موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

والقي‌ء والرّعاف والتقبيل بشهوة ومسّ الكلب ومسّ الفرج ، ولو فرج نفسه ومسّ باطن الدُّبر ، والإحليل ، ونسيان الاستنجاء قبل الوضوء والضحك في الصّلاة ، والتخليل إذا أدمى. لكن الاستحباب في هذه الموارد غير معلوم (١) والأولى أن يتوضّأ برجاء المطلوبية ،

______________________________________________________

إطلاقها يشمل مثل ماء الحقنة فيما إذا خرج بعد الاحتقان. وفيه : أن المراد بما يخرج من الطرفين ليس إلاّ خصوص البول والغائط والمني لا الخارج منهما على الإطلاق كما تقدم في المذي وأخواته.

ومنها : المذي ، حيث ذهب ابن الجنيد إلى أن المذي إذا كان من شهوة أوجب الوضوء (١) وقد تقدّم الكلام (٢) على ذلك والجواب عنه فلا نعيد.

فالمتحصل : أن الأخبار الواردة في انتقاض الوضوء بغير البول والغائط وأخواتهما فيما وجد القائل به من أصحابنا يحتمل فيها أمران : الحمل على التقيّة والاستحباب في نفسها ، وإن كان المتعيّن هو الأول لمعارضتها مع الأخبار الدالّة على عدم انتقاض الوضوء بها وموافقتها للعامة كما مر ، كما أنها فيما لا يوجد به القائل من أصحابنا محمولة على التقية فحسب ، هذا على أن الوضوء مما يبتلي به المكلف ثلاث مرات في كل يوم على الأقل ، فلو كان ينتقض بشي‌ء من تلك الأُمور لاشتهر وبان ، وعدم الاشتهار في أمثال ذلك بنفسه دليل على الخلاف.

(١) لما تقدم من أن الأخبار الواردة في انتقاض الوضوء بتلك الأُمور محمولة على التقيّة ، لمعارضتها مع الأخبار الدالّة على خلافها وموافقتها للعامّة كما مرّ.

وربما يورد عليه بأن علاج المتعارضين بحمل أحدهما على التقيّة تصرّف راجع إلى أصالة الجهة ، مع أن المتيقن عند تعارض أصالتي الظهور والجهة سقوط الاولى دون الثانية ، فمع إمكان الجمع العرفي بينهما وإسقاط أصالة الظهور لا وجه لحمل أحدهما‌

__________________

(١) المختلف ١ : ٩٤ المسألة ٥٢.

(٢) في ص ٤٥١.

٤٦١

ولو تبيّن بعد هذا الوضوء كونه محدثاً بأحد النواقض المعلومة كفى ولا يجب عليه ثانياً (١)

______________________________________________________

على التقية ، وحيث إن الأخبار الآمرة بالوضوء بعد المذي أو غيره من الأُمور المتقدِّمة ظاهرة في الوجوب والمولوية ، فمقتضى الجمع بين الطائفتين أن يلغى ظهورها في الوجوب بحملها على الاستحباب لا حملها على التقية كما لا يخفى ، هذا.

والصحيح ما أفاده الماتن قدس‌سره وذلك لأن الروايات الواردة في المقام ليست بظاهرة في الحكم المولوي ، وإنما ظاهرها أن الوضوء يفسد وينتقض بالمذي أو غيره بل بعضها صريح في ذلك فلاحظ. كما أن الأخبار المعارضة لها ظاهرة في نفي الفساد والانتقاض ، وظاهر أن الانتقاض وعدم الانتقاض أمران متناقضان ولا معنى للفساد أو الانتقاض استحباباً. إذن لا بدّ من حمل الطائفة الأُولى على التقية فلا يبقى بذلك معنى ومقتض للحكم بالاستحباب. نعم لا بأس بالتوضؤ برجاء المطلوبية كما في المتن.

(١) إذا بنينا على استحباب الوضوء بعد المذي وغيره من الأُمور المتقدِّمة ، وفرضنا أن المكلف توضأ بعد المذي أو غيره ثم انكشف كونه محدثاً بأحد النواقض المعلومة صحّ وضوءه وكفى في رفع حدثه ، لأنه أتى به صحيحاً وإن اعتقد استحبابه وعدم رافعيته للحدث ، وذلك لأنه من الخطأ في التطبيق وهو غير مضر بصحة الوضوء ، إذ لا يعتبر في صحته قصد رفع الحدث به. وكذا إذا بنينا على عدم استحبابه وفرضنا أن المكلف توضأ برجاء الأمر والمحبوبية الفعليتين ، ثم انكشف أنه محدث بأحد النواقض واقعاً فإنّه يحكم بصحة وضوئه وارتفاع حدثه ، حيث أتى به على وجه صحيح ، والمفروض حدثه ، ووضوءه متعلق للأمر الفعلي واقعاً.

نعم ، قد يستشكل في الحكم بصحته بأنه من العبادات ، ولا يكون العمل عبادة إلاّ إذا قصد به التقرب إلى الله وكان أمراً صالحاً وقابلاً للتقرب به ، فمع احتمال أن العمل لغو وغير مستحب كما هو معنى احتمال الاستحباب وعدمه لم يحرز قابلية العمل للتقرب به ، ومعه لا يمكن الحكم بصحته وكفايته في رفع الحدث.

٤٦٢

كما أنه لو توضأ احتياطاً لاحتمال حدوث الحدث ثم تبيّن كونه محدثاً كفى ولا يجب ثانياً (١).

