موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

مرّتين (١) والأولى أن يطرح (*) فيها التراب من غير ماء ويمسح به ثم يجعل فيه شي‌ء من الماء ويمسح به وإن كان الأقوى كفاية الأول فقط ، بل الثاني أيضاً‌

______________________________________________________

لعدم إمكان جعل الماء الكثير في الإناء ثم تفريغه ، ومعه إنما يرفع اليد عن الإطلاق في صحيحة محمّد بن مسلم في خصوص الغسل بالماء القليل ويبقى إطلاقها في التطهير بالكثير والجاري ونحوهما على حاله ، إذ لا مقتضي لتقييده في الغسل بغير الماء القليل ولعلّنا نعود إلى تتميم هذا البحث بعد ذلك (٢).

(١) هذا هو المعروف بينهم. وعن المفيد في المقنعة أن الإناء يغسل من الولوغ ثلاثاً وسطاهن بالتراب ثم يجفّف (٣) وعن السيد والشيخ قدس‌سرهما في محكي الانتصار والخلاف أنه يغسل ثلاث مرّات إحداهنّ بالتراب (٤). وهذان القولان مما لم نقف له على مستند فيما بأيدينا من الروايات. وعن ابن الجنيد أنه يغسل سبع مرّات أُولاهنّ بالتراب (٥) ويأتي الكلام على مدرك ذلك بعد التعرّض لما هو المختار في المسألة.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

أحدهما : في تطهير ما ولغ فيه الكلب بالماء القليل.

وثانيهما : في تطهيره بالماء العاصم من الكر والجاري ونحوهما.

أمّا المقام الأوّل فالصحيح فيه ما ذهب إليه المشهور من لزوم غسله ثلاث مرات أُولاهن بالتراب وهذا لصحيحة البقباق قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشّاة إلى أن قال فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه ، فقال : لا بأس به ، حتى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله واصبب ذلك الماء‌

__________________

(١) والأظهر أن يجعل في الإناء مقدار من التراب ، ثم يوضع فيه مقدار من الماء فيمسح الإناء به ، ثم يزال أثر التراب بالماء ، ثم يغسل الإناء بالماء مرّتين.

(٢) في ص ٥٤.

(٣) المقنعة : ٦٨.

(٤) الانتصار : ٩ ، الخلاف ١ : ١٧٥ المسألة ١٣٠.

(٥) المختلف ١ : ٣٣٦ المسألة ٢٥٤.

٤١

واغسله بالتراب أول مرّة ثم بالماء مرّتين » (١) بناء على ما نقله المحقق في المعتبر (٢) لأنها على ذلك صريحة فيما سلكه المشهور في المقام.

وأمّا إذا ناقشنا فيما نقله قدس‌سره لعدم نقل الرواية في كتب الأصحاب وجوامع الأخبار كما نقله قدس‌سره حيث إنهم إنما رووها بإسقاط لفظة « مرّتين » فالزيادة محمولة على سهو القلم فالأمر أيضاً كذلك ويعتبر في تطهير الإناء من الولوغ غسله ثلاث مرات أُولاهن بالتراب ، وذلك لموثقة عمار المتقدِّمة لأنها كما تقدّمت مطلقة ومقتضى إطلاقها وجوب غسل الإناء ثلاث مرات سواء تنجس بشي‌ء من النجاسات أو المتنجسات ، وبذلك لا بدّ من رفع اليد عن إطلاق صحيحة البقباق في قوله : « بالماء » وتقييده بثلاث مرات كما هو الحال في صحيحة محمد بن مسلم المتقدِّمة في قوله : « اغسله بالماء » (٣) ونتيجة ذلك أنه لا بدّ من غسل الإناء المتنجِّس ثلاث مرّات مطلقاً من دون تقييد كون أُولاهنّ بالتراب ، ولكن الصحيحة قيدت الغسلة الأُولى بذلك ، فالصحيحة مقيدة للموثقة من جهة والموثقة مقيدة لها من جهة وقد أنتج الجمع بين صحيحتي البقباق ومحمد بن مسلم وموثقة عمار بتقييد بعضها ببعض ، أن الإناء المتنجِّس بالولوغ لا بدّ من غسله ثلاث مرات أُولاهن بالتراب.

وأما ما حكي عن ابن الجنيد فالمستند له أمران :

أحدهما : النبوي « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أُولاهن بالتراب » (٤). وفيه مضافاً إلى أنه نبوي ضعيف السند ، أنه معارض بما في النبويين الآخرين « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات » (٥) وفي أحدهما زيادة « أو خمساً أو سبعاً » (٦) وبما أن التخيير في تطهير المتنجِّس بين الأقل والأكثر مما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ ، ٣ : ٥١٦ / أبواب النجاسات ب ٧٠ ح ١.

(٢) المعتبر ١ : ٤٥٨.

(٣) ولكن نص الرواية « اغسل الإناء ».

(٤) نقله في كنز العمال ٩ : ٣٧٠ عن أحمد والنسائي عن أبي هريرة.

(٥) حاشية ابن مالك على صحيح مسلم ج ١ ص ١٦٢.

(٦) سنن البيهقي ج ١ ص ٢٤٠ عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٢

لا معنى له ، فالرواية تدلنا على أن المعتبر في تطهير الإناء هو الغسل ثلاث مرّات والزيادة تكون مستحبة لا محالة.

وثانيهما : موثقة عمار « عن الإناء يشرب فيه النبيذ ، فقال : تغسله سبع مرّات وكذلك الكلب » (١) ويرد على الاستدلال بها أن المذكور في الموثقة ابتداء هو النبيذ وقد حكم بوجوب غسل الإناء منه سبع مرّات ثم شبّه به الكلب ، ويأتي في محلِّه (٢) أن الإناء إنما يغسل من النبيذ ثلاث مرّات ولا يجب فيه السبع ، ومعه لا بدّ من حمل الزائد على الاستحباب ، وإذا كان هذا هو الحال في المشبه به فلا محالة تكون الحال في المشبّه أيضاً كذلك ، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوب غسل الإناء من الولوغ سبع مرات ، هذا كله في الغسل بالماء القليل.

وأمّا المقام الثاني ولزوم التعدّد أو التعفير في الغسل بالماء العاصم من الكر والجاري وغيرهما فيأتي عليه الكلام عند تعرّض الماتن لحكمه (٣).

