موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

فصل في الوضوءات المستحبّة‌

[٤٨٥] مسألة ١ : الأقوى كما أُشير إليه سابقاً كونه مستحباً في نفسه وإن لم يقصد غاية من الغايات حتى الكون على الطهارة ، وإن كان الأحوط قصد إحداها (١).

[٤٨٦] مسألة ٢ : الوضوء المستحب على أقسام :

أحدها : ما يستحب في حال الحدث الأصغر فيفيد الطهارة منه.

الثاني : ما يستحب في حال الطهارة منه كالوضوء التجديدي.

الثالث : ما هو مستحب في حال الحدث الأكبر وهو لا يفيد طهارة ، وإنما هو لرفع الكراهة ، أو لحدوث كمال في الفعل الذي يأتي به كوضوء الجنب للنوم ووضوء الحائض للذكر في مصلاّها.

______________________________________________________

فصل في الوضوءات المستحبّة‌

(١) على ما قدّمنا تفصيل الكلام في ذلك عند الكلام على غايات الوضوء (١) وبيّنا بما لا مزيد عليه أن الوضوء مستحب في نفسه وفاقاً للماتن قدس‌سره فليلاحظ.

__________________

(١) في شرح العروة ٤ : ٤٦٧.

١

أمّا القسم الأوّل فلأُمور :

الأوّل : الصلاة المندوبة وهو شرط في صحتها أيضاً (١).

الثاني : الطواف المندوب (٢) وهو ما لا يكون جزءاً من حج أو عمرة ولو مندوبين ، وليس شرطاً في صحته. نعم ، هو شرط في صحة صلاته.

______________________________________________________

(١) للأدلّة الدالة على أن الطهارة شرط في الصلاة ، وأنه لا صلاة إلاّ بطهور ، وغاية الأمر أنها إذا كانت واجبة كان الوضوء أيضاً واجباً إما عقلاً وشرعاً ، وإما عقلاً فقط بناء على إنكار القول بوجوب مقدمة الواجب شرعاً. كما أنها إذا كانت مستحبة كان الوضوء أيضاً مستحباً لا محالة ، وهذا لا بمعنى أن المكلف في الصلوات المندوبة يتمكن من ترك الوضوء بأن يأتي بها من دون وضوء ، كما هو معنى الاستحباب في غيرها كاستحباب الوضوء لقراءة القرآن ونحوها من المستحبات ، بل معنى استحباب الوضوء حينئذٍ أن المكلف يتمكن من ترك الوضوء بترك ما هو مشروط به أعني الصلاة المندوبة.

(٢) وهذا لاشتماله على الصلاة ، وقد عرفت أنها مشروطة بالطهارة وإلاّ فلا يعتبر الوضوء في نفس الطواف المندوب أبداً وإنما يعتبر في الطواف الواجب على ما قدمنا الكلام عليه ، وتدلّنا على ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا بأس أن يقضى المناسك كلها على غير وضوء ، إلاّ الطواف فان فيه صلاة والوضوء أفضل » (١) وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل أينسك المناسك وهو على غير وضوء؟ فقال : نعم إلاّ الطواف بالبيت فان فيه صلاة » (٢) لصراحتها في أن أصل الطواف غير مشروط بالوضوء وإنما يعتبر لصلاته. نعم ، لا بدّ من تخصيص ذلك بالمندوب ، لأنّ الطواف الواجب في نفسه يعتبر فيه الوضوء كما تقدّم.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٤ / أبواب الوضوء ب ٥ ح ١. ورواها الصدوق قدس‌سره [ في الفقيه ٢ : ٢٥٠ / ١٢٠١ ] بإسقاط قوله : « فان فيه صلاة ».

(٢) الوسائل ١٣ : ٣٧٦ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٦.

٢

الثالث : التهيؤ للصلاة في أوّل وقتها ، أو أوّل زمان إمكانها إذا لم يمكن (١)

______________________________________________________

الوضوء للتهيّؤ :

(١) إن من المناسب في المقام أن نتكلم على ما هو الدليل على مشروعية الوضوء للتهيؤ قبل دخول وقت الصلاة ، وذلك لأنّا إن قلنا إن الوضوء أمر مستحب في نفسه أو لم نقل بالاستحباب النفسي له ولكن المكلف أتى به بغاية الكون على الطهارة قبل الوقت فلا إشكال في صحته ، لأنه على التقدير الأول مستحب نفسي ، وعلى الثاني قد أتى به بغاية مستحبة وهو الكون على الطهارة بناء على إنكار الاستحباب النفسي للوضوء إذ الكون على الطهارة أمر محبوب شرعاً فيأتي بالأفعال والوضوء بغاية ترتب الطهارة عليها ، فلا بدّ من الحكم بصحته على كلا التقديرين وإن كان له داع آخر أيضاً على الإتيان به وهو التهيؤ للصلاة في أول وقتها.

وأما إذا أنكرنا استحبابه النفسي ولم يؤت به بغاية الكون على الطهارة ، فيقع الكلام حينئذٍ في مدرك مشروعيته إذا أتى به قبل وقت الفريضة بغاية التهيؤ للصلاة.

فقد يستدل على مشروعيته بغاية التهيؤ قبل دخول وقت الصلاة ، بما دلّ على أفضلية الإتيان بها في أوّل وقتها ، وأنّ أوّل الوقت رضوان الله (١) والآيات الآمرة باستباق الخيرات والمسارعة إلى مغفرة الله سبحانه (٢) بتقريب أن أفضلية الصلاة في أول وقتها تدلنا بالملازمة على جواز الإتيان بالوضوء للتهيّؤ لها قبل دخول وقتها لوضوح أنه إذا لم يجز للمكلف الإتيان بالوضوء للتهيؤ قبل الوقت لم يتمكن من الإتيان بالصلاة في أول وقتها ، ولكان الحث على الإتيان بها وقتئذٍ في تلك الأدلة لغواً ظاهراً ، ومع سقوطها لم يمكن الحكم بأفضلية الصلاة في أول وقتها.