______________________________________________________

ويرد على ذلك ما قدمناه في محله ، من أن العبادة إنما تمتاز عن بقية الواجبات التوصلية باعتبار إضافتها إلى المولى جلّ شأنه نحو إضافة بعد اشتراكها معها في لزوم الإتيان بذواتها ، وهذا متحقق في المقام ، لأنه أتى بذات العمل وهو الوضوء وقد أضافها إلى الله سبحانه ، حيث أتى بها برجاء استحبابها ومعه لا بدّ من الحكم بصحّته إذ لا يستفاد من أدلّة اعتبار قصد الأمر في العبادات إلاّ إضافتها إلى المولى فحسب وقد ورد في بعض الأخبار : « أن العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه الله عزّ وجلّ فيدخله الله بهما الجنّة » (١) وفي آخر : « إذا كان أول صلاته بنية يريد بها ربّه فلا يضره ما دخله بعد ذلك » (٢) والمفروض أن المكلف في المقام إنما أتى بالوضوء بنية يريد بها ربّه وهذا يكفي في صحته.

ودعوى أنه أتى به مقيداً باستحبابه ، فاذا انكشف عدم كونه مستحباً واقعاً وقع باطلاً لا محالة ، مندفعة بما سيأتي في مورده من أن الوجوب والاستحباب صفتان للأمر الصادر من المولى وليسا من أوصاف العمل المأمور به ، فتقييد العمل بأحدهما لا معنى محصل له ، وغاية الأمر أن يكون الداعي والمحرك له إلى نحو الوضوء هو الاستحباب أو الوجوب بحيث لو كان علم بانتفائه لم يكن يأت به جزماً. إذن فالمقام من تخلف الداعي لا التقييد وتخلف الدواعي غير مضر بصحة العبادة بوجه. والخلاصة أن الوضوء المأتي به برجاء الأمر الفعلي أو الاستحباب الواقعي محكوم بالصحة وهو يكفي في رفع الحدث ، قلنا باستحباب الوضوء بعد الأُمور المتقدِّمة أم لم نقل.

(١) الوجه في ذلك قد ظهر مما سردناه في الفرع المتقدم فلا نطيل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٦١ / أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٧ / أبواب مقدمة العبادات ب ٢٤ ح ٣.

٤٦٣

فصل

في غايات الوضوءات الواجبة وغير الواجبة

فإن الوضوء إمّا شرط في صحّة فعل كالصلاة والطواف (١) وإما شرط في كماله كقراءة القرآن (٢)

______________________________________________________

فصل

في غايات الوضوءات الواجبة وغير الواجبة‌

(١) لوضوح أنّ الوضوء شرط لصحّة الصلاة والطواف ، لا أنه شرط لوجوبهما ويدلّ عليه جملة وافرة من النصوص منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) ومنها : ما رواه علي بن مهزيار في حديث « أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلاّ ما كان في وقت ، وإذا كان جنباً أو على غير وضوء أعاد الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته .... » (٢) ومنها حديث لا تعاد (٣) ومنها غير ذلك من النصوص ، هذا بالإضافة إلى الصلاة.

وأما الطواف فمن جملة الأخبار الواردة فيه صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أحدهما عليهما‌السلام عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور ، قال : يتوضّأ ويعيد طوافه ... » (٤) ومنها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام « سألته عن رجل طاف ثم ذكر أنه على غير وضوء؟ قال : يقطع طوافه ولا يعتد به » (٥) إلى غير ذلك من النصوص.

(٢) وليس شرطاً في صحتها ، ويدلُّ عليه رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٣٧٠ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٤ ، ٨.

(٤) ، (٥) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٣ ، ٤.

٤٦٤

وإمّا شرط في جوازه كمس كتابة القرآن (١) أو رافع لكراهته كالأكل (٢)

______________________________________________________

( عليه‌السلام ) قال : « سألته : أقرأ المصحف ثم يأخذني البول فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟ قال : لا ، حتى تتوضّأ للصلاة » (١) ورواية الصدوق في الخصال في حديث الأربعمائة عن علي عليه‌السلام « لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهر « طهور » حتى يتطهّر » (٢) وفيما رواه أحمد بن فهد في عدة الداعي « أن قراءة القرآن متطهراً في غير صلاة خمس وعشرون حسنة ، وغير متطهر عشر حسنات » (٣).

نعم ، الاستدلال بهذه الأخبار على استحباب التوضؤ لقراءة القرآن مبني على التسامح في أدلّة السنن ، لضعف أسانيدها. ثم إن مقتضى الروايتين السابقتين وإن كان كراهة القراءة على غير وضوء لا استحبابها مع الوضوء ، إلاّ أنهما تدلاّن على أن القراءة من غير وضوء أقل ثواباً من القراءة مع الوضوء لوضوح أن القراءة على غير وضوء إذا كانت مكروهة فالقراءة مع الوضوء أفضل وأكمل منها من غير وضوء فالنتيجة أن القراءة مع الوضوء أكمل وأكثر ثواباً من غيره.

(١) كما يأتي عليه الكلام (٤).

(٢) الظاهر أن في العبارة سقطاً ، والصحيح : كالأكل للجنب ، أو أن المراد بها بيان مورد الكراهة على سبيل الموجبة الجزئية ، وذلك لعدم دلالة الدليل على كراهة الأكل قبل التوضؤ إلاّ بالإضافة إلى الجنب كما يأتي في محله ، وأما ما في جملة من الأخبار من أن الوضوء قبل الطعام وبعده يذيبان الفقر (٥) أو أنهما يزيدان في الرزق (٦) وأن من سرّه أن يكثر خير بيته فليتوضّأ عند حضور طعامه (٧) وغير ذلك من المضامين الواردة في‌

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٩٦ / أبواب قراءة القرآن ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٦ : ١٩٦ / أبواب قراءة القرآن ب ١٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٦ : ١٩٦ / أبواب قراءة القرآن ب ١٣ ح ٣.

(٤) في ص ٤٧٣.

(٥) ، (٦) ، (٧) الوسائل ٢٤ : ٣٣٤ / أبواب آداب المائدة ب ٤٩ ح ١ ، ٢ ، ٣.