بقي الكلام في أُمور :

منها : ما حكي عن المفيد من اعتبار تجفيف الإناء بعد الغسلات (٤) ووافقه عليه جملة من المتأخرين ومتأخريهم ، بل عن الصدوقين أيضاً التصريح به (٥) ولعل المستند في ذلك هو الفقه الرضوي « إن وقع كلب في الماء أو شرب منه أُهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ثم يجفّف » (٦). والصحيح وفاقاً للمشهور عدم اعتبار التجفيف بعد الغسلات ، لأن الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية‌

__________________

في الكلب يلغ في الإناء ، أنه يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً.

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٦٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٠ ح ٢.

(٢) في ص ٤٨.

(٣) في ص ٥٨.

(٤) المقنعة : ٤٨.

(٥) المقنع : ٥٨.

(٦) المستدرك ٢ : ٦٠٢ / أبواب النجاسات ب ٤٥ ح ١ إلاّ أن في فقه الرضا : ٩٣ هكذا « غسل الإناء ثلاث مرات بالماء ومرّتين بالتراب ثم يجفف ».

٤٣

فضلاً عن أن تكون معتبرة. على أن الأمر بالتجفيف فيه إنما جرى مجرى الغالب لأن تجفيف الإناء بعد غسله أمر غالبي ، فما اعتمدوا عليه في ذلك لا يمكن المساعدة عليه سنداً ودلالة.

ومنها : أن الحكم بلزوم غسل الإناء ثلاثاً أُولاهن بالتراب ، هل هو خاص بما إذا شرب الكلب من الماء أو أنه يعم ما إذا شرب من سائر المائعات ولا يعتبر في ذلك أن يكون السؤر ماء؟ الظاهر عدم الاختصاص ، لأن ذيل صحيحة البقباق المتقدِّمة (١) وإن كان يظهر منه اختصاص الحكم بالماء حيث قال : « واصبب ذلك الماء » إلاّ أن صدرها ظاهر الدلالة على عدم الاختصاص ، لأن السؤال فيها إنما هو عن فضل الهرة والكلب وغيرهما من الحيوانات ، والفضل بمعنى ما يبقى من الطعام والشراب وهو أعم من الماء فالحكم عام لمطلق المائعات. وأما ذيل الصحيحة أعني قوله « واصبب ذلك الماء » فإنّما هو بلحاظ الوضوء ، حيث رتّب عليه عدم جواز التوضؤ به ولأجل بيان ذلك قدّم الأمر بصبّ الماء.

ومنها : معنى التعفير ، وهو الذي أشار إليه بقوله « والأولى أن يطرح إلخ » لأن لفظة التعفير وإن لم ترد في شي‌ء من الأخبار إلاّ أن الصحيحة ورد فيها الأمر بالغسل بالتراب ، ومن هنا لا بدّ من التكلم فيما أُريد منه فنقول :

إنّ الغسل بالتراب إمّا أن يكون بمعنى مسح الإناء بالتراب وإنما استعمل فيه الغسل مجازاً بجامع إزالة الوسخ به ، لأنه كما يزول بالغسل بالماء كذلك يزول بالمسح بالتراب وعلى ذلك فالغسل بالتراب معنى مغاير للغسل بالماء ، فيعتبر في تطهير الإناء حينئذ الغسل أربع مرّات إحداها الغسل بالمعنى المجازي ، وذلك لأن موثقة عمار دلّت على لزوم الغسل ثلاث مرات ، وصحيحة البقباق اشتملت على لزوم الغسل بالتراب ، وقد فرضنا أنه أمر مغاير للغسل حقيقة ، ومقتضى هاتين الروايتين أن الإناء يعتبر في تطهيره الغسل أربع مرات إحداها المسح بالتراب.

وإما أن يكون بمعنى الغسل بالماء باستعانة شي‌ء آخر وهو التراب ، فالباء في قوله :

__________________

(١) في ص ٤١.

٤٤

ولا بدّ من التراب فلا يكفي عنه الرماد والأشنان والنورة ونحوها (١) نعم يكفي الرمل (*) (٢).

______________________________________________________

« اغسله بالتراب » للاستعانة كما هو الحال في قولهم : اغسله بالصابون أو الأشنان أو الخطمي ونحوها ، فان معناه ليس هو مسح الثوب بالصابون وإنما هو بمعنى غسله بالماء ولكن لا بوحدته بل بضم شي‌ء آخر إليه ، وعليه فمعنى الغسل بالتراب جعل مقدار من الماء في الإناء مع مقدار من التراب وغسله بالماء بإعانة التراب ، أعني مسح الإناء بالماء المخلوط به التراب كما هو الحال في الغسل بالصابون ونحوه ثم يزال أثر التراب بالماء ، وبذلك يتحقّق الغسل بالتراب عُرفاً.

وهذا هو الصحيح المتعارف في غسل الإناء وإزالة الأقذار العرفية ، وعليه لا يعتبر في تطهير الإناء سوى غسله ثلاث مرات أُولاهن بالتراب ، وذلك لأن الغسل بالتراب على ما ذكرناه أمر غير مغاير للغسل بالماء بل هو هو بعينه بإضافة أمر زائد وهو التراب ، لأن الغسل معناه إزالة الوسخ بمطلق المائع ، وإنما خصصناه بالماء لانحصار الطهور به في الأخباث ، وحيث أنّ الموثقة دلّت على اعتبار الغسل ثلاث مرات من غير تقييد كون أُولاهنّ بالتراب ، فنقيدها بذلك بمقتضى صحيحة البقباق ، والنتيجة أنّ الإناء يعتبر في تطهيره الغسل ثلاث مرّات مع الاستعانة في أُولاهنّ بالتراب.

(١) كالصابون ، وذلك لأنّ ما ورد في صحيحة البقباق المتقدِّمة (٢) إنما هو الغسل بالتراب ، ولم يحصل لنا القطع بعدم الفرق بين التراب وغيره مما يقلع النجاسة ، لاحتمال أن تكون للتراب خصوصية في ذلك ، كما حكي أن مكروبات فم الكلب ولسانه لا تزول إلاّ بالتراب وإن لم نتحقق صحته.

(٢) الوجه في ذلك غير ظاهر ، لأنه إن كان مستنداً إلى جواز التيمم به كالتراب ففيه أنه أشبه شي‌ء بالقياس ، لأن التيمم حكم مترتب على الأرض والصعيد فلا مانع‌

__________________

(*) الظاهر أنه لا يكفي.

(١) في ص ٤١.

