفسها على عدم كفاية المسح على الحائل من العمامة والقناع ونحوهما ، إذ لا يطلق على الحائل عنوان المقدّم والرأس فلا يكون المسح عليهما مسحاً على الرأس أو المقدم ، مضافاً إلى الأخبار الآمرة بوجوب رفع العمامة أو إدخال الإصبع تحتها والمسح على الرأس (٢).

خلافاً لما ذهب إليه جماعة من العامة من جواز المسح على الحائل إما مطلقاً أو فيما إذا كان رقيقاً ، دون غير الرقيق على ما نقل عن أبي حنيفة (٣) هذا.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ١٥٦ السطر ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ٤١٦ / أبواب الوضوء ب ٢٤ ح ١ ، ٢.

(٣) المجموع ١ : ٤٠٧ ، بدائع الصنائع ١ : ٥ ، المغني ١ : ٣٤٠.

١٣١

وقد ورد في روايتين جواز المسح على الحناء ، إحداهما : صحيحة عمر بن يزيد قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء ، قال : يمسح فوق الحناء » (١) ، وثانيتهما : صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة فقال : لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه » (٢) وربما يجمع بينهما وبين الأخبار المتقدمة بحملهما على إرادة لون الحناء دون نفسه. ويدفعه : أن ذلك خلاف الظاهر ، بل خلاف الصريح في موارد من الصحيحتين.

منها : قوله : « يمسح فوق الحناء » لأنه كالصريح في أن المراد به هو الجسم الخارجي الذي يتصوّر له فوق وتحت ، وظاهر أن اللون عرض وليس للأعراض تحت ولا فوق.

ومنها : قوله : « ثم يطليه بالحناء » وظهوره بل صراحته في إرادة الجسم الخارجي غير قابل للإنكار ، فان الطلي بماء الحناء أمر غير معهود.

ومنها : قوله « والحناء عليه » فإنه أيضاً ظاهر في الجسم الخارجي ، فهذا الجمع غير صحيح.

والصحيح أن تحمل الصحيحتان على التقيّة ، وذلك لأن الروايتين وإن وردتا في الحناء إلاّ أن احتمال إرادة خصوصه مقطوع الفساد ، إذ لم يقل أحد بأن للحناء بين الأجسام الخارجية خصوصية تقتضي الحكم بكفاية المسح عليه دون مثل السدر وغيره من الأجسام.

وعلى ذلك فالقول بجواز المسح على الحناء يستلزم القول بجواز المسح على بقية الأجسام الخارجية ، فإذا أُريد منهما جواز المسح على كل جسم حائل لعارضتهما الأخبار الكثيرة المشهورة التي دلت على وجوب مسح المقدم أو الرأس من دون أن يكون عليهما شي‌ء يمنع عن وقوع المسح على البشرة ، وبما أن تلك الروايات من‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٥٥ / أبواب الوضوء ب ٣٧ ح ٤.

١٣٢

نعم في حال الاضطرار لا مانع من المسح (*) على المانع كالبرد ، أو إذا كان شيئاً لا يمكن رفعه (١).

______________________________________________________

الروايات المشهورة ، والروايتان من الأخبار النادرة فلا مناص من أخذها وضرب الروايتين على الجدار ، هذا.

وفي الوسائل (٢) والحدائق (٣) وكذا صاحب المعالم في المنتقى (٤) حمل الروايتين على صورة الاضطرار والتداوي بالحناء. ويؤيده عدم تعارف طلي الرأس بالحناء بعد الحلق إلاّ لضرورة التداوي والعلاج به.

ولكن هذا الحمل في طول ما قدّمناه ، لأنه على ما سردناه لم يثبت اعتبار الروايتين حتى نحملهما على ضرورة التداوي والعلاج ، إذ قد عرفت أنهما معارضتان مع الأخبار المشهورة المعروفة ، ولا مناص من إلغائهما لندرتهما ، ويجب الأخذ بالمشهورة كما عرفت. وممّا يؤيِّد ما ذكرناه مرفوعة محمد بن يحيى المتقدِّمة (٥) ، لأنها قد نصّت بعدم الجواز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء.