٤٦٥

الأخبار ، فلا دلالة له على كراهة الأكل قبل الوضوء ، لأنها لو دلت فإنما تدل على استحباب الوضوء قبل الطعام وبعده. على أن المراد بالوضوء في تلك الروايات ليس هو الوضوء بالمعنى المصطلح عليه وإنما المراد به هو المعنى اللغوي أعني التنظيف والاغتسال والقرينة على ذلك أُمور :

منها : ما دلّ على أن التوضّؤ جميعاً بعد الطعام أمر فارق بين المشركين والمسلمين كصحيحة الوليد قال : « تعشينا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ليلة جماعة فدعى بوضوء فقال : تعال حتى نخالف المشركين نتوضأ جميعاً » (١) وذلك لبداهة أن المشركين لا يتوضّؤون بالمعنى المصطلح عليه فرادى بعد الطعام ، ليكون التوضّؤ جميعاً بعد العشاء خلافاً للمشركين.

ومنها : الترغيب والحث على التوضؤ بعد الطعام جميعاً في طشت واحد كما في جملة من الروايات منها : الرواية المتقدِّمة ، ومنها : رواية الفضل بن يونس قال : « لما تغدى عندي أبو الحسن عليه‌السلام وجي‌ء بالطشت بدأ به وكان في صدر المجلس فقال : ابدأ بمن على يمينك فلما توضأ واحد أراد الغلام أن يرفع الطشت ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : دعها واغسلوا أيديكم فيها » (٢) وما رواه البرقي في المحاسن عن عبد الرحمن بن أبي داود قال : « تغدينا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فأتى بالطشت فقال : أما أنتم يا أهل الكوفة فلا تتوضؤون إلاّ واحداً واحداً ، وأما نحن فلا نرى بأساً أن نتوضّأ جماعة قال : فتوضأنا جميعاً في طشت واحد » (٣). والوجه في الاستشهاد بها أن التوضّؤ بالمعنى المصطلح عليه لم يثبت وجوبه ولا رجحانه قبل الطعام أو بعده لعدم دلالة دليل عليه فلا معنى للحث عليه جماعة في طشت واحد والترغيب إلى تركه منفرداً ، اللهمّ إلاّ أن يراد به معناه اللغوي وهو المدعى.

ومنها : الأخبار الدالّة على أن صاحب المنزل أول من يتوضأ قبل الطعام وآخر من يتوضّأ بعده ، كرواية محمّد بن عجلان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الوضوء‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٢٤ : ٣٤٢ / أبواب آداب المائدة ب ٥١ ح ٤ ، ٢ ، ٣.

٤٦٦

أو شرط في تحقق أمر كالوضوء للكون على الطهارة (١) أو ليس له غاية كالوضوء الواجب بالنذر ، والوضوء المستحب نفساً إن قلنا به كما لا يبعد (٢).

______________________________________________________

قبل الطعام يبدأ صاحب البيت ... » (١) ورواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : « صاحب الرحل يتوضأ أول القوم قبل الطعام وآخر القوم بعد الطعام » (٢) وذلك لعدم دلالة دليل على استحباب أن يكون رب البيت أوّل مَنْ يتوضّأ بالمعنى المصطلح عليه قبل الطعام وآخر من يتوضّأ بعده ، وعليه فالمراد بالتوضّؤ في تلك الروايات هو التنظيف والتغسيل كما هو معناه اللغوي ، وبذلك صرح في رواية الموسوي قال قال هشام : « قال لي الصادق عليه‌السلام : والوضوء هنا غسل اليدين قبل الطعام وبعده » (٣).

(١) يتضح الكلام في ذلك مما نبينه في التعليقة الآتية.

(٢) قد مثّل للوضوء الذي لا غاية له بأمرين :

أحدهما : الوضوء الواجب بالنذر ، لأنه لا يعتبر في الإتيان به قصد الغاية. وفيه : أن نذر الوضوء يتوقف صحته على أن يكون الوضوء مستحباً في نفسه ، لوضوح أن النذر لا يشرع به ما ليس بمشروع في نفسه ، فلا مناص من أن يكون متعلقه راجحاً ومشروعاً مع قطع النظر عن النذر المتعلق به ، وما لم يثبت رجحانه كذلك لم يصح نذره. إذن لا معنى لعدّ ذلك قسماً آخر في مقابل الوضوء المستحب نفساً.

وثانيهما : الوضوء المستحب نفساً على القول به كما لم يستبعده الماتن قدس‌سره وعن جماعة إنكار الاستحباب النفسي للوضوء وأنه إنما يتصف بالاستحباب فيما إذا أتى به لغاية من الغايات المستحبة ، وأما الإتيان به بما هو مشتمل على الغسلتين والمسحتين في قبال ما يؤتي به لغاية من الغايات فلم تثبت مشروعيته.

والصحيح أن الوضوء مستحب في نفسه وفاقاً للماتن قدس‌سره وهذا لا‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٢٤ : ٣٣٩ / أبواب آداب المائدة ب ٥٠ ح ١ ، ٧.

(٣) الوسائل ٢٤ : ٣٣٨ / أبواب آداب المائدة ب ٤٩ ح ١٦.

٤٦٧

للحديث القدسي المروي في إرشاد الديلمي قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول الله سبحانه : من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضأ وصلّى ركعتين ودعاني ولم أُجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست برب جاف » (١) ولا للمرسلة المرويّة عن الفقيه : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (٢) ولا لرواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا » (٣) وذلك لعدم قابليتها للاستدلال بها لضعفها.

بل لقوله عزّ من قائل ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٤) بضميمة الأخبار الواردة في أن الوضوء طهور (٥) وذلك لأن الآية المباركة دلتنا على أن الطهارة محبوبة لله سبحانه ، ولا معنى لحبه إلاّ أمره وبعثه ، فيستفاد منها أن الطهارة مأمور بها شرعاً. والمراد بالطهارة في الآية المباركة ما يعم النظافة العرفية ، وذلك لما ورد فيما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قول الله عزّ وجلّ ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) من أن الناس كانوا يستنجون بالكرسف‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٨٢ / أبواب الوضوء ب ١١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ١٠ ، ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

(٤) البقرة ٢ : ٢٢٢.