٤٥

ولا فرق بين أقسام التراب (١) والمراد من الولوغ شربه الماء ، أو مائعاً آخر بطرف لسانه (٢) ، ويقوى إلحاق لطعه (*) الإناء بشربه. وأما وقوع لعاب فمه فالأقوى فيه عدم اللّحوق وإن كان أحوط ، بل الأحوط إجراء الحكم المذكور في مطلق مباشرته ولو كان بغير اللسان من سائر الأعضاء حتى وقوع شعره أو عرقه في الإناء (٣).

______________________________________________________

من أن يتعدّى فيه إلى الرمل ، لأنه أيضاً من الأرض على كلام فيه ، وأمّا إزالة النجاسة والتطهير فهي أمر آخر مترتب على التراب فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر. وإن كان الوجه فيه هو ما ادعاه بعضهم من أن التراب حسبما يستفاد منه لدى العرف أعم من الرمل ، فيدفعه : أنّ التراب في قبال الرمل فدعوى أنه داخل في مفهومه لا أنه في قباله بعيد غايته. فالصحيح الاقتصار في التعفير على التراب.

(١) لإطلاق الصحيحة من حيث أفراد التراب فيشمل الطين الأرمني والطين الأحمر وغيرهما من أفراده ، فهي وإن كانت خاصة بالتراب إلاّ أنها عامّة من حيث أفراده.

(٢) كما عرفت.

(٣) إن عنوان الولوغ لم يرد في شي‌ء من الأخبار المعتبرة ، نعم ورد في النبويين المتقدِّمين (٢) إلاّ أنهما ضعيفان كما مر ، والعمدة صحيحة البقباق وهي إنما وردت في خصوص الشرب مشتملة على عنوان الفضل ولا تشمل اللطع بوجه ، والتعدي من الشرب إليه يحتاج إلى القطع بعدم الفرق بينهما وهو غير موجود ، لأنه من الجائز أن تكون للشرب خصوصية في نظر الشارع إذ لا علم لنا بمناطات الأحكام الشرعية. وأصعب من ذلك ما إذا لم يشرب الكلب من الإناء ولا أنه لطعه ، وإنما وقع فيه شي‌ء من لعاب فمه لعطسة ونحوها ، فان إلحاق ذلك بالشرب في الحكم بوجوب التعفير‌

__________________

(*) في القوة إشكال ، نعم هو أحوط.

(١) في ص ٤٢.

٤٦

[٣١٣] مسألة ٦ : يجب في ولوغ الخنزير غسل الإناء سبع مرات (١) وكذا‌

______________________________________________________

وغسله ثلاث مرات لا وجه له سوى القطع بوحدة المناط ولا قطع لنا بذلك. وأوضح منهما إشكالاً ما إذا أصاب الكلب الإناء بغير لسانه كيده ورجله وغيرهما من أعضاء جسده ، وذلك لعدم القطع بالتسوية بين الشرب بلسانه وبين اللمس ببقية أعضائه. نعم ورد في رواية الفقه الرضوي المتقدِّم نقلها (١) « إن وقع كلب في الماء أو شرب منه أُهريق الماء ... » وهو صريح في التسوية ، للقطع بأن وقوع الكلب في الإناء بتمام جسده لا خصوصية له ، ووقوعه ببعضه كاف في صدق وقوع الكلب في الإناء الذي يترتب عليه الحكم بالغسل مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ، إلاّ أن الرواية ضعيفة لا يعتمد عليها ولا سيما في المقام ، لذهاب المشهور فيه إلى اختصاص الحكم بالولوغ.

(١) لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام حيث قال : « وسألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرّات » (٢).

وقد يستبعد إيجاب الغسل سبع مرات بأنه عليه‌السلام في صدر الصحيحة قد اكتفى في تطهير الثوب من الأثر المنتقل إليه من الخنزير بمطلق الغسل وطبيعيه حيث قال : « سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع؟ قال : إن كان دخل في صلاته فليمض ، فان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله » ومعه كيف يوجب الغسل سبع مرات في الإناء فان إزالة الأثر من الثوب أصعب من إزالته من الإناء. ويؤيد ذلك باعراض أكثر القدماء عن ظاهر الصحيحة وعدم التزامهم بمضمونها.

ويدفعه : أن الوجوه الاستحسانية والاستبعادات العقلية غير صالحة للركون إليها في الأحكام الشرعية التعبّدية ، لأنه من المحتمل أن تكون للإناء الذي شرب منه‌

__________________

(١) في ص ٤٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٤١٧ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ١.

٤٧

في موت الجرذ وهو الكبير من الفأرة البرية (١) ، والأحوط في الخنزير التعفير قبل السبع أيضاً لكن الأقوى عدم وجوبه (٢).

[٣١٤] مسألة ٧ : يستحب في ظروف الخمر الغسل سبعاً (٣) والأقوى كونها‌

______________________________________________________

الخنزير خصوصية لأجلها اهتم الشارع بشأنه وشدّد الأمر فيه ، بل الأمر كذلك واقعاً لأن الإناء معدّ للأكل والشرب فيه. وأما المشهور فلم يثبت إعراضهم عن الصحيحة بل اعتنوا بشأنها وحملوها على الاستحباب فالاستبعاد في غير محله.

وعلى الجملة يجب في ولوغ الخنزير غسل الإناء سبع مرات كما يجب في ولوغ الكلب ثلاث مرّات ، وإنما الفرق بينهما في أن في ولوغ الكلب لا يجب التعدّد إلاّ إذا غسل بالماء القليل ، لاختصاص الموثقة به ، وإطلاقات الأمر بالغسل في الماء غير القليل تبقى بحالها ، وأما في ولوغ الخنزير فيجب فيه الغسل سبع مرات بلا فرق في ذلك بين الغسل بالماء القليل وبين الغسل بغيره ، وذلك لإطلاق الصحيحة المتقدِّمة فلاحظ.

(١) لموثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ... اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتاً سبع مرات » (١).

(٢) لعدم الدليل عليه ، فان الصحيحة المتقدِّمة غير مقيدة بالتعفير. وقد حكي عن الشيخ في الخلاف إلحاق الخنزير بالكلب مستدلاً عليه بتسميته كلباً في اللغة ومعه لا بدّ من القول بوجوب التعفير فيه (٢) وفيه : أن الخنزير ليس من الكلب في شي‌ء فلو أُطلق عليه أحياناً في بعض الموارد فهو إطلاق مجازي بلا ريب ، ولا يمكن معه إسراء حكم الكلب إليه.