المسح على الحائل عند الاضطرار :

(١) يأتي الكلام على تفصيل هذه المسألة في أحكام الجبائر إن شاء الله (٦) وحاصل ما نبيّنه هناك : أن مقتضى الأخبار الآمرة بمسح الرأس ، بل مقتضى الآية المباركة أيضاً لزوم كون المسح واقعاً على بشرة الرأس بالمعنى الأعم من نفسها وشعرها ومقتضى هذا أن كون المسح واقعاً على البشرة من مقومات الوضوء المأمور به ، وأنه‌

__________________

(*) فيه إشكال ، والأظهر عدم الاجتزاء به.

(١) الوسائل ١ : ٤٥٦.

(٢) الحدائق ٢ : ٣١١.

(٣) منتقى الجمان ١ : ١٦٤.

(٤) في ص ١٣٠.

(٥) في المسألة [٦٠٨].

١٣٣

لا يتحقّق في الخارج إلاّ بذلك ، فاذا عجز المكلف من إيقاع المسح على البشرة بالمعنى المتقدِّم سقط عن التكليف بالوضوء لا محالة ، وانتهت التوبة في حقه إلى التيمم.

وقد خرجنا عن ذلك في الدواء الملصق بالبشرة بما دلّ على أن المسح على الدواء بمنزلة المسح على البشرة ، كما دلّ الدليل على أن المسح على الحائل كالعمامة والخف ونحوهما إذا كان للتقية والاضطرار أيضاً مجزي في مقام الامتثال ، وأن المسح عليه كالمسح على نفس البشرة ، ويأتي في محلِّه إن شاء الله أن العمل الاضطراري المستند إلى التقيّة كالاتيان بالمأمور به الواقعي الأوّلي لقوله عليه‌السلام « التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له » (١) وغير ذلك من العمومات. فمن خاف من أن يترتب على إيقاع المسح على البشرة قتل أو ضرب أو هتك لدلالته على تشيّعه فله أن يمسح على الحائل من خف أو عمامة أو نحوهما ، وأنه كالمسح على البشرة في مقام الامتثال. وهذه العمومات المذكورة وإن لم تخل عن بعض المناقشات كما يأتي في محلِّها إلاّ أن الأدلة الخاصة الواردة في إجزاء المأمور به الاضطراري المستند إلى التقيّة عن المأمور به الواقعي كافية في إثبات المدعى.

وأما إذا كان الاضطرار مستنداً إلى غير التقيّة وكان الحائل أمراً آخر غير الدواء فمقتضى الإطلاقات المتقدمة سقوط الأمر بالوضوء عن المكلف وقتئذٍ ، ووصول النوبة إلى التيمم في حقه ، لعدم تمكنه من المسح على البشرة ، وقد عرفت أنه من مقوّمات الوضوء ، إلاّ أن يدعى القطع بعدم الفرق بين الدواء وغيره من أقسام الحائل ، أو يقوم دليل بالخصوص على أن المسح على غير البشرة كالمسح على البشرة ، وكلا الأمرين مفقود في المقام ، إذ ليس لنا قطع وجداني بعدم الفرق بينهما ، كما لم يقم أيّ دليل بالخصوص على كفاية المسح على غير البشرة في الوضوء ، ومعه تصل النوبة إلى التيمم لا محالة.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢٠٣ / أبواب الأمر والنهي ب ٢٤ ، ٢٥.

١٣٤

ويجب أن يكون المسح بباطن الكف (*) والأحوط أن يكون باليمنى والأولى أن يكون بالأصابع (١).

______________________________________________________

ولا يمكن إجراء أحكام الجبائر في المقام ، لأن الاجتزاء بالمسح على الجبيرة في القروح والكسور أيضاً على خلاف القاعدة ، فإن الإطلاقات المتقدمة يقتضي أن يكون الغسل أو المسح على البشرة مقوماً للوضوء ، لأنه غسلتان ومسحتان ، ومع عدم التمكن منهما يسقط التكليف بالوضوء وتنتهي النوبة إلى التيمم لا محالة.

ولكن الدليل دلنا على أن المسح على الجبيرة في مواضع القروح والكسور كالمسح على نفس البشرة ، وأما في غير هذين الموضعين وغير الدواء والتقيّة فلم يدلنا على كفاية المسح على الحائل وكونه مجزياً في الوضوء ، بل مقتضى الآية المباركة والأخبار ما تقدّم من سقوط التكليف بالوضوء ووجوب التيمم على المكلف.