ويدفعه : أن الآيات والأخبار وإن دلتا بالملازمة على استحباب الوضوء قبل‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١١٨ / أبواب المواقيت ب ٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٨ ، آل عمران ٣ : ١٣٣.

٣

دخول وقت الصلاة ، وأنه حينئذٍ يقع صحيحاً مأموراً به لأن الصلاة مشروطة بالوضوء الصحيح ، إلاّ أنه لا دلالة لهما بوجه على أن الإتيان به بتلك الغاية أعني غاية التهيؤ للصلاة أمر مشروع في الشريعة المقدسة وأنه موجب لصحته وتماميته ، وذلك لإمكان الإتيان به قبل الوقت بغاية الكون على الطهارة ، أو بغاية صلاة مندوبة ، أو لأجل استحبابه النفسي.

وعلى الجملة : أنّ الصلاة مشروطة بالوضوء الصحيح وقد دلت الأدلة المتقدِّمة على جواز الإتيان به قبل وقت الصلاة وكونه صحيحاً وقتئذٍ ، وأما أن الإتيان به بغاية التهيؤ للصلاة مشروع وصحيح فلا يكاد يستفاد منها بوجه.

على أنّا سلمنا دلالتها على مشروعية الوضوء للتهيؤ قبل وقت الصلاة ، فلما ذا خصّصوا استحبابه بما إذا أُتي به قريباً من الوقت؟ لأنه على ذلك لا فرق في استحبابه للتهيّؤ بين الإتيان به قريباً من الوقت أم بعيداً عنه ، كما إذا توضأ أول طلوع الشمس مثلاً للتهيّؤ لصلاة الظهر.

وقد يستدل على ذلك بالمرسل المروي عن الذكرى من قولهم عليهم‌السلام « ما وقّر الصلاة من أخّر الطهارة لها حتى يدخل وقتها » (١) وهي بحسب الدلالة ظاهرة ولكنها ضعيفة بحسب السند ، اللهمّ إلاّ أن يقال إن أخبار من بلغ تدلنا على استحباب نفس العمل الذي قد بلغ فيه الثواب ، أو على استحباب إتيانه رجاءً ، وقد عرفت عدم دلالتها على الاستحباب الشرعي في محلِّه (٢) فليلاحظ.

فالصحيح أن يستدل على مشروعية الوضوء للتهيؤ قبل الوقت بإطلاق قوله عزّ من قائل ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) (٣) نظراً إلى أن القيام نحو الشي‌ء على ما يستعمل في غير اللغة العربية أيضاً إنما هو الاستعداد والتهيؤ له ، وقد دلّت الآية‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٤ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ٥.

(٢) مصباح الأُصول ٢ : ٣١٩.

(٣) المائدة ٥ : ٦.

٤

إتيانها في أوّل الوقت ، ويعتبر أن يكون قريباً (*) من الوقت أو زمان الإمكان ، بحيث يصدق عليه التهيؤ (١).

الرابع : دخول المساجد (٢).

______________________________________________________

المباركة على أن من تهيأ للصلاة شرع له الوضوء أعني الغسلتين والمسحتين ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في ذلك بين القيام لها قبل الوقت أو بعده. نعم ، يختص ذلك بما إذا أتى بالوضوء قريباً من وقت الفريضة ، لعدم صدق القيام لها في مثل ما إذا توضأ في أول الصبح مثلاً تهيؤاً لصلاة الظهر ، هذا.

والذي يسهّل الخطب أن الوضوء مستحب نفسي عندنا ، ومعه لا يفرق الحال في مشروعيته بين أن يأتي به قريباً من وقت الفريضة أم بعيداً عنه.

(١) قد عرفت تفصيل الكلام في ذلك آنفاً فلاحظ.

الوضوء لدخول المساجد :

(٢) قد اتضح مما سردناه في التعليقة المتقدمة أن الحكم باستحباب الوضوء بغاية الدخول في المساجد وما الحق بها من المشاهد المشرفة أيضاً محل المناقشة والكلام ، إذ الأخبار الواردة في استحباب دخول المساجد أو هي مع المشاهد متطهِّراً (٢) إنما تدل على أن الوضوء قبل دخولهما أمر مستحب ، وأما أنه مشروع بتلك الغاية ويستحب الوضوء بغاية دخولهما ، فهو مما لا يكاد يستفاد منها كما عرفت ، لإمكان أن يتوضأ بغاية الكون على الطهارة أو الصلاة المندوبة أو غيرهما من الغايات المسوّغة للوضوء هذا.

ويمكن أن يصحّح الوضوء المأتي به بغاية دخول المسجد وما الحق به من المشاهد‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى.

(١) الوسائل ١ : ٣٨٠ / أبواب الوضوء ب ١٠.

٥

الخامس : دخول المشاهد المشرّفة.

السادس : مناسك الحج مما عدا الصلاة والطواف.

السابع : صلاة الأموات.

الثامن : زيارة أهل القبور.

التاسع : قراءة القرآن أو كتبه ، أو لمس حواشيه ، أو حمله.

العاشر : الدعاء وطلب الحاجة من الله تعالى.

الحادي عشر : زيارة الأئمة ولو من بعيد.

الثاني عشر : سجدة الشكر ، أو التلاوة.

الثالث عشر : الأذان والإقامة ، والأظهر شرطيته في الإقامة.

الرابع عشر : دخول الزوج على الزوجة ليلة الزفاف بالنسبة إلى كل منهما.