(٥) يستفاد ذلك من مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور » الوسائل ٢ : ٢٠٣ / أبواب الجنابة ب ١٤ ح ٢ ، ١ : ٣٧٢ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ١ ، ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١. وصحيحته الأُخرى « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور ... » الوسائل ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨. وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود » الوسائل ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١ ، ٦ : ٣٨٩ / أبواب السجود ب ٢٨ ح ٢. وما رواه الصدوق في العيون والعلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام قال : « إنما أُمر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهراً » الوسائل ١ : ٣٦٧ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٩ ، إلى غير ذلك من الأخبار التي لا يسع المجال استقصاءها.

٤٦٨

والأحجار ثم أُحدث الوضوء وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله وصنعه ، فأنزل الله في كتابه ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (١) وفي بعض الأخبار إن الناس كانوا يستنجون بالأحجار ، فأكل رجل من الأنصار طعاماً فلان بطنه فاستنجى بالماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ويقال إن هذا الرجل كان البراء بن معرور الأنصاري (٢) فان الاستنجاء بكل من الماء والأحجار وإن كان نظافة شرعية ، إلاّ أن الاستنجاء بالماء يزيد في التنظيف لأنه يذهب العين والأثر ، والأحجار لا تزيل إلاّ العين فحسب. فالآية المباركة دلّت على أن الله يحب التطهير بالماء ، وحيث إن ورود الآية في مورد لا يوجب اختصاصها بذلك المورد ، فيتعدى عنه إلى مطلق النظافات العرفية والشرعية. وعلى الجملة استفدنا من الآية المباركة إن النظافة بإطلاقها محبوبة لله وأنها مأمور بها في الشريعة المقدّسة. ويؤيده ما ورد من أن النظافة من الايمان (٣) هذا كله في كبرى محبوبية الطهارة شرعاً.

وأمّا تطبيقها على الوضوء ، فلأنّ الطهارة اسم لنفس الوضوء أعني المسحتين والغسلتين ، لا أنها أثر مترتب على الوضوء كترتب الطهارة على الغسل في تطهير المتنجِّسات ، فإذا قلنا الصلاة يشترط فيها الطهارة فلا نعني به أن الصلاة مشروطة بأمرين ، وإنما المراد أنها مشروطة بشي‌ء واحد وهو الغسلتان والمسحتان المعبّر عنهما بالطهارة ، وعلى هذا جرت استعمالاتهم فيقولون : الطهارات الثلاث ويريدون بها الوضوء والتيمم والغسل.

لا يقال : الطهارة أمر مستمر ولها دوام وبقاء بالاعتبار ، وليس الأمر كذلك في الوضوء لأنه يوجد وينصرم ، فكيف تنطبق الطهارة على الوضوء.

لأنه يقال : الوضوء كالطهارة أمر اعتبر له الدوام والبقاء ، ويستفاد هذا من جملة‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٣٥٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٤ ح ٤ ، ٣.

(٣) نهج الفصاحة : ٦٣٦ / ٣١٦١.

٤٦٩

من الروايات :

منها : ما في صحيحة زرارة : « الرجل ينام وهو على وضوء » (١) وذلك لأنه لو لم يكن للوضوء استمرار ودوام كما إذا فسّرناه بالمسحتين والغسلتين بالمعنى المصدري فما معنى أن الرجل ينام وهو على وضوء ، إذ الأفعال توجد وتنصرم وكون الرجل على وضوء فرع أن يكون الوضوء أمراً مستمراً بالاعتبار. وبعبارة اخرى : أن ظاهر قوله « وهو على وضوء » أن الرجل بالفعل على وضوء ، نظير ما إذا قيل زيد على سفر فإنّه إنّما يصح إذا كان بالفعل على سفر ومنه قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ) (٢) وقوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) (٣) أي كنتم كذلك بالفعل ، وهذا لا يستقيم إلاّ إذا كان المرتكز في ذهن السائل أن الوضوء له بقاء ودوام في الاعتبار. ونظيرها رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقض فلا يلومنّ إلاّ نفسه » (٤) ومرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام « إني لأعجب ممن يأخذ في حاجة وهو على وضوء كيف لا تقضى حاجته ... » (٥) وغيرهما من الأخبار.

ومنها : الأخبار الواردة في اشتراط الوضوء في الطواف ، كصحيحتي محمّد بن مسلم وعلي بن جعفر المتقدِّمتين (٦) وغيرهما ، حيث دلّتنا تلك الروايات على أن الإنسان قد يكون على وضوء وقد يكون على غير وضوء ، ولا معنى لذلك إلاّ أن يكون للوضوء كالحدث والطهارة دوام عند الشارع.

ومنها : ما هو أصرح من السابقتين ، وهو الأخبار الواردة في أن الرعاف والقي‌ء والقلس والمذي والوذي والودي وأمثال ذلك مما ورد في الأخبار غير ناقض‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٨٣.

(٣) النساء ٤ : ٤٣.

(٤) الوسائل ١ : ٣٧٤ / أبواب الوضوء ب ٦ ح ١ ، ٢.

(٥) الوسائل ١ : ٣٧٤ / أبواب الوضوء ب ٦ ح ١ ، ٢.

(٦) في ص ٤٦٤.