(٣) لموثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن الإناء يشرب فيه النبيذ ، فقال تغسله سبع مرّات وكذلك الكلب » (٣) وموثقته الأُخرى عنه عليه‌السلام « ... في‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٦ / أبواب النجاسات ب ٥٣ ح ١.

(٢) الخلاف ١ : ١٨٦ المسألة ١٤٣.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٦٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٠ ح ٢.

٤٨

كسائر الظروف (*) في كفاية الثلاث (١).

______________________________________________________

قدح أو إناء يشرب فيه الخمر ، قال : تغسله ثلاث مرات ... » (١) لأن مقتضى الجمع بينهما هو الحكم بوجوب الغسل في ظروف الخمر ثلاث مرات واستحباب غسلها سبعاً ، والجمع بينهما بذلك هو الذي يقتضيه الفهم العرفي في أمثال المقام ، وأما الأخذ بالأكثر بأن يؤخذ بالثلاثة التي دلّت عليها إحداهما وتضاف عليها الأربعة التي تضمنتها رواية السبع لتكون النتيجة وجوب الغسل في ظروف الخمر سبع مرات ، فلا يراه العرف جمعاً بين الدليلين.

(١) ما أفاده قدس‌سره من أن ظروف الخمر كسائر الظروف المتنجسة مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن وجوب الغسل ثلاث مرات في سائر الأواني المتنجسة إنما يختص بغسلها في الماء القليل ، وأما إذا غسلت بالماء العاصم فقد تقدمت الإشارة إلى أنه لا يعتبر فيه التعدّد بل يكفي غسلها فيه مرّة واحدة كما يأتي تفصيله عن قريب ، وذلك لمكان الإطلاقات الواردة في غسل الإناء المقتضية لكفاية الغسل مرّة واحدة ، وإنما رفعنا عنها اليد بتقييدها ثلاث مرات لموثقة عمار المتقدِّمة وهي خاصة بالماء القليل ، فالاطلاقات المقتضية لكفاية المرّة الواحدة في الماء العاصم بحالها. وهذا بخلاف الظروف المتنجِّسة بالخمر لأن مقتضى الجمع بين الموثقتين المتقدمتين وجوب غسلها ثلاث مرّات مطلقاً بلا فرق في ذلك بين غسلها بالماء القليل أو بالماء العاصم ، كما أن بذلك نرفع اليد عن المطلقات المقتضية لكفاية مطلق الغسل في الأواني المتنجِّسة بالخمر ومنها صدر الموثقة حيث قال : « سألته عن الدن يكون فيه الخمر ، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال : إذا غسل فلا بأس » بناء على أنها في مقام البيان من هذه الجهة.

__________________

(*) ولكنها تمتاز عنها بلزوم غسلها ثلاث مرات حتى في الماء الجاري والكر.

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٤ / أبواب النجاسات ب ٥١ ح ١ ، ٢٥ : ٣٦٨ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٠ ح ١ ، هذا ولكن في الكافي ٦ : ٤٢٧ / ١ « أو ماء أو كامخ ».

٤٩

[٣١٥] مسألة ٨ : التراب الذي يعفّر به يجب أن يكون طاهراً (*) قبل الاستعمال (١)

______________________________________________________

(١) قد يقال كما قيل إن الوجه في ذلك هو انصراف النص إلى الغسل بالطاهر من التراب إلاّ أنه من الفساد بمكان ، لعدم الفرق بين النجس والطاهر فيما هو المستفاد من النص لو لم ندع أن الغالب في التعفير هو التعفير بالتراب النجس.

فالصحيح في المقام أن يقال : إن الغسل بالتراب إن أُريد به مسح الإناء بالتراب كما هو أحد المحتملين في معنى الغسل به من دون اعتبار مزجه بالماء ، فلا مانع من اعتبار الطهارة في التراب حينئذ ، إما لأجل ما هو المرتكز في الأذهان من عدم كفاية الغسل أو المسح بالمتنجس في التطهير ، متفرعاً على القاعدة المعروفة من أن فاقد الشي‌ء لا يكون معطياً له ، فالتراب المتنجِّس لا يوجب طهارة الإناء المغسول به. وإما لأجل أن التراب طهور للإناء ، وقد مرّ أن الطهور هو ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره فالتراب النجس لا يطهر الإناء.

وأما إذا أُريد به الغسل حقيقة باستعانة التراب كما هو الحال في مثل الغسل بالصابون ونحوه ، لما تقدم من أن معنى ذلك ليس هو مسح المغسول بالصابون مثلاً وإنما معناه غسله بالماء باستعانة الصابون ، فلا وجه لاعتبار الطهارة في التراب ، وذلك لأن التراب ليس بطهور للإناء حينئذ وإنما مطهّره الماء.

وتوضيحه : أن التراب الذي يصب في الإناء ويصب عليه مقدار من الماء ثم يمسح به الإناء ، لا بدّ من أن يزال أثره بالماء بعد المسح ، لوضوح أن مجرد مسح الإناء بالطين أي بالتراب الممتزج بالماء من غير أن يزال أثره بالماء لا يسمى تعفيراً وغسلاً بالتراب ، وعليه فهب أن التراب متنجس والماء الممتزج به أيضاً قد تنجس بسببه إلاّ أن الإناء يطهر بعد ذلك بالماء الطاهر الذي لا بدّ من صبّه على الإناء لازالة أثر التراب عنه وهو جزء متمم للتعفير ثم يغسل بالماء مرّتين ليصير مجموع الغسلات ثلاثاً‌

__________________

(*) على الأحوط.

٥٠

[٣١٦] مسألة ٩ : إذا كان الإناء ضيقاً لا يمكن مسحه بالتراب فالظاهر كفاية جعل التراب (*) فيه وتحريكه إلى أن يصل إلى جميع أطرافه (١) ، وأما إذا كان مما لا يمكن فيه ذلك (٢) فالظاهر بقاؤه على النجاسة أبداً (٣) إلاّ عند من يقول بسقوط التعفير في الغسل بالماء الكثير.

______________________________________________________

فالمطهر هو الماء وهو طاهر في الغسلات الثلاث ، ومعه لا موجب لاعتبار الطهارة في التراب ، ومن هنا ذكرنا في التعليقة أن اشتراط الطهارة في تراب التعفير مبني على الاحتياط.