الخامس عشر : ورود المسافر على أهله فيستحب قبله.

السادس عشر : النوم.

السابع عشر : مقاربة الحامل.

الثامن عشر : جلوس القاضي في مجلس القضاء.

التاسع عشر : الكون على الطهارة.

العشرون : مس كتابة القرآن في صورة عدم وجوبه ، وهو شرط في جوازه كما مرّ ، وقد عرفت أن الأقوى استحبابه نفسياً أيضاً.

______________________________________________________

وغيره من الغايات المذكورة في المتن ، بأنّا مهما شككنا في شي‌ء فلا نشك في أن الطهارة أمر مرغوب فيها في الشريعة المقدسة ، فإن بنينا على أن الطهارة هي الوضوء في نفسه كما ورد من أن الوضوء طهور وأنه على وضوء كما قدمناه سابقاً (١) وهو الدارج في كلمات الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) حيث يقولون : الطهارات الثلاث‌

__________________

(١) في شرح العروة ٤ : ٤٦٩.

٦

وأمّا القسم الثاني فهو الوضوء للتجديد ، والظاهر جوازه ثالثاً ورابعاً فصاعداً‌

______________________________________________________

ويقصدون بها الوضوء والغسل والتيمم ، فلا كلام في أنه بنفسه أمر مستحب ومما ندب إليه في الشريعة المقدسة ، لأن الله يحب المتطهرين فلا يحتاج حينئذٍ في صحته إلى قصد شي‌ء من غاياته ، لأجل الاستحباب النفسي على الفرض.

وإذا قلنا أن الطهارة كالملكية والزوجية وغيرهما من الأُمور الاعتبارية أمر مترتب على الغسلتين والمسحتين ، فلو كنّا نحن وما دلّ على أن الوضوء غسلتان ومسحتان لاكتفينا في الحكم بحصول الطهارة وترتبها عليهما بمجرد حصولهما في الخارج من غير اعتبار أي شي‌ء آخر في صحتها ، كما كنّا نحكم بحصول الطهارة الخبيثة بمجرد غسل البدن والثياب من دون اعتبار شي‌ء آخر في حصولها ، إلاّ أن الأدلة الدالة على أن الوضوء يعتبر فيه قصد القربة والإتيان به بنية صالحة ، دلتنا على أن الغسلتين والمسحتين غير كافيتين في حصول الطهارة ما لم يؤت بهما بنية صالحة مقربة. وعلى ذلك يمكن أن يؤتى بالوضوء بقصد شي‌ء من غاياته المترتبة عليه من دخول المساجد والمشاهد وقراءة القرآن والصلاة المندوبة أو غير ذلك مما أشار إليه في المتن ، لأنه وقتئذٍ قد أتى بالغسلتين والمسحتين وأضافهما إلى الله سبحانه باتيانهما بقصد شي‌ء من غاياته ، وقد فرضنا أنهما مع النية الصالحة محصلتان للطهارة بلا فرق في ذلك بين قصد الغاية التي تتوقف مشروعيتها على الوضوء كالصلاة الواجبة والمندوبة ، وما يتوقف عليه كمالها كالقراءة ودخول المساجد ونحوهما من غاياته.

إذن فلا يعتبر في صحة الوضوء أن يؤتى به بغاية الصلاة أو الكون على الطهارة ويصح بذلك الوضوء بجميع الغايات المذكورة في المتن فليلاحظ.

فقد اتضح بما سردناه الخلل في جملة من الاستدلالات على استحباب التوضؤ للغايات المذكورة في كلام الماتن قدس‌سره كما اتضح الوجه في جواز التوضؤ بجميع تلك الغايات المذكورة ، فلا حاجة إلى إطالة الكلام بالتعرض لحكم كل واحد واحد بالاستقلال.

٧

أيضاً (١).

______________________________________________________

الوضوء التجديدي :

(١) لا ينبغي الإشكال في مشروعية الوضوء التجديدي في الشريعة المقدّسة ، سواء تخلل بين الوضوءين فصل فعل كالصلاة ونحوها أو فصل زمان أم لم يتخلل ، كما لا فرق في استحبابه بين ما إذا أتى به لنفسه ، وما إذا أتى به لأجل فعل آخر مشروط به من فريضة أو نافلة ، وأيضاً لا فرق في ذلك بين من يحتمل طروء الحدث في حقِّه ومن لا يحتمل ، فلا وجه للتفصيل بينها باشتراط الفصل بالفعل أو الزمان ، أو إرادة الإتيان بما يشترط فيه الوضوء في الثاني دون الأول ، والسر في ذلك أن الأخبار الواردة في الوضوء التجديدي على طائفتين :

إحداهما : ما ورد في موارد خاصة من صلاة المغرب والفجر ونحوهما.

ثانيتهما : ما ورد في استحباب مطلق التجديد.

أمّا الطائفة الأُولى : فمنها : موثقة سماعة بن مهران قال : « كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام فصلّى الظهر والعصر بين يدي وجلست عنده حتى حضرت المغرب فدعا بوضوء فتوضأ للصلاة ثم قال لي : توض ، فقلت جعلت فداك أنا على وضوء فقال : وإن كنت على وضوء ، إن من توضأ للمغرب كان وضوءه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في يومه إلاّ الكبائر ، ومن توضأ للصبح كان وضوءه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليلته إلاّ الكبائر » (١).

ومنها : ما رواه أيضاً سماعة بن مهران قال : « قال أبو الحسن موسى عليه‌السلام من توضأ للمغرب كان وضوءه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه في ليلته إلاّ الكبائر » (٢) وزيد عليه في رواية الكافي قوله : « ومن توضأ لصلاة الصبح كان وضوءه ذلك كفّارة‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٣٧٦ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ١.