٤٧٠

أما الغايات للوضوء الواجب فيجب للصلاة الواجبة أداء أو قضاء عن النفس أو عن الغير (١)

______________________________________________________

للوضوء (١) وأن البول والغائط والنوم والمني ناقض له (٢) والوجه في صراحتها في المدعى : أن النقض إنما يتصوّر في الأمر الباقي والمستمر ، وأما ما لا وجود له بحسب البقاء فلا معنى لنقضه وعدم نقضه ، فمن هذا كلّه يظهر أن الغسلتين والمسحتين لا بالمعنى المصدري الإيجادي أمران مستمران ، وهما المأمور به فيما يشترط فيه الطهارة ، وهما المعبّر عنهما بالطهارة في عبارات الأصحاب كما تقدم ، فالوضوء بنفسه مصداق للطهارة والنظافة تعبداً ، فتشملها الكبرى المستفادة من الآية المباركة وهي محبوبية النظافة في الشريعة المقدسة وكونها مأموراً بها من قبله. فمن مجموع الآية والأخبار نستفيد أن الوضوء بنفسه من غير أن يقصد به شي‌ء من غاياته أمر محبوب ومأمور به لدى الشرع ، كما أنه كذلك عند قصد شي‌ء من غاياته ، فلا مانع من أن يتعلق به النذر وأن يؤتى به لذاته من غير نذر ولا قصد شي‌ء من الغايات المترتبة عليه.

وبما ذكرناه ظهر أن قصد الكون على الطهارة هو بعينه قصد الكون على الوضوء لا أنه قصد أمر آخر مترتب على الوضوء ، لما عرفت من أن الوضوء هو بنفسه طهارة لا أن الطهارة أمر يترتب على الوضوء ، فمن قصد الوضوء فقد قصد الكون عليه فلا وجه لعد الكون على الطهارة من الغايات المترتبة على الوضوء.

(١) للأخبار الكثيرة ، وقد أسلفنا شطراً منها (٣) فلاحظ ، ولقوله عزّ من قائل ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) (٤).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٦٠ / أبواب نواقض الوضوء ب ٦ ، ٧ ، ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢ ، ٣.

(٣) في ص ٤٦٤.

(٤) المائدة ٥ : ٦.

٤٧١

ولأجزائها المنسيّة (١) بل وسجدتي السهو على الأحوط (*) (٢) ويجب أيضاً للطواف الواجب (٣) وهو ما كان جزءاً للحج أو العمرة ، وإن كانا مندوبين (٤) فالطواف المستحب ما لم يكن جزءاً من أحدهما لا يجب الوضوء له (٥) نعم هو شرط في‌

______________________________________________________

(١) كالسجدة الواحدة والتشهد فإنّه لا بدّ من قضائها على كلام في التشهّد بمعنى أن الأجزاء المنسية يؤتى بها بعد الصلاة ، فقضاؤها بمعنى الإتيان بها كما هو معنى القضاء بحسب اللغة (٢). والوجه في وجوب الوضوء للأجزاء المنسية من الصلاة كما قدمناه في الكلام على اشتراط الطهارة في الصلاة (٣) هو أن الأجزاء المنسية هي بعينها الأجزاء المعتبرة في الصلاة ، وإنما اختلّ محلها وأُتي بها بعد الصلاة ، فما دلّ على اعتبار الوضوء في الصلاة وأجزائها هو الدليل على اعتباره في الأجزاء المنسية ، لأنها هي هي بعينها.

(٢) وأما على الأظهر فلا ، لأن سجدتي السهو خارجتان عن الصلاة وليستا من أجزائها ، وإنما وجبتا لنسيان شي‌ء مما اعتبر في الصلاة ، ومن هنا لا تبطل الصلاة إذا لم يؤت بهما بعد الصلاة ، وعليه لا يشترط الوضوء فيهما إلاّ على سبيل الاحتياط.

(٣) كما دلت عليه صحيحتا محمد بن مسلم وعلي بن جعفر المتقدِّمتان (٤) وغيرهما من النصوص.

(٤) ادعي الإجماع على أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، ويدلُّ عليه قوله عزّ من قائل ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (٥) ولم نقف على ما يدل عليه من الأخبار.

(٥) دلّت على ذلك صحيحة محمد بن مسلم المتقدِّمة حيث ورد فيها « عن رجل‌

__________________

(*) وإن كان الأظهر عدم وجوبه فيهما.

(١) كما في المصباح المنير : ٥٠٧.

(٢) شرح العروة ٣ : ٢٣٧.

(٣) في ص ٤٦٤.

(٤) البقرة ٢ : ١٩٦.

٤٧٢

صحّة صلاته. ويجب أيضاً بالنذر (١) والعهد واليمين ، ويجب أيضاً لمس كتابة القرآن إن وجب بالنذر أو لوقوعه في موضع يجب إخراجه منه ، أو لتطهيره إذا صار متنجساً (٢) وتوقف الإخراج أو التطهير على مس كتابته ، ولم يكن التأخير بمقدار الوضوء موجباً لهتك حرمته.

______________________________________________________

طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور قال : يتوضأ ويعيد طوافه ، وإن كان تطوعاً توضّأ وصلّى ركعتين » (١) ونظيرها غيرها من الأخبار الواردة في المقام ، نعم يعتبر الوضوء في صلاة الطواف ، وبهذه الأخبار يقيد المطلقات الدالّة على أن الطواف يعتبر فيه الوضوء.

(١) بناء على ما هو الصحيح من استحباب الوضوء في نفسه ، وأما إذا أنكرنا استحبابه كذلك فلا ينعقد النذر به إلاّ إذا قصد به شي‌ء من غاياته.

(٢) والجامع ما إذا وجب مس الكتاب ، والكلام في هذه المسألة يقع من جهات :

الاولى : هل يحرم مس كتابة القرآن من غير وضوء؟ المشهور بين المتقدِّمين والمتأخِّرين حرمة المس من غير طهر ، بل عن ظاهر جماعة دعوى الإجماع في المسألة ، وخالفهم في ذلك الشيخ (٢) وابن البراج (٣) وابن إدريس (٤) والتزموا بكراهته. وعن جملة من متأخري المتأخرين الميل إليه ، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

وهذا لا لقوله عزّ من قائل ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٥) لأن معنى الآية المباركة أن الكتاب لعظمة معاني آياته ودقة مطالبه لا ينال فهمها ولا يدركها إلاّ من طهّره الله سبحانه ، وهم الأئمة عليهم‌السلام لقوله سبحانه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٧٤ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٣.