(١) لأن معنى الغسل بالتراب هو إيصال التراب إلى جميع أجزاء المغسول به ، سواء أكان ذلك بواسطة اليد أو بالخشبة أو بتحريك الإناء. نعم مجرّد التلاقي لا يكفي في تحقق الغسل بالتراب ، بل لا بدّ من وصوله إليه بالضغط فلا يعتبر فيه المسح أو الدلك وما عبّر به هو قدس‌سره وعبّرنا به من المسح لا يخلو عن مبالغة ، وعليه فلو فرضنا أن الإناء ضيّق على نحو لا يدخل فيه اليد أو الإصبع مثلاً ، فلا مانع من تطهيره بإيصال التراب إلى جميع أجزائه بخشبة أو بجعل مقدار من التراب فيه ثم تحريكه شديداً.

(٢) الظاهر أن ذلك مجرّد فرض لا واقع له ، وعلى تقدير الوقوع لا بدّ من فرضه فيما إذا كان فم الإناء وسيعاً أولاً بحيث يتمكن الكلب من الولوغ فيه ثم عرضه الضيق ، إذ لا يتصور الولوغ فيما لم يمكن صب التراب فيه لضيق فمه.

(٣) لأن الأمر بتعفير ما أصابه الكلب في الصحيحة ليس من الأوامر النفسية حتى تسقط بالتعذر ، وإنما هو إرشاد إلى نجاسة الإناء وإلى طهارته بالتعفير ، فوزانه وزان الجملة الخبرية كقولنا : يتنجّس الإناء بالولوغ ويطهر بالتعفير ، وبما أنه مطلق فمقتضاه بقاء الإناء على نجاسته إلى أن يرد عليه المطهّر وهو التعفير ، فاذا فرضنا عدم التمكن منه يبقى على النجاسة إلى الأبد. فما في طهارة المحقق الهمداني قدس‌سره من أن‌

__________________

(*) مع إضافة مقدار من الماء إليه كما تقدم.

٥١

[٣١٧] مسألة ١٠ : لا يجري حكم التعفير في غير الظروف مما تنجس بالكلب ولو بماء ولوغه أو بلطعه (١).

______________________________________________________

المتبادر من مثل قوله عليه‌السلام اغسله بالتراب أول مرّة ثم بالماء ، ليس إلاّ إرادته بالنسبة إلى ما أمكن فيه ذلك ، فالأواني التي ليس من شأنها ذلك خارجة عن مورد الرواية (١) مما لا نرى له وجهاً صحيحاً.

(١) لأنّ العمدة في المقام إنما هو صحيحة البقباق ، وهي إنما دلت على وجوب التعفير في فضل الكلب ، والفضل وإن كان بمعنى الباقي من المأكول والمشروب وهو بإطلاقه يشمل ما إذا كان ذلك في الإناء وما إذا كان في غيره ، إلاّ أن الضمير في قوله عليه‌السلام « واغسله بالتراب ... » غير ظاهر المرجع ، لجواز رجوعه إلى كل ما أصابه الفضل من الثياب والبدن والفرش وغيرها ، كما يحتمل رجوعه إلى مطلق الظروف المشتملة على الفضل ولو كان مثل يد الإنسان فيما إذا اغترف الماء بيده وشرب منه الكلب ، أو الصندوق المجتمع فيه ماء المطر أو غيره إذا شرب منه الكلب كما يمكن رجوعه إلى كل ما جرت العادة بجعل الماء فيه لكونه معداً للأكل والشرب منه وهو المعبّر عنه بالإناء دون مطلق الظروف الشاملة لمثل اليد والصندوق بل الدلو فإنه أُعدّ لأن ينزح به الماء لا لأن يشرب منه ، وهكذا غيرها مما لم تجر العادة بجعل الماء فيه لعدم إعداده للأكل والشرب منه ، وحيث إن مرجع الضمير غير مصرّح به في الصحيحة وهو يحتمل الوجوه المتقدِّمة ، فلا مناص من أن يقتصر فيه على المقدار المتيقن منه وهو الظروف التي جرت العادة بجعل الماء أو المأكول فيها لكونها معدة لذلك ، دون مطلق الظروف ولا مطلق ما يصيبه الفضل كمثل الثوب والبدن وغيرهما مما لم يقل أحد بوجوب التعفير فيه ، وعليه فالحكم يختص بالإناء ولا يأتي في غيره. ويؤيد ما ذكرناه ورود لفظة الإناء في النبويات والفقه الرضوي المتقدِّمة (٢) وإن لم نعتمد عليها لضعفها.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٦٦٠ السطر ٣٣.

(٢) في ص ٤٢ ٤٣.

٥٢

نعم لا فرق بين أقسام الظروف في وجوب التعفير حتى مثل الدلو (*) لو شرب الكلب منه ، بل والقربة والمطهرة وما أشبه ذلك (١).

[٣١٨] مسألة ١١ : لا يتكرّر التعفير بتكرّر الولوغ من كلب واحد أو أزيد بل يكفي التعفير مرّة واحدة (٢).

______________________________________________________

(١) قدّمنا أن الحكم يختص بالظروف المعدّة للأكل والشرب منها ، ولا يشمل مطلق الظروف كالدلو ونحوه لأنه أُعدّ لأن ينزح به الماء ولم يعدّ للأكل أو الشرب منه.

(٢) مقتضى القاعدة على ما حقّقناه في محله (٢) وإن كان عدم التداخل عند تكرّر السبب ، إلاّ أن ذلك خاص بالواجبات نظير كفّارة الإفطار في نهار رمضان فيما إذا جامع مثلاً مرّتين أو جامع وأتى بمفطر آخر ، فإن القاعدة تقتضي وجوب الكفّارة حينئذ مرّتين. وأما في موارد الأوامر الإرشادية وغير الواجبات التي منها المقام فلا مناص فيها من الالتزام بالتداخل ، وذلك لأن الأوامر الإرشادية كالجملات الخبرية ليس فيها اقتضاء للوجود عند الوجود حتى يلتزم بعدم التداخل كما في الأوامر المولوية ، بل مقتضى إطلاقها التداخل وعدم الفرق في ترتّب الحكم على موضوعه بين تحقّق السبب والموضوع مرّة واحدة وبين تحققهما مرّتين أو أكثر. فعلى ذلك إذا شرب الكلب من إناء مرّتين أو شرب منه كلبان مثلاً لم يجب تعفيره إلاّ مرّة واحدة كما هو الحال في غيره من النجاسات ، لوضوح أن البول مثلاً إذا أصاب شيئاً مرّتين لم يجب تطهيره متعدِّداً ، هذا.