٨

لما مضى من ذنوبه في ليلته إلاّ الكبائر » (١).

ومنها : رواية أبي قتادة عن الرضا عليه‌السلام قال : « تجديد الوضوء لصلاة العشاء يمحو لا والله وبلى والله » (٢) ومنها غير ذلك من الروايات.

وأمّا الطائفة الثانية : فمنها : ما رواه محمد بن مسلم (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا » (٤).

ومنها : رواية المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من جدّد وضوءه لغير حدث جدّد الله توبته من غير استغفار » (٥) ومنها : غير ذلك من الأخبار. ومقتضى إطلاق هذه الروايات عدم الفرق في استحباب الوضوء التجديدي بين التخلل بفصل فعل أو زمان بين الوضوءين وعدمه ، ولا بين الإتيان به لنفسه وإتيانه لأجل فعل آخر مشروط به ، ولا بين احتمال طروء الحدث في حقه وعدمه ، بل مقتضى إطلاقها هو الحكم باستحباب التجديد ثالثاً ورابعاً فصاعداً ، كما إذا توضأ بغاية قراءة القرآن ثم توضأ بغاية الصلاة المندوبة ثم توضأ بغاية ثالثة مستحبة وهكذا.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٠ / ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٦.

(٣) الرواية قد وقع في سندها القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد ، وهما وإن لم يوثقا في كتب الرجال غير أنهما ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات فلا بدّ من الحكم بوثاقتهما.

ولا يعارضه تضعيف العلاّمة [ في الخلاصة : ٣٣٤ ، ٣٨٩ ] وابن الغضائري [ حكى عنه في الخلاصة ] لهما ، لأن الكتاب المنتسب إلى ابن الغضائري الذي منه ينقل تضعيفاته وتوثيقاته لم يثبت أنه له وإن كان له كتاب ولا بأس بالاعتماد على مدحه وقدحه في نفسه.

وأمّا العلاّمة قدس‌سره فلأن تضعيفاته كتوثيقاته مبتنية على حدسه واجتهاده ، لتأخّر عصره الموجب لضعف احتمال استناده في ذلك إلى الحس والنقل ، إذن فالرواية لا بأس بها من حيث السند ولا بدّ من الحكم بصحتها.

(٤) ، (٥) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ١٠ ، ٧.

٩

وأمّا الغسل فلا يستحب فيه التجديد (*) بل ولا الوضوء بعد غسل الجنابة ، وإن طالت المدّة (١).

وأمّا القسم الثالث فلأُمور :

______________________________________________________

بقي في المقام شي‌ء وهو : أنّ ظاهر بعض الأخبار الواردة في المقام عدم مشروعية التجديد في الشريعة المقدّسة فضلاً عن استحبابه كما في رواية عبد الله بن بكير عن أبيه قال : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ ، وإيّاك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت » (٢) ولكن مقتضى الجمع العرفي بينها وبين الأخبار الواردة في مشروعية التجديد واستحبابه ، حمل الرواية على صورة إحداث الوضوء بنية الوجوب ، لأن استصحاب الطهارة حينئذٍ يقتضي الحكم بعدم وجوب الوضوء عليه فالحكم بالوجوب في حقه نقض لليقين بالشك ، ومعه يكون الإتيان بالوضوء تشريعاً محرماً ، لا فيما إذا أتى به بنية الندب كما لعله ظاهر.

غسل الجنابة بعد غسلها :

(١) هل يستحب الإتيان بغسل الجنابة بعد غسل الجنابة؟ وهل يستحب الإتيان بالوضوء بعد غسلها؟

لم يرد مشروعية الغسل أو الوضوء بعد غسل الجنابة في أية رواية بالخصوص نعم ، تشملهما الإطلاقات الواردة في استحباب الطهر على الطهر كما في مرسلة سعدان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الطهر على الطهر عشر حسنات » (٣) لأنها تشمل غسل الجنابة بعد غسل الجنابة. والأخبار الواردة في استحباب الوضوء بعد الطهور كما تقدم في رواية محمد بن مسلم.

__________________

(*) لا يبعد الاستحباب فيه أيضاً ، والأولى الإتيان به رجاءً.

(١) الوسائل ١ : ٤٧٢ / أبواب الوضوء ب ٤٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٧٦ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٣.

١٠

الأوّل : لذكر الحائض في مصلاها مقدار الصلاة (١).

______________________________________________________

ولكن الحكم باستحباب التجديد في غسل الجنابة بعيد غايته ، لأنه لو كان مستحبّاً لبان وشاع ، ولم يخف ذلك على الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) ولم يرد استحبابه في شي‌ء من الروايات ولم يتعرض له الأصحاب في كلماتهم. بل الحكم باستحبابه لا يخلو عن مناقشة وإشكال ، لأن المرسلة المتقدمة الدالة بإطلاقها على استحباب غسل الجنابة بعد غسل الجنابة ضعيفة بالإرسال وغير قابلة للاعتماد عليها في الحكم بالاستحباب. اللهمّ إلاّ أن يقال باستفادة الاستحباب من أخبار من بلغ وقد ناقشنا فيه في محلِّه (١) فليراجع.

الوضوء بعد غسل الجنابة :

وأما الوضوء بعد غسل الجنابة فلا ينبغي التأمل في عدم مشروعيته ، وذلك لما ورد في صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ليس قبله ولا بعده وضوء » (٢) فان ظاهرها نفي مشروعية الوضوء بعد غسل الجنابة ، وحملها على نفي الوجوب دون المشروعية خلاف الظاهر. ويؤيده قوله : « قبله » لوضوح أن الوضوء قبل غسل الجنابة لم يتوهم أحد استحبابه ولا وجوبه ، فكذلك الوضوء بعده.