لا بدّ من أن يكون المسح بباطن الكف :

(١) تعرّض الماتن قدس‌سره في هذه المسألة لعدة أُمور قد اندمج بعضها في بعض :

فمنها : أنه هل لا بدّ أن يكون المسح باليد ، فلا يجزئ المسح بغيرها من الآلات والأسباب ، وإن كانت بلتها من البلل الموجودة في اليد ، كما إذا أخذ البلل من اليد بمثل الخرقة أو آلة اخرى ومسح بها رأسه ورجليه أو لا؟

قد يقال بالانحصار في اليد ويستدل عليه بعدّة روايات منها : الأخبار البيانية وإليك بعضها :

منها : رواية المعراج وهي صحيحة عمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لما اسري بي إلى السماء‌

__________________

(*) على الأحوط.

١٣٥

أوحى الله إليَّ يا محمّد ادن من صاد إلى أن قال ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى كعبيك ... » (١).

ومنها : صحيحة زرارة قال : « حكى لنا أبو جعفر عليه‌السلام وضوء رسول الله إلى أن قال ثم مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء » (٢).

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « يأخذ أحدكم الراحة من الدهن إلى أن قال ثم مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه » (٣) وفي صحيحة الأخوين : « ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماءً » (٤) ومنها : غير ذلك من الروايات ، فان الظاهر من تلك الروايات أن المسح لا بدّ من أن يكون بالبلة الباقية في يد المتوضئ بوصف أنه مما بقي في اليد ، وعليه لو أخذ البلل من اليد بآلة من الآلات كالخشبة والخرقة ونحوهما فمسح بها رأسه ورجليه لم يصدق أنه مسحهما بالبلة الباقية في اليد بوصف كونها باقياً في اليد.

وإن شئت قلت : إن الأخبار المذكورة كما أنها بصدد بيان ما به المسح في الوضوء أعني البلّة الباقية في اليد كذلك وردت بصدد بيان الماسح أعني آلة المسح وأنه أيّ شي‌ء ، وقد دلت على أنها منحصرة في اليد. مضافاً إلى قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة : « ثم مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء » فإنه كالصريح في لزوم أن يكون المسح بالبلة بواسطة اليد فلاحظ ، هذا.

ولا يخفى عدم إمكان المساعدة على ذلك والسرّ فيه : أن الأخبار الواردة في المقام التي منها الأخبار البيانية الحاكية عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دلّتنا على أن ما به المسح يعتبر أن يكون من البلّة الباقية في اليد من ماء الوضوء بحيث لو يبست وجب أخذ البلّة من اللحية والحاجبين ، ولا يجوز أن يكون المسح بالماء الجديد ، وهي بصدد البيان من هذه الجهة ودلالتها على تعيين ما به المسح من بلّة اليد ممّا لا كلام فيه. وإنما الكلام في دلالتها على تعيين آلة المسح وبيان أنها‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٣٩٠ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٦.

(٣) ، (٤) الوسائل ١ : ٣٩١ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١١.

١٣٦

منحصرة في خصوص اليد أعني ما دون الزند وعدمها ، والإنصاف عدم دلالتها على ذلك بوجه ، لأن الروايات إنما دلت على لزوم كون المسح ببلّة اليد ، وأما أن الآلة أيضاً هي اليد أعني ما دون الزند بحيث لا يسوغ المسح بغيرها كالذراع ونحوه فلا دلالة لها عليه ، هذا.

ولكن يمكن الاستدلال على تعيين الآلة فيما دون الزند وعدم جواز المسح بالذراع بوجوه :

الأوّل : أنّ الظاهر من اليد عند إطلاقها في مقابل الذراع إنما هو ما دون الزند لا ما دون المرفق ، كما وردت لفظة اليد في الأخبار البيانية في مقابل الذراع واستظهر منها ذلك ، أعني إرادة ما دون الزند لا ما دون الذراع.

الثاني : أنّ اليد وإن كانت قد تطلق على ما دون الزند وقد تطلق على ما دون المرفق ، كما يطلق ثالثة على ما دون الكتف ، إلاّ أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي إرادة خصوص الأول ، لأنه المناسب للحكم المحمول عليها في المقام ، فان المسح بحسب الأغلب لا يكون إلاّ بالكف والأصابع ، فالمراد باليد إنما هو ما دون الزند كما مر.