على أن الموضوع للحكم بوجوب التعفير في الصحيحة هو الفضل وعدم تعدّده بتعدّد الشرب غير خفي ، ومعه لا وجه لتكرّر التعفير عند تكرّر الولوغ. فبذلك اتضح أن الوجه فيما أفاده الماتن قدس‌سره من عدم تكرّر التعفير بتكرّر الولوغ هو ما ذكرناه لا الإجماع المدعى كما قيل.

__________________

(١) إسراء الحكم إلى ما لا يصدق عليه الإناء مبني على الاحتياط.

(٢) في المحاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٢٤.

٥٣

[٣١٩] مسألة ١٢ : يجب تقديم التعفير على الغسلتين فلو عكس لم يطهر (١).

[٣٢٠] مسألة ١٣ : إذا غسل الإناء بالماء الكثير لا يعتبر فيه التثليث ، بل يكفي مرّة واحدة حتى في إناء الولوغ (٢).

______________________________________________________

(١) لأنه مقتضى الصحيحة المتقدِّمة (١) حيث ورد فيها « واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » وقد أشرنا سابقاً إلى أن ما حكي عن المفيد قدس‌سره من أن الإناء يغسل من الولوغ ثلاثاً وسطاهنّ بالتراب أو إحداهنّ بالتراب كما عن محكي الخلاف والانتصار (٢) من دون تخصيصه بالغسلة الأُولى ممّا لا دليل عليه.

(٢) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

أحدهما : في تطهير الإناء المتنجِّس بغير الولوغ كالمتنجِّس بالخمر أو بولوغ الخنزير أو موت الجرذ فيه وغيره من المتنجِّسات التي يعتبر فيها التعدّد كالثوب المتنجِّس بالبول حيث يجب غسله مرّتين ـ ، ويقع الكلام فيه في أنه إذا غسل بالماء العاصم من الكر والجاري والمطر فهل يعتبر فيه ذلك العدد كما إذا غسل بالماء القليل أو يكفي فيه الغسل مرّة واحدة؟

التحقيق أن المتنجِّسات المعتبر فيها العدد لا يفرق الحال في تطهيرها بين الغسل بالماء القليل وغسلها بغيره من المياه المعتصمة ، وذلك لإطلاق ما دلّ على وجوب غسلها متعدداً فان تقييده بالغسل بالماء القليل مما لم يقم عليه دليل ومعه ، لا بدّ من اعتبار العدد في تطهيرها مطلقاً.

هذا ولكن المعروف بينهم سقوط التعدّد في الغسل بغير الماء القليل ، بل ظاهر الكلام المحكي عن الشهيد قدس‌سره أن المسألة كالمتسالم عليها عندهم ، حيث قال : « لا ريب في عدم اعتبار العدد في الجاري والكثير ... » (٣) وإنما الكلام في مدرك ذلك. وقد استدلوا عليه بوجوه :

__________________

(١) في ص ٤١.

(٢) في ص ٤٠.

(٣) الذكرى : ١٥ السطر ١٦.

٥٤

الأوّل : دعوى انصراف ما دلّ على اعتبار التعدّد إلى الغسل بالقليل ، ومع عدم شموله الغسل بالماء الكثير ونحوه لا مناص من الرجوع فيه إلى المطلقات وهي تقتضي كفاية الغسل مرّة واحدة.

وفيه : أن دعوى الانصراف لا منشأ لها غير غلبة الوجود لغلبة الغسل بالماء القليل ، فان الأحواض المعمولة في زماننا لم تكن متداولة في تلك العصور وإنما كان تطهيرهم منحصراً بالمياه القليلة إلاّ بالإضافة إلى سكنة السواحل وأطراف الشطوط وقد ذكرنا في محله أن غلبة الوجود غير مسببة للانصراف ولا سيما إذا كان المقابل أيضاً كثير التحقّق في نفسه كما هو الحال في المقام ، لأن الغسل بالماء الكثير أيضاً كثير كما في البراري والصحار ولا سيما في أيام الشتاء ، لكثرة اجتماع المياه الناشئة من المطر وغيره في الغدران حينئذ ، فدعوى الانصراف ساقطة.

الثاني : ما أرسله العلاّمة في المختلف (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام مشيراً إلى ماء في طريقه : « إن هذا لا يصيب شيئاً إلاّ طهره ... » (٢) فإنّه يدل على أن مجرد الإصابة كاف في التطهير بالماء الكثير من غير توقفه على الغسل فضلاً عن تعدده ، فان للحديث نوع حكومة ونظر على الأدلّة القائمة على لزوم الغسل في المتنجسات.

ويدفعه : أن الرواية ضعيفة بإرسالها ، ودعوى أنها منجبرة بعمل الأصحاب غير قابلة للإصغاء إليها ، لأنّا لو قلنا بانجبار الرواية الضعيفة بعمل الأصحاب على طبقها فإنّما هو في غير المقام ، لأن هذه الرواية ليس لها عين ولا أثر في جوامع الأخبار ولا في كتب الاستدلال قبل العلاّمة قدس‌سره فأين كانت الرواية قبله؟ وهو إنما ينقلها عن بعض علماء الشيعة ولا ندري أنه من هو؟ نعم قيل إن مراده ابن أبي عقيل إلاّ أنه مجرّد حكاية لم تثبت مطابقتها للواقع ، لاحتمال إرادة غيره فالرواية مرسلة وغير قابلة للانجبار بعملهم.

__________________

(١) هذا وبمراجعة المختلف [ ١ : ١٥ ] ظهر أن مرسلها هو ابن أبي عقيل ، ومن ثمة نسبها إليه النوري في مستدركة حيث قال : العلاّمة في المختلف عن ابن أبي عقيل قال : ذكر بعض علماء الشيعة ... ، وإن كانت الرواية معروفة بمرسلة العلاّمة قدس‌سره وعليه فلا وقع لما قيل من أن مراده ببعض علماء الشيعة هو ابن أبي عقيل فلاحظ.

(٢) تقدّم نقله عن المستدرك في ص ١٤.

٥٥

الثالث : مرسلة الكاهلي « كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (١) حيث دلت على كفاية مجرّد الرؤية في التطهير بماء المطر ، وبعدم القول بالفصل بينه وبين غيره من المياه العاصمة يتم المدعى ، فلا حاجة في التطهير بها إلى تعدد الغسل.