أضف إلى ذلك ما قدمناه في غسل الجنابة بعد غسل الجنابة ، من أن ذلك لو كان مستحباً في الشريعة المقدسة لذاع وشاع وورد ذلك في الروايات ، مع أن كلمات الفقهاء قدس‌سرهم خالية عن التعرض لاستحبابه ولم ترد أية رواية في استحبابه بالخصوص.

(١) لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا كانت المرأة طامثاً فلا تحل لها الصلاة ، وعليها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة ، ثم تقعد في‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣١٩.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ٢٤٦ / ب ٣٤ ح ٢.

١١

الثاني : لنوم الجنب (١) وأكله وشربه (٢) وجماعه (٣)

______________________________________________________

موضع طاهر فتذكر الله عزّ وجلّ وتسبّحه وتهلّله وتحمده كمقدار صلاتها ، ثم تفرغ لحاجتها » (١).

(١) دلّت عليه صحيحة عبيد الله بن علي الحلبي قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ فقال : يكره ذلك حتى يتوضأ » (٢). وموثقة سماعة قال : « سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم ، قال : إن أحبّ أن يتوضأ فليفعل ، والغسل أحب إليّ » (٣).

(٢) لصحيحة عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه قال : « إذا كان الرجل جنباً ، لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ » (٤) ويؤيدها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض ، وغسل وجهه وأكل وشرب » (٥)

(٣) المستند في ذلك ينحصر في روايتين :

إحداهما : ما رواه الإربلي في كتاب كشف الغمة عن كتاب دلائل الحميري عن الوشاء قال : قال فلان بن محرز : « بلغنا أن أبا عبد الله عليه‌السلام كان إذا أراد أن يعاود أهله للجماع توضأ وضوء الصلاة ، فأحب أن تسأل أبا الحسن الثاني عليه‌السلام عن ذلك ، قال الوشاء : فدخلت عليه فابتدأني من غير أن أسأله فقال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام إذا جامع وأراد أن يعاود توضأ وضوء الصلاة » (٦).

وثانيتهما : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أتى الرجل جاريته ثمّ أراد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٦ / أبواب الوضوء ب ١٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٧ / أبواب الجنابة ب ٢٥ ح ١ ، ١ : ٣٨٢ / أبواب الوضوء ب ١١ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٨ / أبواب الجنابة ب ٢٥ ح ٦.

(٤) ، (٥) الوسائل ٢ : ٢١٩ / أبواب الجنابة ب ٢٠ ح ٤ ، ١.

(٦) الوسائل ١ : ٣٨٥ / أبواب الوضوء ب ١٣ ح ٢.

١٢

أن يأتي الأُخرى توضّأ » (١).

ولكن الروايتين مضافاً إلى اختصاصهما بمن أجنب بالجماع وعدم شمولهما لمن أجنب بالاحتلام ، لم يتضح صحة الأُولى منهما بحسب الطريق ، كما أن ثانيتهما ضعيفة بالإرسال. إذن فالحكم باستحباب الوضوء لجماع من أجنب بالمجامعة يبتني على القول بالتسامح في أدلة السنن.

نعم ، قد يستدل على الحكم باستحباب الوضوء لجماع من أجنب بالاحتلام بقول الشهيد قدس‌سره في الذكرى ، حيث إنه بعد أن ذكر موارد استحباب الوضوء وعدّ منها جماع المحتلم قال : كل ذلك للنص (٢) وقول صاحب المدارك قدس‌سره لأنه أيضاً كالشهيد قدس‌سره بعد ما ذكر موارد استحباب الوضوء قال : وقد ورد بجميع ذلك روايات (٣) بدعوى أنهما قدس‌سرهما قد أخبرا بذلك عن وجود رواية تدلنا على الاستحباب في محل الكلام.

ويردّه : أن بمجرّد هذين الكلامين لا يمكننا دعوى ورود نص في محل الكلام تام الدلالة على الاستحباب عندنا ، لأن من الجائز أن لا يكون النص مما له دلالة على الاستحباب ، أو يكون نظرهما قدس‌سرهما إلى ورود النص في مجموع الموارد المذكورة في كلامهما أو أكثرها ، لا في كل واحد واحد منها ، إذ لو كان هناك نص في محل الكلام أيضاً لعثرنا عليه في جوامع الأخبار وكتب الروايات بعد الفحص عنه لا محالة.

نعم ، لو ثبت بقولهما ذلك أن في المسألة رواية تامة الدلالة على الثواب والاستحباب ابتني الاستدلال بها في المقام على القول بالتسامح في أدلّة الاستحباب كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٥٧ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٥٥ ح ١.

(٢) الذكرى : ٢٣ السطر ٢٥.

(٣) المدارك ١ : ١٣.

١٣

وتغسيله الميت (١).

الثالث : لجماع من مس الميت ولم يغتسل بعد (٢).

الرابع : لتكفين الميت (٣) أو دفنه بالنسبة إلى من غسله ولم يغتسل غسل المس (٤).

______________________________________________________

(١) لحسنة شهاب بن عبد ربّه قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتاً ، له أن يأتي أهله ثم يغتسل؟ فقال : سواء ، لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده وتوضأ ، وغسل الميت وهو جنب ، وإن غسل ميتاً توضأ ثم أتى أهله ويجزيه غسل واحد لهما » (١).

(٢) للحسنة المتقدمة الدالة على استحباب التوضؤ لجماع من غسّل الميت ولم يغتسل بعد.

(٣) لم ترد أية رواية في استحباب الوضوء في المقام وليس في المسألة إلاّ فتوى الأصحاب بالاستحباب. إذن يبتني الحكم بذلك على القول بالتسامح في أدلة المستحبّات ، وفرض شمول أخبار من بلغه ثواب لفتوى الأصحاب بالاستحباب ، وهذا من قبيل الفرض في الفرض.