نظير ما إذا قيل أكلت بيدي أو ضربت أو كتبت بيدي ، لأن الأكل والضرب والكتابة وأمثالها قرينة معينة لما أُريد من لفظة اليد ، لدلالتها على أن المراد بها هو ما دون الزند دون غيره من المحتملات ، لعدم مناسبتها مع الكتابة أو الأكل ونحوهما مما لا يتحقق إلاّ بالكف والأصابع أعني ما دون الزند ، ووقوعها بغير ذلك يحتاج إلى إعمال عناية زائدة كما لا تخلو عن مشقة.

نعم ، لو قيل قطعت يد فلان مثلاً لم يكن له ظهور في إرادة ما دون الزند ، بل كان من المحتملات والمجملات ، لأن القطع كما يناسب الأصابع وما دون الزند كذلك يناسب ما دون المرفق وغيره من إطلاقات اليد ، وهذا بخلاف المقام فإنه إذا ورد : امسح بيدك أو قال : مسحت بيدي مثلاً ، فمناسبة الحكم والموضوع قرينة على إرادة ما دون الزند لما عرفت.

١٣٧

الثالث : أنّ جملة من الأخبار البيانية وإن كان وردت فيها لفظة « اليد » إلاّ أن بعضها أعني صحيحة الأخوين قد اشتملت على كلمة « الكف » حيث قال عليه‌السلام « ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماءً » (١) وبما أن هذه الروايات تحكي عن فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أمر واحد لا محالة ، كانت كلمة « الكف » في هذه الصحيحة قرينة على ما أُريد باليد في بقية الروايات ، ودلتنا على أن المراد بها إنما هو الكف وما دون الزند دون غيره من احتمالاتها ، فهذه الوجوه والقرائن تعينان المراد من لفظة « اليد » الواقعة في الروايات ، وبما أن الرواة ( قدس الله أسرارهم ) قد اهتموا بنقل هذه الخصوصية ، فنستكشف منها أن لخصوصية كون المسح بواسطة اليد أعني ما دون الزند مدخلية في صحة الوضوء ، وأنها من الخصوصيات اللازمة في المأمور به ، كما قد استفدنا من اهتمامهم بنقل عدم تجديد الماء لدى المسح وجوب كون المسح بالبلة الباقية في اليد من ماء الوضوء.

ويؤيِّد إرادة الكف من اليد رواية العلل قال : « جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه عن مسائل وكان فيما سألوه : أخبرنا يا محمّد لأي علة توضأ هذه الجوارح الأربع ، وهي أنظف المواضع في الجسد؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أن وسوس الشيطان إلى آدم عليه‌السلام دنا من الشجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه ، ثم قام ومشى إليها ، وهي أول قدم مشت إلى الخطيئة ، ثم تناول بيده منها ما عليها وأكل ، فتطاير الحلي والحلل عن جسده فوضع آدم يده على أُم رأسه وبكى ، فلما تاب الله عليه فرض الله عليه وعلى ذريته تطهير هذه الجوارح الأربع ، فأمره الله عزّ وجلّ بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة ، وأمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول بهما ، وأمره بمسح الرأس لما وضع يده على أُم رأسه ، وأمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة » (٢) وهي صريحة الدلالة على إرادة الكف من اليد.

وأمّا الآية المباركة والأخبار المطلقة ، أعني ما اشتملت على أنه ( صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٩٢ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٩٥ / أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١٦.

١٣٨

وسلم ) مسح رأسه ورجليه ، أو تضمنت الأمر بمسح الرأس والرجلين من دون التقييد بكون المسح بواسطة اليد فحسب ، ففيها احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يقال : إن المطلقات ليست بصدد البيان من تلك الناحية ، وإنما وردت لبيان أن المسح معتبر في الوضوء ، كما أن الغسل مما لا بدّ منه ، فان الوضوء غسلتان ومسحتان ، فلا دلالة لها على اعتبار غير ذلك من الخصوصيات المعتبرة في الوضوء.

وهذا الاحتمال وإن كان بالإضافة إلى الآية المباركة من الإمكان بمكان ، إلاّ أنه بالإضافة إلى بعض الروايات المطلقة التي تضمنت لاعتبار بعض الخصوصيات المعتبرة في الوضوء مما لا مجال له ، لأنها بصدد بيان ما يعتبر في صحة الوضوء ، وحيث لم يقيد المسح بأن يكون بواسطة اليد فلا مانع من التمسك بإطلاقاتها.