ويندفع هذا أولاً بأنها مرسلة ولا يعتمد في شي‌ء. وثانياً بأن الاتفاق على عدم الفصل بين المطر وغيره لم يثبت بوجه ، فان دعواهم ذلك لا يزيد على الإجماع المنقول بشي‌ء ، بل الدعوى المذكورة معلومة الخلاف ، كيف وقد فصّلوا بين ماء المطر وغيره بعدم اعتبارهم العصر في الغسل بالمطر بخلاف الغسل بغيره من المياه ، وهذا كاشف قطعي عن عدم التلازم بينهما في الأحكام ، فالحكم على تقدير ثبوته خاص بالمطر ولا يمكن تعديته إلى غيره. فلو تنازلنا عن ذلك فغاية الأمر أن نتعدى إلى الجاري فحسب بناء على أن ماء المطر كالجاري كما قيل فان التشبيه على تقدير ثبوته وإن كان من طرف ماء المطر إلاّ أنّا ندعي مماشاة للمستدل أن الجاري أيضاً كالمطر وأن الأحكام المترتبة على أحدهما مترتبة على الآخر إلاّ أن إلحاق غيره كالكثير يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.

الرابع : إطلاق أدلة التطهير بالماء كالآيات والأخبار المتقدمتين في أوائل الكتاب وإطلاق ما دلّ على أن المتنجِّس يطهر بغسله من غير تقييده بمرتين أو أكثر على ما تقدم في البحث عن اعتبار التعدّد في البول (٢) ، فراجع.

ويدفعه : أن العبرة إنما هو بإطلاق دليل المقيد ، وهو ما دلّ على لزوم التعدّد في غسل الثوب المتنجِّس بالبول والإناء المتنجِّس بالخمر أو بولوغ الخنزير أو بوقوع ميتة الجرذ فيه ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق في اعتبار التعدّد بين غسله بالماء القليل وغسله بالكثير.

الخامس : صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله في المِركَن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (٣) بتقريب أن جملة « فإن غسلته في ماء جار فمرة » بيان للمفهوم المستفاد من‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

(٢) في ص ٣٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

٥٦

الجملة السابقة عليها أعني قوله عليه‌السلام « اغسله في المِركَن مرتين » الذي يدل على لزوم التعدّد في غسل المتنجِّس بالبول بالماء القليل ، ويستفاد من مفهومها عدم اعتبار التعدّد فيما إذا غسل بغيره من المياه العاصمة بلا فرق في ذلك بين غسله بالماء الكثير وغسله بالجاري ونحوهما مما لا ينفعل بالملاقاة. وأما تعرضه عليه‌السلام للغسل بالجاري دون الكثير فلعله مستند إلى قلة وجود الماء الكثير في عصرهم عليهم‌السلام فالتصريح بكفاية المرة في الجاري لا دلالة له على اختصاص الحكم به ، بل الجاري وغيره من المياه العاصمة سواء والتعدّد غير معتبر في جميعها.

وهذه الدعوى كما ترى مجازفة ولا مثبت لها ، لأنها ليست بأولى من عكسها ، فلنا أن نعكس الدعوى على المدعي بتقريب أن جملة « اغسله في المِركَن مرّتين » تصريح وبيان للمفهوم المستفاد من الجملة المتأخرة عنها أعني قوله عليه‌السلام « فان غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » إذن تدلنا الصحيحة على أن الغسلة الواحدة تكفي في الجاري خاصة ولا تكفي في غيره من المياه ، بلا فرق في ذلك بين الماء القليل والكثير وإنما صرّح بالغسل بالقليل دون الكثير من جهة قلة وجود الكر في عصرهم عليهم‌السلام لأنه لم يكن يوجد وقتئذ إلاّ في الغدران الواقعة في الصحاري والقفار فالاحتمالان متساويان ولا يمكن الاستدلال بالصحيحة على أحدهما ، فالصحيح أن الصحيحة لا تعرّض لها على كفاية المرّة في الغسل بالكثير إثباتاً ولا نفياً.

السادس : ما ورد في صحيحة داود بن سرحان (١) من أن ماء الحمام بمنزلة الماء الجاري ، وتقريب دلالتها على المدعى أن المياه الكائنة في الحياض الصغار مع أنها ماء قليل إنها نزلت منزلة الماء الجاري الذي يكفي فيه الغسل مرة واحدة لاعتصامها بمادتها أعني الماء الموجود في الخزانة وهو كثير ، إذن فنفس المادة التي هي الماء الكثير أولى بأن تنزّل منزلة الجاري في كفاية الغسل مرة واحدة ، وعلى ذلك فالكثير كالجاري بعينه ولا يعتبر فيه التعدّد.

ويرد على هذا الاستدلال : أن التنزيل في الصحيحة إنما هو بلحاظ الاعتصام وهو الذي نطقت به جملة من الروايات ، وليس من جهة أن ماء الحمام حكمه حكم الجاري‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٨ / أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ١.

٥٧

مطلقاً حتى يترتب عليه جميع الآثار المترتبة على الجاري ، وتوضيحه : أن المياه الكائنة في الحياض الصغار في الحمامات ماء قليل ينفعل بملاقاة النجس لا محالة وكونها متصلة بالماء الكثير في موادها لا يوجب التقوي لدى العرف لعدم تقوي الماء السافل بالعالي حسب الارتكاز ، كما أن النجاسة لا تسري من السافل إلى العالي لأنهما ماءان متغايران عرفاً ، ومعه فمقتضى القاعدة انفعال الماء في الأحواض الصغار ولأجل هذه الجهة سألوهم عليهم‌السلام عن حكمها وأنها تنفعل بالملاقاة أو لا تنفعل ، فأجابوا عليهم‌السلام أنها معتصمة لاتصالها بالمواد فالسؤال عن حكمها إنما هو من جهة أن اعتصامها على خلاف القاعدة ، والتشبيه بالجاري في كلامهم عليهم‌السلام لدفع توهم الانفعال ، ببيان أن مياه الأحواض الصغار لا تنفعل بالملاقاة ، لا أن حكمها حكم الجاري مطلقاً حتى يترتب عليه جميع الآثار المترتبة على الجاري.

فالصحيح عدم الفرق في الموارد التي اعتبر فيها التعدّد بين الغسل بالماء القليل والغسل بالكثير. نعم خرجنا عن ذلك في خصوص غسل المتنجِّس بالبول في الجاري للصحيحة المتقدِّمة المشتملة على قوله عليه‌السلام « فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة » هذا كله في هذا المقام.