(٤) قد يستدل عليه بما رواه الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « توضأ إذا أدخلت الميت القبر » (٢) ولكن الرواية ضعيفة السند ، لا لأجل محمد بن عبد الله بن زرارة لأنه ممّن وقع في أسانيد كامل الزيارات وقد وثق مؤلفه كل من وقع في سلسلة رواياته ، بل لأن طريق الشيخ قدس‌سره إلى علي بن الحسن بن فضال ضعيف بعلي بن محمد بن الزبير القرشي (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٣ ، ٥٤٤ / أبواب غسل الميت ب ٣٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ١٩٣ / أبواب الدفن ب ٣١ ح ٧ ، ٢٢١ / أبواب الدفن ب ٥٣ ح ١.

(٣) قد عدل سيدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) عن ذلك وبنى على صحّة طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال ، وأفاد في وجه ذلك أن طريق الشيخ إلى كتابٍ إذا كان ضعيفاً في المشيخة

١٤

[٤٨٧] مسألة ٣ : لا يختص القسم الأوّل من المستحب بالغاية التي توضّأ (١)

______________________________________________________

إذن الاستدلال بها في المسألة يبتني على القول بالتسامح في أدلة السنن. على أن الرواية غير مقيدة بمن غسّل الميت ولم يغتسل كما قيّده الماتن قدس‌سره بل هي مطلقة فتعم غير الغاسل ، كما تعم الغاسل الذي قد اغتسل من مسّ الميت. أضف إلى ذلك أن الرواية تحتمل أن يراد بها استحباب الوضوء بعد إدخال الميت القبر ، لا قبل الإدخال لأجل إدخال الميت القبر فليلاحظ.

إباحة جميع الغايات بالوضوء :

(١) والوجه في ذلك : أنّ الوضوء إما هو الطهارة في نفسه ، أو أن الطهارة اعتبار شرعي مترتِّب على الوضوء ، كترتّب الملكية على البيع والزوجية على النكاح وغيرهما من الأحكام الوضعية المترتبة على أسبابها ، وعلى كلا التقديرين قد دلتنا الأدلة الواردة في اعتبار قصد القربة في الوضوء على أن الإتيان بالغسلتين والمسحتين إنما تكونان طهارة أو تترتّب عليهما الطهارة فيما إذا أتى بهما المكلف بنية صالحة وبقصد التقرب إلى الله سبحانه ، فاذا شككنا في اعتبار أمر زائد على ذلك في حصول الطهارة أو في تحقق الوضوء فلا مناص من أن نرجع إلى إطلاق أدلة الوضوء ، وحيث إن المكلف قد أتى بهما بغاية من الغايات القربية ، بمعنى أنه أضافهما إلى الله سبحانه نحو إضافة وأتى بهما بنية صالحة ، فلا محالة تحصل بذلك الطهارة ، أذن فهو على وضوء أو‌

__________________

والفهرست ، ولكن كان للنجاشي إلى ذلك الكتاب طريق صحيح ، وكان شيخهما واحداً كما في المقام وهو ابن عبدون ، حكم بصحة رواية الشيخ أيضاً عن ذلك الكتاب ، إذ لا يحتمل أن يكون ما أخبر به شخص واحد كابن عبدون مثلاً النجاشي مغايراً لما أخبر به الشيخ ، فاذا كان ما أخبرهما به واحداً وكان طريق النجاشي إليه صحيحاً حكم بصحة ما رواه الشيخ عن ذلك الكتاب أيضاً لا محالة ، ويستكشف من تغاير الطريق أن الكتاب الواحد روي بطريقين ذكر أحدهما الشيخ وذكر النجاشي الطريق الآخر ، وليلاحظ [ معجم رجال الحديث ١ : ٧٨ ].

١٥

لأجلها ، بل يباح به جميع الغايات المشروطة به بخلاف الثاني (١) والثالث فإنّهما إن وقعا على نحو ما قصدا لم يؤثرا إلاّ فيما قصدا لأجله (٢) ، نعم لو انكشف الخطأ بأن كان محدثاً بالأصغر ، فلم يكن وضوءه تجديدياً ولا مجامعاً للأكبر ، رجعا إلى‌

______________________________________________________

قل إنه على الطهارة فيشرع له الدخول في كل فعل مشروط بالطهارة بحسب الصحة أو الكمال ، فله أن يأتي وقتئذٍ بغاية أُخرى من الغايات المترتبة على الكون على الطهارة أو الوضوء ، لتحقّق ما هو مقدّمتها ، وما يتوقّف عليه صحّتها أو كمالها ، ولعلّه إلى ذلك أشار عليه‌السلام في الرواية المتقدِّمة حيث نهى عن إحداث الوضوء إلاّ بعد اليقين بالحدث.

وفي موثقة سماعة بن مهران المروية عن المحاسن : « كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام فصلّى الظهر والعصر بين يدي وجلست عنده حتى حضرت المغرب فدعا بوضوء فتوضأ للصلاة ، ثم قال لي : توض ، فقلت : جعلت فداك ، أنا على وضوء ، فقال : وإن كنت على وضوء ، إن من توضأ للمغرب كان وضوءه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه في يومه إلاّ الكبائر ، ومن توضأ للصبح كان وضوءه ذلك كفارة لما مضى من ذنوبه في ليلته إلاّ الكبائر » (١).

ويستفاد من هاتين الروايتين أن الإتيان بالوضوء لأجل غاية معينة يكفي في الإتيان بغيرها من الغايات المترتبة عليه ، ولا حاجة معه إلى التجديد والتوضؤ ثانياً.