(٢) المبسوط ١ : ٢٣.

(٣) المهذب ١٤ : ٣٢ وفيه : وأمّا المندوب فهو ما يقصد به مسّ المصحف.

(٤) لاحظ السرائر ١ : ١١٧.

(٥) الواقعة ٥٦ : ٧٩.

٤٧٣

الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) وليست لها أية دلالة على حصر جواز المس للمتطهر ، لأن المطهَّر غير المتطهِّر وهما من بابين ، ولم يرَ إطلاق المطهر على المتطهر كالمغتسل والمتوضي في شي‌ء من الكتاب والأخبار. على أن الضمير في يَمَسُّهُ إنما يرجع إلى الكتاب المكنون وهو اللّوح المحفوظ ، ومعنى أن الكتاب المكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون هو ما قدّمناه من أنه لا يناله ولا يصل إلى دركه إلاّ الأئمة المعصومون عليهم‌السلام. أذن الآية أجنبية عن المقام بالكلية ، هذا كلّه بالإضافة إلى نفس الآية المباركة.

وأما بالنظر إلى ما ورد في تفسيرها ، ففي رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنباً ولا تمس خطّه ، ولا تعلّقه ، إن الله تعالى يقول ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) » (٢) ومقتضى هذه الرواية أن الضمير في يَمَسُّهُ راجع إلى الكتاب الموجود بين المسلمين وأن المراد بالمس هو المس الظاهري ، إلاّ أنها غير قابلة للاستدلال بها لضعف سندها من وجوه منها : أن الشيخ رواها بإسناده عن علي بن حسن بن فضال وطريق الشيخ إليه ضعيف. بل ودلالتها أيضاً قابلة للمناقشة ، وذلك لأنها قد اشتملت على المنع من تعليق الكتاب ومس ظاهره من غير طهر ، وحيث لا قائل بحرمة التعليق من غير وضوء فلا مانع من أن يجعل ذلك قرينة على إرادة الكراهة من النهي ولو بأن يقال : إن الكتاب لمكان عظمته وشموخ مقاصده ومداليله لا يدركه غير المعصومين عليهم‌السلام ولذا يكره مسه وتعليقه من غير طهر. إذن لا يمكن الاستناد إلى الرواية في الحكم بحرمة المس وإرجاع الضمير إلى الكتاب الموجود بين المسلمين. ولا لرواية حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان إسماعيل بن أبي عبد الله عنده فقال : يا بني اقرأ المصحف فقال : إني لست على وضوء فقال : لا تمس الكتابة‌

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٨٤ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٣.

٤٧٤

ومس الورق وأقرأه » (١) وذلك لإرسالها.

بل لموثقة أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء؟ قال : لا بأس ولا يمس الكتاب » (٢) فان دلالتها على ما ذهب إليه المشهور من حرمة مس كتابة القرآن على غير المتطهر غير قابلة للمناقشة.

الجهة الثانية : هل ينعقد النذر بمس الكتاب؟ قد يقال إن صحة نذر المس يتوقف على رجحانه في نفسه ولا رجحان في مس الكتاب. وفيه أن بعض أفراد المس وإن كان كذلك إلاّ أن من أفراده ما لا شبهة في رجحانه ، كما إذا نذر مس الكتاب بتقبيله لأنه كتقبيل الضرائح المقدسة ويد الهاشمي ، أو مَن قصد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعظيم للشعائر ولا تأمل في رجحانه.

الجهة الثالثة : إذا بنينا على عدم استحباب الوضوء في نفسه ، فهل يصح أن يؤتى به لغاية المس؟ قد يقال إن الغاية وما يتوقف عليه الوضوء ليس هو المس نفسه بل الغاية جواز المس ومشروعيته فليست الغاية فعلاً اختيارياً صادراً من المكلفين وإنما هي حكم شرعي ، وحيث إن الوجوب الغيري لا يتعلق إلاّ بما هو مقدّمة للفعل الصادر من المكلفين ، وليس الأمر في المقام كذلك لما عرفت ، فلو وجب المس بالنذر أو بغيره لم يكن ذلك الوجوب كافياً في تشريع الوضوء والأمر به (٣).

ويرد عليه : أن مقدمة الواجب قد تكون مقدّمة لذات الواجب وقد تكون مقدّمة للواجب بوصف الوجوب ، وكلتاهما مقدّمة للواجب ، ومن هنا ذكرنا في التكلم على وجوب مقدمة الواجب وعدمه أن مقدّمات الصحّة أيضاً داخلة في محل الكلام ، مع أنها ليست مقدّمة لوجود الواجب وذاته كتطهير البدن والثياب بالنسبة إلى الصلاة فلا فرق بين مقدّمة ذات الواجب ومقدمة الواجب بوصف الوجوب ، فعلى القول بوجوب مقدّمة الواجب يتصف كلتا المقدمتين بالوجوب ، ولا مانع على ذلك من أن‌

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٣٨٣ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٢ ، ١.

(٣) كما في المستمسك ٢ : ٢٧٣.

٤٧٥

وإلاّ وجبت المبادرة من دون الوضوء (١)

______________________________________________________

يقصد بالوضوء خصوص المس الواجب لأنه مقدّمة لحصّة خاصّة منه وهو المس المتصف بالوجوب ، إذ لا يتحقّق إلاّ بالوضوء كما لا تتحقّق الصلاة الواجبة إلاّ بطهارة البدن وغيرها من المقدّمات.