وثانيهما : الإناء المتنجِّس بالولوغ وأنه إذا غسلناه بالماء العاصم فهل يعتبر فيه التعدّد أو يكفي فيه الغسل مرة؟ وقد نسب القول بالتعدد إلى جماعة في المقام إلاّ أن الصحيح عدم الاعتبار كما أفاده الماتن قدس‌سره وذلك لما قدّمناه (١) من أن موثقة عمار الآمرة بغسل الإناء المتنجِّس ثلاث مرات مختصة بالماء القليل ، فان صبّ الماء فيه وتفريغه لا يتحقق عادة إلاّ في القليل ، وبها قيدنا المطلقات المقتضية للاجتزاء بالغسلة الواحدة في الماء القليل.

وأمّا الغسل بالمياه العاصمة فمقتضى إطلاق صحيحتي البقباق ومحمّد بن مسلم كفاية الغسل مرّة واحدة ، ولم يرد عليهما ما يقتضي التقييد في الكثير ونحوه ، فلا موجب لرفع اليد عن إطلاقهما حينئذ في غير الماء القليل. نعم إذا بنينا على أن‌

__________________

(١) في ص ٤٩.

٥٨

نعم الأحوط عدم سقوط التعفير فيه ، بل لا يخلو عن قوة والأحوط التثليث حتى في الكثير (١).

______________________________________________________

صحيحة البقباق مشتملة على كلمة « مرتين » بعد قوله « ثم بالماء » كما نقله المحقِّق قدس‌سره كان اللازم اعتبار التعدّد حتى في الغسل بالمياه العاصمة ، لإطلاق الصحيحة وعدم اختصاصها بالماء القليل ، ولكن الزيادة لم تثبت كما مر إذ لا أثر منها في الجوامع المعتبرة والكتب الفقهية. وتعيّن الأخذ بالزيادة عند دوران الأمر بين احتمالي الزيادة والنقيصة ، نظراً إلى أن احتمال الغفلة في طرف الزيادة أضعف وأهون من احتمالها في طرف النقيصة ، لأن الناقل قد يغفل فيترك شيئاً وينقصه ، وأما أنه يغفل فيزيد فهو احتمال ضعيف لو تم فإنّما هو في الموارد التي كان احتمال الغفلة في طرف الزيادة ضعيفاً وأهون ، وأما إذا كان احتمال الغفلة والاشتباه في طرف الزيادة أقوى وآكد كما في المقام لتفرّد المحقِّق في نقلها فلا وجه لتعيّن الأخذ بالزيادة بوجه ، والمحقِّق قدس‌سره وإن كان من أجلاّء أصحابنا إلاّ أن تفرده في نقل الزيادة يؤكد احتمال الغفلة في نقلها. إذن لا مثبت للتعدد في غسل الإناء المتنجِّس بالولوغ بالمياه العاصمة.

(١) ما أفاده قدس‌سره في هذه المسألة مناقض صريح لما مرّ منه قدس‌سره في أوائل الكتاب من جعله التعفير في الولوغ من شرائط التطهير بالماء القليل ، إلاّ أنه في المقام ذهب إلى اشتراطه في الغسل بالكثير أيضاً ، وهما أمران متناقضان وقد أشرنا إلى المناقضة أيضاً هناك والصحيح ما أفاده في المقام ، وذلك لإطلاق صحيحة البقباق وعدم اختصاصها بالماء القليل ، فالتعفير معتبر في كل من الغسل بالماء الكثير والقليل.

وأمّا الغسل بالمطر فهل يعتبر فيه التعفير أيضاً أو لا يعتبر؟ مقتضى مرسلة الكاهلي « كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (١) عدم اعتباره في الغسل بالمطر لدلالتها على كفاية مجرّد الرؤية في تطهير المتنجسات سواء أكان المتنجِّس إناء الولوغ أم غيره. ومقتضى صحيحة البقباق المتقدِّمة (٢) اعتباره مطلقاً حتى في الغسل بالمطر ، فهما‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

(٢) في ص ٤١.

٥٩

[٣٢١] مسألة ١٤ : في غسل الإناء بالماء القليل يكفي صبّ الماء فيه وإدارته إلى أطرافه ثم صبه على الأرض ثلاث مرات ، كما يكفي أن يملأه ماء ثم يفرغه ثلاث مرّات (١).

______________________________________________________

متعارضتان في غسل إناء الولوغ بالمطر والنسبة بينهما عموم من وجه.

فقد يقال حينئذ بعدم اعتبار التعفير في الغسل بالمطر ، نظراً إلى أن المتعارضين يتساقطان بالمعارضة ، ومعه لا يبقى هناك ما يقتضي التعفير في الغسل بالمطر ويكفي في الحكم بعدم الوجوب عدم الدليل عليه ، أو يرجح المرسلة على الصحيحة من جهة أن دلالتها بالعموم ودلالة الصحيحة بالإطلاق ، والعموم متقدم على الإطلاق عند المعارضة ، والنتيجة على كلا التقديرين عدم وجوب التعفير في الغسل بالمطر ، هذا.

ولكن الصحيح أن الولوغ يعتبر التعفير فيه حتى إذا غسل بالمطر وذلك أمّا أوّلاً : فلأجل أن الرواية ضعيفة بإرسالها ، ولا يعتمد على المرسلة بوجه فالصحيحة غير معارضة بشي‌ء.

وأمّا ثانياً : فلأن الظاهر من المرسلة أنها ناظرة إلى بيان أن الغسل بالمطر لا يعتبر فيه انفصال الغسالة. وإن شئت قلت : إن التطهير بالمطر لا يعتبر فيه الغسل ، لأنه لغة متقوم بخروج الغسالة وانفصالها فلا غسل بدونه ، ومن هنا اعتبرناه في التطهير بكل من الماء القليل والكثير ، والمرسلة دلّتنا على أن المطر يكفي رؤيته في تطهير المتنجِّسات من غير حاجة إلى غسلها وإخراج غسالتها.

وأمّا أنّ التعفير أو غيره من الشرائط المعتبرة في التطهير بغير المطر لا يعتبر في التطهير به ، فدون استفادته من المرسلة خرط القتاد ، وعليه فالتعفير معتبر في إناء الولوغ مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين الغسل بالماء القليل والغسل بالكثير أو المطر أو غيرهما من المياه.

(١) ورد في موثقة عمّار المتقدِّمة (١) الأمر بتحريك الإناء عند تطهيره بعد صبّ الماء فيه ، ومن هنا وقع الكلام في أن تحريك الإناء هل له موضوعية في تطهير الإناء؟

__________________

(١) في ص ٤٠.

٦٠