(١) يعني الوضوء التجديدي الصادر من المتطهّر ، فإنه لا يترتب عليه أثر من رفع الحدث وإحداث الطهارة ، لفرض كونه متطهِّراً قبل ذلك. نعم ، إنما يؤثر في الاستحباب ومجرّد المطلوبية فقط ، وهذا لا لقصور في ذلك بل من جهة عدم قابلية المحل للتأثير لفرض سبقه بالطهارة.

(٢) فإن الظاهر عدم ترتب أي أثر على الوضوء في القسم الثالث ، سوى الغاية التي‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٦ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٢.

١٦

الأوّل وقوي القول بالصحّة وإباحة جميع الغايات به إذا كان قاصداً لامتثال الأمر الواقعي المتوجه إليه في ذلك الحال بالوضوء ، وإن اعتقد أنه الأمر بالتجديدي منه مثلاً ، فيكون من باب الخطأ في التطبيق ، وتكون تلك الغاية مقصودة له على نحو الداعي لا التقييد بحيث لو كان الأمر الواقعي على خلاف ما اعتقده لم يتوضأ ، أما لو كان على نحو التقييد كذلك ففي صحته حينئذٍ إشكال (*) (١).

______________________________________________________

أتى به لأجلها ، كما إذا توضأ الجنب للأكل ، فإنه إذا أراد الجماع مثلاً لا بدّ في ارتفاع كراهته من أن يتوضأ ثانياً ولا يجزي توضؤه للأكل عن غيره ، والوجه فيه : أنّ الغاية في هذا القسم غير مترتبة على الطهارة ، حيث لا طهارة مع الجنابة أو الحيض أو غيرهما من الأحداث ، فلا تتحقق الطهارة بالوضوء ، ولا أنه طهارة بنفسه لعدم قابلية المحل حينئذٍ ، فالغاية مترتبة على نفس الأفعال الصادرة من المتوضئ ، أعني الوضوء بالمعنى المصدري الإيجادي ، وهو أمر يوجد وينعدم ولا بقاء له حتى يكفي في حصول الغاية الثانية ، فلا مناص من أن يتوضأ ثانياً لمثل رفع الكراهة عن الجماع أو غير ذلك من الغايات المترتبة عليه ، فان مقتضى إطلاق القضية الشرطية في قوله عليه‌السلام « إذا كان الرجل جنباً لم يأكل ولم يشرب حتّى يتوضأ » (٢). وقوله عليه‌السلام : « الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه وأكل وشرب » (٢) بناء على أن المراد به هو الوضوء ، أن الأكل كالجماع سبب مستقل للوضوء ، سواء تحقق معه سبب آخر أم لا. إذن لكل من الغايات المترتبة على وضوء المحدث بالحدث الأكبر وضوء مستقل وهذا معنى عدم التداخل في الأسباب.

التفصيل بين الداعي والتقييد :

(١) حاصل ما أفاده قدس‌سره في المقام هو التفصيل في صحة الوضوء المأتي به‌

__________________

(*) الأظهر الصحة ، ولا أثر للتقييد.

(١) الوسائل ٢ : ٢١٩ / أبواب الجنابة ب ٢٠ ح ٤ ، ١.

١٧

في محل الكلام بين ما إذا كانت الغاية مقصودة للمتوضئ على نحو الداعي إلى العمل فيحكم بصحته ، وما إذا كانت مقصودة على نحو التقييد فيحكم ببطلان الوضوء ، ولتوضيح الكلام في المقام لا بدّ من أن نتعرض إلى موارد صحة التقييد واستحالته في الأفعال الصادرة من المكلفين حتى يتبيّن صحة ما أفاده الماتن قدس‌سره أو سقمه فنقول :

أقسام التقييد :

التقييد قد يرجع إلى متعلق الاعتبار فيقيده بقيد أو قيدين أو أكثر ، ولا إشكال في إمكان ذلك فيما إذا كان المتعلق وهو المبيع مثلاً أمراً كلياً فيوجب تضييق دائرته ، كما إذا باعه مقداراً كلياً من الحنطة وقيّدها بكونها من مزرعة فلانية ، أو كتاب الجواهر المقيد بالطبعة المعيّنة ، وبذلك يتحصّص المبيع بحصّة معينة ، فإذا دفع إلى المشتري ما هو فاقد للقيد لم يكن هذا موجباً لبطلان المعاملة كما لا يوجب الخيار ، بل للمشتري أن يردّه ويطالب البائع بالمبيع ، لأنّ الفاقد لم تقع عليه المعاملة ولم يعتبر ملكاً للمشتري.

وأما إذا كان المتعلق شخصياً ، كما إذا باعه كتاباً مشخّصاً أو عبداً خارجياً على أن يكون الكتاب طبعة كذا ، أو العبد كاتباً مثلاً ، فهذا يستحيل أن يكون من باب التقييد ، لأن المفروض أن المبيع شخصي وجزئي حقيقي لا سعة فيه حتى يقيد ويضيق ، لبداهة أن الكتاب الخارجي المعيّن ليس له قسمان ، وكذا العبد المشخّص الخارجي فإنه جزئي حقيقي فلا معنى للتضييق في مثله ، فالتقييد حينئذٍ مرجعه إلى الاشتراط والتزام البائع بأن يكون الكتاب المعيّن طبع كذا أو العبد المعيّن كذا ، فاذا ظهر عدم كونه واجداً لتلك الصفة ثبت للمشتري الخيار على ما قدمنا الكلام عليه في بحث الخيار (١).

نعم ، لا مانع من التقييد في هذه الصورة أيضاً وإن كان خارجاً عن محل الكلام كما إذا رجع التقييد إلى أصل البيع والاعتبار دون المتعلق والمبيع ، بأن يبيع مثلاً الحنطة المعيّنة على تقدير أن تكون من المزرعة الفلانية ، على أن يكون البيع معلقاً على ذلك‌

__________________

(١) في مصباح الفقاهة ٦ : ٢٢٤.