(١) لتزاحم حرمة هتك الكتاب مع حرمة المس من دون وضوء ، وحيث إن الحرمة في الهتك أقوى وآكد فتسقط الحرمة عن المس ويحكم بوجوب المبادرة إلى الإخراج أو التطهير من دون وضوء ، ولا يجب التيمم حينئذ وإن كان ميسوراً للمكلف على وجه لا ينافي المبادرة ولا يستلزم هتك الكتاب ، كما إذا تيمم حال نزوله في البالوعة ، والوجه في ذلك أن التيمم إنما يسوغ عند فقدان الماء حقيقة أو العجز من استعماله ولم تثبت مشروعيته في غير الصورتين ، مثلاً إذا توقف إنقاذ الغريق على دخول المسجد والمكث فيه ، وفرضنا أن المكلف جنب لا يتمكن من الغسل لضيق المجال بحيث لو اغتسل لم يتمكن من إنقاذه ، لم يجز له التيمم لعدم مشروعيته لضيق الوقت بعد كون المكلف واجداً للماء.

بل قد يستشكل في مشروعية التيمم لضيق وقت الصلاة ، لأنه إنما شرع في حق فاقد الماء والعاجز عن استعماله فحسب ، فيحتاج جوازه لضيق الوقت إلى دليل آخر ولا دليل عليه ، هذا.

نعم ، يمكن أن يقال بوجوب التيمم لضيق وقت الصلاة ، للضرورة والإجماع القائمين على أن الصلاة لا تسقط بحال ، وهي مشروطة بالطهور وحيث لا يتمكن المكلف من الغسل أو الوضوء فلا مناص من أن يتيمم للصلاة. ويمكن الاستدلال عليه بقوله عزّ من قائل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (١) أي إلى منتصفه ، لدلالتها على أن الصلاة لا بدّ من إقامتها على كل حال بين حدي الدلوك والغسق ، وحيث أنها مشروطة بالطهور والمكلف غير متمكن من الغسل أو الوضوء‌

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٤٧٦

ويلحق به أسماء الله وصفاته الخاصّة (١) دون أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام وإن كان أحوط ، ووجوب الوضوء في المذكورات ما عدا النذر وأخويه إنما هو على تقدير كونه محدثاً وإلاّ فلا يجب. وأما في النذر وأخويه فتابع للنذر ، فان نذر كونه على الطهارة لا يجب إلاّ إذا كان محدثاً ، وإن نذر الوضوء التجديدي وجب وإن كان على وضوء.

______________________________________________________

ولو لضيق وقت الصلاة ، فدلت الآية المباركة على وجوب التيمم في حقه إذ لا تتحقق الصلاة المأمور بها من دونه. نعم لا دليل على مشروعيته لضيق الوقت في غير الصلاة. والمتحصل أن ما ذكره الماتن من وجوب المبادرة من دون الوضوء هو الصحيح ولا يجب عليه التيمم لما عرفت.

(١) إن اعتمدنا في الحكم بحرمة مس الكتاب على موثقة أبي بصير المتقدِّمة (١) لم يمكننا الحكم بحرمة المس في غيره ، لاختصاص الموثقة بالكتاب ولا سبيل لنا إلى ملاكات الأحكام الشرعية لنتعدى عنه إلى غيره.

وأما لو كان المدرك قوله عزّ من قائل ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) فلا مانع من التعدي إلى أسماء الله وصفاته الخاصة ، لدلالة الآية المباركة على أن المنع عن مس كتابة القرآن إنما هو لكرامته ، فيصح التعدي منه إلى كل كريم ، وأسماء الله وصفاته من هذا القبيل. بل لازم ذلك التعدي إلى أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بل وإلى أبدانهم الشريفة والكعبة المشرفة وغيرها لكرامتها وشرافتها عند الله سبحانه ، وكل ذلك مما لا يمكن الالتزام به ، والذي يسهّل الخطب أن الآية كما تقدم أجنبية عن ما نحن فيه ، والمستند في المنع هو الموثقة وهي تختص بالكتاب ، ومعه فالحكم بإلحاق أسماء الله وصفاته وأسماء الأنبياء والأئمة بالكتاب مبني على الاحتياط.

__________________

(١) في ص ٤٧٥.

(٢) الواقعة ٥٦ : ٧٧ ٧٩.

٤٧٧

[٤٦٦] مسألة ١ : إذا نذر أن يتوضأ لكل صلاة وضوءاً رافعاً للحدث وكان متوضئاً يجب عليه نقضه ثم الوضوء ، لكن في صحة مثل هذا النذر على إطلاقه تأمّل (١).

______________________________________________________

(١) لا إشكال في أن النذر يعتبر الرجحان في متعلقه ، لوضوح أن ما يلتزم الناذر أن يأتي به لله سبحانه لو لم يكن أمراً محبوباً له لم يكن معنى للالتزام بالإتيان به لأجله ، إلاّ أنه لا يعتبر في صحته أن يكون أرجح من غيره ، فلو نذر أن يزور مسلم عليه‌السلام ليلة الجمعة مثلاً صحّ نذره ، لرجحان زيارته ومحبوبيتها عند الله فإنّها زيارة من استشهد لإحياء الشريعة المقدّسة سفارة من الحسين بن علي عليهما‌السلام وإن كانت زيارة الحسين عليه‌السلام أفضل وأرجح من زيارته عليه‌السلام فالنذر لا يعتبر في صحّته سوى الرجحان في متعلقة وإن استلزم ترك أمر آخر أرجح منه.