الثاني : أن يقال : إن المطلقات منصرفة إلى ما هو المتعارف في الخارج من المسح ولا تردد في أن المسح بحسب المتعارف الشائع لا يكون إلاّ باليد وما دون الزند ، إذن يتعيّن أن يراد بالمطلقات خصوص المسح بواسطة اليد.

ويدفعه : ما مرّ غير مرة من أن المطلق لا تنصرف إلى الفرد الغالب أبداً. نعم ربما يحدث انصراف بدوي إلى الغالب ولكنه يزول بأدنى التأمّل والالتفات.

وما عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره من انتقاض ذلك بالغسل ، بدعوى أن الغسل كالمسح إنما يتحقّق في الخارج بآلة لا محالة ، فكما أن الأمر بغسل الوجه واليدين ليست فيه أية دلالة على تعيين آلة الغسل ، فليكن الأمر بالمسح أيضاً كذلك وإلاّ فلا مناص من الالتزام بدلالة الأمر بالغسل أيضاً على تعيين آلة الغسل (١) ، كما ترى مما لا يمكن المساعدة عليه ، والوجه في ذلك أن آلة المسح مما يتقوم به المسح بحيث لا يتحقق بدونها ، وهذا بخلاف الغسل لوضوح أن الغسل قد يحصل بإيقاف الوجه مثلاً تحت المطر وبإجراء الماء عليه ، وأما المسح فلا يوجد إلاّ بآلة وهو ظاهر.

إذن فلا مانع من أن يكون الأمر بالمسح دالاًّ على تعيين آلة المسح دون الغسل.

الثالث : أن يقال : إن المطلقات المذكورة لا بدّ من تقييدها بالأخبار المتقدمة التي‌

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١١٩ السطر ٨.

١٣٩

دلّتنا ببركة القرائن على أن المسح لا بدّ من أن يكون باليد وما دون الزند ، وهذا الوجه هو المتعيّن في المقام ، وذلك للقطع بعدم إرادة الإطلاق لا في الآية المباركة ولا في الأخبار ، بحيث يشمل المسح بكل شي‌ء ولو بالأجسام الخارجية من الخرقة والخشبة ونحوهما ، وحيث إن الوجهين الأولين غير ثابتين كما عرفت فيكون الوجه الأخير هو المتعيّن في محل الكلام.

هذا كله فيما إذا لم نقل بأن الأخبار البيانية الحاكية لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكاية فعل ولا دلالة لها إلاّ على الجواز أو الاستحباب ، من غير أن تكون لها أية دلالة على الوجوب ، وأما إذا قلنا بذلك فلا يبقى لها دلالة على الوجوب بالإطلاق حتى نحتاج إلى تقييده وحملها على أحد المحامل المتقدمة.

فتحصل : أنّ مقتضى الأخبار البيانية على تقدير أن يكون لها الدلالة على الوجوب أن يكون المسح بما دون الزند ، وأنه المراد من سائر المطلقات والآية المباركة ، هذا على أن المسألة اتفاقية كما حكاه صاحب الحدائق عن جملة من أصحابنا (١).

ومنها : أن يكون المسح بباطن الكف ، ولم يرد ذكر باطن الكف في شي‌ء من النصوص ، ومقتضى إطلاقها عدم تعيّن المسح بباطنه ، نعم لو قلنا بانصراف المطلقات الآمرة بالمسح إلى ما هو المتعارف الدارج في الخارج أمكننا أن نقول باعتبار كون المسح بباطن الكف ، لأنه الدارج الشائع في المسح ، وأما إذا لم نقل بالانصراف إلى الفرد المتعارف فلا وجه للحكم بتعيين المسح بباطن الكف في مقام الامتثال ، هذا.

ولكن يمكن أن نستدل على وجوب ذلك بالأخبار البيانية الحاكية لوضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الأئمة عليهم‌السلام لأنهم لو كانوا مسحوا بظاهر الكف في الوضوء لوجب على الرواة أن ينقلوا ذلك في رواياتهم ، لأنه أمر خارج عن المتعارف المعتاد ولا مناص من نقل مثله في الأخبار ، وحيث إنهم لم ينقلوا‌

__________________

(١) الحدائق ٢ : ٢٨٧.

١٤٠