١٨

بحيث لو لم يكن من المزرعة المذكورة لم يكن بيع أصلاً ، وهذا تقييد في الاعتبار وليس من باب التقييد في المتعلق ، ولا كلام أيضاً في إمكانه ، لأنه لا مانع من تقييد اعتبار الملكية بصورة دون صورة ، إلاّ أنه موجب لبطلان المعاملة حتى فيما إذا ظهر أن المبيع واجد للقيد فضلاً عما إذا ظهر عدم كونه واجداً له ، وذلك لأن التعليق في العقود موجب للبطلان ، وكذلك الحال فيما إذا كان التقييد راجعاً إلى المشتري ، كما إذا باع مالاً بقيمة زهيدة لزيد الهاشمي أو التقي أو الذي يكون ابن عم له حسب عقيدته فان ذلك لا يعقل أن يكون من باب التقييد ، لعدم قابلية الجزئي للتضييق ، فلا مناص من إرجاع ذلك أيضاً إلى الاشتراط ونتيجته تقييد التزام البائع دون البيع بما إذا كان المشتري هاشمياً أو تقياً أو غيرهما من القيود ، وتخلفه يوجب الخيار دون البطلان.

وعلى الجملة : التقييد في الجزئي الحقيقي غير معقول ، ورجوعه إنما هو إلى الاشتراط وهو يوجب الخيار دون البطلان ، فلا معنى وقتئذٍ لوحدة المطلوب وتعدده ، لأنّ أصل البيع متحقق ، والالتزام مشروط ومعلق على وجود القيد ، هذا كله في صورة التقييد.

وأما إذا اعتبر الملكية لزيد على وجه الإطلاق بأن باعه شيئاً بقيمة زهيدة من دون شرط بداعي أنه هاشمي أو تقي أو ابن عمه ، فلا ينبغي الإشكال في أن تخلفه غير موجب للبطلان ، كما أنه لا يوجب الخيار على ما هو الحال في جميع موارد تخلف الدواعي ، وهذا ظاهر.

وقد يكون التقييد راجعاً إلى مقام الامتثال ، كما إذا أتى بالمأمور به مقيداً بقيد ومتخصصاً بخصوصية أو خصوصيتين أو أكثر ، فإن كان المأمور به كلياً طبيعياً ومنطبقاً على المأتي به في الخارج ، فلا إشكال في صحته وسقوط التكليف بذلك عن ذمّته ، وهذا كما إذا قرأ سورة من القرآن في يوم على أنه يوم الجمعة أو غيره من الأيام المتبركة بحيث لو كان عالماً بعدم كونه كذلك لم يمتثل أصلاً ولم يأت بالقراءة ، أو أنه صلّى في مكان على أنه مسجد بحيث لو كان عالماً بالخلاف لم يصل فيه. والوجه في صحّة الامتثال في هذه الموارد : أن المأمور به كلي طبيعي كالقراءة والصلاة من دون‌

١٩

مدخلية القيد المذكور في صحّته ، لأنهما أمران محبوبان سواء أكانتا في يوم الجمعة أو في غيره وسواء وقعتا في المسجد أو في مكان آخر ، فالمأمور به منطبق على القراءة أو الصلاة المتقيّدتين ، وأمّا قصده أن لا يمتثل على تقدير عدم كون المكان مسجداً فهو غير مانع من انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، فاذا فرضنا أن المكلف قد أتى بالمأمور به بما له من القيود والشروط لم يكن أي موجب للحكم ببطلانه وعدم صحّته.

وأمّا إذا كان المأمور به طبيعة خاصة غير منطبقة على الطبيعة المأتي بها في الخارج لتغايرهما وتعدّدهما ، فلا مناص من أن يحكم ببطلانه وعدم فراغ ذمة المكلف عما هو الواجب في حقه في مقام الامتثال ، اللهمّ إلاّ أن يدلّنا دليل على كفايته وجواز الاجتزاء به نظير ما دلّ على كفاية غسل الجمعة عن غسل الجنابة لدلالته على جواز الاكتفاء به عن غسل الجنابة ، وإلاّ فمقتضى القاعدة هو البطلان.

فاذا أتى بصلاة العصر باعتقاد أنه أتى بصلاة الظهر قبلها بحيث لو كان عالماً بعدم إتيانه بالظهر لم يأت بصلاة العصر جزماً بل كان يأتي بصلاة الظهر ، أو أنه أتى بصلاة الفجر قضاءً معتقداً بإتيانه لها أداءً في وقتها ، كما إذا جرت عادته على الإتيان بصلاة الفجر قضاءً بعد الإتيان بها أداءً بحيث لو كان عالماً بعدم إتيانها أداءً لقصد بما أتى به الأداء دون القضاء ، أو أنه أتى بصلاة الظهر باعتقاد أنه لم يأت بها قبل ذلك ، ففي جميع هذه الصور لا بدّ من الحكم ببطلان الصلاة المأتي بها بحسب القاعدة ، فلا يقع ما أتى به عصراً كما أنها لا تحتسب ظهراً في الصورة الأُولى ، ولا صلاة فجر قضائية ولا أدائية في الصورة الثانية ، ولا يحتسب ما أتى به عصراً في الصورة الثالثة ، بل لا بدّ من الحكم بفساد ما أتى به من الصلاة مع قطع النظر عن النص الوارد في الصورة الأُولى ، حيث دلّ على احتسابها ظهراً ، لأنه أربع مكان أربع (١).

إلاّ أن الكلام فيما تقتضيه القاعدة وقد عرفت أنها تقتضي البطلان ، وذلك لتغاير‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩٠ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

٢٠