نعم ، إذا كان للفعل الراجح مقدّمة مرجوحة تلازمه كان الفعل المقيد بها أيضاً مرجوحاً لا محالة فلا يصح النذر في مثله ، وحيث إن الوضوء الرافع للحدث يتوقف على نقض الطهارة في حق المتطهر ، لأن الرفع إعدام بعد الوجود ، ونقض الطهارة أمر مرجوح لاستحباب البقاء على الوضوء في جميع الحالات والأزمنة كما يدل عليه قوله عزّ من قائل ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (١) كان النذر المتعلق به نذر فعل مرجوح لمقدمته فيبطل ، إلاّ إذا كان نقض الطهارة وإحداث الحدث مشتملاً على الرجحان ، كما إذا فرضنا أن البقاء على الطهارة يستتبع الابتلاء بمدافعة الأخبثين وبنينا على كراهتها فان النذر يصح حينئذ لرجحان ما يتوقف عليه الوضوء الرافع للحدث في حق المتطهر أعني نقض الطهارة ، كما أن نذره من المحدث كذلك. وعلى الجملة بطلان النذر في مفروض الكلام مستند إلى المقدمة المرجوحة الملازمة لمتعلقه وليس من جهة استلزامه ترك أمر آخر أرجح منه.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٢.

٤٧٨

[٤٦٧] مسألة ٢ : وجوب الوضوء لسبب النذر أقسام : أحدها : أن ينذر أن يأتي بعمل يشترط في صحّته الوضوء كالصلاة (١).

الثاني : أن ينذر أن يتوضأ إذا أتى بالعمل الفلاني غير المشروط بالوضوء (٢) مثل أن ينذر أن لا يقرأ القرآن إلاّ مع الوضوء (٣) فحينئذ لا يجب عليه القراءة لكن لو أراد أن يقرأ يجب عليه أن يتوضأ. الثالث : أن ينذر أن يأتي بالعمل الكذائي مع الوضوء (٤) كان ينذر أن يقرأ القرآن مع الوضوء ، فحينئذ يجب الوضوء والقراءة. الرابع : أن ينذر الكون على الطهارة (٥). الخامس : أن ينذر أن يتوضأ من غير نظر إلى الكون على الطهارة (٦) وجميع هذه الأقسام صحيح ، لكن‌

______________________________________________________

(١) فالنذر لم يتعلق بالوضوء وإنما يجب الإتيان به لتوقف الفعل المنذور عليه والنذر في هذه الصورة مطلق وهو ظاهر.

(٢) النذر مقيد حينئذ ، لأنه إنما التزم به على تقدير إرادة القراءة مثلاً ولم يلتزم به على نحو الإطلاق ، فيجب عند إرادتها.

(٣) لا تخلو العبارة عن تسامح ظاهر ، لأن الكلام إنما هو في نذر الوضوء مقيداً بشي‌ء لا في نذر ترك القراءة إلاّ مع الوضوء ، وإن كان ما ذكره قدس‌سره عقداً سلبياً لتعلق النذر بالوضوء على تقدير إرادة القراءة حيث إن له عقدين : إيجابياً وهو نذر الوضوء عند إرادة القراءة مثلاً ، وسلبياً لازم له وهو أن لا يقرأ القرآن إلاّ مع الوضوء ، والمراد هو العقد الإيجابي وإن عبّر عنه بما يدل على العقد السلبي. وهو قابل للمناقشة فإن القراءة مستحبة مع الوضوء وعدمه ، وإن كانت القراءة مع الوضوء أرجح من القراءة من غير الوضوء. إذن لا رجحان في ترك القراءة ليتعلق النذر به.

(٤) فيكون متعلق النذر هو الوضوء مع الفعل الآخر.

(٥) أي ينذر الوضوء لغاية الكون على الطهارة.

(٦) بأن ينذر الإتيان بالوضوء من دون قصد شي‌ء من غاياته ، وهذا يتصوّر على نحوين :

٤٧٩

ربما يستشكل في الخامس من حيث إن صحته موقوفة على ثبوت الاستحباب النفسي للوضوء ، وهو محل إشكال لكن الأقوى ذلك.

[٤٦٨] مسألة ٣ : لا فرق في حرمة مس كتابة القرآن على المحدث بين أن يكون باليد أو بسائر أجزاء البدن ولو بالباطن كمسها باللسان أو بالأسنان (١) والأحوط ترك المس بالشعر أيضاً (*) وإن كان لا يبعد عدم حرمته (٢).

______________________________________________________

أحدهما : أن ينذر الوضوء قاصداً به الطبيعي المنطبق على ما قصد به شي‌ء من غاياته وما لم يقصد به ، ولا ينبغي الاستشكال في صحة ذلك ، لأنه نذر أمر راجح في الشريعة المقدسة وإن قلنا بعدم الاستحباب النفسي في الوضوء ، لأن المتعلق هو الطبيعي الصادق على ما قصد به شي‌ء من الغايات المترتبة عليه ، والوضوء بقصد شي‌ء من غاياته مما لا كلام في استحبابه.

وثانيهما : أن ينذر الوضوء قاصداً به خصوص الحصة التي لا يؤتى بها بقصد شي‌ء من غاياته ، وصحة النذر في هذه الصورة تبتني على القول بالاستحباب النفسي له ، إذ لو لا ذلك كان النذر نذر عمل لا رجحان له فيبطل. وهذا القسم الأخير هو المورد للاستشكال في كلام الماتن « لكن ربما يستشكل في الخامس » دون القسم السابق فلاحظ.

(١) لإطلاق الدليل.

(٢) الصحيح أن يفصّل بين الشعر الخفيف والكثيف ، لأن الشعر القليل غير مانع عن صدق المس بالبدن أو اليد ونحوهما ، فلو مس الكتابة بشعر لحيته الخفيف أو بشعر ذراعه مثلاً صدق أنه مس الكتابة بذراعه أو بوجهه ، فيشمله الدليل الدال على حرمة مس الكتابة من غير طهر ، وأما الشعر الطويل أو الكثيف فلا يصدق على المس به مس الكتابة باليد أو غيرها ، لأنه في حكم المس بالأمر الخارجي وهو غير مشمول للدليل.

__________________

(*) بل الأظهر ذلك فيما إذا عدّ الشعر من توابع البشرة عرفاً ، وأما في غيره فلا بأس بترك الاحتياط.

٤٨٠